|
غلق | | مركز دراسات وابحاث الماركسية واليسار | |
|
خيارات وادوات |
|
هاملت هل كان رواقيا
قيل لنا بأن مخيلة شكسبير ، ماكانت تطيق مفارقة مخيلة تاريخية كبرى، هي مخيلة (بلوتارك) فمنها كان منح الرؤيا وخلل أحداقه كان يرى الى الغابة البشرية ، كمعترك بشري ، ما أنفكت حوادثه تسري في أضلاع الكون ، باعثه على الألم في الأغلب الأعم ، وعلى قليل من المسرة تجري هنا أو هناك ، تأخذ شكل أفخاخ تنصب على قارعة الطريق ، لتصطاد المغفلين من البشر ، الذين لاتستهو الحكمة أفئدتهم . ولسنا ندري من هو النابه الذي أحصى تاريخ الإنسان، ليقدره بـ 3640 سنة من التاريخ المكتوب ثم ليخرج لنا نتيجة مفادها بأن ثلاثة قرون ونصف منها فقط، هي التي قضاها الإنسان في العيش فيها بسلام !. وكان على شكسبير ، أن يختار، وهو يجوس خلل الغابة التاريخية ، التي صورناها لنا بلوتارك ، ويتصيد منها مايلائم ذائقته الشعرية ، ودون أن ينسى في الوقت نفسه ، الهوى العام والصبوات التي كانت تشكل توقا عاما في عصره ، وثمة مفارقة حصلت ، إذ أن بلوتارك كان يناصب الرواقية كمذهب فكري ، العداء ، ومع ذلك فقد آثر شكسبير أن يأخذ بناصيتها ! وحيث ترى الناقدة ( جانيت ديلون ) في كتابها عن إنسان شكسبير المستوحد ، إن ثمة قضية قيم ومعتقدات كان يؤمن بها شكسبير، في فترة اتصفت بالجدل وانعدام اليقين ، لذا بات من المؤكد ، انه وقد سار على درب معين ، فالفقم سيرافقه إن لم يتوكأ على عصا فلسفية متينة البيان !. وكما أبان (وليم جيمس) : فاالأنسان بدون فلسفة يغدو أبأس الناس وأشقاهم في المجتمع وبدءاً يقول لنا الأستاذ جبرا ، في مقدمته لمأساة هاملت بأن الشاعر الرومانسي (كولردج) قد شخص اشكالية هاملت ووضع يده على مفتاح مأساته ، وهو التناقض بين الفكر والفعل ، وحيث أن الرواقية القديمة كانت تؤثر التأمل على الفعل ، وهذا ديدنها طالما كانت فلسفة تأملية لاتبيح التزامن والتزاوج بين الفكر والعمل ، فهي لاتدرك أن التأمل يبقى خاويا على عروشه، ان لم يدعم بفعالية (البراكسيس) الاجتماعية ، الممثلة بالنشاط الإنساني المقترن دوما بالمعتقد المناسب . وإذا ما رأينا الى هاملت وقد تلفع بالعباءة الرواقية ، فحتما ستطلّ على ثيمة الانفراق والتفارق بين الفكر والعمل ، سيما و(زينون) مهندس الرواقية الاولى ، قد اكتفى بإرساء حجر الزاوية الاول مرتكزا على الأحلام ، وان قيل ان (الاسكندر) قد حققها على أرض الواقع !. ولقد قيض للمذهب الرواقي للرؤيا الرحبة للكون ، ان يصبح المهيمن على الفكر الفلسفي والديني على امتداد العصور القديمة وشطر من العصور ألحديثة (1) . لاسيما بعد ان غيره من ملامحه ورأب الصدع الذي كان يعاني منه مقتلا , بأن رفض الطلاق القديم بين الفكر والعمل خصوصا في مرحلته الرومانية المتأخرة وعلى يد ( سنيكا) و (ابقتاتوس) . وحيث قد اختار شكسبير ماساته ممثلة بمملكة إقطاعية الملامح وآيلة للسقوط مستقبلا كان عليه أن يشخص الخمائر الفردية التي تعمل على إذابتها من الداخل وبتوسط هوى طاغ ومستبد من حكامها , الذين يزعمون انهم ممشوحون بالزيت الإلهي ، أي أن النقد نبغي أن لا يطال قداستهم , والتي هيه أحبولة الحاكمين ليس إلا . وهكذا حط طائر الاختيار الشكسبيري على شجرة وارفة الضلال , ومحملة بأثمار تناسب بل تعكس طموحات الشاعر الى إجراء حذف جماعي لمملكة الخطأ تلك وسيتم العمل كله بمرسوم رواقي نافذ كجبر ألهي اسمه القدر FATUM . لكن إن كان الرواقي يفي بالمرام , وهو التدمير الجماعي للتشكيلة الاجتماعية من الحكام والبيروقراطية الملتفة حولها , فماذا كان عليه كفنان خالق لشخوصه المدان منهم والبرئ أن يفعل بميراث من اللاهوت المسيحي المنتص أمامه شاخصا ومعلننا بأننا جميعا خطاؤون , والمسيح قد افتدانا بصلبه الى الأبد ؟. تأسيسا على ذالك , سيكون التأثر بعد هذه المصادرة اليتيمة بسيفه ذبيحا !. وإرهاصنا كمقتربات فكريه من الفنان شكسبير , أنة يريد أن يحلق بنا من عالم القضاء والقدر , الى عالم الوعي والحرية لكن المفاهيم اللاهويته ومصادراتها العقيمة , كانت بمثابة صخرة (سيزيف) في دربه , سدا وتعويقا . ومن هنا وجدنا أنفسنا ميالين للأخذ بالأطروحة الرواقية بعد أن تصالح الفكر والعمل لديها فالمفارق فيها معانق للمحايث . ومع ذلك فثمة ملاحظة على أخلاقيات المأساة الهاملتية , أنها جاءت مموهة بفعل ميكانزم ذكي , بحيث اختلطت الرؤى اللاهوتية المسيحية بالأخرى التي متحت الآبار الرواقية , وهذا احد أسرار جاذبيتها التي كما قال عنها الأستاذ الناقد جبرا , أنها جاءت محملة بالرموز والدلالات العميقة الغور ونرى إن الخيار البراغماتي الذي اصطنعه شكسبير , كان موفقا الى حد بعيد فهو قد تجنب الريب الاكلريكي , الذي قد يدمغ العمل المسرحي كله بالهرطقة , من ناحية ومن جانب أخر عنّ له أن يدغدغ العطالة الفكرية إذا تعذر القول بمتلقيها , سيما وتلك العطالة لها جبروت شوارعي ! والأخلاق الاجتماعية كانت مترنقة بفعل التحالف الكنسي مع الإقطاع الملكي فالقتل مقولة مازال العوام تتبناها . وحتما كان شكسبير على دراية تامة بأن السلف الأعلى للرواقيين هو هيراقليطس الذي سمي بالغامض لأن العامة لم تستطع إدراكه .. وعلى الرغم من لهاث شكسبير كرجل ( سنوبيست) خلف اللوردات والرجال العظام ، الا انه لم يستطع ان يتخلص من ادران فعل الرثاثة العشائرية التي تنادي بالقتل درءاً للقتل !. وهكذا نجد شكسبير كمقتربات وطرائق للعمل بات بفضل الجدل النازل الذي تقيمه الرواقية بدلا من المحمول الرباني الذي جاءت به فكرة الخلاص المسيحي ، والمملكة التي شيدها في عالم الخيال كان يترصدها طوفان يفضي الى غسل ادرائها ودك بنائها دكا لايبقي ولايذر . وثمة حقيقة يشير اليها (اميل برهييه) في تاريخه للفلسفة اليونانية ، وهي التأكيد على عدم احتواء المذهب الرواقي من قبل المسيحية ، بل العكس هو الذي حصل ! . وإذا كان (كولدرج) يعتقد ان كل انسان يولد أما افلاطونيا او ارسطيا والقرن السادس عشر كان يضج بأفكار وحكم (شيشرون وسنيكا) فهل يبقى من مانع لشكسبير بأن يتوكأ على عصا مذهبية ترى هل ان القدر كجبر الهي بات لامفر منه ؟ وإذا توصلنا الى رأينا بعد لأي من شكسبير كان على الملة الرواقية ومعتقداتها الأثيرة في الكون والإنسان حتى وان جاءت بصيغة غاطس نفسي داخلي يكبح نفسه كيلا يظهر على السطح فهل كان الفنان يعاني من ازدواج المعتقد، كما كان الحكيم ابيقور؟. فالأخير قيل عنه انه كان متعبا في النظر وزاهدا في الواقع !. وفي عصرنا المشبع بالعلوم الدقيقة والأخرى ذات الرؤية الإنسانية التي سمحت لنا بتأويل قتل قابيل لأخيه هابيل من أنها دلالة رمزية ومؤشر على تقدم الزارع على الراعي في مضمار الحياة . فما هي الدلالة التي تكمن في قتل الاخوين ، كملوك بغض النظر عن الذي يطفو على سطح الأحداث ، وكون كلوديس كان يمثل الشر بصناعة لاغبار عليها ز ان البيروقراطية الممثلة بـ(بولونيوس) كان لها ان تندثر ، ولا اعتراض على ذلك لكن مابال النواة الطامحة الى تأسيس المستقبل وهو هاملت لم كتب عليه الفناء الى جانب (اوفليا) التي مثلت الطهر والبراءة؟. اذن هي الرؤية الرواقية لمن يزعم امتلاك ناصية التأويل ليس الا ؟ . والمنظور الرواقي الذي تسلح به شكسبير هو الذي يسمح بتصور الهلاك والدمار الجماعي ، تأسيا بالقانون ( اللوغوس ) الذي ينادي بالاحتراق الكلي بمعنى عودة الحياة الى منبعها الأصيل كحنين الطير الى أعشاشها ليلا !. وما رجاء هاملت الأخير قبيل برهة من رحيله الى العدم ، وطلبه من هوراشيو ، أن يبقى حيا، الا ليبلغنا حكمته الرواقية ، حول الكينونة بامتياز ، وإلا فالموت بنا أجدر !. وحيث ان مجريات الأمور تشير الى ان هاملت قد دخل بطن الحوت الفلسفية ، لمدة عشر سنوات في الجامعة، فلا جرم انه قد أصبح أسيرا لاحد تياراتها المذهبية ، والترجيح كله يشير الى الحكمة الرواقية ، وان حفت بها مخاطر الوثنية المحظورة . ولقد اثر المخطط الشكسبيري في رسم ملامح الشخصية الهاملتية ،ان يأتي على وفق نمطين الأول منهما متأرجح بحسب الهوى والصبوة ، والثاني متعقل حكيم بحسب لكل شئ حسابه !. لكن هاملت يفاجئنا عند محاورته مع أبيه ، بأنه سيرمي الكتب جانبا وبالتالي حكمتها ، سيما وان المظنون بأن الكتب لاتخلق رجلا ، وكل مافي الأمر أنها تملأ رأسه بحروف ميتة ، وأذا كان الامر هاملت لم يصبح ملكا بعد ،وهو قد درس الامبراطور (مروس اوراليوس) الذي اعتنق وطبق المبادئ الرواقية ، قد مرت بذهنه أبان محنته الوجودية..وبرمه بالبلاط وبمعشر الناس ، وشعوره بالخواء والرتابة والصغار(2).لكن محنة هاملت تعمقت والدرب بات غير سالك ، والحاح الشبح عليه بضرورة الفعل ، كل ذلك قد ثبط من عزيمة الرواقية ، فكان ان لوى عنق الزجاجة الرواقية ، دون جرأة على كسرها ـ ثم هبط الى شوارع المملكة ليطرق ابواب الموت بجرأة بالغة !. وفي ذات الوقت تلتقط اذننا الثالثة رنينا، وأن جاء واهيا ، يردد طفافة الحياة ، كما رأها الامبراطور (اوراليوس)، إذ الشبح مع تحريضاته بالقتل يردف قوله – أن القتل في افضل حالاته خسيس – وهكذا يتسنى لهاملت ، بعد أن تسلق قمة الهرم المأساوي ، أن يتعرف الى القاع المأساوي أن يتعرف الى القاع الانساني فيراه في جذره الوجودي ينضح بؤسا وشقاءا!. ويخيل الينا أن شاعر عصره شكسبير ، كان حائرا في اقتباسه . آمن بولص الرسول الذي يعلم أن المسيحية جنون في نظر الانسان الطبيعي أم من (أبقاتاسوس)العبد الذي اعتنق الرواقية ، وهو من اعلام الطبيعيين في منظوره الفلسفي ، والذي يرتكن الى الفلسفة التي مكنته من رفع مخفوضي الرؤوس لينظروا بدون إغضاء،بوجه الطغاة (3). والمضنون أن هذا التشظي في الدال والمدلول هو مادفع ( كلود شتراوس) الى قوله – أن معضلة هاملت هي بيت القصيد لكل الاشياء – فالتعريف لافت للنظر ويحمل معه صوابه بخصوص مسألة الشر كنواة بنيوية ، تبقى عبر الاحقاب مصاقبة لنا ، وبالتالي فمن الخلف (كما يقول الفلاسفة) أن نتصور امكانية حذفها بأعتبارها قضية ضياع أو استلاب ، فهذه النواة شريرة كـ ( بروتايوس ) (4) قادرة على التشكل بسحنة واخرى ولاتعوزها فائقية التناسخ ( التأويه)!. وبودنا أن نشير الى الناقدة (جانيت ديلون ) ، بأعتبارها قد رصدت أن ثمة عقدا اجتماعيا كان شكسبير ينوي بناءه، من خلال الطرح المأساتي لهاملت. ورؤيتنا المتواضعة للأمر تشير الى العكس من ذلك ، بأعتبار أن التفسخ والانحلال ، اللذين دمرا كيان المملكة الاقطاعية ، يؤكدان انحلال العقد الاجتماعي القديم فقط ، ولايرهصان ببناء عقد اسمى منه ، وهذا المنظور يتطابق وجدول الرؤيا الرواقية التي تنفي استمرارية الدفع التاريخية-،بمعنى الصعود من المرحلة الاقطاعية الى البرجوازية – الى الامام وانما الواقع كله يؤول الى الفناء والصيرورة الدورية حسب نظرية الاحتراق الكلي الكونية ،التي تنادي بها الرواقية، فكل شئ في عود ابدي دقيق وصارم، ولايترك مجالا لأي ابداع او اختراع(5). وتقول الناقدة جانيت في كتابها عن الانسان المستوحد الشكسبيري بان البرم بالحياة والتعب من العالم مرادهما الى سوداوية هاملت. وبهذت تؤكد الناقدة أنها تؤثر تفسير الأحداث ضمن منظور احادي ـ سكلجة الواقع ـ ولاترى الى اليقين الفلسفي الذي تلبس هاملت ، كمثقف من عصره،سيما ونحن نراه في السياق العام للمسرحية يؤثر القنوط والصمت ( APHASIA) المميزين لكل من سار على الدرب الرواقي !. وأخيرا أن صدق هاملت مع نفسه وكذبه مع مجتمعه ، مسألة فيها اكثر من وجهة نظر، فهو طالما قد أكتشف أن كلوديوس وزوجته الملكة، قد تنكبا عن جادة الصواب، فأي حوار مع محتشد الوحوش هذا ، سيصبح بمثابة خطء بالرأي منه لاكذب يدرأ به عن نفسه الخطر، كما ترى الناقدة جانيت ، سيما وان هاملت يتميز لنا كيسا وحصيفا ويوصف بأنه حبيب الشعب، وهو المجتمع الحقيقي، فهل يصح القول بأنه كان كاذبا معه؟. ويتراءى لنا أن هاملت قد قرر التوجه صوب العمل بدءا من بروز الطيف له-:
|
|