العدوان على العراق - امريكا تشكك في بوش
اسماء اغبارية زحالقة
2004 / 3 / 15 - 03:19
كان المفروض ان تؤدي الحرب على العراق الى انقاذ الاقتصاد الامريكي من ازمته، وتعيد هيبة امريكا في العالم. غير ان فضيحة الفشل المخابراتي الامريكي بشأن اسلحة الدمار الشامل، ادت للنتيجة العكسية تماما. والحال ان بوش بدل ان ينشر السيطرة الامريكية على العالم، وجد نفسه في صراع على نشر سيطرته على بيته الابيض.
اسماء اغبارية
اليوم صار الامر مؤكدا: العراق لم يملك اسلحة دمار كيماوية او بيولوجية عندما غزته الولايات المتحدة الامريكية. هذه المعلومات التي نقلها ديفيد كي، رئيس طاقم التفتيش الامريكي المستقيل، تضرب بشدة مصداقية وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية (سي. آي. ايه) والادارة الامريكية، وتثير شكوكا حول قدرتها على قيادة العالم وضمان امنه، خاصة على اساس سياستها الخارجية الاحادية الجانب المتطرفة والمؤسسة على الكذب.
ولعل الاثر الاكبر لهذه الشهادة انها نقلت الصراع من الحلبة الدولية الخارجية الى الحلبة الامريكية الداخلية، حيث كان بوش حتى يوم القاء القبض على صدام، يتصرف كالديك الوحيد في القفص، وكان نجاحه في الانتخابات الوشيكة، امرا شبه مضمون. اليوم اغلبية الامريكان لا تصدقه، ولا شك ان انتعاش الحزب الديمقراطي بعد ان عاش في الظل طوال شهور الحرب وما تلاها، هو انعكاس سياسي مباشر للضربة الخطيرة التي تعرضت لها مصداقية الادارة الامريكية ومخابراتها.
فشل مخابراتي
الشهادة التي ادلى بها ديفيد كي امام الكونغرس في 28 كانون ثان (يناير)، اشارت الى فشل الاستخبارات الامريكية في ادراك ان العراق تخلى عمليا عن جهوده لانتاج اسلحة الدمار الشامل منذ عام 1991، واعترف: "اننا جميعنا اخطأنا" في تقييم القدرات العسكرية العراقية.
جوهر الفشل كما يحدده كي هو فقدان المخابرات الامريكية عملاء داخل العراق، واعتمادها بدل ذلك على "معلومات محدودة"، توفرها التكنولوجيات المتطورة والعملاء الاجانب من خلال لجان التفتيش والعراقيون المنفيون.
وفيما طالب كي بتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في الفشل المخابراتي، ابعد اية شبهة عن ادارة بوش المتهمة جماهيريا بالمبالغة في التقارير، وتطويعها لدعم قرارها الخروج للحرب. وفي نفس الاتجاه القى كي للادارة بطوق النجاة، عندما صرح بان العراق كان يمتلك النية والقدرة للتسلح، وانه "كان بالفعل يشكل خطرا على العالم، ولكن ليس الخطر الذي وصفته ادارة بوش". وقد انتقى بوش ان يكرر كالببغاء القسم الاول من الجملة، في محاولة يائسة لانقاذ جلده.
زلزال سياسي في امريكا
وضعت شهادة كي حدا لادعاءات ادارة بوش بان التفتيش لم ينته بعد، وان الاسلحة لا بد ان تظهر. وقد انقض الديمقراطيون على النبأ كالمسعورين، واثاروا من جديد اتهاماتهم للادارة بتضخيمها للتقارير الاستخباراتية لخدمة اجندتها الحربية، حتى لو كلف الامر مصداقية امريكا امام العالم. وكان اول من تجرأ على كسر الاجماع واطلاق العنان لهذا الموقف، المرشح الديمقراطي هوارد دين، ومن بعده انضمت لركب النقد اللاذع المؤسسة الرئيسية في الحزب التي تدعم المرشح كيري، صاحب الاحتمالات الاكبر للفوز برئاسة الحزب.
ويتوافق هذا الموقف مع تأكيدات وزير المالية السابق في ادارة بوش، بول اونيل، في كتاب صدر حديثا بان قرار ضرب العراق كان مبيتا لدى الادارة قبل احداث 11 ايلول.
على البيت الابيض وقع الخبر كالصاعقة زلزلت اركانه، فتراكض شخوصه كالفئران في محاولة للهرب من السفينة الغارقة. كلهم الا وزير الدفاع، دونالد رامسفيلد، الذي لا يزال مصرا ان الاسلحة لا بد ان تكون مختبئة في جحر ما وستظهر، كما ظهر صدام بعد ان اختبأ شهورا تحت الارض.
وكان اول الفارّين من السفينة الغارقة كولن باول، وزير الخارجية، الذي اعطى مقابلة للواشنطن بوست (3 شباط، فبراير) اجاب فيها على السؤال اذا ما كان سيوصي بغزو العراق اذا عرف انه لا يملك اسلحة ممنوعة، فقال: "لا اعرف، لان مخزون الاسلحة كان الجزء الحاسم نهائيا في التقدير بان العراق يشكل خطرا حقيقيا على المنطقة والعالم"، واضاف: "عدم وجود مخزون كهذا يغير الحسابات السياسية".
ولم يكن صدفة ان كان باول اول من تراجع، وذلك لانقاذ مصداقيته الشخصية. فقد كان هو وليس احدا آخر من مثل امام الامم المتحدة في 5 شباط (فبراير) 2003، وحاول اقناع المجتمع الدولي بالموافقة على شن الحرب على العراق، بالتأكيد ان معلوماته هي "حقائق واستنتاجات معتمدة على استخبارات موثقة". وكما عزز باول ظهره حينها برئيس السي. آي. ايه، جورج تينيت، اليوم ايضا يلقي باللائمة على المخابرات مشيرا الى ان كل تصريحاته صادقت عليها المخابرات.
البيت الابيض سارع لتخفيف لهجة الخطاب الذي بدا قويا معتدا بالنفس قبل عام، ونفى ان يكون بوش قد استخدم كلمة "داهم" في وصف الخطر العراقي. كوندوليسا رايس، مستشارة الامن القومي، اشارت ان اعمال طاقم التفتيش لم تنجز بعد، علما ان كي اكد ان 85% من العمل قد انجز. وطالبت رايس باعطاء اللجنة مهلة لتنجز مهامها، حتى يكون بالامكان المقارنة بين نتائج التفتيش وبين التقديرات التي اعطتها المخابرات قبل الحرب. ويبدو هذا مطلبا غريبا علما ان صدام حسين، الرأس المدبرة، موجود بايديهم وبامكانهم التحقيق معه.
تينيت الذي سُلطت عليه السياط جميعها، ويدرك انه سيكون كبش الفداء الذي سيذبح لانقاذ مستقبل بوش السياسي وسمعة الادارة، خرج بتصريح دافع فيه عن وكالته، وابدى تراجعا معينا عندما قال ان الوقت سيشير "اننا لم نكن مخطئين تماما ولم نكن مصيبين تماما".
ولم يخطر ببال تينيت الاستقالة من منصبه على خلفية الفشل المشهود. وهو امر يثير علامات استفهام منذ الفشل المخابراتي الاكبر الذي تورط فيه في احداث 11 ايلول. بقاؤه في منصبه في كلا الحالتين يؤكد تحمل الادارة السياسية المسؤولية عن الازمة، وهو كما يبدو ما يعطي تينيت الجرأة لالقاء المسؤولية على مرؤوسيه السياسيين.
بوش الذي فهم انه ماثل امام كارثة سياسية لا اكثر ولا اقل، ازاء الضغط المتزايد من جانب الديمقراطيين، اضطر لتشكيل اللجنة التي اوصى بها كي بعد تردد خشية تأثير الامر على الانتخابات. وتوصل بوش الى صيغة لتأجيل الازمة، عندما عين سبعة في اللجنة، واحد منهم فقط مسؤول سابق في المخابرات، في حين ان معظم الباقين مقربون منه. كما تقرر ان تصدر اللجنة توصياتها ونتائجها في آذار (مارس) عام 2005، اي بعد الانتخابات. وقد اثار هذا انتقادات مجددة تطعن في نزاهة وموضوعية اللجنة، التي لم يتحدد بعد ان كانت ستفحص دور الادارة ايضا في الفشل.
ومع ان الرئيس الامريكي تجنب الاعتراف بالخطأ المخابراتي، الا انه لم يعد نفس البوش الواثق بالنفس المصر على ان اكتشاف الاسلحة في العراق هو مسألة وقت. وصار اليوم مثلنا جميعا لا يعرف كل الحقيقة، وينتظر نتائج التفتيش، وهكذا يقول للواشنطن بوست (3 شباط): "اولا انا لا اعرف كل الحقائق (!).. ما لا نعرفه بعد هو ما اكتشفه طاقم التفتيش ونريد الاطلاع على هذه النتائج".
كما اضطر بوش للخروج من جحره ولقاء الصحافة، وهو امر لا يحب فعله بشكل عام. في اللقاء الذي اعطاه لبرنامج "لقاء مع الصحافة" يوم الاحد 8 شباط، جاءت اجاباته مترددة متناقضة، وكرر فيها تصريح كي بان "صدام كان خطيرا، وله القدرة على تطوير الاسلحة". وفيما بدا انه يعترف بخطئه في التصريح للجمهور الامريكي قبل الحرب ان "المخابرات لم تدع مجالا للشك بان العراق يملك الاسلحة القاتلة"، كرر من جانب آخر ادعاءه ان الاسلحة لا تزال مختبئة في مكان ما، او انها نقلت لدولة اخرى. وفيما اشار الى ان المخابرات ضللته، اكد ان تينيت يقوم بعمل جيد لذا يجب ان يبقى في منصبه.
ولا يبدو ان المسرحية انطلت على الجمهور الامريكي كله، فقد اشارت الواشنطن بوست (13 شباط) ان 54% من الامريكان لا يصدقون بوش، ويعتقدون انه بالغ او كذب في مسألة التقارير الاستخباراتية، لتبرير حربه على العراق.
فشل السياسة الخارجية
النقاش الذي يستعر اليوم في الساحة الامريكية، هو آخر تداعيات الحرب التي سبق ان شقت اوروبا والامم المتحدة ومجلس الامن. وذلك عندما تحدت الادارة الامريكية العالم والرأي العام لشن حربها غير المبررة. اليوم بدأ الانشقاق يهز اركان امريكا نفسها، بعد ان كُسر اجماع الجمهوريين والديمقراطيين حول الحرب.
في جوهر النقاش، السياسة التي تعتمدها امريكا والاسلوب "المميز" الذي اختارته لادارة العالم، والمتعلقة بسياسة الحروب الاستباقية. وكان العراق حقل تجارب لتطبيق هذه النظرية التي اتى بها الجناح اليميني المتطرف في الادارة الامريكية. وتعتمد السياسة على مفهوم ان العالم يصبح اكثر امنا فقط اذا نشرنا فيه مثلنا ومبادئنا الديمقراطية. وقمنا في نفس الوقت بقطع دابر الارهاب والدول المارقة التي تشجعه وتموله وتسلحه، مستخدمين تفوقنا العسكري المطلق لاستباق الخطر عن طريق شن حروب مانعة، كيلا نهاجم باحداث كاحداث 11 ايلول.
والواقع ان هذه النظرية كانت قائمة قبل احداث 11 ايلول، وانما كانت الاحداث الارهابية الحجة التي اوصلت المحافظين الجدد، وبينهم تشيني، رامسفيلد وولفوفيتش وبيرل، للتحكم بالادارة الامريكية لاول مرة في تاريخ الولايات المتحدة. غير ان هذه السياسة انهارت عند اول تجربة، خاصة ان الامر الاساسي الذي كان يجب ان تعتمد عليه وهو الاستخبارات القوية، تبينت كجهاز فاشل غير موضوعي، ولعبة بايدي الادارة السياسية.
وتتفق الآراء في امريكا انه كان من الممكن ان ينسى الجميع، وتحديدا الامريكان، مسألة الاسلحة لو ان امريكا نجحت في ارساء النظام الذي وعدت به في العراق. ولكن محل الديمقراطية والحرية حل الفشل والعجز عن ارساء نظام سياسي بديل للنظام المخلوع. وبالتأكيد لا تساعد في ذلك المقاومة العراقية والضحايا التي توقعها في صفوف الجيش الامريكي (500 جندي)، والتكاليف الباهظة للحرب التي تتحمل عبئها الميزانية التي تعاني اصلا من عجز خطير (500 مليار دولار).
كل هذه تشكل الخلفية للنقاش المحتدم اليوم في امريكا على خلفية الاستياء من اسلوب الادارة الامريكية في ادارة البلاد في الامرين الرئيسيين: الاقتصاد والامن. ففي الاقتصاد تعطى الاولوية لرأس المال، ومواصلة الخصخصة العنيفة، الامر الذي قاد للافلاسات الكبرى وانهيار البورصة، كل هذا في ظل تفاقم مشكلة البطالة. وفي المجال الامني كان المفروض ان تكون للجهاز الاستخباراتي استقلالية وموضوعية، ولكن تبين ان الاستخبارات تخدم سياسة معينة ولا تخدم الامن القومي.
الحرب على العراق كان المفروض ان تنقذ الاقتصاد الامريكي من ازمته، وتعيد هيبة امريكا في العالم، غير ان فضيحة الاسلحة، السبب الرئيس للحرب، ادت للنتيجة العكسية تماما. والحال ان بوش بدل ان ينشر السيطرة الامريكية على العالم، وجد نفسه في صراع على نشر سيطرته على بيته الابيض، الذي لم يعد مضمونا على الاطلاق.