ثورة أكتوبر بين الأوهام الإيديولوجية والحقيقة التاريخية - الجزء الرابع


أيوب أيوب
2008 / 10 / 26 - 09:58     

3 ) مرة أخرى حول طبيعة الثورة "الروسية":
حاولنا أن نرصد في الأجزاء السابقة جملة المواقف والنقاشات حول طبيعة الثورة "الروسية" التي دارت في أوساط الثوريين قبل إنتفاضة 1917، وسنحاول رصد المواقف والنقاشات الدائرة حول طبيعة هذه الثورة بعد إنجازها، وفي هذا نستطيع أن نلخص هذه المواقف الى الفروع الرئيسية التالية:
- الموقف الستاليني الذي يعتبر أن الثورة كانت ثورة إشتراكية وأن الحقبة اللينينية والستالينية كانت حقبة البناء الإشتراكي وذلك الى حدود المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الذي إنقلب على الثورة وإتجه صوب إعادة بناء الرأسمالية. هذا الموقف يعتمد على مقولة بناء الإشتراكية في بلد واحد، وهي في الحقيقة مقولة لينينية وإن كانت قد أصبحت فجة ومفضوحة على يد ستالين. وهذه المقولة تعتمد على رؤية إشتراكية ديمقراطية ترى في رأس المال كظاهرة قطرية وترى في الإشتراكية كنظام وطني. فهي لا ترى لقانون القيمة كقانون عالمي، لذلك فإنها تجد إمكانية (إيديولوجية طبعا) في كسره على المستوى الوطني. كما أنها ترى في الإشتراكية تواصلا للرأسمالية ("رأسمالية الدولة" منظور لها حسب لينين كحلقة سلمية بين "الرأسمالية الخاصة" والإشتراكية) فهي ترى مثلا أنه يكفي تحويل الملكية القانونية لوسائل الإتناج من يد الرأسماليين المنفردين الى يد الدولة حتى يكون ذلك ضمانا لتوجيه رأس المال لصالح البروليتاريا، وذلك بما أن الدولة هي دولة "عمالية" بقيادة حزب "عمالي" حتى وإن حافظنا على بقية الأصناف الرأسمالية (القيمة، التبادل، النقد، العمل المأجور....) .
لا شك وأن الستالينية ليست سوى رأس المال وهو يحكم تحت يافطة الإيديولوجيا العمالية، الإشتراكية والشيوعية، ولا شك أنها أكثر التعبيرات سفورا عن إنتصار الثورة المضادة العالمية، وتحول البلاشفة الى متصرف جديد لرأس المال.
- الموقف التروتسكي الذي كان يرى في الدولة السوفياتية (تحت قيادة ستالين) كدولة إشتراكية على المستوى الإقتصادي مشوهة بيروقراطيا على المستوى السياسي، وأن المطروح هو ثورة ديمقراطية سياسية (أو بالأحرى إستبدال ستالين بتروتسكي) ليتطابق السياسي بالإقتصادي.
التروتسكية، ورغم خطابها الراديكالي، تمثل فرعا من فروع الإشتراكية الديمقراطية، تقاسمها الأهم: المماثلة بين الإشتراكية وعمليات التأميم الموسعة التي يندفع لها رأس المال في ظروف تاريخية محددة (إعتبار القطاع العام قطاعا إشتراكيا ومن هنا جاء شعار الدفاع عن القطاع العام والنضال ضد ما يسمى بالخوصصة) إعتبار أنه يمكن الحديث عن إقتصاد إشتراكي في ظل وجود الملكية الخاصة، النقد وسريان قانون القيمة (إعتبار الإقتصاد الروسي في عهد ستالين إقتصادا إشتراكيا)، تقديسها للأوهام الديمقراطية ولضرورة "دمقرطة" الإنتاج والحياة السياسية داخل الحزب وخارجه وهو ما دفعها للإنخراط في المعارضة البورجوازية الديمقراطية للستالينية.
لا شك وأن التروتسكية قد فقدت مبرر وجودها بعد ما يسمى بإنهيار الإتحاد السوفياتي، وتحولت الى خليط من اللينينية واليسارية الديمقراطية (الليبرالية في كثير من الأحيان) بل إن بعض فروعها قد إنخرط في الإنتخابات وتحول الى رقم سياسي في المعركة السياسية البورجوازية.
- الموقف المجالسي:
يتفق موقف المجالسيين (بانكوك، ماتيك، مجلة "إشتراكية أم بربرية"...) مع موقف المناشفة والإشتراكية الديمقراطية الألمانية من حيث إعتبار أن الثورة "الروسية" ثورة بورجوازية، ويعتبرون ببساطة الحزب البلشفي حزبا بورجوازي البرنامج، بلانكي الطريقة، ومعتبرين إنتفاضة1917مجرد إنقلاب مسلح بقيادة لينين وتروتسكي.
إن ضد-اللينينية وضد-الحزبية(1) الذان يقودان المجالسيين، إضافة لتقديسهم الأعمى لما يسمى ب"الديمقراطية العمالية"، "التسيير الذاتي"، دمقرطة الوحدات الإنتاجية المستقلة، جعلهم أولا يقفون موقفا عدميا من أهم تجربة بروليتارية على الإطلاق، بحيث ينفون مضمونها الثوري (بغض النظر عن وعي القائمين بها) وطابعها البروليتاري العالمي، ثانيا يخلطون بين سياسات البلاشفة وشعاراتهم وبين طبيعة الحركة ( الخلط بين ما يقوله الناس عن أنفسهم وبين حقيقتهم الفعلية)، فيكفي مثلا أن البلاشفة قد رفعوا شعار "السلم الديمقراطي" الذي لا يعدو أن يكون سوى شعار بورجوازي (السلم الإجتماعية هي الوجه الآخر للحرب الإمبريالية) لنحكم على الحركة أنها ذات طبيعة بورجوازية، فهم لا يفهمون أن ممارسة البشر لا تنطبق ميكانيكيا مع وعيهم، لا بل أنهم في الغالب مايمارسون ضد وعيهم بالذات، وإلا فإننا لن نستطيع تفسير أي ظاهرة تاريخية، كما أننا ننسف أي إمكانية للثورة في المستقبل بما أن كل حركة عرفتها وتعرفها البروليتاريا كانت وستكون تحت يافطات وشعارات لا تعكس بالضرورة طبيعة تلك الحركة (أ لم يقل ماركس أنه لو كان ظاهر الأشياء مطابق لباطنها لأنتفت ضرورة العلم).
صحيح أن المجالسيين محقون في نفي أي طابع إشتراكي للإقتصاد الروسي بعد إنتفاضة1917، وهم محقون في رفض أي إمكانية لبناء إشتراكية في بلد واحد أو مجموعة من البلدان، فقانون القيمة لا يمكن كسره إلا عالميا، كما أنهم محقون في رفض القول بوجود الإشتراكية مع وجود أصناف رأسمالية أخرى مثل النقد، التبادل، العمل المأجور. وبهذا المعنى فإنهم محقون في نفي تسمية الموجة الثورية1917-1923 ثورة إشتراكية. في المقابل فإنهم يخطئون في نفي الطابع البروليتاري الثوري لهذه الموجة. خطأهم ذاك ناتج عن كونهم يرون لحركة الطبقة العاملة كنموذج "مجالسي" ذهني، إيديولوجي، وهم بذلك يعدمون كل حركة عمالية لا تنسجم مع هذا النموذج. حركة الثورة، بالنسبة لهم، ليست حركة تناقضية، صراعية بين خط الثورة وخط الثورة المضادة، بل خط مستقيم، يتطابق فيه الشعار مع الممارسة، ووعي الناس مع حركتهم الفعلية.
هناك مواقف وسطية مثل موقف اليسار الشيوعي المسمى "إيطالي" وخاصة موقف بورديغا، كذلك مواقف العديد من المجموعات الشيوعية الأخرى مثل التيار الشيوعي الأمميCCI ومجلة "BILAN" وغيرهم ممن يتأرجحون بين موقف التصفية وموقف التضخيم. وهذا وضع طبيعي بإعتبار وأن أخذ موقف محدد من موضوع "الثورة الروسية" ليس مسألةدراسة تاريخية أو تجميع معطيات دقيقة فقط، بل هو بالأساس مسألة منهجية وافتراق بين المنهج الجدلي التاريخي (أي الممارسة الإجتماعية للبروليتاريا) والمنهج الستاتيكي البورجوازي والبورجوازي الصغير.
سنحاول في الجزء القادم والأخير استخلاص الدرس الذي نراه الأهم في ثورة أكتوبر من خلال رسم الخط الفاصل بين ما يسمى بالثورة "البورجوازية" والثورة الإشتراكية.
( 1) اللينينية وضد-اللينينية (أيضا الحزبية وضد-الحزبية) هما وجهان لإيديولوجيا واحدة تنظر للتاريخ لا من زاوية الواقع الملموس بل من زاوية الأفكار الإيديولوجية لهذا المفكر أو ذاك، كما تنظر للثورة وكأنما هي مسألة أشكال، لا مسألة ممارسة تارخية حية.