عمر حمّش
الحوار المتمدن-العدد: 2642 - 2009 / 5 / 10 - 08:17
المحور:
الادب والفن
رواية
عمر حمش
تقديم
هذا كاتب يكتب من "دم قلبه"
ذلك كان انطباعي الأول عن كتابة عمر حمش عندما قرأت له قصته الأولى "الشلن" في أواخر السبعينات, و حين تعرفت عليه شخصياَ بعدها بقليل, لم يتغير انطباعي, بل تحول من مجرد انطباع عابر إلى ما يشبه الرأي النقدي المقيم.
* كان كلما نفحني بجديد من كتاباته أزداد يقيناً بصوابية رأيي, و أشعر ــ وها أنا أقولها لأول مرة ــ بالأسى عليه ــ ككائن اجتماعي و فنان ــ من بلادة المجتمع و من تطلبات الفن . لكن ما كان يخفف من شعوري ذلك هو معرفتي الأكيدة بأن عمر جاء إلى حقل الكتابة من ميدان القتال مباشرة .
* إن في إهابه ليمتزج الروحان الجليلان معاً: روح الفنان و روح الفدائي, لذلك لا خوف عليه .., غير أنني أحياناً ــ و أنا أراه يغصّ في جمرة صدقه و انفعاله ــ أحسّ بالخوف عليه.., بالخوف من أشياء كثيرة ليس أولها نسبية الكتابة و عدم الركون فيها إلى يقين ممسوك باليد, و ليس آخرها صحراء التيه التي وجدنا أنفسنا ــ فجأة ــ بين كثبانها.
* سنوات عشرون مرت منذ عرفت هذا الفنان, سنوات تبدلت فيها الدنيا كما لم تتبدل من قبل, و تغيرت فيها نظرتنا إلى الوجود و إلى الكتابة
ــ إن نحو الأسوأ أو الأفضل ــ إلا هو .. كان منذ بدايته قد عثر على بئره الخاصة, و كما يليق بحفار عنيد موعود , ظل عمر يمارس فعلاً واحداً ووحيداً: الحفر, عمقاً، وعمقاً، وعمقاً, في طبقاتها الجيولوجية . مرات يخرج بحصى فينحيه جانبا, و مرة يظفر بلقي فيحتفظ بها زاداً لوحشة الطريق و لكنه ــ أبدأ ــ لم يفقد الإيمان بأنه واصل ــ يوماً ــ إلى ما يسميه صلاح ستيتية : ( الماء البارد المحروس ) .. أليس هو الوهم ؟ كلا و بلى!, و لكنه - أي ذلك الماء ــ قدس أقداس أي كاتب حقيقي و سدرة منتهى كل فنان يستحق اللقب.
* يا عمر يا عمر !
إن فيك من طينة هذه الأرض المعذبة مالا يوجد في سواك من مجايليك .هي أعطتك عذابها في " الواقع " , و أنت أعطيتها عذوبتها في " الفن ".
لكم تعذبك أصالتك !
لكم يعذبك صدقك !
و لكم نسأل ــ و نحن نقرؤك ــ مشدوهين :
من أين له هذا الإيقاع المتوتر ؟
من أين له هذا النفس اللاهث ؟
و كيف تأتت لك هذه القدرة الفريدة على توليد الكلمات و تلوينها بانفعالك ؟
* يا عمر! أيهذا الوارث النبيل, أيهذا الذي اختار العزلة النبيلة ليخلق كلمة نبيلة , كتابك هذا درس لمن يكتبون من "رؤوسهم" درس لمن يعتمدون في الكتابة على عدم انتهاء صلاحية عضلاتهم ..
فاكتب أيا أميري
أكتب أيا أمير !
و احفر كما تحب أنت الحفر
و انثر علينا من رؤاك الجمر
انثر
فإن الأرض تحتنا ــ شوك و زمهرير !
باسم النبريص
1/1/2001
1
في قفزتين , في هجير الظهيرة , عند اشتعال الكون، يغادر الولد العفريت المخيم , يراوغ عباس حارس القصر الكبير , ثم تتلقفه أشجار الأكاسيا العظيمة . ذراعه تحوم , و تضرب الهواء , وحربي لاهثاً جواره ينطّ , ليقعى تحت الجذع .
وإلى القصر تتجه العيون , إلى عباس صاحب الكلاب النائحة , ثم يشهر الولد العفريت الفخ السلكي , ومن ورقة دقيقة أخرج الدودة!
انطلقا ؛ فانطبعت على الرمل الذهبي أصابع صغيرة , تلاحقا فوق التلال , صعدا؛ ليهبطا , فهدمت أرجلهما ما نقشته الزواحف على الأرض البكر, توقفا، والفخ اندفن , تلوّت الدودة, وقفت، ووقعت , ولما دنيا الله سكنت, أول ما ظهرت عينا رأس الورن , فهجم الولد العفريت, فهاجت عصافير الأحراش, و لما الولد العفريت رجع؛ كان يقول : - خذ!
وحربي ارتعش:
ــ يخرب بيتك .
كان الورن على الرمل الناعم يستلقي مذبوحاً!
وجاء الكركز , ترنح بدلال , فصفر له الولد العفريت , و نغم برفقٍ ضارباً بيدهِ الأرض . و في لحظة الدنيا هجمت , تضاربت الأحراش, و الاتجاهات عوت, فصرخ حربي:
ــ عباس!
الكلاب اكتسحت الدنيا , و انفجر صوتٌ:
ــ يا أولاد الكلب ! .
و في القبضة الهائلة حربي اختنق, وعويله انكتم , أما عباس فجأر على الكلاب, لكنّ الكلاب عادت بلا أحد , جن عباس :
ــ أين الثاني ؟
وعاد الكون يهيج , الدنيا غامت في عيني الولد العفريت المحتمى بالغصن العالي , الكلاب المتنمرة كانت ترقص ألسنتها، تتشمم لحمه الآدمي المقتحم في أوج الظهر الأحراش, واهتز الولد العفريت؛ فاهتز الغصن, ولما انشرخ الغصن؛ هوى , فهبّت الكلاب , وعباس صرخ :
ــ يا ابن الكلب.
طار الولد العفريت, فطارت الكلاب, الزواحف جيوشاً أيضا طارت , وأيضاً خلفه طارت غيلان, وتدحرج الولد العفريت , ثم هبّ صارخاً :
ــ ( يا با )
ــ يا ابن الكلب .
أمسكته الكلاب، و انفلت, داسته، وانفلت, وعلى مدخل الزقاق المقابل للقصر الكبير كان الولد العفريت كومةً تتلوى, غادر الدنيا ثم أحياه الهدير, ولما قفز؛ دخل الحارة, حلق فيها كطير كسير, فقابله الشيخ قدوحة أبو راس مثل الشمامة فأشهر عصاه في وجهه, ثم أطلقها " بف بف ".
مرّ بدكان المنجد خليل التلمس؛ فتوقف صاحبه عن مهاجمة القطن المتطاير, تجاوز صنبور الحارة فانفض جدال, الصَّبية تهانى لطمت , واستحضرت الأرملة عزيزة وجه ولدها حربي فاندلقت جرتها , أما العجوز صفية فولولت :
ــ الولد العفريت غرقان بدمه !
وفي جريه اصطدم بكلب ضال , فهب الكلب , فاكتشفته الأولاد , فجنوا خلفه , وفى لحظة كانت الدنيا تجرى خلف الكلب المنطلق , وهم يصيحون:
ــ كلب مسعور ,كلب مسعور.
في غرفة المحيم كان الحاج صالح يركض على نوله الذي نقله من مجدل عسقلان, ساقاه تضغطان الدواستين, والمكوك بين يديه يراوغ صفيّ الغزل, وعلى الفخذين تستلقي المطواة؛ تلتحف بالقماش الجديد, وفى الحضن كانت المجدل!
في الحضن يستلقي وادي النمل.. والشاطئ يكتظّ بالمتراهنين, يدقون البيض الملوّن بالبيض, وعلى ظهور الخيل يرقصون، وبعيونهم يمسحون مسطح البحر الوسيع !
وعلى الشاطيء يعلن بنفسه بدء التحدي في لعبة "التبان" .
وفي غرفة القرميد تترنح – دوما - مجدل عســــقلان!
تفاحة تجيء أحرقتها الطائرات
يغادرون إلى الكروم!
ينتشلون الجثث ويغادرون!
يصفق الحاج صالح نول المجدل صفقته الأخيــرة, يطوي الطوية الأخــيرة, ليهيم مع بلدته الوحيدة!
يومها توقفت الأنوال, وسوق الجنوب انفض, الناس فقــط في الكروم مشدوهون. والحاج صالح حام محطمـا, يخنقه احتراق اللحم, ويمزقه صفير السكون, بلاط الأزقة كان يعوى, والجــامع المملوكي عفره الخواء, أما ديوان الحارة فتركه وهو يجري؛ يشرع بابه مســـتقبلا الموت, ولــن ينسى الحاج صالح ذلك اليوم, لحظة سقوط عسقلان بأيدي اليهود !
كمن في بطن كرمه، واستمع للأنين!
اثنان يشدان عقالا على رقبة رجل يئن, وأمه العجوز تقبل قدمي الرجلين!
لحظة سقوط مجدل عسقلان ! ,
كان الحبل يغوص, والعجوز تنوح, وبغلة جوارهم تنشّ عن ظهرها الذباب!
قفزت السكين في يد الحاج صالح, ومع الصّيحة انقطع الحبل, تراجع الرجلان, ووقع المخنوق!
فكّ الحبل عن العنق المغرغر, وهو يزمجر يحذر الرجلين .
لــن ينسى الحاج صالح آخر طوية للمطواة, ولا ضربة السكين على الحبل المشدود!
قال أحدهما :
ــ سرق فردة قمحنا .
ورد الحاج صالح وهو يضرب بطرف ثوبه على الأنف المزرق الهواء :
ــ المجدل فارغة يا أبطال, انزلوا وحملوها!
صرخ الرجلان :
ــ ماذا؟
وهويا إلى البلدة الضائعة !
مجدل عسقلان تأتي إلى الحاج صالح في نول المخيم بلا نــاس ولا أسواق ولا مواسم، تأتي بطعم اللحم المحروق, وطوابير مغادرة تطردها الفوهات,
ويهزّ الحاج صالح رأسه وينادي :
ــ هاتي الشاي .
ردت بصيحة .
ــ الولد !
ولما امتثل الولد العفريت ممزقا, صرخ أبوه :
ــ من ؟
رد الولد متحشرجا:
ــ عباس .
أدار المفرك في ثقب المطواة وأزاحها, خرج بعينين تائهتين, وزحف تلاحقه الحارة كقدر معلوم . الأرملة عزيزة تنادي بجوار زوجته علــــى حربي الأسير, والشيخ قدوحة يهرس بأسنانه زجاجا، ويمضغه كلبـــان, والعجوز صفية في الخلف بظهرها المكسور وحولها الأولاد حفاة .
تقدمهم الحاج صالح وفي داخله هاج ثور , هبـــت الكلاب لكنه دخل, جاور عباس، وثقبه بعينيه , ذراعــه ارتفعت، ثم جمحت, دقت الصدغين العريضين، فهوى عباس, حربي انفلت من خلف سور القصر إلى صدر أمه, وتصايحت الناس , لكنّ الشرطة جاءت فجرت الحاج صــالح إلى العربة الكبيرة , والعجلات فركت التربة مخلفة الزعيق والغبار, بصقوا على عباس المتكوم , وعلى الكلاب التي تشهر آذانها، وتجأر بالنباح .
ساروا حتى باب المنجد خليل التلمس , وصاحوا :
ــ أخذوا الحاج صالح .
وصاحوا :
ــ عبر القصر وحطم عباس .
وصاحوا :
ــ خلص حربي فأخذوه .
هبّ المنجد خليل التلمس, نفض صدره، وفخذيه, سار معهم إلى المركــز البعيد، وعند بابه انتظروه حتى جاء , لثمت الزوجة الحاج صالح , وتحسسه الولد العفريت, وزغردت العجوز صفية, فزغردت النسوة ,وأمّا الشيخ قدوحة قد قفز بجلبابه المقلم , ومسح
الدمع الدائم في عينيه .
وفي الطريق همس الولد العفريت.
ــ ظلّ الفخ في الأحراش يا حربي!
فاقشعر حربي ..
في الحارة الصغيرة تقافز الولد العفريت .
تشمم أبواب البيوت ونوافذها الواطئة , تضاربت قدماه مع جرادل القمامــــة , فترنحت مستلقية على العتبات , واستعرض الولد العفريت شقوق الجدران، تقاتل مــع صراصيرها الطيارة, وعن عمد مال إلى زقاق, ثقبت عيناه قفل باب، وجالتا في الفناء!
وغنى الولد العفريت , استلقى وغنى :
ــ يا قاتلني برمش العين , بيني وبينك خطوتين..
ولمّا تحرك الباب, ثم انفرج؛ تمايلت الصبية تهاني :
ــ يا مقصوف العمر !
وانفكت أزار صدرها, فنفر فيه الثديان خنجرين, والولد العفريت صار ديكا ترتعش ساقاه!
ــ أنت يا صغير !
ارتجفت عيناه مع استمالة القد الرشيق, ثمّ جاءها فاســـتجابت, تحسسته فانتفض, انبطح وسط الزقاق ليدها البضة تمتد.
ــ أشوف سرتك !
مطتها كالعادة, فاهتز, وأدخل رأسه في الصدر, ففارت فيه الحلمتـــان , أصبحتا حبتي توت بلدي للتوّ أينعتا, أرسل لسانه ،فشجته ضحكتـــها, وداست أصابعــها السرة , ثمّ هوت إلى الأسفل, فانزلقت إلى بطنها شفتاه, قرصته :
ــ يا عفريت !
صاح , وزحف إلى الحائط , هاجت فانشج سرواله, حملته على نهديها ودخلت . . أنزلته وفمه يلوك رحيقا جناه, ثمّ وقف الولد العفريت يرتعش بسرته العارية , أما هي فجلست ترتق سرواله، وتقول بدلال:
ــ حدثنا يا أبو سرة, كيف أبوك ضرب عباس .
وبقيت العينان بالصدر الـفائر تتشبثان .
ــ قالت الناس أبوك أسقط أسنانه .
وفجأة صرخت الصبية تهاني , وهي تخلص نهديها من أسنان الولد العفريت, حذفت سرواله تتعلق به إبرتها , وهرولت إلى غرفتها تقفل الباب .
*******
الحارة دهمتها الأرواح, والبيوت استقبلت مفقوديها!
جاءوا بيسر إلى سلال البوص, ليكتبوا بالأرقام المثبتة الإجابات.
جاء المفقوء والمقطوع المذبوح!
في عُدة يومين جاءوا ,
وصفوا الجنة وحور العين, وصفوا الملائكة والنبيين!
وأحضروا رسائل واعتذارات عن التأخير!
هرولت الأرملة عزيزة وفــــي ثوبها يتعلق حربي, فاستحضرت العجوز صفية على عجـــــل سلتها , ثبتت القلم, وفردت له الورقة البيضاء!
حربي اتقد, صار جمرة, ونادت العجوز صفية رجلها :
ــ تعال يا حاج, قم وتعال.
ولمّا السّلة اهتزت, اهتزوا, انحبست أنفاسهم, لكنّهم انفجروا في الانتظار!
عادت إلى النداء:
- افتح يا حاج القبر وتعال .
وتلتا الآيات لتطردا شياطين الدار!
ونادى حربي:
- تعال يابا.
والأرملة عزيزة استجدت بوص السلة!
- يا أبو حربي تعال .
ولم يعد المذبوحان .
قالت العجوز صفية:
- يا أختي الليلة الجاية كل ناس يشتغلوا في دارهم .
ووقفت الأرملة عزيزة تسحب حربي , فاستوقفتها العجوز صفية .
- تعالي نسأل القرآن .
وبمفتاحٍ في يدها تعلق القرآن, ولمّا استكان, قالت :
- بحق الدائم القهار دور يا قرآن .
ودار إلأى ناحية الشمال، فصاحت:
ــ الدار فيها شياطين!
انطفأت شمس الله, و المخيم غاص, تكوّرت الأرملة عزيزة مع حربي داخل اللحاف, لم يأت المذبوح، وسلة البوص ظلت صماء لا تجيب .
صراصير الدار ناحت, وعلى الأرض انزلقت فئران, على العينين انزلقت أيضاً غيوم ,وتراقصت ذبالة القنديل مع السناج , داخت الأرملة فجاء المذبوح، و معه جاء ضجيج الطائرة!
هرول يحمل زجاجة الحليب لحربي الصارخ في اللفة , قال :
ــ أنا في عرضك , اسكتيه .
وزمجرت الصليات!
ــ حبيبي يا حربي خذ
و لم يلقم فم حربي رأس زجاجة الحليب .
الحياة انطفأت في أثقل ساعات العمر, و بدأ الطرق على أبواب الصفيح, ثمّ صارت تتلو الطرقٍ الصليات!
قال أبو حربي :
ــ يجمعون الرجال و يطخونهم على الحيطان .
تكورت أكثر, أغلقت عينها, لكنه أتى, أدخلت رأسها في اللحاف و ضغطت حربي .
قال :
ــ وصلوا .
و قال :
ــ و صيتك حربي .
انتفضت، و كادت تصرخ, ارتجف ابنها, قرأت المعوذتين, لكن أباه امتثل لها بزجاجة الحليب!
كان الرعب فتاكا, كانت الصليات أرحم من الانتظار , ضرب صدره بكفه, جرى في عينيها، فانخلع قلبها, حربي يومها سكت, لكنهم جاءوا, هرسوا الباب, وسحبوه، فصرخ والزجاجة بيده :
ــ لا يا خواجا .
ودقت رأسها في الحائط عند سماع الصلية .
الأرملة عزيزة أشاختها الذكرى , ليلة، ليلة يأتيها , يجري بزجاجة الحليب و يُسحب , تأتيه الصّلية، لتصرخ , تصرخ، ليصرخ حربي!
عزرائيل كان يجري على الحارة مع صرخاتٍ مخنوقة, يتتابع مترا، مترا, حبلا ينشدُّ على الأعناق عنقا، عنقا .
وترنحت الأرملة عزيزة مع النسوة، كانت تحمل حربي في اللفة, وكانوا في الصبح جثثا , كانوا أكواماً , قلبوهم، ليفرزوهم , فجاء أبو حربي و الزجاجة بيده مغمسة بالدم .
ارتمت عليه، وناحت , نفضت عن عينيه التراب، و ناحت, وفي لحظةٍ صرخت في اللحاف، فصرخ حربي :
ــ يا ما ...
انتحبت و ضمته . قال :
ــ تأخر أبي و ما جاء من سلة البوص !
*********
جاء الشتاء ..
جاء من الغرب , أرسلته الأحراش هواء باردا, ثم انطلق, اضطربت شــجرة الكينيا شرق الحارة حتى تأرجحت , الأزقة صارت أنابيب تضــخ الريح , ألواح الأسطح طارت، وهوت , والبيوت تحركت , وتعفر رمل الشوارع مجنونا مغتسلا بالريح!
جرى الولد العفريت فلم يغنم إلا مسامير وحديدا ونتف زجاج .
جاء الشتاء !
فجاء أبو رجل مسلوخة , والغول كذلك , وشيبة الصبر , وعـــــوج بـــن نعنق جثم ببطنه فوق الحارة .
جاء الشتاء !
فجاء على عجلٍ المقتولون؛ ليخيفوا الناس في الظلمة, جـــاءوا فـــي الظلمة, وفي الريح المجنونة.
قططا وكلابا , وقيل جاموسا , رفســوا الأبــواب ونطحــوا الشـــبابيك الواطئة !
حتى من علب اللحم المفتوحة جاءوا!
العجوز صفية وقفت فـــي الريح، وصاحت :
ــ هاي الإصبع !
خرج المحشورون وقالوا :
ــ آه والله !
وقالت :
ــ يسلموننا لحما مصنوعا من قتلانا .
وقالت :
ــ من يتعرف على صاحب هذا الإصبع ؟
ارتجفوا وهم يجرون إلى المزابل بعلب الأمم المتحدة!
وفي الليل جاءت شياطين الليل !
أحدهم استطال فبان رمحا أبيض, رأسه كطبقٍ في العالي اسـتدار، وفي زقاق الصبية تهاني سار وئيدا، ثمّ فــــرد ذراعين، وانتصب رهيبا في الظلمة !
في الصبح الريحُ هدأت, حربي انسل, فوجد أمه على الجدران تلتقط البـــــقّ بعجينتها, رشق وجهه بماء الإبريـق الفخـاري ,
وحمـــل حقيبته.
قالت :
ــ أحضر لك الشاي . ؟
تركها تلاحق مسرب البقّ، وصفق الباب, تعثر بالشيخ قدوحة المزمجر على باب المنجد خليل التلمس, جلبابه المقلم مشجوج , وخلف عصاه المصوّبة يصيح :
ــ خراب, حراب ...
ويفتح المنجد خليل التلمس باب الدكان عابسا:
ــ يا صباح يا فتاح!
أمّا حربي فسار واجما, فطارده الولد العفريت حتى الفصل، ثمّ جاوره، فصاح المعلم فاروق:
ــ أرّبع أصي .
الراء وتر يهتز، وعين عصا تطير، لتأتي همزة .
ــ أرّبع أصي .
فقام الولد العفريت يمتطي المقاعد، ويرقصُ, ثمّ تناول العصا من يد المعلم فاروق الذي راح يغطّ في النوم، ويشخرُ!
ــ أررر بع .
أخذ حربي، ومضيا تاركين المعلم فاروق يفّح، والأولاد يهرولون فوقه, تجاوزا العجوز صفية المنحنية على الفرش الخشبي بباب المدرسة, وصلا الشيخ قدوحة تحت الكينيا , فزمجر:
ــ خراب!
تصارعا مع عصفور قضّ الريح مضجعه, مشيا إلى الصنبور حيث النسوة تزاحمن, فسبح الولد العفريت, وابتسمت الصبية تهاني:
ــ أبو سرة !
تمدد تحت ساقيها، داسته الأقدام فتراجع, ثمّ نهض, وعلى مــهل ربط أغطية الرؤوس ِ, ولما اشتد الزحام، وهجن, انشدت مناديلهنّ، فتطــــاير شعر، وتهدل , وآخر انعقص جدائل , وبان لحظتها الشعر الأبيض مــن الشعر الأسود, فضربن الصدور وتضاحكن، وأما الولد العفريتُ فابتعد ومعه حربي, شاهد الفخذين الملفوفين، وابتعد, كاد يمد كفه, ونوى، كاد أن يلثم أو يمتصّ, لكنّ الأقدام داسته، فهوى , حـــار في هياجه، فربط المناديل، ثمّ إلى الجميزة الرومانية مضى!
ــ أسمع يا حربي, تقف قبالته وحين تشير لي أتسلل .
مضيا إلى جميزة القرية التي لم تأخذها اليهود، في الدكان ذات السقف ألصفيحي كان المعتمد تحت جميزته الشاهقة التي يحمي جذعها السياج!
أمك قالت ألف مرة :
في كرمنا ثلاث بلميات أطول من مئذنة المسجد!
وحدثتك عن أشجار المشمش بنوعه " اللوزاني "
قالت: حتى النواة كنا نكسرها فنأكل لــــوزا حلوا, وعن شجرات التوت البلدي قالت:
واحدة قبيلة لا نقربها للأكل، وإنمــــا كنا نـــهز فروعها فوق الحصير؛ ليعبأ الثمر في صناديق لسوق الفالوجا، كنا نقول: الشمالي ألذ, فنأتي الشماليتين؛ لنستقبل منهما التوت على الحصير كرطب نقع في العسل الصافي, نأكل ما نأكل, ونهدي في السلال الهدايا للأحباب.
وقالت أمك :
ذالك غير الخوخ وأشجار اللو , وما لذّ وما طاب من فاكهة الله في المجدل!
وتهتف :
ــ نقترب يا حربي, المعتمد داخل الدكان.
ويقترب الولد قصيرا, لفّ في دائرةٍ في البدء, ثمّ ابتعد، ثم اقترب, جاء إلى حيث أشواك السدر الهائجة، وتطاول سقف الدكان, ألقى نظرة على حربي البعيد, وبعدها ارتمى في السياج, ليفتح ممرا بجسده,جلـده انشقّ، لكنّه عبر, سبح إلى الجذع,
رأى الفروع غابة, والجميزعليها تناثر أحمر, قفز على نتوءات الجذع، اعتلاها حتى صارت الأشياء تحته , سقف الدكان، و الأسيجة , ولما وصل إلى الحبة الأولى التقطها بفمه, ثم استمر في الزحف الصامت, وقال الولد العفريت :
ــ الجميز يحلو كلما ارتفع .
فارتفع، ورأى حربي البعيد يصغر, وسقف الدكان يبتعد, حشا جيوبه حتى انتفخت, وداعبته حبة رآها ترطبت, فكان لها بريق ,سال لعابه وهو يقترب, ولمّا راوغته؛ اهتزّ الفرع الشاهق، وانكسر, فتهاوى الولد العفريت, تقلّب طويلا ثم دوّى كقنبلة على سقف الصفيح!
لحظتها حربي عن بعد شاهد المعتمد يهرول فارا من دكانه، وهو يصيح :
ــ اليهود يا ناس تضرب !
*******
يا منجد خليل التلمس
يا فتى , أنعم الله وما أنعم , يا هادئا , يا رائقا , وفي داخلك زلزال !
تغرز إبرتك في المرتبات, أو تعربد على القطن بعصـــاك , ترسل عينيك الغائمتين في الزقاق المخنوق, ترفعهما فتصدمك السماء الموحلة بالغموض!
يا منجد خليل.
الدنيا لك تتشح بالسواد, والشمس تقف سوداء, فتنة الكون ذهبت, والروح غصّت, والنفس قحطت , والصبايا شخن , والأولاد أمسوا في ناظريك عجزة منكسرين!
يا منجد خليل .
كل وجه حاضر ظلّ لوجه غائب, شخص موجود يمثل شخصا مقتولا , أو مفقودا .
في مجدل عسقلان انفصلت الناس عن الناس، والخلق تناثروا , قال الناظر صاحب الناظرة السميكة :
ــ اهربوا .
ولما هربت؛ سمعت صراخ الناس:
ــ حرقوا الجرن على رؤوس مهجري القرى المجاورة .
يا صاحب الإبرة و العصا الضاربة .
جريت وعلى ظهرك كان يجري صفير الطائرة, رأيت طيارها فوق رأسك يدير قصبة الرشاش , قلت : قتلك , فصرخت و انبطحت مقتولا, سمعت الرصاص، و رأيته , تشممته وهو يتنطط على بلاط الأزقة .
قالت امرأة الجيران :
ــ كنا هناك تحت التوتة في كرم شارع الحرارية!
قالت :
ــ كنا أربع عشرة عائلة, والتوتة آوتنا مثل غرفة!
و قالت امرأة الجيران, و أنتم خلف الحمير تضربون في رمل التيه :
ــ ارتعشنا, و دعونا الله أن يبعد عنا طائرة اليهود !
وقالت :
ــ لكنها جاءت، و رشتنا في الكرم شجرة، شجرة .
و انهمرت دموعٌ حري :
ــ أنا جريت و معي هذا الولد .
و ضمت رضيعها و صاحت :
ــ الله يجازي حكام العرب .
ثم هزت رأسها و أنزلته مع بصقة مدوية :
ــ تفو على الجيوش الهاربة .
يا منجد خليل ,
يا عائش مع المنتظرين تتصبرون على قوت الأمم المتحدة , ترقدون بجوار المذياع الكبير؛ ليهدر , و ينادي كل العرب , يا عرب , يا عــرب .
قمت و جريت , تراوغ الطائرة , مررت بأجساد صامتة و أخرى تئن , و على آخر الزقاق كان بابكم مشرعا و لا أحد ! لهثت , ثم جلست , فزعق الصمت, وانقصّ حلقك, فوقفت!
يا منجد خليل
شجرة الكينيا تطيح عليك أوراقها, ثمّ تدحرجها الريح , ترفع عصاك و تضرب , تضرب التراب الثابت , الناس الثابتين , تضرب الأفق المسدود , الزقاق الممدود , تضرب أكاسيا الأحراش النابتة في القطن المتطاير, تضرب الهواء الخالي من الأكسجين, على صوت العرب المدوي من زاوية الدكان, على رذاذ الشيخ قدوحة، و صياحه المشروخ , تضرب على فأر يطل، و يروح , على مسرب البق الذي أضحى على حائطك قافلة .
و يأتيك فجأة زعيق العجوز صفية ليوقظك :
ــ الصبية تهاني ولدت المهدي المنتظر !
و عصاك تقع يا منجد خليل !
*******
في الحارة زلزال مركزه بيت الصبية .
في البدء تنقلت صيحة العجوز صفية .
ــ المهدي المنتظر انولد !
اهتزت الخلائق، وانتفض الجامد , ليس في الحارة ساقان لا تهرولان , ليس فيها عينان تستقران , حلقت الحارة ثم انصفقت , و جاءت الخلق .
قالوا :
ــ لا تدخلوا إليه بهذه الهيئة . تنظموا !
ــ لا تزعجوه , و لا تسدوا عليه الهواء .
قالوا :
ــ هو وعد أتى , و الله بدأ يتدخل !
الحاج صالح تمترس بالباب و صاح :
ــ أهلاً يا مهدي أهلاً .
وصاح :
ــ الآن يا يهود جاء دورنا .
وزغرودة صدحت كالناقوس , أطلقتها الأرملة عزيزة , طويلة من القلب الموجوع .
و قالوا :
ــ لا تخطئوا و تدخلوا, برفق نادوها .
ــ سمّوا باسم العزيز الجبار، و نادوها .
أشار الحاج صالح بيده , تنحنح و نادى :
ــ يا مبروكة , باسم الله تعالى .
هجم الصمت!
و عاد الحاج صالح فنادى :
ــ امسحي على رأس الحبيب و تعالي .
و هجم الصمت!
أغلقوا قلوبهم، و تعلقوا, ثم تسمروا مانعين الأنفاس.
وهجم الصمت !
و قفوا تلاميذ نجباء , ليتسلموا الآن مفاتيح مجدل عسقلان .
و قبض الصمت!
غاص في السيقان , حتى انفرج الباب بطيئا . طويلة ظهرت بيضاء، و الألق يضئ خديها . رفعت يدها , و بهدوء قالت :
ــ اشكروا الله يا عرب , ليلا نهارا اشكروه , لا تفعلوا شيئا سوى أن تشكروه .
ــ الحمد لله و الشكر له .
وعلى بعد صاح الشيخ قوحة , فتطيروا!
و عاد الصمت!
المنجد خليل أسند ظهره على حائط , وزاغت عيناه, شيطان في روحه عبث , رآها وقد رفعت ذراعها و نادت :
ــ ماذا تسمونه ؟
صاحوا :
ــ محمدا
و صاحوا:
ــ اللهمّ صلى على محمد .
أقفلت الباب/ و ظلوا هم واجمين !
صاح حربي :
ــ أريد أن أراه !
وصاحت الناس :
ــ نراه!
فتحت و أمرتهم :
ــ لا تزعقوا, كونوا بشرا .
ثم نثرت مناديل فاقعة الألوان .
قالت و هي تعدد :
ــ هذا من عائشة أم المؤمنين , و هذا من فاطمة الزهراء , و هذا خصيصا من مريم العذراء , و هذا ...
تطايرت الألوان الشفافة, فتصايحوا, ثم تقاتلوا على الأرض ليقتسموها .
بعد ساعات جاءت الدنيا, جاءت الحارات ثم المخيمات, ثمّ جاءت حتى غزة البعيدة. ضاق الزقاق فاختنق، و أطاح بناسه إلى أطراف الأحراش .
في آخر الليل اجتاز اليهود السلك, عبروا الأزقة و نادوا بالعربية الفصحى :
ــ يا محمد, يا أحمد, يا إبراهيم .
و لما النيام هبّوا؛ جاءت الصليات , كل رأس أطلّ أخذ طلقة. وخرج اليهود, وعلى الأرض كومات!
في الصبج لم ينفتق كبد السماء, وجه الموت ظل أصفر, ولفّ العواء, الشياطين نشطت, و الخوف قطع الركب. قطط النهار صارت موطن ريبة, صارت أرواحا تفحّ صفيرا متماوجا. أنّت الدنيا, والهمس امتنع، وصار النفسُ بجوار النفس يخيف . وبين قدمي المنجد خليل التلمس كان المذيع .
ــ يا عرب .
ثم غنى خفيضا :
ــ أمجاد يا عرب أمجاد .
ركله كأفعى مكتشفة وفي الفجر مشى , مشى حتى اصطدم بالحاج صالح اليابس كالشجرة .
قال الحاج الصالح :
ــ الناس يا خليل تتجه إلى المركز .
انحشر في الحشد المذبوح . حتى خرج الحاكم . رفع ذراعيه فوق نجوم الكتفين اللامعة , و فجأة صرخ المنجد خليل :
ــ يا حاكم نريد جيشا يحمينا .
و انفتحت حلوق الناس تدوي
ــ جيش, جيش
ُأعلن عن حملة تجنيد , فتعبات مواقع التدريب, والشبان مشوا للمرة الأولى بأزياء كاكية , زغردت النسوة و الأولاد رقصوا, وكان السلاح بهيجا .
اندفع المنجد خليل التلمس في الحارة رافعا رأسه, ومشى مشية العساكر في الأزقة, رمقت عيناه الشارع، و تعلقتا بالأفق البعيد .
الولد العفريت جرى يتتبعه و يقلده , وسع ما بين الساقين, كور ذراعيه و ثبت عينيه, جاور المنجد خليل و صفق الأرض بقدميه الحافيتين و قال :
ــ علمني يا منجد خليل كيف أطخ .
ابتسم المنجد خليل و مضى , اتجه إلى دكانه، وفتحه, هرب الفأر, تأمل بقايا القطن, عصاه الملقاة, مسرب البق العالق , صفق الباب و أدار في ثقبه المفتاح .
في المساء تجمعوا, نصبوا السامر، و سهروا, هزجوا للمنجد خليل التلمس الواقف ببزته, غنوا له, فأطلق رصاصا حيا, فـــانقدحت شرارات اللهب الجارية .
هاجت الناس, فحملوه، و غنوا :
ــ جيشنا حامي الحدود , جيشنا ديناميت و بارود .
الأرملة عزيزة مسحت على ثيابه, تشممت فوهة القصبة الساخنة, ثم لثمته, والعجوز صفية دارت محبورة بظهرها المنحني , و على بعد كانت الصبية تهاني ترقب الجمع وفي حضنها ولدها .
جاء يوم عاصف و انقضى !
كانت ريحا زعزعا, خسفت و أهلكت .
في حطام ليلة أرعدت فأرعشت .
نادوا على الناس, حثوهم على الذهاب إلى المدرسة, و على خشبة المنصة صاح الشقيري بصوته الأقوى :
ــ إلى الجحيم يا إسرائيل .
ارتج جواره المعلم فاروق, ورفع الشقيري ذراعه و صاح :
ــ سيشق جيشنا طريقه إلى فلسطين .
هدروا :
ــ يا شقيري هات سلاح و خذ رجال .
و غنوا جماعة :
ــ أمجاد يا عرب أمجاد !
زاحم الولد العفريت الأكتاف و اقترب .
فهتف الشقيري :
ــ كما يشق هذا الولد طريقه إليّ!
وصعد الولد العفريت الرؤوس, صعد من تحت كفي المعلم فاروق, وقفز، فتعلق بصدر الشقيري, تشبث بخديه الواسعين, فرفعه الشقيري في بقايا العاصفة .
ــ مثل هذا الصغير!
و شاهد الولد العفريت الجموع , حربي يلوّح, المنجد خليل في البعيد, وسمع الزغاريد, فسخنت رأسه, سخنت عيناه, أضحى خفيفا بلا وعي, بطلا بوزن الريشة .
وفي اليوم التالي لم يصل إلى المدرسة, قطعت طريقه عربة كبيرة يقودها عسكري, كان الرجال يحملون فؤوسا و يصعدون, قفز الولد العفريت, فمضت العربة إلى الشرق .
ثم على الحدود تقافزوا .
حفر الولد العفريت مع الكبار , جمع الأعشاب ليغطي الرشاشات , ومع الرجال سحب مدفعا له عجلتان ,و طوله بحجم الدار .
نشيطا كان , خفيفا بوزن الريشة , رقب الطرف الآخر , شاهد المنطقة الحرام , و مسح بعينيه أطراف الأرض المنهوبة .
و في لحظة سمع المنجد خليل التلمس يصيح :
ــ انظروا .
فتراءت للعين لوري اليهود , و قف الجند يرقبونها , تفحصوها بالمكبر ,
و قالوا :
ــ فيها مدفع و جنود .
و قالوا :
ــ تقترب .
همس المنجد خليل التلمس بجوار الضابط العربي .
ــ فليعد المدنيون .
ورد الضابط و المكبر على عينيه :
ــ تقترب.
هتف المنجد خليل :
ــ نضربها .
و صاح العريف فريج أبو الكاس و هو يأكل يده :
ــ نضربها .
و صاح المدنيون :
ــ نضربها .
انبطحوا, استطالت الخنادق، وانتشرت الفوهات, راجمات كتف , و رشاشات , قصبة المدفع ارتفعت . أما اللوري فاختالت , تراجعت، و تقدمت . و قال الضابط العربي :
ــ نتصل بالقيادة .
ذهبوا و عادوا بهاتف يجر حبله الطويل . عبث الضابط في الهاتف , تقدمت اللوري , فلامست السلك و هرسته , دخلت المنطقة الحرام , الأنفاس انكتمت , تصايح الضابط العربي , و ارتجفت أصابعه, الهاتف لم يرد, المنجد خليل التلمس تقافز يحمل راجمته, ضرب الجبهة، و نتف شعر الرأس , رآها آتية إلى الصدور, تدخل العيون, تدوس المواقع حفرة، حفرة , زعق على الضابط ضاربا الفخذين :
ــ اضربوا .
الناس تحلقوا:
ــ اضربوا.
الولد العفريت هرول , تشمم الصناديق, هجم على زناد الرشاش الملقى بلا أحد !
صاح :
ــ اضربوا, اضربوا يا عرب !
لكن الضابط ضاع في الأرقام , و انتظر تعليمات الحبل الممدود .
تغطرست اللوري , تراقصت , لامستهم و ابتعدت , قررت اغتيالهم فردا، فردا ثم عفت, و تراءى جنودها يدلون ألسنتهم للمنجد خليل التلمس, و يحركون الإصبع الوسطى, ثم يمضون .
#عمر_حمّش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟