النضال داخل التنسيقيات… المنطلقات و الأهداف
خالد المهدي
2009 / 8 / 30 - 09:34
I. تقديم
مع احتداد الصراع الطبقي كانت الجماهير الشعبية دائما تخلق وتبدع أشكالا نضالية للتعبير عن مطامحها ومعاناتها والدفاع عن نفسها، فمن الوقفات والاحتجاجات والتظاهرات إلى الانتفاضات العارمة والضخمة، كان صوت الجماهير دائما حاضرا في قلب المعارك الطبقية. لكن كل تلك الأشكال بالرغم من انبثاقها من صلب آلام ومعاناة الجماهير، فإنها ظلت في جل المحطات (إن لم نقل كلها) ذات طابع عفوي صرف يمنع الرقي بها نحو الأعلى ويجعل من الحفاظ على نفس مستوى التراكمات النضالية مهمة صعبة المنال إن لم نقل مستحيلة. و بالتالي لا تسمح بالاستفادة منها أو بتطويرها من اجل التأثير في ميزان القوى الطبقي لما فيه مصلحة للجماهير الشعبية.
ففي خضم هذا المسار النضالي الطويل والشاق ظهرت للوجود ” تنسيقيات النضال ضد الغلاء وتدهور الخدمات العمومية” وقد أبانت على طول أزيد من سنة من عمرها عن دينامية قوية في العديد من المحطات، لتعبئة الجماهير وحثها على الانخراط في النضال ضد الهجوم الكاسح للطبقات المستغلة(بكسر الغين)، ومكنت الجماهير والمناضلين(ات) من إبداع أشكال نضالية متقدمة في العديد من مناطق المغرب خصوصا الهامشية منها ( مقاطعة أداء فواتير الماء والكهرباء، نقاشات جماهيرية …). لكن ومع ذلك فتجربة التنسيقيات أظهرت بالمقابل أيضا العديد من العوائق والصعوبات التي تمنع من الوصول إلى تحقيق الأهداف المعلنة، بل وتمنع حتى من إمكانية تطوير هذه الحركة نحو الأمام. ومن تلك العوائق يجب الإشارة أساسا إلى مضمون وشكل ممارسة العديد من المناضلين والمناضلات داخل التنسيقيات، تلك الممارسات التي تندرج سواء في خانة التوظيف الانتهازي للحركة أو في خانة تحميل الحركة أكثر مما تستحمله في المرحلة الحالية من صيرورة تطورها.
إن كل ذلك يدفعنا بقوة للمساهمة في النقاش الدائر حاليا حول واقع هذه الحركة واتجاهات تطورها المستقبلي. وهكذا فإن إحدى النقط الجوهرية والأساسية التي تستطيع من خلال الإمساك بها، إنتاج ممارسة سليمة تشكل بديلا عن كل الممارسات الانتهازية السائدة داخل الحركة الجماهيرية، إنما هي توضيح الرؤية الفكرية للعمل داخل التنسيقيات، أي بناء تصور فكري واضح يحدد موقع هذه الحركة من الصراع الطبقي العام، وكذا دور المناضلات والمناضلين المرتبطين بالجماهير الشعبية داخل هذه الحركة الواعدة.
II. المنطلقات الفكرية
أ- احتداد الأزمة الاقتصادية وتصاعد نضال الجماهير الشعبية.
من أين انبثقت حركة النضال ضد الغلاء، وكيف ظهرت تنسيقيات النضال ضد الغلاء وتطورت إلى تنسيقيات النضال ضد الغلاء وتدهور الخدمات العمومية؟ لقد سال العديد من المداد للإجابة على هذه الأسئلة. فهناك من يعتبر أن هذه الحركة هي وليدة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان !! بوصفها هي من دعت إلى تنظيم أسبوع وطني ضد الغلاء بين 2 و 8 أكتوبر 2006، وهي التي كانت سباقة إلى الدعوة لتأسيس التنسيقيات !!
وهذا الطرح بغض النظر عن خلفياته فإنه غير صحيح وكل الوقائع تؤكد ذلك، صحيح أن مناضلي (ات) الجمعية المغربية لحقوق الإنسان قد ساهموا بقدر لا يمكن الاستهانة به في إطلاق وتيرة توسيع بروز تنسيقيات النضال ضد الغلاء، غير أن ذلك لا يمنع أولا من كون التنسيقيات ظهرت للوجود قبل ذلك التاريخ بكثير ( في طاطا، زاكورة، واد زم…) وثانيا أن نضال الجماهير الشعبية ضد الغلاء وضد تدهور الخدمات الاجتماعية كان هو أيضا قبل ذلك التاريخ بكثير ( انظر موجة نضالات السنة الماضية في جل مناطق المغرب). إن طرحا من هذا القبيل بالإضافة إلى انه يحاول إلباس التنسيقيات جلبابا حقوقيا، فإنه ينفي عنه كل صلة بالتحليل العلمي الذي يؤكد على الطابع الموضوعي لبروز حركة النضال ضد الغلاء.
الطرح الثاني الذي يعبر عنه بعض المناضلين ومفاده أن التنسيقيات هي فضاء لتجميع مكونات تجمع اليسار الديمقراطي وبالتالي فلا شيء ينتظر منها !!. هذا الطرح بالإضافة إلى انه يكرر خطأ بعض الرفاق الذين اعتبروا في بداية التسعينات، بروز الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين بمثابة محاولة لإيجاد مجالات للعمل الوحدوي بين التيارات التي انخرطت في مسلسل التجميع آنذاك، وبالتالي تركوا المجال مفتوحا لها لتفعل ما تشاء بالجمعية على طول سنوات عديدة، فإنه لا زال تحت تأثير ما يروج له الطرح الأول ولم يستطيع إدراك خلفيات خطاب هذا الأخير الذي يحاول إلصاق بروز حركة النضال ضد الغلاء التنسيقيات به.
إن حركة مناهضة الغلاء هي حركة قد انبثقت من قلب وفي صلب الصراع الطبقي ببلادنا وتعكس إحدى أوجه واتجاهات الصراع بين الطبقات المستغلة وكل الطبقات الكادحة. إن الصراع الطبقي هو الأساس المادي الذي حدد بروز حركة مناهضة الغلاء وتدهور الخدمات الاجتماعية، والكل يتذكر موجة النضالات الجماهيرية العارمة التي شهدها المغرب خصوصا سنتي 2004 و 2005 ، حيث خرجت الجماهير الشعبية في تظاهرات واسعة وانتفاضات عارمة في جل مناطق المغرب من اجل المطالبة بتحسين الخدمات الاجتماعية خصوصا الماء والكهرباء والصحة والتشغيل ( تالسينت، طاطا، سيدي ايفني، ايدزر، بوعرفة، فاس، زاكورة، الحسيمة،..). إن تلك النهضة الجماهيرية العارمة التي شهدها المغرب آنذاك قد أبرزت حدة الأزمة الاقتصادية التي تعيشها بلادنا واتجاهاتها، وأبانت أيضا في المقابل محدودية بل وعجز المناضلات والمناضلين (تيارات ومجموعات) عن مواكبة نضال الجماهير ضد الاستغلال والقهر.
وبعد كل تلك التراكمات الكمية جاءت سنة 2006 لتأكد حقيقة اتجاهات الأزمة الاقتصادية ببلادنا، فالأزمة التي انفجرت في صفوف ممثلي الطبقات المستغلة (بكسر الغين) إبان التحضير لميزانية 2006 كانت مؤشرا قويا على حقيقة الأمور، فبعد الرسائل التي وجهها مدير مكتب الضرائب للشركات الكبرى لأداء ” مستحقاتها الضريبية” وتشكل قطب الوزير الأول إدريس جطو والشامي رئيس اتحاد مقاولات المغرب آنذاك من جهة وقطب وزير الداخلية الساهل والوزير المنتدب بالداخلية عالي الهمة، جاءت ميزانية 2006 لتأكد لكل الواهمين حقيقة المغرب وطبيعة النظام الطبقي ببلادنا، فنتائج ذلك الصراع قد عكستها ميزانية 2006 التي رفعت من حدة الهجوم الاقتصادي على الجماهير الشعبية ورفع وتيرة الضرائب المباشرة وغير المباشرة على الجماهير الشعبية، وتكريس الامتيازات لأصحاب السلطة الاقتصادية. إن ما أفرزته ميزانية 2006 وكذا ميزانية 2007 ليس سوى تعبير عن التوازنات الطبقية الحالية ببلادنا وعن الحالة الاقتصادية التي يعيشها المغرب وانسداد أي أفق للتنفيس عن أزمة الطبقات المستغلة ( بكسر الغين) سوى على حساب الجماهير الشعبية بعدما تم تنصيب الاتحاد الاشتراكي في شخص وزير المالية لبيع جل خيرات بلادنا للمؤسسات الاقتصادية الامبريالية.
إلا أن ذلك وان كان يعطي بعض المؤشرات عن الارتفاع الحاد للهجوم الاقتصادي للطبقات المستغلة على الجماهير الشعبية في المرحلة الأخيرة، فإنه لا يقدم تفسيرا واضحا وشاملا لحقيقة الأوضاع الاقتصادية ببلادنا. ومن اجل ذلك لابد من الرجوع إلى تحديد طبيعة النظام القائم ببلادنا، فالمغرب بوصفه بلدا تبعيا، هو خاضع بحكم هذا الموقع الذي يحتله داخل التقسيم العالمي لسوق الشغل لكل التموجات التي يعرفها الصراع الطبقي على المستوى العالمي، فنظام الاستعمار الجديد القائم ببلادنا هو الذي يمنع ويعيق أي تطور ممكن، بالإضافة إلى أن وظيفته الاقتصادية هي تلبية حاجات أسياده الامبرياليين، فما يشهده الصراع الطبقي ببلادنا أو على النطاق العالمي يؤكد بالملموس حجم الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الامبريالية وعملائها المحليون‘ فالزيادة في أسعار المواد الأساسية وإثقال كاهل الجماهير الشعبية بالضرائب المباشرة وغير المباشرة، وكذا الإجهاز على ما تبقى من الخدمات الاجتماعية العمومية ( الصحة، ضرب صناديق التقاعد، الماء والكهرباء…) ليست في الحقيقة سوى مظهرا للأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها الامبريالية وكل الأنظمة التبعية، فكما أصبحت الامبريالية غير قادرة على الاستمرار في الحياة سوى بنشر الحروب والإرهاب والمجاعة في العالم، فإن عملائها المحليون أصبحوا هم أيضا غير قادرين على ضمان سيطرتهم والحفاظ على مصالحهم ومصالح أسيادهم سوى بنشر الجوع والقهر والجهل والإرهاب المنظم. وهكذا يكون من الوهم الاعتقاد أن النضال من اجل العيش الكريم وتخفيض وتيرة الاستغلال يمكن أن ينفصل عن النضال العام الواجب خوضه ضد الأسس التي تولد الاستغلال والقهر. فليس المغرب وحده هو الذي يشهد هذه الموجة من الارتفاع المتزايد في أسعار المواد الأساسية والإجهاز على ما تبقى من الخدمات الاجتماعية، بل جل الدول التبعية تشهد ذلك، بل وحتى الدول الامبريالية نفسها. إن هذا الواقع يعكس حاجة الرأسمال الامبريالي إلى اختراق مجالات جديدة حتى يستطيع تفادي أو على الأقل تمديد الحفاظ على نفس درجة الأزمة، فتدني معدلات الربح في العديد من القطاعات تدفع بالرأسمال إلى البحث عن مجالات استغلال أخرى، قد يصل بعملاء الامبريالية إلى بيع الهواء للشركات الامبريالية عندما يأتمرون بذلك. وإذا أخذنا حالة المغرب الذي دخل في اتفاقيات للتبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، فإن تدعيمه للشركات والمقاولات الكبرى على حساب الجماهير الشعبية ( تخفيض الضرائب على الأولى وزيادتها على الثانية مثلا) هو مخرج وحيد بالنسبة له لا يمكن تجاوزه حتى يضمن مصالحه أمام جبروت الشركات المتعددة الاستيطان، ويضمن شروط استمرارية سيطرته الطبقية على الجماهير، والحالة الوحيدة التي يمكن أن توقفه عن ذلك هي قوة الجماهير الشعبية، أي عندما يشعر أو يقتنع بان عملا مماثلا قد يعصف به كليا، أو يعصف بمصالح لا يمكنه الاستغناء عنها مرحليا وهكذا وبالنظر إلى الواقع الحالي لموازين القوى الطبقية ببلادنا يمكن أن نجزم أن اتجاهات الأزمة الاقتصادية للنظام القائم هي في تزايد مستمر، وان اشتداد هجومه على الجماهير الشعبية ليس مطروحا بالنسبة له كخيار من ضمن خيارات أخرى، بل انه الحل الأنسب له والوحيد على الأقل مرحليا.
إذن السؤال يطرح حول كيفية تغيير موازين القوى ما دام انه الخيار الوحيد أيضا أمام الجماهير من اجل إيقاف زحف الهجوم الرجعي للطبقات المستغلة.
إن استحضار موازين القوى الطبقية الحالية والتي لا يمكن أن يساور الشك أي كان انه في صالح الطبقات الرجعية، يأخذه البعض ذريعة للاستسلام وللمهادنة، لكن المرتبطين بمصلحة الجماهير الشعبية يجب أن يأخذوه كمحفز للمزيد من النضال اليومي والمستمر، ومحفز لبدل المزيد من التضحيات والرقي بنضالات الجماهير الشعبية نحو الأمام وإبداع الأشكال التنظيمية الكفيلة وحدها بضمان استمرارية النمو وعدم السماح بهذر القوى والتضحيات.
إذن كيف يمكن الوصول إلى ذلك؟ نحن هنا لا نود طرح السؤال إلا من باب تحديد دور المناضلين والمناضلات داخل التنسيقيات بشكل خاص وداخل الحركة الجماهيرية بشكل عام. وليس في نقل النقاش إلى مستوى سياسي أعلى.
يمكن أن نجزم أن احد الضمانات الأساسية للوصول إلى تغيير موازين القوى بالشكل الذي يسمح بفرض التراجع على الزيادات في الأسعار أو رفع الأجور وتحسين الخدمات الاجتماعية، إنما هي مدى مشاركة الجماهير في حركة النضال ضد الهجوم الاقتصادي للطبقات المستغلة، فقوة أية حركة تحددها أساسا مدى انخراط الجماهير بها ، وضعف أي حركة يحدده ضعف قياداتها ووهنهم. إذن كيف يمكن أن نستحضر هذا المبدأ في نضالنا إلى جانب الجماهير
ب- من الجماهير والى الجماهير
لقد شكل الارتباط بالجماهير الشعبية ( فكرا وممارسة) إحدى أهم التحديات التي رفعت ( ولا زالت) في وجه المناضلات والمناضلين الطامحين إلى تغيير موازين القوى الطبقية ببلادنا لما فيه خدمة ومصلحة للجماهير الشعبية وعلى رأسها الطبقة العاملة المغربية. وقد كان هذا السؤال على طول تاريخ وجود الفكر المعبر على مصالح الطبقة العاملة والجماهير الشعبية ببلادنا محط تجاذب و صراع قوي بين العديد من المدارس الفكرية التي تدعي الانتماء للجماهير الشعبية، وهو ذاته السؤال الذي يمتد تاريخه أيضا على طول مرحلة طويلة من الصراع الطبقي على الصعيد العالمي، حيث برز في خضم هذه الصيرورة الطويلة خطان متناقضان، خط يرى في الجماهير صانعة التغيير وصانعة التاريخ كله، وخط يرى في الزعماء والقادة والأبطال محرك التاريخ والتطور والتغيير.
إن الخط الأول يعبر عن النظرة البروليتاريا للعالم، تلك النظرة التي ترى في الجماهير سر التطور ومفتاح التغيير، وهي على النقيض من النظرة البرجوازية للعالم التي يعبر عنها الخط الثاني، تلك النظرة التي ترى أن انتصارات الشعوب والاكتشافات العظمى ومستقبل البشرية كله ليس سوى نتيجة لأعمال بعض العباقرة والأبطال، إن الفرد يشكل محور التاريخ عندها، وبذلك تجدها مدافعة أمينة على نزعة الفردانية باعتبارها نزعة مادية عند البرجوازية، نزعة متمثلة في دفاعها عن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، و البحث والسعي وراء الربح بكل الأشكال والوسائل، لكن بالرغم من ذلك فالبرجوازية لا يمكنها الاستمرار في الحياة بدون الاعتماد على الجماهير. إن الفقراء يعملون من اجل تلبية متطلبات البذخ لدى البرجوازية ومن اجل الاستمرار في حياتهم بغية الإنتاج لحساب البرجوازية، أما هذه الأخيرة فإنها ستموت جوعا إن توقفت الجماهير عن العمل في الإنتاج والعلوم. إن هذا الواقع وحده يفند كل الأوهام البرجوازية ويحطم بلا رحمة نظرتها الإيديولوجية.
وهكذا فالاعتماد على الجماهير والثقة بها والتجرؤ على تعبئتها هو الخط الفاصل بين المفهوم البروليتاري عن العالم والمفهوم البرجوازي عنه حتى وان ارتدى قبعة الدفاع عن الجماهير.
إن إحدى الأدوار الرئيسية والأساسية للمناضلات والمناضلين المرتبطين بالجماهير، إنما تكمن في العمل على تعبئة الجماهير، وعلى حثها على النضال، وفتح المجال أمامها، وتعليمها والتعلم منها. إن هذا المبدأ يجب أن يشكل احد الموجهات الإيديولوجية الرئيسة في أي عمل جماهيري، فمستقبل كل عمل من هذا النوع بما في ذلك عمل التنسيقيات هو رهن بالدرجة الأولى بمدى قدرة المناضلات والمناضلين على تأطير الجماهير وعلى خلق وإبداع الأدوات التنظيمية الكفيلة باستيعاب اكبر عدد ممكن من الجماهير والرقي بوعيها وأدائها نحو الأمام ولن يتأتى ذلك إلا بفتح المجال أمام الجماهير لتتقلد مناصب قيادية لتوجيه النضال والتقرير في مصيرها.
إن هذا الخط الذي يرى ويربط تطور الحركة بإشراك الجماهير في النضال وفي التقرير والتسيير هو على النقيض تماما من الخط الذي ينادي ( علانية أو خلسة ) بالنضال نيابة عن الجماهير، بدعوى غياب الوعي وسيادة الجهل في صفوفها، في حين أننا نجد الجهل ليس لدى الجماهير، وإنما لدى أصحاب هذه النظرة، صحيح أننا لا يمكن أن نقفز على العديد من العوامل السوسيوثقافية ( سيادة الأمية، النزعة الفردية،…) لكن المسألة المطروحة أمامنا هي رسم إحدى مبادئ قيادة الجماهير، والمبدأ الأساسي هنا هو ” من الجماهير والى الجماهير”. إن هذا المبدأ يعلمنا أولا أن نحسن التعلم من مدرسة الجماهير، وبعد ذلك تعليمها، ويعلمنا ثانيا الإصغاء إلى أفكار الجماهير، وتمييز الخطأ والصواب فيها على ضوء ـ ليس أحاسيسنا الذاتية ـ بل على ضوء مدى مطابقتها للواقع أو عدم مطابقتها له، كما يعلمنا أيضا أن نتقبل نقد الجماهير داخل الحركة الجماهيرية وتنظيماتها.إن هذا الأسلوب العلمي يشكل إحدى الضمانات لكشف الأخطاء وتجاوز النواقص والعيوب والهفوات. إن قوة أية حركة جماهيرية تكمن في مدى مشاركة الجماهير فيها، ليس في تنفيذ القرارات وإنما في صياغتها أيضا. فمن يختبأ خلف شعار سيادة الجهل واللاوعي لدى الجماهير ليخفي نزعته البرجوازية ورغبته لممارسة الوصاية على الجماهير، إنما هو اشد خطرا من العدو داخل الحركة الجماهيرية. إن مثل هؤلاء يحتقرون الجماهير ويشكلون ( بوعي أو بدونه فليس للأمر أهمية هنا) عقبة وحاجزا أمام انخراط الجماهير في النضال، فالرفاق الذين يحاولون جعل التنسيقيات حكرا على مناضلي التنظيمات المحلية والوطنية إنما يندرجون في خانة الخط المنادي بالاستغناء عن الجماهير في التوجيه والتقرير والتسيير، وهو خط في طبيعته معاد للجماهير بالرغم مما قد يتجلبب به من شعارات، بل وبالرغم حتى من حسن نوايا بعض حامليه. إن هؤلاء الرفاق يحاولون إيهامنا بإمكانية تحقيق مكاسب معينة عن طريق النضال نيابة عن الجماهير، ولنا في تجربة ” الحوارات الاجتماعية” و ” النضالات الفوقية” دروس لا يمكن أن ينساها سوى إنسان معاد للجماهير.
إن فقدان الثقة في الجماهير وفي قوتها هو احد الأسباب الأساسية لنمو مثل هذه الأفكار التي تحط من قيمة الجماهير ومن قدرتها على النضال وفرض التراجع على الطبقات المستغلة. وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن ما شكله المقرر التنظيمي “للملتقى الوطني الثالث لتنسيقيات النضال ضد الغلاء وتدهور الخدمات الاجتماعية” من إضافة نوعية وخطوة متقدمة من تجربة التنسيقيات، بفتحه الباب أمام جميع “المواطنين والمواطنات” للانخراط داخل التنسيقيات، وتنصيصه أيضا على ضرورة تشكيل “تنسيقيات الأحياء الشعبية” التي من شأنها أن تشكل إطارا ومجالا خصبا، ومساعدا على لف أكبر عدد من أبناء الجماهير الشعبية في النضال والتصدي لمخططات الطبقات المستغلة.
هكذا فإن احد أهم الأدوار المناطة بالمناضلات والمناضلين داخل الحركة الجماهيرية بشكل عام والتنسيقيات بشكل خاص، هو مساعدة الجماهير على الانخراط في النضال من اجل الدفاع عن مصالحها والصراع ضد كل الأفكار والرؤى التي تحط من شأن الجماهير، تلك التي تنادي بالنضال نيابة عن الجماهير، حتى تتمكن من استخدامها قنطرة لتحقيق أهداف سياسية انتهازية، فالاعتماد على الجماهير وإشراكها في كل مستويات عمل التنسيقيات: التقرير والتسيير والتنفيذ… من شأنه أن يشكل إحدى الضمانات المطلوبة في وجه كل الذين يحاولون أن يجعلوا من هذه الحركة مطية للوصول إلى أهداف سياسوية ضيقة أو لجعلها ورقة للضغط من اجل مصالح ذاتية انتهازية.
غير أن التشبع بهذا المبدأ يفرض بشكل قاطع نوعا من التناغم بين ما نحمله من أفكار وبين ما نجسده على ارض الواقع، فمن أجل حمل الجماهير على الانخراط في الحركة، يجب أن ترى الجماهير في مناضل (ة) الحركة خادما لها مترفعا عن كل مصلحة ذاتية، وان يبتعد عن الخطاب النخبوي المتحجر الذي يبعد الجماهير، وان يتفادى الصراعات الهامشية، دون أن يتهاون في التصدي بحزم لكل ما يمس مصلحة الجماهير.
III. الخلفية السياسية
منذ عقود خلت ومناضلات ومناضلي الشعب المغربي يحاولون ويناضلون من أجل الانغراس وسط الجماهير الشعبية إيمانا منهم بأن الجماهير هي صانعة التاريخ وهي سر تطوره، ورغم مرارة الصراع وقساوته، وبالرغم من التضحيات الجسام التي قدمها هؤلاء المناضلون والمناضلات فقد ظل انغراسهم وسط الكادحين صعب المنال وبعيد المدى.
إن مهمة الانغراس وسط الجماهير الشعبية تنطلق من الإيمان الراسخ باستحالة تغيير موازين القوى الطبقية، لما فيه مصلحة للجماهير الشعبية، دون مشاركة الجماهير بذاتها في معمعان النضال والصراع، وقد أوضحت التجربة الفتية للتنسيقيات التي لم تتجاوز السنة إلا بأشهر قليلة، عن مدى الإمكانيات التي تتيحها هذه الحركة للارتباط بالجماهير الشعبية (الغلاء، الإجهاز على الخدمات الاجتماعية، الخوصصة…). إن معاناة جماهير شعبنا تزداد تعمقا مما يدفع بها إلى المزيد من السخط على النظام وأذياله ومؤسساته المزورة الهشة، وينمي تبعا لذلك استعدادها للنضال من أجل التعبير عن سخطها ومعاناتها، الشيء الذي يفتح الباب على مصراعيه لكل القوى السياسية من أجل توجيه نضالات الجماهير وفق مشاريعها و أهدافها. إن مناضلات ومناضلي الشعب المغربي إذا لم يكن جهدهم وعملهم في مستوى هذه المهمة، كما كان الحال في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، فإنهم يتركون المجال خاليا للقوى الظلامية و الشوفينية والانتهازية لاستغلال نضالات الجماهير الشعبية ومعاناتها والزج بها في مستنقعات من الوحل تزيد من تعميق ألامها و معاناتها.
وبالنظر إلى الواقع السياسي الراهن الذي لازال تحت تأثير الهزة العنيفة التي أحدثها الموقف العفوي للجماهير الشعبية يوم 07 شتنبر 2007 يمكن القول أن مناضلات ومناضلي الشعب المغربي هم أمام فرصة تاريخية ثمينة وتحدي حقيقي وجدي للتقدم نحو الأمام من أجل قلب موازين القوى الحالية لصالح الجماهير. فيوم 7 شتنبر قد أوضح للعالم أجمع العزلة الداخلية التي يعيشها النظام الرجعي بالرغم من الموجات الهستيرية التي خلقها حول ” ملكه الشاب” و” مبادراته التدميرية”. إلا أن محطة 07 شتنبر لم توضح عزلة النظام فقط، بل وعزلة كل الأحزاب الرجعية والانتهازية التي تسبح في فلكه، لقد نزعت الجماهير الشعبية ولو بشكل عفوي، القناع عن كل الأضاليل التي كانت تروج لها هاته الأحزاب حول نفسها وحول المجتمع “الحداثي الديمقراطي” وما شابهه من أضاليل.
إن الجماهير الشعبية بحسها العفوي المحض قد أحدثت هزة رهيبة في الوضع السياسي بالبلاد وهشمت كل الواجهات الزجاجية المزيفة للنظام الرجعي وللدكاكين السياسية الملتفة حوله، لقد أعلنت الجماهير بقوة وبوضوح عن انتهاء صلاحية كل البضائع السياسية التي استعملت لتزيين الوجه البشع لخادم الامبريالية في بلادنا.
إن الجماهير الشعبية وبالرغم من عفويتها، قد زلزلت الأرض تحت أقدام الكل، وعمقت الأزمة وفجرتها في صفوف الأحزاب الرجعية والانتهازية التي أطلقت سيلا من التقييمات والصراعات الداخلية الطاحنة، لقد أحس النظام قبل غيره بهذا الزلزال العنيف، وأطلق مسلسل تشييد حزبه الخاص تحت شعار ” تجمع لكل الديمقراطيين” وبخطاب لا يخلوا من السخرية عنوانه “ماقْدهُومش الهم زيدهُم الهمة”
إن النظام القائم، قد استوعب جيدا ما أعلنته الجماهير عن انتهاء صلاحية البضائع السياسية القديمة، وهو يدرك جيدا بحكم التزاماته مع الدوائر الامبريالية، أن لا مجال أمامه للتراجع عن المزيد من الإجهاز على قوت الجماهير الشعبية، فهو مقبل على تحرير الأسواق ورفع يد الدولة بشكل نهائي عن ” تدعيم” الخدمات الاجتماعية وطرح ما تبقى منها للخوصصة، مما يعني المزيد من ال سخط و المزيد من التدمر في صفوف الجماهير الشيء الذي يعني المزيد من الاضطرابات والمزيد من النضالات. هنا بالضبط تتولد الحاجة إلى مسكنات وعقاقير سياسية ( أو حقوقية) مهدئة، وهو ما لم يتردد النظام القائم في الإقدام على بدء عملية إنتاجه داخل مختبر يترأسه صديق الملك الهمة.
بعض الأحزاب بدورها سوف تعرف إلى حد ما قدر نفسها* وسوف تحاول تدارك الموقف عبر إطلاق سلسلة من الشعارات الشعبوبة من أجل ممارسة الديماغوجية من جديد على الجماهير حتى تجد ما تصارع به النظام القائم بعدما فقدت كل شيء، هذا حال الاتحاد الاشتراكي مثلا، الذي أصبح يطنب سماعنا “اشتراكيوه الجدد” بمعزوفات قديمة من قمامة خطاب الاشتراكيين- الديمقراطيين. فبالرغم من الإدانة الجماهيرية التي تلقاها في 07 شتنبر، وبالرغم من الجرائم التي ارتكبها في حق الجماهير من نهب ثروات البلد وبيعها للدوائر الامبريالية وإثقال كاهل الجماهير بالضرائب المباشرة وغير المباشرة حتى أصبح فتح الله ولعلو عن حق “الابن الطيع للبنك الدولي بالمغرب”، بعد كل ذلك لم تنقصهم الوقاحة و النذالة لإعلان الدفاع عن الجماهير، بل وللانخراط في التنسيقيات التي تناضل ضد السياسات التي تحملوا (ولازالوا) مسؤولية تنفيذها. غير أن الأمر قد يبدوا مقبولا من طرف حزب عهده الشعب المغربي على هكذا حال: نذلا وحقيرا. لكن ماذا يمكن أن نقوله عن أولئك الذين يحسبون أنفسهم على “اليسار” ولم يعد لهم من هم على ما يبدوا، سوى الدفاع عن هذا الحزب والدفاع عن “حقه” في التواجد داخل التنسيقيات بدعوى أنها إطار جماهيري. إن هؤلاء المناضلين(ات) ينسون التاريخ، ينسون دروس مرحلة 1975 وكيف ساهم هذا الحزب في مساعدة النظام الرجعي على الخروج من أزمته وعلى خنق الحركة الثورية ببلادنا، ودروس مرحلة 1983- 84 ودروس مرحلة 1998. هل أصبح هؤلاء المناضلون(ات) غير قادرين على استيعاب كل هذه الدروس، أم أنهم لم يستطيعوا بعد الانفلات من السير في ذيل هذا الحزب. وعلى كل حال فالجرائم التي ارتكبها الاتحاد الاشتراكي في حق الحركة الجماهيرية ببلادنا لا يتحملها هو وحده، بل يتحملها كل الذين تهاونوا في النضال ضده وفتحوا له المجال مرة تلو أخرى ليفعل ما فعل. فحذار من تكرار أخطاء الماضي ومساعدة حزب أو أحزاب مهنتها ووظيفتها تركيع الحركة الجماهيرية وممارسة الوصاية عليها.
إن الوضع الحالي الذي يعيشه المغرب هو بحق فرصة تاريخية أمام كل الغيورين على مصلحة شعبنا، غير انه في الوقت ذاته تحدي تاريخي حقيقي وجدي يطرح بالضرورة الاستفادة من أخطاء الماضي(بشتى أشكالها الفكرية والسياسية والنضالية…) وضرورة بدل المزيد من الجهد والتضحيات من أجل تطوير حركة الجماهير الشعبية ونقلها إلى مستويات أعلى حتى تمكن من المساهمة في قلب موازين القوى الحالية وتأسيس لبداية عهد جديد حقا، عهد النضالات الواعية للشعب المغربي من أجل الكرامة والحرية. وهكذا يصبح تدقيق الأهداف المباشرة من التنسيقيات عملا ذا طابع استعجالي. إذ انه يشكل شرطا ضروريا، وإن كان غير كاف لقيادة صحيحة لصيرورة تطويرها في الاتجاهات السليمة. إن المقصود هنا ليس هو عرض المذكرة المطلبية وإنما تبيان الأهداف السياسية من العمل داخل التنسيقيات.
إن هذه الأهداف يمكن أن نحدد أهمها في ما يلي:
1) المساهمة في التصدي للسياسات الاقتصادية للنظام الرجعي، وصد الهجوم الوحشي للطبقات المستغِلة على الجماهير الشعبية.
2) رفع وعي الجماهير الشعبية والمساهمة في تثمين وحدة مكونات وفئات الشعب المغربي.
3) المساهمة في قطع الطريق أمام القوى الظلامية والشوفينية.
4) المساهمة في توحيد نضالات كل مناهضي سياسات النظام القائم ببلادنا.
5) المساهمة في تعرية الانتهازية وعزلها عن الجماهير الشعبية
1. المساهمة في التصدي للسياسات الاقتصادية للنظام الرجعي، وصد الهجوم الوحشي للطبقات المستغِلة على الجماهير الشعبية
إن أول الأهداف وأكثرها سفورا هو بدون شك التصدي للسياسات الاقتصادية للنظام الرجعي القائم ببلادنا، فحجم الهجوم الاقتصادي والثقافي والسياسي أصبح لا يطاق حيث أسعار المواد الأساسية لعيش الجماهير فاقت القدرة الشرائية حتى للفئات العليا من البرجوازية الصغرى إلى درجة أن الطماطم أصبحت من الكماليات لدى الكادحين، السردين وصل إلى أكثر من 20 درهما للكيلوغرام رغم توفر المغرب على واجهتين بحريتين واعتباره اكبر منتج للسردين في العالم، كل ذلك بسبب الصفقات التجارية التي تتحكم في أعالي البحار… ، أما تسعيرة الماء والكهرباء فأصبحت تلتهم القسط الأوفر من مداخيل الجماهير، والتجارة امتدت إلى صحة وأبدان أبناء شعبنا، حيث أصبحت المستشفيات المسماة زورا عمومية عبارة عن أسواق مفتوحة تباع فيها صحة وأجساد المرضى وغير المرضى، الملاكون العقاريون والمضاربون جعلوا من السكن في شروط إنسانية مجرد حلم لم يعد حتى يراود الجزء الأكبر من الشعب المغربي، الشغل أصبح مرادفا للإبحار إلى الضفة الأخرى، فكم من مناضل ومناضلة فقدوا سمعهم او بصرهم أو حياتهم لمجرد نضالهم في سبيل حقهم في الشغل، أما التعليم فأصبح مجرد فبريكة لإنتاج الجهل فحتى إحصائيات أسياد البرجوازية العميلة ببلدنا ( البنك العالمي) وضعت التعليم بالمغرب في مؤخرة الترتيب معلنة إفلاس الميثاق الطبقي للتربية و التكوين.
إن كل ذلك يشكل بعض من أهم المعاناة اليومية لكل الشعب المغربي، فجل النضالات والانفجارات الشعبية التي شكلت ميزة نضالات مرحلة السنوات الأخيرة كانت على أرضية هذه المطالب الاجتماعية العامة والتي أبانت التجربة على أنها محفز قوي للجماهير الشعبية للانخراط في النضال اليومي المباشر، ويكون واجب المناضلات و المناضلين المدافعين عن مصلحة الجماهير بث الوعي في هذه النضالات وإعطائها بعدا طبقيا واضحا. ومن الطبيعي أن رفع شعار التصدي للغلاء وتدهور الخدمات الاجتماعية يعني ضمنيا، بل وبشكل مباشر النضال ضد الخوصصة، وضد بيع خيرات البلد إلى الشركات الأجنبية التي لا هم لها سوى جني أكبر قدر من الأرباح على حساب عرق وقوت الكادحين.
2. رفع وعي الجماهير الشعبية والمساهمة في تثمين وحدة مكونات وفئات الشعب المغربي.
إن احد أقوى الأسلحة التي يمتلكها شعب ما هي وحدته، غير أن وحدة الشعب المغربي ليست رغبة سهلة المنال وإنما تفرض من أجل الوصول إليها نضالا جبارا وطويل الأمد يتداخل فيه الإيديولوجي والسياسي والتنظيمي، خصوصا بالمغرب حيث سؤال وحدة الشعب المغربي تطرح على جبهتين أساسيتين وحدة مكوناته القومية، أي الامازيغية والعربية ووحدة فئاته الطبقية من عمال وفلاحين وبرجوازية صغيرة..صحيح أن عملية بناء وحدة الشعب المغربي لا يمكن أن يقودها إلا حزب بروليتاري حقيقي وهو ما يفتقده المغرب لحد الآن، لكن ذلك لا يمنع من القول والتأكيد على أن نضال مناضلات ومناضلي الشعب المغربي في المرحلة الراهنة قادر على المساهمة في إحقاق العديد من التراكمات التي تندرج في هذا المنحى، من خلال انغراسهم وسط الجماهير ونضالهم إلى جانبها على أرضية المطالب المشتركة للشعب المغربي، فهذا النضال اليومي المباشر الذي تنخرط فيه الجماهير ويوجهه المناضلون والمناضلات بأفق واسع وعلمي يشكل أحد الأسس المادية لرفع الوعي لدى الجماهير بمصالحها المشتركة وبعدوها المشترك، فعندما تنخرط الجماهير في النضال اليومي المباشر للدفاع عن نفسها ضد هجوم الطبقات المستغلة تشعر بأهمية الوحدة والاتحاد وتدرك أهمية تمثين هذه الوحدة لأنها تتلمس تأثير قوة وحدتها على أعداءها، ففي الوقت الذي كانت فيه الجماهير تناضل وتنتفض ضد أعدائها كانت تمحي الحدود – إلى حدود كبيرة- بين الناطقين بالامازيغية والناطقين بالعربي وكانت تتصلب العلاقة بين العامل والفلاح والمعطل والطالب، فالكل في ميدان المواجهة والكل يعيش القهر من طرف نفس العدو المشترك. إن هذا الواقع قد أكدته كل النضالات العارمة التي فجرتها الجماهير الشعبية على طول تاريخ نضالها البطولي منذ ملحمة أنوال المجيدة. إن هذا الواقع تؤكده اليوم انتفاضات الجماهير بحربيل، بايت اورير وتالسينت و بوعرفة و صفرو وسيدي ايفني…الخ . إن كل تلك الملاحم قد كانت من صنع فقراء شعبنا وكادحيه عمالا وعاملات فلاحين وفلاحات طلبة وطابات، معطلين ومعطلات ناطقين بالامازيغية كانوا أو بالعربية.
إن تلك النضالات تشكل الأساس المادي للرقي بالوحدة، لكنها لا تستطيع أن تضمن استمراريتها دون تدخل مناضلات ومناضلي الشعب المغربي القادرين على المساهمة في نقل وعي الجماهير بأوضاعها وبأهمية وحدتها من طابعه الحسي إلى طابعه الواعي، وهذا العمل يفرض نضالا فكريا قويا ومؤطرا وموجها. لكن من الوهم طبعا القول أن التنسيقيات تستطيع إنجاز ذلك، آو أن المناضلات والمناضلين يستطيعون من خلالها الوصول إلى تحقيق هذه الأهداف. غير أن تنسيقيات مناهضة الغلاء وتدهور الخدمات العمومية، كما أبانت التجربة العملية الملموسة، يمكنها المساهمة الفعالة في تطوير هذه الصيرورة، فهي تشكل إطارا جماهيريا يستطيع بحكم الأرضية التي يشتغل عليها، وبحكم المطالب التي يرفعها أن يلف حوله قاعدة واسعة من الجماهير الشعبية، وهكذا تصبح إحدى الأهداف المباشرة لعمل المناضلات والمناضلين الغيورين على مصلحة ومستقبل الشعب المغربي الاستفادة من هذا الواقع لتثمين وحدة مكونات وفئات الشعب المغربي
3. المساهمة في قطع الطريق على القوى الظلامية والشوفينية.
مادامت وحدة الشعب المغربي تشكل إحدى أهم أسلحته وأقواها فإن أعدائه بكل تأكيد سوف يسعون إلى النيل من هذا السلاح، وتفتيت هاته الوحدة بكل الوسائل والطرق. هذا ما تأكده التجربة التاريخية لنضال الشعوب بشكل عام والشعب المغربي بشكل خاص.
لقد أصبح واضحا للعيان أن إخلاء الساحة وغياب فعل حقيقي يومي في صفوف الجماهير الشعبية هو اكبر خدمة يمكن أن يقدمها مناضلوا ومناضلات الشعب المغربي لأعدائه، فغياب هؤلاء المناضلين والمناضلات عن الجماهير يترك المجال مفتوحا للقوى المعادية للشعب المغربي من أجل التأثير في الجماهير وتشويه وعيها وتفتيت وحدتها، حيث تعمد هذه القوى الى إثارة كل النزعات الرجعية تارة باسم الدين وتارة باسم الامازيغية آو العربية. إن القوى الظلامية والشوفينية ( عربية كانت ام امازيغية) تعمل بشكل حثيث من أجل بسط سيطرتها الإيديولوجية على الجماهير وتحريف نضالاتها وتوجيهها لما فيه خدمة لأعدائها الطبقيين وتأبيد سيطرتهم عليها. وهذا الواقع ليس معطى خاص بالمغرب وحده، بل بكل الشعوب المضطهدة، فالتاريخ مليء بالدروس والعبر. فالامبريالية والصهيونية العالمية وكل الطبقات الرجعية أصبحت مدربة على هذا النوع القذر من الأسلحة الفتاكة، حيث تعمد على تمويل المجموعات الظلامية والفاشية التي يشكل الدين أوالعرق أهم الأسس في خطابها الإيديولوجي، بهدف النيل من وحدة الشعب المغربي، وإثارة الفتن في صفوفه حتى تضمن استمرار مصالحها وبناء مواقع لها ضد كل حركة تحررية قد تنمو في المستقبل. ومن المهم الإشارة هنا إلى الاختراقات الخطيرة التي تقوم بها الامبريالية والصهيونية في العديد من مناطق بلادنا حيث ثم مؤخرا الإعلان عن تأسيس جمعية الصداقة السوسية الإسرائيلية و جمعية الصداقة الريفية- الإسرائيلية. إن تشكل هذه الجمعيات وفي هذه المناطق بالضبط له أكثر من دلالة إيديولوجية وسياسية ويحمل من الخطورة اكبر بكثير مما قد يراه البعض في مجرد بحث بعض السماسرة والأنذال عن مصادر التمويل !!
إن القهر والاضطهاد الطبقي (والقومي أيضا) الذي تعاني منه الجماهير الشعبية له أسسه الطبقية المشكلة تاريخيا، لكن الوعي بهذه الحقائق من طرف الجماهير لا يمكن الوصول إليه إلا بإشراك هذه الجماهير في هذا النضال اليومي والتواجد المستمر في صفوفها وإلى جانبها من طرف المناضلات والمناضلين الحاملين لهذا الوعي وتوسيع أفق نضالها وتفكيرها بشكل مستمر وفي ترابط مباشر مع ما تحققه الجماهير من إنجازات و ما تعرفه من انكسارات على ارض الواقع الملموس.
إن الوعي بخطورة تواجد القوى الظلامية و الشوفينية وسط الجماهير يجعل من الضروري بدل المزيد من المجهودات والاستفادة من كل ما يتيحه الصراع الطبقي من إمكانيات للنضال ضدها وعزلها عن الجماهير، وذلك لن يتأتى طبعا إلا بالتواجد الواعي والمنظم في صفوف الجماهير التي تشكل تنسيقيات النضال ضد الغلاء وتدهور الخدمات العمومية جزء منها، وإن كانت التنسيقيات لا تستطيع وحدها ولا يمكن من خلالها وحدها الوصول إلى هذا الهدف فإنها تتيح مع ذلك إمكانيات كبيرة للمساهمة في النضال ضد الظلامية والشوفينية عبر فتح المجال للجماهير الشعبية للانخراط فيها والنضال على جزء من مصالحها الحقيقية والمباشرة على أرضية تقدمية مضادة لكل نزعة رجعية دينية كانت او قومية.
4. المساهمة في توحيد نضالات كل مناهضات ومناهضي سياسة النظام القائم
.
إن مجال النضال الجماهيري، كما أبانت عن ذلك كل تجارب الشعوب، يشكل حقلا خصبا لإحقاق التقارب بين المناضلين والمناضلات المناهضين للاستغلال والقهر، وتجربة الشعب المغربي لا تخلوا هي الأخرى من الدروس والعبر في هذا الاتجاه، ففي خضم النضال اليومي وسط الجماهير يستطيع المناضلون و المناضلات التخلص من العديد من الحزازات النفسية ومن التعلم من الجماهير كيفية التعالي عن المصالح الضيقة والتمسك بالمصالح العليا للجماهير. إن المقصود هنا ليس هو المساهمة في إحقاق الوحدة الفكرية والسياسية، فهذا السؤال ليس منطلقه هو النضال الجماهيري، وليس مطروحا أصلا في هذا الحقل من النضال، إذ أن النضال الجماهيري يشكل مجالا لتجسيد خلاصاته، وليس لبناء منطلقاته، لكن ومع ذلك فإن النضال وسط الجماهير هو عامل محفز ومساعد لإيجاد التقارب بين المناضلات والمناضلين (طبعا الذين ينطلقون من منطلقات تتيح إمكانية التقارب)، وهذا النوع من التقارب بين مناهضي السياسات الاقتصادية والاجتماعية للنظام القائم الذي نشير إليه هنا هو على النقيض تماما من الفهم الذي يناضل به المناضلون والمناضلات المنضوون تحت لواء “تجمع اليسار الديمقراطي”، فهذا الأخير لا يرى في الحركة سوى مجالا لتحقيق أهداف سياسية خاصة هي بعيدة في أغلب الحالات عن أهداف الجماهير ، بل وحتى عن مصالح الجماهير.
التقارب الذي نتحدث عنه والتي يمكن للتنسيقيات المساهمة فيه إنما هو التقارب بين المناضلين والمناضلات على أرضية الدفاع عن مصالح الجماهير و المنبثق أيضا من النضال إلى جانب الجماهير ومن الإحساس والوعي بمعاناتها وآلامها ومصالحها حيث يتشكل ويتبلور المناضل والمناضلة بوصفهما منتوجا اجتماعيا تتحدد هويته وقيمته من خلال مدى تطابق نضاله بأهداف ومصالح الجماهير الشعبية الملموسة و العليا. إن النضال في صفوف الجماهير بشكل عام والنضال على أرضية المطالب اليومية والمباشرة للجماهير التي تعبر عنها مطالب التنسيقيات تشكل عاملا مساعدا في بلورة هذا النوع من التقارب بين المناضلين(ات) والمجموعات…الخ لما فيه خدمة لجماهير شعبنا من جهة وللتقليص من النزعات الذاتية والحلقية الضيقة والأمراض النفسية والاجتماعية التي لازالت سائدة في صفوف الجماهير والمناضلات والمناضلين على حد سواء.
5. المساهمة في النضال ضد الانتهازية وتعريتها وسط الجماهير
.
هنا طبعا لا نتحدث عن الأشخاص، بل عن خطوط فكرية وسياسية تسعى إلى استغلال نضالات الجماهير من أجل مصالحها الضيقة ضدا على مصالح الجماهير. والنضال ضد الانتهازية وسط الجماهير له قيمة اعلي وأعمق واخطر في نفس الوقت، حيث يتشكل في خضمه وعي الجماهير بالأصدقاء والأعداء، فإذا لم يكن هذا النضال واعيا بذاته وموجها لما فيه خدمة للجماهير فإنه يصبح مضرا لا نافعا.
إن تواجد الانتهازية داخل الحركة الجماهيرية بوصفها أفكارا وخطوط سياسية هو حقيقية موضوعية لا يمكن أن ينفيها سوى عديم الوعي ولا يمكن التخلص منها بحكم أن لها أساسا ماديا موضوعيا خارج عن الإرادات والرغبات. أن ننفي وجود الانتهازية من الوجود ومن الحركة الجماهيرية هو بمثابة نفي إحدى القوانين الموضوعية للصراع الطبقي. إن إدراك هذه الحقيقة يعني أن نطرح السؤال حول كيفية التعاطي مع الانتهازية كواقع موضوعي لا أن ننفيه، آو نقفز عليه أو نتجاهله، فلا يمكن في أي حال من الأحوال، وفي أي مجتمع طبقي، أن تمحى الانتهازية داخل الحركة الجماهيرية. ومنه فالمهمة تصبح هي ضرورة النضال الدائم ضدها وتقليص تأثيرها المدمر و المشل للفعل النضالي دون الاعتقاد بوهم القضاء عليها أو إزالتها كليا.
إن إحدى الموجهات الأساسية للنضال ضد الانتهازية داخل الحركة الجماهيرية هو الدفاع المستميت عن ترسيخ العلاقات الديمقراطية داخل الإطارات المنظمة للجماهير من جهة وبين الجماهير والمناضلين من جهة أخرى، وهو ما يعني النضال الدؤوب ضد كل الأشكال البيروقراطية التي تستهدف ممارسة الوصاية على الجماهير، وأيضا الدفاع عن استقلالية التنسيقيات ضد كل الذين يحاولون جعلها مطية لمآربهم الخاصة. إن الاستقلالية تعني من هذا المنظور استقلالية اتخاذ القرار لما فيه مصلحة لحركة النضال ضد الغلاء وتدهور الخدمات العمومية. تثبيت البعد الجماهيري والشعبي للتنسيقيات هو احد الضمانات الأساسية لتطور التنسيقيات وهو أيضا مهمة تندرج ضمن مهام النضال ضد الانتهازية التي تحاول جعل الإطارات الجماهيرية مجرد ملحقات حزبية لها. ومنه يكون احد أوجه النضال ضد الانتهازية داخل التنسيقيات هو الدفاع عن ما راكمته التنسيقيات الى حدود اليوم، حيث فتحت الباب للانضواء تحتها لجميع “المواطنين والمواطنات”، والعمل على تطوير هذا البعد حتى تصبح التنسيقيات من الجماهير والى الجماهير.
إن نضالا من هذا النوع إلى جانب الجماهير يشكل بحق مدرسة لتعليم الجماهير والتعلم منها، ففي خضم هذا النضال سوف تتعرف الجماهير عن أصدقائها وأعدائها داخل الحركة الجماهيرية وفي خضم هذا النضال يتحقق الفرز السياسي بين من يريد خدمة الجماهير وبين من يريد استخدامها.
وأيضا …
لقد أبانت تجربة حركة النضال ضد الغلاء و تجربة “تنسيقيات النضال ضد الغلاء و تدهور الخدمات الاجتماعية ” على وجه الخصوص على دينامية ميدانية قوية فرضت من خلالها انتزاع بعض المطالب الديمقراطية العامة منها على وجه الخصوص الحق في التظاهر و الاحتجاج دون الرجوع إلى طلب الترخيص من وزارة الداخلية. إن انتزاع هذا المكسب كان بفضل المشاركة الواسعة للجماهير و بفعل تواجد المناضلين المؤمنين بمبدأ “الحق ينتزع و لا يعطى ” ، لكن و بالرغم من ذلك فإن هذا المكسب لازال مكسبا نسبيا و غير محصن بالمطلق و يكون من الوهم الاعتقاد بإمكانية تحصينه في ظل سيطرة نظام الحكم المطلق ، إذ أن كل المسائل الديمقراطية تبقى خاضعة لعملية المد و الجزر لهجوم الطبقات المستغلة من جهة و لمقاومة الجماهير من جهة أخرى. فتحصين كل المسائل الديمقراطية يبقى رهينا باكتساب الحرية السياسية التي لا يمكن هي الأخرى الوصول إلي تحقيقها إلا بعد انخراط الجماهير الشعبية في معمعان الصراع الطبقي بوعي طبقي موجه بشكل علمي ، و من هنا فإن عمل التنسيقيات يفتح الباب أمام الجماهير الشعبية للانخراط في النضال اليومي المباشر و يمرسها على خوض النضال و على اكتساب المعرفة و مراكمة التجربة من خلال الممارسة العملية و يفتح تبعا لذلك الباب أمام المناضلات و المناضلين المرتبطين بالجماهير لفتح آفاق أكثر اتساعا و طموحا أمام الجماهير الشعبية.
هناك طبعا العديد من القضايا و المسائل الأخرى التي يمكن أن ندرجها في هذا المقال و اقتصارنا على تناول البعض منها فقط لا يعني أن القضايا الأخرى لا تحضا بالأهمية، بل بالعكس تماما و هو ما تسعى إليه هذه الورقة أي فتح نقاش جدي و مسؤول حول نضال التنسيقيات و اتجاهاته.