|
نعيم عبد مهلهل يكتب مقدمة كتاب الكاتبة البريطانية أميلي بورتر بطبعتيه العربية والإنكليزية
نعيم عبد مهلهل
الحوار المتمدن-العدد: 2612 - 2009 / 4 / 10 - 09:53
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
صدرت للكاتبة والفنانة التشكيلية البريطانية، د. "أميلي بورتر"، وهي بريطانية من أم عراقية، كتاب (مذكرات أميرة بابلية "ماري تيريز أسمر") بنسختيه العربية والإنجليزية في طبعتهما الأولى، عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمّان، الكتابان من القطع المتوسط.تقع النسخة الإنجليزية في 426 صفحة أما النسخة العربية فتقع في 316 صفحة.ويستهل الكاتب والروائي العراقي نعيم عبد مهلهل الذي كتب مقدمة الكتاب: ((لا أخفي إعجابي بأمل بورتر ، تلك المرأة المطعمة بأعراق مدهشة من حضارات مازالت الى حد هذه اللحظة تمثل جزءاً من عطر الروح المضيئة بشموع الكلمة ومسارب الورد. هذه المرأة التي تعي شكل ما تنجز تحاول في كل رؤيا لها، تدويناً أو ضربَ فرشاة أن تخلق رؤيا أخرى لعالم تفترضه هي قبلنا وتعطيه مسحة جمال خاصة، بل وتجعله عالماً لفضيلة منتقاة من نقطة الجذر الذي أتت منه، هناك من مناخات الشرق الذي صنعت منه بورتر خيالها الطافح وفلسفتها الفاتنة وأساطيرها التي وعت من خلالها شكل ما تنتمي إليه (عولمة من الورد والكلمات وجغرافية أزمنة لا زال نفَسها يتصاعد فينا كما يتصاعد عطر الهيل والبن في مضارب البادية التي عاشت بها الأميرة البابلية ماري تيريز أسمر)، تلك التي تحرر لنا أمل بورتر مذكراتها وتترجم فيها جزءاً خفيّاً من إرث الإبداع العراقي، في عصر كان ضمن سياقات الفهم التاريخي للعراق (من العصور المظلمة) . يأتي هذا الكتاب في ترجمته الرصينة والجميلة ليكشف سيرة ذاتية لسيدة محترمة ومثقفة ومؤمنة، إنها ماري تيريز أسمر، المولودة قرب خرائب نينوى عام 1804. سيدة مجتمع من طراز خاص. تحمل فهماً مدركاً لطبيعة المكان الذي تعيش فيه، وتحمل قلبا عجيبا مهيّاً لكل الأزمات والمواقف، ولهذا يمكن أن نصف مذكراتها بعالم من عالم الرحلات التي تقرأ في الاستشراق روح المكان وعاداته. لأن ماري تيريز، وكما في أمانة الترجمة والتحرير الذي بان فيه الجهد الكبير للسيدة أمل بورتر كانت تمثل رائية مبدعة للمشاهدة وقراءة جغرافية المكان الذي تعيش فيه من حيث العادات والتقاليد والثقافات، وحتى الهاجس النفسي والوصف الأدبي للمكان الذي تتواجد فيه. كما تظهر هذه المرأة البابلية الجزء المخفي من التبشير المسيحي المؤمن الذي يقول به بعضٌ من متطوعي يسوع لإيصال فهم واضح عن إنسانية البشر عبر الرسالة السماوية، ومن يقرأ المذكرات يرَ إلى أيّ مدى نجحت ماري تيريز في إيقاظ هكذا مشاعر، وتفرض جزءاً من هيبة روحها وثقافتها حتى على الأنظمة الاجتماعية التي لا يمكن اختراقها، ومنهم أولئك العرب الذين يعيشون على إرث التعصب الأعمى للتقاليد والأعراف والقيم الشرقية والحاكم العثماني المتزمت الذي عانت منه صاحبة المذكرات الكثير هي وعائلتها وأبناء جلدتها وديانتها. وها هي في جزء من مذكراتها التي هي عبارة عن مواقف لا تنتهي من الحرج والسعادة تصف حياتها مع أولئك الناس، قبل رحلتها الأخرى صوب دمشق في قافلة هائلة صاعدة شمال الفرات الباسم (كما تصفه) تكتب بحب عن البدو والأعراب الذين عاشت معهم في كنف الطبيعة المفتوحة بمديات تتسع باتساع زرقة السماء، كقولها: (وجدت من الصعوبة أن أفارق صديقاتي البدويات اللواتي اكتسبن محبتي، الفراق لم يكن سهلاً كأنما كنت أودع صديقات مقربات أو أقارب. وبعد التعبير عن الندم والعويل للفراق ومن بين آمال بلقاء آخر نزعت نفسي من بينهم، هؤلاء الذين أوَوني لمدة ستة أشهر واتجهت إلى بغداد بحثا عن قافلة تتجه نحو دمشق). وهكذا نقرأ سفر امرأة كشفت في أوراقها عالما كان مختبئا خلف ستائر الزمن المر. زمن الجهل والتخلف وسلطة الولاة القساة. زمن كان على الإنسان فيه أن يمارس شتى طقوس العزلة والتمرد والجوع دون أن ينتبه إليه أحد سوى ملاحظات القناصل وخواطر العابرين، لكن ماري تيريز في رؤى المذكرات هذه كشفت لنا طوبوغرافيا لحياة لم نكن نعلمها بالصورة المدهشة والشاعرية التي خطت فيها هذه المرأة وصفها وإحساسها ونقلها لواقع الحياة عبر طريق حرير اختطته هي من خلال سيرتها الذاتية/ العراق/ أوربا / سوريا، وغيرها من أمكنة كانت فيها عينيها ذاكرة للمكان وما يعكسه لنا من انبهار في قراءة الناس والطبيعة ومفاصل الحياة. قراءة هذا الكتاب ليست متعة فقط. بل هي إضافة مهمة لثقافة القارئ، وأعتقد أنها شكل مكتشف من أشكال ثقافة الأنوثة الرافدينية التي لا نعلم عنها شيئا في زمن عاشت فيه ماري تيريز أسمر، ويمكن أن يخلق لدينا دهشة ما ونحن كما إمبرتو إيكو في كشف معرفية الكتب الغامضة والمنسية في أدراج المكتبات نحصل على كنز من المعلومات والإبداع المخبّأ في عصر لم تكن فيه مثل تلك الرؤى موجودة. ولهذا فإن السيدة أمل بورتر صانعة الكشف تلتقي مع إمبرتو إيكو في إزاحة الغبار عن (اسم الوردة) وتمنحنا فرصة جميلة لمعرفة خلق أدبي مدهش لأميرة بابلية هي امتداد حقيقي لكاهنات الزقورات وذاكرة مردوخ ومساءات الجنائن المعلقة. تستطيع عزيزي القارئ أن تمتع نفسك بهذا السِّفر، وأن تدرك معه قيمة أن تكتشف الحياة في هكذا حس عال من الثقافة وقراءة المشهد والمكان وتحليل وقائعه ونقل نبضات حياته، وتستطيع أن تعرف الكثير عن مكونات المجتمع العراقي خاصة شمال مدينة بغداد امتدادا إلى الموصل ثم صعودا إلى أعالي الفرات، والتي كانت بالطبع تمثل نسيجاً اجتماعياً وعقائدياً واحداً. كذلك لك أن تفهم من جمال المعنى داخل المذكرات، قوة شخصية ماري تيريز وثقافتها الكبيرة وحداثة الإبداع الوصفي ورهافة حسها وإنسانيتها الطافحة بالعون والمساعدة وحسن النية والصدق في التعامل، إنها في تقديري وربما تقدير السيدة أمل بورتر تمثل واحدة من بقايا الحلم القديم لصناع أساطير الطين والمعنى، أولئك الذين انتشروا في طرقات الألواح ومدن الآلهة منذ عهد أور ورحلة إبراهيم (ع) التبشيرية، ومنذ الحلم الأنثوي الأول بالمداعبات الموسيقية الأولى لأميرة سلالة أور الثالثة (بو ـ آبي) والمسماة خطأً الأميرة (شبعاد).. وهذا جهد طيب وكشف تحتاجه الثقافة والمكتبة العراقية كثيرا، وحقيقة أرى في جهد مبدعتنا (السيدة أمل بورتر) إضافة جديدة للسِّفر الإبداعي العراقي، وربما هي عملت كما عمل عالم الآثار، إذ أظهرت لنا من تحت رمال النسيان، هاجسا عراقيا مبدعا، يمتلك الكثير من مواصفات السرد القصصي ولغة الرحلات والثقافة الاجتماعية والوصفية وحتى جملة الشعر اللامعة كما وردت في مشاعر ماري تيريز وهي توغل في قراءة ذات الآخر الذي تعيش معه وتحتك به لتصفه بشيء من الرومانسية والدقة والمهارة: «واصلنا سيرنا باتجاه الصحراء يممنا نحو الكابة، حيث لا بقعة خضراء ممكن أن تشاهد بأي اتجاه، ما استطاعت العين أن ترى أي شيء يريحها من هذا المنظر الرتيب المتكرر، وإلى أي مدى يمتد النظر لا يجد سوى سطح واحد مستوٍ كسطح البحيرة لا يحدده أي شيء، وكل ما كانت تلمحه العين ويريحها حركة حيوان راكض مرعوبٍ من منظر هذه القافلة الهائل، ولكنني لم أستطع أن أميز هذه الحيوانات إلا أنه قيل لي إن بعضاً منها أسود،لا وجود لأي أثر لنتبعه، كل ما كان يدلنا على طريقنا هو البوصلة والنجوم» وفي الآخر... تبقى هذه المذكرات من الوثائق النادرة والمهمة عن مرحلة من مراحل التأريخ العراقي، وقراءة حقيقية لمستويات البناء الاجتماعي العراقي الحضري والبدوي والريفي في زمن كان فيه العراق خاضعا للهيمنة القاسية لسلطة الدولة العثمانية. وأعتقد أن قارئ هذا الكتاب سيفك الكثير من روح المكان وطلاسمه وأنه سيجد في الجهد الرائع للسيدة العراقية المبدعة أمل بورتر الكثير من العون في التمتع بقراءة سيرة ذاتية لأميرة بابلية مدهشة تدعى (ماري تيريز أسمر/ المولودة قرب خرائب نينوى العراقية 1804). إنها شهادة حية لمرحلة غامضة من تاريخ بلاد الرافدين استطاعت فيها أمل بورتر أن تضيف رقة الكتابة الى روح ماري تيريز وترينا دهشة الوعي عند سيدة عراقية في زمن غاب فيه الوعي تماما بسبب قسوة المستعمر التركي ومحاولة الإبقاء على الجهل والأمية تنخر في روح المجتمع العراقي وجسده. الكتاب بقيمته التاريخية والأدبية إضافة جديدة الى المكتبة العربية والإنجليزية على حد سواء.
#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مهرجان المربد ..( وردة الى حسين عبد اللطيف ، صفعة الى المجام
...
-
المعدان ..( التاريخ وجلجامش ، في مهب السريالية ) ..
-
عيون المها ..بين برج أيفل وأهوار الجبايش...
-
الرافدين.. ورموش العين وعصير العنب...
-
صابئة حران وصابئة المعدان وصابئة هذا الزمان ....
-
الأهوار.. (الإنسان يموت، الجاموس يموت، والقصائد أيضاً)...
-
قبر الزعيم عبد الكريم قاسم ...
-
الدولة العراقية وسفارتنا في برلين ورفات الفنان العراقي أحمد
...
-
شيء عن بلاد أسمها ( التها بها )...!
-
مديح إلى مدينة العمارة .. ومعدانها أجداد هيرقليطس...
-
شيوعيو مدينة الناصرية بين الانتخابات ومتحف لفهد....
-
مقدمة ٌلتاريخ ِمدينةِ الناصريةِ .....
-
جلجامش وملوك ورؤساء الجمهوريات ..
-
البارسوكوليجي 2009
-
انظر إلى غزة ...أنظر إلى العربي....!
-
قراءة الباطن الروحي ( للمغربي ) شكسبير وتنظيم القاعدة...
-
عيد ميلاد مجيد يا أهل ناحية الحَمارّْ ....
-
طالما .. العراق حيٌ ..فأنت الحي وليس فلوريدا...
-
قيصر والعراق وحبة التين
-
الحسين ( عليه السلام ) ، وغاندي ( رحمهُ الله ) ، وكارل ماركس
...
المزيد.....
-
العثور على قط منقرض محفوظ بصقيع روسيا منذ 35 ألف عام.. كيف ب
...
-
ماذا دار خلال اجتماع ترامب وأمين عام حلف -الناتو- في فلوريدا
...
-
الإمارات.. وزارة الداخلية تحدد موعد رفع الحظر على عمليات طائ
...
-
صواريخ حزب الله تقلق إسرائيل.. -ألماس- الإيرانية المستنسخة م
...
-
كيف احتلّت إسرائيل جنوب لبنان عام 1978، ولماذا انسحبت بعد نح
...
-
باكستان ـ عشرات القتلى في أحداث عنف قبلي طائفي بين الشيعة وا
...
-
شرطة لندن تفجّر جسما مشبوها عند محطة للقطارات
-
أوستين يؤكد لنظيره الإسرائيلي التزام واشنطن بالتوصل لحل دبلو
...
-
زاخاروفا: -بريطانيا بؤرة للعفن المعادي لروسيا-
-
مصر.. الكشف عن معبد بطلمي جديد جنوبي البلاد
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|