|
خيول جمهورية الكازينو الخمسة
حمزة الحسن
الحوار المتمدن-العدد: 2549 - 2009 / 2 / 6 - 05:32
المحور:
ملف: الانتخابات والدولة المدنية والديمقراطية في العراق
في مجتمع منهك وبلا مصدات وقائية ولا طبقة سياسية تمتلك تقاليد عمل رصينة مشرعة في قانون، ولا نخبة ثقافية بحقوق قانونية عامة وفردية، ولا محكمة عليا بارث حقوقي نزيه واصول عمل مجربة، ولا ضمانات اجتماعية، ولا مؤسسة برلمانية حقيقية، في مجتمع من هذا النوع يستطيع حفنة من الافراد بمؤهلات بسيطة وعادية واحيانا بلا مؤهل غير خطاب بيع الاوهام مع زمرة مسلحة ـ الخطاب للاقناع وان فشل السلاح ـ من اختراق المجتمع العراقي وهو من أسهل مجتمعات العالم اختراقا رغم كل الضجة والصخب والتكرار عن عناد الشخصية العراقية وقسوتها في بعض اللحظات وهي اللحظات التي يتعرض فيها الشرف الرفيع للأذى اذا ما أريق على جوانبه المني، اما سرقة الثروة والسلطة والعدالة والامل فهي لا تعد في كل الاوقات من مستلزمات هذا الشرف.
لذلك يوجد في كل مدينة ومنطقة وشارع احيانا الكثير من الرموز الميتة أو الحية، عن حق أو عن باطل، وباستثناء الرموز الدينية المعروفة، فإن الباقي هو اختراع للسيطرة والتكسب والجاه بحيث يتجاور الموتى مع الاحياء في المكان وفي الحلم وفي الامل في نوع من الحداد حسب تعرف جاك ديريدا للحداد بوصفه تماهي الاحياء مع الموتى، وهنا يلغى الموت وتلغى الحياة التي تتحول الى نحيب مستمر في تكفير ابدي عن خطيئة وهمية.
مجتمع من هذا النوع، يصبح فيه حتى شقاوات الحارات رموزا وسلطة، حتى الموتى الحقيقيين والمتخيلين رموزا في زمن ضياع الرموز او طمسها ـ ـ يذكر الوردي ان شخصين دفنا حمارا وحولاه الى ضريح وصدقا كذبتها مع الوقت ـ مجتمع من هذا النوع انهك بالامل والحلم والخبز والضوء والمسرات الانسانية العادية والبدائية، سهل الاختراق من قبل اي دجال ومشعوذ ونصاب، وما أكثرهم هذا اليوم في السياسة والثقافة والمال والحب والسوق والكتابة والنقل البري وصيد الفرص.
اليوم نحن في الطريق الى جمهورية الكازينو، جمهورية المضاربة والعقار، حيث تستطيع كل محافظة في ضوء نتائج الانتخابات المقررة سلفا، والمتحكم فيها سلفا، على طريقة لعب الاطفال الالكترونية حيث يشعر الطفل انه حر امام ماكينة اللعب ـ سياقة سيارة مثلا أمام شاشة أو كرة قدم الكترونية الخ ولكنه لا يستطيع ابدا تجاوز قواعد اللعبة والتحكم في غير النتائج المقررة ـ تستطيع كل محافظة في ضوء "العصر الجديد" من تشريع القوانين المحلية ـ ومن يفرق بعد ذلك بين محلي ووطني؟ ـ وعقد الصفقات التجارية وبناء مؤسسات والتعامل الاقتصادي مع العالم وسوى ذلك من صلاحيات اسطورية بحجة اللامركزية بحيث يتحول النموذج السويسري أو الامريكي أو الكندي الى نماذج متخلفة في النظم اللامركزية، وندخل بعد ذلك في جمهورية تستحق بجدارة ان تسمى جمهورية كازينو القمار.
وفي هذا النوع من الجمهوريات ـ فخر الصناعة الامريكية ـ هناك خيول تتدبر مسؤولية التأسيس بقوة الواقع والتكرار والسلطة والسلاح والتضليل والعادة والعاطفة وبيع الوهم للغرقى من هذا العذاب الطويل، وخيول الرهان على المشروع الامريكي، اي جمهورية الكازينو، هم خبراء في فهم طبيعة الشخصية العراقية لا عن قراءة تاريخية واجتماعية ونفسية وادبية معمقة لأن هؤلاء لا يقرأون ولا يكتبون، ولكنهم خبراء التجربة المعيشة في فهم طبيعة هذه الشخصية المنهكة والمعذبة والحائرة من جور التاريخ.
تلعب العاطفة والولاءات الضيقة والخوف والرهبة وفكرة الخلاص والانتظار دورا يفوق احيانا الدور الذي تلعبه الجيوش والحرب والتصفيات العنيفة وخاصة في العقل المشرقي، وافضل طريقة أمريكية لحكم العراق هي الطريقة ذاتها التي حكم فيها الانكليز مصر وقد عبر عن هذه الطريقة في الحكم الدبلوماسي والسياسي البريطاني كرومر الحاكم العام لمصر ـ بين 1883 ـ 1907 ـ حين قال في تقرير" إننا نحكمهم بقوة الشخصية المحضة دونما استخدام للقوة" لأننا يقول" نمتلك قدرة الاستحواذ على عواطف وثقة اي عرق بدائي"... ونظرة كرومر لهذا العرق" البدائي" والمتوحش هي النظرة نفسها للحاكم المدني الامريكي السابق، وهي النظرة ذاتها لأكثر من ثلاثة الاف موظف في السفارة الامريكية في بغداد ـ فهؤلاء لا يجلسون في بغداد لتقشير البصل بل حياكة الدسائس دون الظهور في الواجهة.
لكن كيف يمكن للولايات المتحدة حكم العراق" بقوة الشخصية" الامريكية السيئة الصيت والسمعة دوليا وتاريخيا؟ هنا يأتي دور مصنع السفارة ومعها الخبرة البريطانية والشركاء الصغار من داخل الوطن في انتاج النموذج المتمتع بقوة الشخصية وليس بالضرورة اذا فشل الأمر ان تكون هذه" القوة" مؤسسة على العلم والمعرفة والخبرة والنزاهة، فهذه الصفات لا تنسجم مع نموذج مصنع للمحتل في كل زمان ومكان، ولكنها قد تؤسس على فرض الامر الواقع والتكرار وتصفية القوى الوطنية الحقيقية وعرقلة نمو منظمات محلية من " اصحاب الرؤوس الحارة " وتفكيك تحالفات يسارية أو خلق المصاعب في طريقها، واللعب على الاختلافات الشائعة أو خلقها في كل فترة من اجل المشاغلة والالهاء دون أن يظهر المحتل في الصورة ويبدو كما لو ان ابناء الوطن الواحد قد تحولوا الى وكر ثعابين يتصارعون فيما بينهم على اسلاب والرابح لا يأخذ شيئا بتعبير ارنست همنغواي.
خيول الرهان اليوم في بناء جمهورية الكازينو القادمة هم: المبجل جلال الطالباني ـ اذا نجا من حلول الطبيعة القاسية ومن صرخات القبج الليلي القادمة من كوابيس باشتتان ـ وهو سياسي محنك وصاحب مدرسة عريقة في السياسة تقوم على فكرة ان السياسة هي فن اللعب بنعلين: واحد للتوقيع واخر للسحق، أو ان السياسة هي فن الضحك على الذقون، أو ان السياسة هي الرصاص المتعاكس: واحدة لجنود اسرى حرب من الامام والاخرى للمختلف من الخلف، أو ان السياسة هي فن العناق والعناق المضاد: واحدة امام الكاميرات وحسب الظروف واخرى قبلة الافعى.
والثاني هو جنرال المتاهة صالح المطلك الذي بزغ ـ الكلمة الوحيدة المعبرة ـ فجأة من الانقاض والركام والدخان والحرائق والجثث والصراخ والهتاف والوحشية والحرب لكي يتصدر الواجهة ويلعب، صوابا أو خطأ، دور" المفرمل" مرة و" المحفز" أخرى، وثالثة" المهدد" ورابعة" كاهن سلام" بين اطراف متحاربة والخ من ادوار. صالح المطلك هو صمام أمان للمشروع الامريكي ولا ينافسه في ذلك الا النموذج الثالث...
الثالث هو طارق الهاشمي، سياسي وسيم على حزن، وديع على خلق رفيع، مهذب وخجول، جاء من الطرف الاقصى لصراعات السياسة في العراق ومثل سلفه المطلك، لاعب ماهر في الصفقات السياسية والتسويات والمساومات والتخويف وسيتم رفعه في كل نكسة انتخابية ـ هذه قواعد كازينو القمار ـ الى موقع متقدم كي يكون مع خيول الرهان الخمسة من مؤسسي جمهورية الكازينو، وطبعا على شعارات حارة ومؤثرة. اليست هذه هي طبيعة الشخصية" القوية" التي تحكمنا من الداخل بعد فشل الجيوش؟ الا يقول المثل" العراقي شيمه وخذ عباته؟".
رغم كل هذه الجعجعة عن الذكاء والقوة والقسوة في الشخصية العراقية الا انك تستطيع أن تسرق منه وطنا بكايست مقتل الحسين أو بضريح امام؟ الم يقل اهالي النجف للقوات الامريكية في اول دخول للنجف" مدينة يس، اي نعم، ضريح ، نو، اي لا" اي افعلوا ماشئتم بهذا الوطن ولكن اتركوا لنا الرموز ـ لا احد يلوم هؤلاء لاننا جميعا نقيم في وطن الرموز السياسية والادبية والدينية واما العراق فلا أحد له: نحن لا نعيش في وطن التراب بل وطن النصوص.
الرابع خلف العليان: وشخصية خلف العليان من أقرب الشخصيات المحببة الى نفسي والامر لا علاقة له بالسياسة ولا بالجدارة والوطنية او النزاهة وهي امور لاتصادر من شخص الا باكراه أو بغض " وغرامي" بالعليان لا علاقة له بالعقل بل بالمخيلة ونحن لا ندخل المخيلة في التحليل السياسي كما هو معروف. العليان يبدو لي انه مثل اسلافه المطلك والهاشمي ومن على شاكلتهم قد جاء من اقصى الفجيعة، كولونيل أو ماشابه، وليس هذا مهما فمن يمنع اي شخص من ترشيح نفسه لقيادة الوطن خاصة اذا كان هذا" الوطن" هو العراق اليوم؟ مشكلة العليان هي في كثرة من يستيطعون لعب الدور نفسه والمهمة نفسها وفي الفهم المشترك بينه وبينهم في كون ان افضل طريق للخيارات الوطنية العليا هو الحيلة والشطارة، اي عقلية الصفقة ـ اي ان الجمهور العام مائدة ورق في كازينو قمار. كلما ظهر العليان في مقابلة هرعت الى الشاشة: اشعر بدفء غريب بل بحسد على قدرته على لف العباءة" التي تبرق ما بين كتفيه" وفي تلك الجلسة البطرياركية المبجلة التي لا نحتاج غيرها هذه الايام القرمزية.
والخامس هو السيد البارزاني مسعود الذي تستحوذ علي شخصيته من ناحية انسانية ـ كروائي ـ كرجل قضى الجزء الاكبر من عمره في المغاور والكهوف وحمل السلاح ورافق الاب في اذار 1975 نحو الجبال الايرانية بعد فشل الرهان على الشاه وعلى الدعم الغربي والامريكي، ومن يرى السيد مسعود اليوم يلاحظ انه يجد صعوبة في المشي على ارض مستوية أو الجلوس على كرسي وهذه من اثار الجبال والاثقال. لكن السيد البارزاني السياسي هو واحد من أكبر صمامات الامان في عدم تجاوز جمهورية الكازينو القادمة الخطوط الامريكية الحمراء ـ خاصة والجار اسلامي مسلح بمشروع نووي قريب والعراق بلد الامكانات الهائلة ـ فكيف يترك بسيادة حقيقية؟
هؤلاء هم عينة لنموذج مطلوب في هذه المرحلة المصرية وهم الذين سيصنعون التاريخ العراقي القريب ما لم تحدث معجزة في زمن لم تعد السياسة فيه قائمة على المعجزات والمصادفات الا فيما ندر بل على التخطيط والتدبير والمعرفة وتقشير البصل في السراديب.
ذهبت مع الريح كل نضالات القوى والوطنية وصور الشهداء والمختفين وقتلى الحروب وقرن من التثقيف الوطني والانساني وجهود شاقة من السياسيين العراقيين الرواد الذين كانوا يبيعون ستراتهم من اجل طحين العائلة بلا اذلال ويصعدون المشانق كما يصعد قمر في المساء فوق بيوت الطين، وتقدم المشهد اليوم صور زعماء يصعدون على تلال من الجماجم والدموع والاحلام المجهضة.
#حمزة_الحسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ملامح اولية لنظام عراقي جديد:من الدولة الطائفية الى الدولة ا
...
-
العشاء الانتخابي الاخير، هيمنة جديدة بادوات غير تقليدية
-
بيان الكائنات الخرافية
-
المكان كرمز
-
لو كانت الطرق واضحة
-
عندما تنتهي الحرب وسلالات المستقبل
-
بين قائد الاوركسترا الموسيقية وقائد الفرقة العسكرية
-
الشرطي المصري اللغز أو عنكبوت غرفة النوم
-
شهادة جنرال الغزو في جنرال الخيانة
-
في حماية زهر اللوز
-
نقد الفكر المغلق
-
الدكتاتور القادم المستقبل الماضي
-
لا يهم كيف تهب الريح، الأهم كيف ننشر الأشرعة
-
ارهاب اللغة
-
مؤذن فرعون
-
خيارات السياسة خلق كالمتعة والأمل والأصالة
-
ماركس العراقي
-
المؤجل والمسكوت عنه في الاتفاقية الامنية وصراع مؤجل
-
المتمرد القادم من الصحراء
-
رسالة إلى البنفسج الى رباح
المزيد.....
-
مكتب نتنياهو يعلن فقدان إسرائيلي في الإمارات
-
نتنياهو يتهم الكابينيت بالتسريبات الأمنية ويؤكد أنها -خطر شد
...
-
زاخاروفا: فرنسا تقضي على أوكرانيا عبر السماح لها بضرب العمق
...
-
2,700 يورو لكل شخص.. إقليم سويسري يوزع فائض الميزانية على ال
...
-
تواصل الغارات في لبنان وأوستن يشدد على الالتزام بحل دبلوماسي
...
-
زيلينسكي: 321 منشأة من مرافق البنية التحتية للموانئ تضررت من
...
-
حرب غزة تجر نتنياهو وغالانت للمحاكمة
-
رئيس كولومبيا: سنعتقل نتنياهو وغالانت إذا زارا البلاد
-
كيف مزجت رومانيا بين الشرق والغرب في قصورها الملكية؟
-
أكسيوس: ترامب فوجئ بوجود أسرى إسرائيليين أحياء
المزيد.....
|