شارون في مصيدة الانفصال
اسماء اغبارية زحالقة
2004 / 5 / 31 - 08:31
الضربة المعنوية الكبيرة التي اوقعتها بالمجتمع الاسرائيلي عمليات الجهاد الاسلامي في غزة كشفت العجز السياسي للحكومة الاسرائيلية. المقاومة الفلسطينية توصلت الى استنتاج حول ضرورة إحداث تغيير في استراتيجية المقاومة التي كلفتها اغتيال زعيمي حماس وفقدان الرأي العام المحلي والعالمي. يبقى السؤال هل يُصاغ برنامج سياسي بديل يمكّن الطرف الفلسطيني من الصمود امام الجيش الاقوى في الشرق الاوسط؟
اسماء اغبارية
الضربة المعنوية الكبيرة التي اوقعتها بالمجتمع الاسرائيلي عمليات الجهاد الاسلامي في غزة في 11 و12 و15 ايار (مايو)، وأسفرت عن مقتل 13 جنديا اسرائيليا، كشفت العجز السياسي للحكومة الاسرائيلية وسددت ضربة قاصمة لخطة الانفصال، بعد ان كان استفتاء الليكود قد اعلن وفاتها.
بذلك يكون شارون قد وقع في الشرك الذي نصبه بنفسه للفلسطينيين. فقد كان المفروض ان تكون الخطة اولا عقابا لهم ونكبة اشبه بما حدث عام 1948، وثانيا ان تمنع ظهور مبادرات اخرى يمكنها ان تضطر شارون للدخول في مفاوضات لا يريدها مع الجانب الفلسطيني. اما الآن فقد صار شارون في وضع عصيب:
فمن جهة افشل المستوطنون الاستفتاء في الليكود حول خطته وحرموه من التفويض لتنفيذها، وفضحوه امام بوش والعالم كله كزعيم غير قادر على قيادة حزبه، واظهروه كالطرف الرافض للحل مع الفلسطينيين. ولم تنفعه في ذلك الضمانات التي منحها اياه الرئيس الامريكي جورج بوش والتي نسفت حقوق الفلسطينيين بالعودة وشرعت الاستيطان. ومن جهة ثانية، كان المخطط كسر المقاومة ثم الانسحاب، ولكن تبين بعد عمليات الجهاد الاسلامي انه ليس من السهل قمع المقاومة الفلسطينية حتى بعد اغتيال زعيمي حماس، الشيخ احمد ياسين وخلفه عبد العزيز الرنتيسي. وفي اجواء كهذه لا يمكن لشارون الانسحاب حتى لو "تحرّق" لذلك.
المقاومة: تغيير استراتيجي
هذا ما فهمه شارون، المقاومة الفلسطينية فهمت ان انسحاب شارون وهي ذليلة منكسرة، سيعني بقاء الاحتلال للابد في غزة، علما ان جوهر الخطة هو الانسحاب لتحسين مواقع اسرائيل الامنية مع الاحتفاظ بحق اجتياح القطاع بحجة الدفاع عن النفس، وهو امر اقره الرئيس الامريكي.
مستفيدةً من المناخ الجديد الذي تكوّن بعد الصفعة التي تعرض لها شارون، وظهوره امام العالم كالطرف الرافض للحل مع الفلسطينيين، توصلت المقاومة الفلسطينية الى استنتاج حول ضرورة إحداث تغيير في استراتيجية المقاومة وتكتيكها القتالي.
سياسيا هناك اعتراف من المقاومة بوصول استراتيجية حسم المعركة مع اسرائيل ودحرها من الشرق الاوسط في بضع سنوات، من خلال العمليات الانتحارية، الى طريق مسدود، كلفها اغتيال زعيمي حماس وفقدان الرأي العام المحلي والعالمي. ما يطرح الآن هو هدف اكثر سياسية وواقعية، وهو دحر اسرائيل من غزة، خاصة بعد اعلان اسرائيل عن نيتها والتزامها بالانسحاب من هناك. وعلى هذا الاساس تم تركيز النيران على الجنود والمستوطنين في القطاع لدفع اسرائيل على تسريع الانسحاب.
في هذا الموقف الجديد نوع من التقارب في المواقف بين التيارات الفلسطينية المختلفة التي خاضت الانتفاضة الثانية باستراتيجيتين رئيسيتين مختلفتين، الاولى (فتح) نادت لتحرير ال67 بالمفاوضات والثانية (حماس والجهاد) لتحرير ال48 بالعمليات الانتحارية. اليوم يلتقي التياران على هدف مشترك في هذه المرحلة، هو تحرير غزة، حتى لو ان التكتيك بقي موضع خلاف، مفاوضات او عمل مسلح.
الدرس الذي اثبت نفسه دائما وهذه المرة ايضا ان توجيه العمليات ضد الجنود تحظى بنوع من الشرعية، لانها محاربة لقوات الاحتلال وليس للمدنيين، كما ان اثرها اكثر نجاعة. فقد ضربت معنويات المجتمع الاسرائيلي بشدة وزادت الانتقادات على الجيش، وثار حنق الرأي العام الاسرائيلي على الاقلية من اليمينيين المتطرفين داخل الليكود والحكومة والمستوطنين الذين فرضوا موقفهم على الحكومة وعلى الاغلبية التي تريد الانسحاب. وقد زاد الضغط الشعبي للخروج من غزة، وزادت تساؤلات مثل - ماذا نفعل بغزة ولماذا يرسَل ابناؤنا للموت، طالما ان القيادة السياسية قررت الخروج؟ كانت هذه رسالة المظاهرة الضخمة التي نظمت في تل ابيب بمشاركة 150 الفا في 15 ايار.
ولكن من جهة اخرى لا يخلو سبيل المقاومة الجديد من مخاطر، ففي اللحظة التي حصرت فيها المقاومة نقاط احتكاكها مع الجيش والمستوطنين، وتنازلت عن سلاحها الذي اعطاها تفوقا استراتيجيا معينا وهو العمليات الانتحارية ضد المدنيين، يبقى السؤال ما هي امكانية الطرف الفلسطيني الصمود امام الجيش الاقوى في الشرق الاوسط؟ المعادلة غير متساوية على الاطلاق، والمطروح هو حرب ارادة: ارادة اسرائيل ان تهزم الفلسطينيين وارادة الفلسطينيين ان يصمدوا، لان هزيمتهم معناها بقاء الشعب الفلسطيني حبيسا في قفص غزة تحت رحمة الاحتلال يصول ويجول ويقمع كما يشاء. العملية الاجرامية التي نفذها جيش الاحتلال بهدم وتجريف مئات البيوت في رفح قد يكون مجرد مقدمة لامور افظع قد تأتي.
ويبقى السؤال الاهم، ونقطة الضعف الاساسية التي قد تعيق الصمود، هو عدم وجود برنامج سياسي فلسطيني موحد، يتحلى بطول النفس والرؤية البعيدة المدى. وهو ما يحتاجه الشعب الفلسطيني اكثر من اي شيء آخر في هذه المرحلة العصيبة من تاريخه.
اسرائيل: ازمة سياسية
الفراغ والارباك السياسي هو ايضا الوضع في اسرائيل، يمينا ويسارا. الخطة التي كان المفروض ان تعاقب الفلسطينيين وتحفظ المبادرة السياسية بيد شارون، قادت للنتيجة العكسية. اليمين يرفض خطة شارون، واليسار وتحديدا حزب العمل يتبناها ويفصل نفسه بذلك عن الفلسطينيين وعن هويته اليسارية وكل اعتباره ليس مصير الفلسطينيين وانعكاسات خطة جهنمية كهذه عليه، بل امكانيته ضرب اليمين واخراجه من الائتلاف لتمهيد الطريق امام دخوله الى حكومة وحدة.
الخطة ولدت بشكل غير شرعي وسعى شارون لفرضها متجاوزا كل الاطر الديمقراطية واولها قيادة حزبه والحكومة والكنيست. لجوؤه الى استفتاء قاعدة الحزب اعتبر مغامرة هددت مكانته السياسية كقائد منتخب للحزب وجعلته ينجر وراء القاعدة بدل ان يقودها.
والواقع ان الخطة كانت بلا دعائم سياسية للتنفيذ، فليس هناك شيء اسمه انفصال دون اتفاق. المجتمع الاسرائيلي ذلك الذي تظاهر وذلك الذي صوت في الاستفتاء، مستعد ان يوافق على اية خطة للانسحاب تقدمها له القيادة اذا ضمنت له الهدوء والاستقرار وعودة الازدهار الاقتصادي. ولكن ما اقترحه شارون هو تحسين مواقع الجيش لمواصلة الحرب، ويتساءل الجمهور العريض لماذا ننسحب وندخل في مواجهة مع المستوطنين دون ان يكون شريك في الطرف الثاني يقدم لنا الهدوء بالمقابل؟
شارون الذي قضى على الشريك الفلسطيني، قضى على امكانيته تمرير اية خطة من خططه "الذكية"، الامر الذي يفسر اضطرار امريكا اللجوء الى ابو علاء وكذلك تلميح حزب العمل الى ضرورة الحديث مع الطرف الثاني.
ولكن الحقيقة ان اسرائيل بكل تياراتها لا يمكن ان تأتي بحل عادل يرضي الجانب الفلسطيني، لانها تشترط اية تسوية بحفظ تفوقها الاقليمي في كل المجالات والاحتفاظ بالسيادة العليا على كل فلسطين الانتدابية، وثانيا لانها تعاني نقطة ضعف تتعلق بافتقاد القوة السياسية لمواجهة القوة الاستيطانية التي بنتها بنفسها وغذتها.
من هنا فلا مخرج من الطريق المسدود بمواصلة البحث عن حل بين الطرفين في اطار الوساطة الامريكية، خاصة بعد ان انفضحت كقوة استعمارية ومنحازة بكل وقاحة للطرف الاسرائيلي. التورط الامريكي في العراق وتراجع مصداقية امريكا في العالم وسقوط حلفائها في الهند واسبانيا حيث قالت الجماهير كلمتها لا لامريكا ولا للتطرف، هو فاتحة امل للشعب الفلسطيني لبداية البحث عن اطر بديلة تمكنه من الصمود حتى تحين الظروف لتحقيق كامل حقوقه الوطنية.