الاتحاد السوفياتي: اسطورة اشتراكية القرن العشرين – المجاعة: موت الملايين من الجوع في عهدي لينين و ستالين - القسم الخامس
أنور نجم الدين
2008 / 10 / 21 - 09:23
في الأقسام السابقة لهذه الدراسة، حاولنا تشخيص أهم الاسباب لتوسع الاقتصاد السوفييتي من عشرينات القرن الماضي إلى الستينات، ومن ثمَّ انكماشه في السبعينات و الثمانينات و أسباب انهياره الحتمي. ولكن مع كل تقدم للاقتصاد السوفييتي في العقود الأولى من ظهوره، لم يكن بمستطاع هذا المجتمع الذي لم ينقطع عن النظام العالمي لرأس المال يوماً واحداً، السيطرة على الأزمات الاقتصادية، فهو وكأي مجتمع آخر من المجتمعات الرأسمالية، كان يواجه الأزمات الاقتصادية منذ ظهوره، و يعود تاريخ أكبر الأزمات الزراعية في الاتحاد السوفييتي، إلى زمن لينين و ستالين، الأزمات التي مات الملايين من الجوع بسببها، فما وراء ظلام المجتمع السوفييتي، وتحت سيادة خلفائهم الماركسيين (لينين و ستالين)، واجه السوفيت مجاعة، لم تشهدها البشرية طوال تاريخها، و أشار المؤرخون إلى أنَّ الأزمة الزراعية في عام 1921 إلى عام 1923، أي في زمن لينين، وصلت إلى حد الكارثة في الاتحاد السوفييتي، و في البداية، رفض لينين اقتراح أمريكا بخصوص تقديم الإغاثة إلى السوفيت، أما في 15/3/1921 اضطر لينين إلى قبول الإغاثة من المنظمات الدولية لتقديم المعونة إلى جنته الاشتراكية، الجنة التي مات فيها أكثر من 5 ملايين من الجوع في بداية ظهورها، وعدا الإغاثة الأمريكية، بدأ الصليب الأحمر الدولي و المنظمات الأخرى، بتنظيم المساعدات لجزيرة لينين الاشتراكية، الجزيرة التي لم تقدم شيئاً للبشرية سوى الأوهام و الأساطير عن اشتراكية البلشفيين، والمحاولة لإقناع العمال في العالم بالتخلي عن أهدافهم التاريخية، خوفاً من وحشية النظام الاشتراكي والإقرار الأبدي بنظام العبودية المأجورة.
أمَّا المتضررون في المجاعة في الجمهوريات السوفيتية في زمن ستالين، فكان معظمهم من المناطق الرئيسية لإنتاج الحبوب في الاتحاد السوفييتي، و في أوكرانيا مات 5 ملايين من الجوع، و في شمال القوقاز مليون، وفي منطقة الفولغا، وغرب سيبريا، وكازاخستان، الخ، مات أكثر من مليون شخصٍ من الجوع على الأقل، و استمرت المجاعة من عام 1931 إلى عام 1933، واعتقل و مات الآلاف من الذين قبض عليهم أثناء محاولاتهم للحصول على وسائل العيش. و كان كلُّ من يقوم بإشاعة الخبر في ذلك الوقت، يعرض نفسه للاعتقال. و نفى بالطبع الاتحاد السوفييتي، وجود المجاعة في السوفيت. أما بعد نصف قرن، أي في عام 1983، و أثناء الذكرى الخمسين لهذه المأساة، و التي كان الأوكرانيون يقومون بتنظيمها في جميع أنحاء العالم، اعترف الاتحاد السوفييتي رسمياً بمجاعة الثلاثينات، ولكن مع التبريرات وإلقاء اللوم على الجفاف (إشتراكية الجفاف!) ولكن رغم أنف الماركسيين - اللينينيين، أثبت الخبراء أنَّ سقوط الأمطار في الفترة ما بين 1932 – 1933 كان ضمن المعايير الطبيعية.
و هكذا أيها السادة، من حقنا أن نسأل: ماذا قدم الاتحاد السوفييتي ومؤسسوه لينين و ستالين للبشرية؟ وهل من الممكن يا ترى تصور موت الملايين من الجوع في مجتمع اشتراكي؟ هل من الممكن تصور إغاثة المنظمات البرجوازية لمجتمع اشتراكي؟ فالاشتراكية ضرورية للقضاء على نظام استثمار الإنسان للإنسان، من خلال توزيع اشتراكي ناتج عن إنتاج كوموني، فماذا يعني إذن، الموت من الجوع؟ ومن حقنا أن نسأل مرة أخرى: هل ملكية الدولة، ملكية اشتراكية؟ هل باستطاعة الدولة، آلهة الملكية الخاصة، القضاء على الملكية الخاصة وإقامة الملكية الجماعية؟
إنَّ مَن يحاول تبرير هذه الكوارث البشرية، يُحِل العواطف الساذجة، و الأفكار الفلسفية الوهمية، مكان الوقائع التاريخية، فلنلجأ إلى المادية التاريخية ونرى ما هي أسباب المجاعة؟
إنَّ السبب الوحيد للنقص في الاستهلاك، والفقر، والمجاعة، هو التوزيع الرأسمالي في الإنتاج، لأنَّ الهدف من الإنتاج الرأسمالي هو الربح. أمَّا الهدف من الإنتاج الاشتراكي، يجب أن يكون تلبية الحاجات الإنسانية، الامر الذي لم يقترب منها السوفيت طوال تأريخه، لا في زمن لينين و ستالين، و لا في زمن خروتشوف و الآخرين.
إنَّ التطوير في الإنتاج و طرائقه، قانون يفرضه الإنتاج الرأسمالي، فتحسين الإنتاج الصناعي و الزراعي وتوسيع سوقهما، أمر ضروري للبقاء في سوق العالمية للمنافسة، ورغم محاولات الاتحاد السوفييتي في تحسين وضعه الاقتصادي وتطوير صناعته، لم يكن بمستطاع السوفيت تلبية الحاجات الاستهلاكية في خططه الخماسية 1928 - 1932، 1933 – 1937. أما الخطة الخمسية التي بدأت في 1938، لم تنتهي إلاَّ بازدياد الفقر نتيجة للاهتمام بالصناعات الحربية، فاستهلاك المجتمع غير ضروري، مادامت المسألة هي المقاومة في الأسواق التنافسية، لذلك يجب التركيز على الأرباح بدل تلبية حاجات المجتمع، هذا هو هدف رأس المال. وهذه الحالة، لابد وأن تجلب في تطورها، التوقفات في الإنتاج، والازدياد في البطالة، وتخفيض الأجور، والفقر، وأزمة السكن، أي بالضبط الشروط التي تعيش معها الرأسمالية العالمية منذ ظهورها (أنظر القسم الأول من هذه الدراسة). و من خلال تطوره، كان الاتحاد السوفييتي مضطراً إلى رفع قيمة نتاجه الكلي، محلياً و عالميا إلى ما فوق المستوى الطبيعي، وهذا بسبب استعمال الآلات الجديدة في الإنتاج، والطرق الحديثة في العمل، والارتفاع الطبيعي للأسعار، ولا يعني هذا سوى التكيف مع السوق العالمية التي لم يكن للسوفيت الانقطاع عنها لحظة واحدة، وإنَّ الزمن الذي نتكلم عنه، أي ثلاثينات القرن الماضي، هو الزمن الذي وقع فيه العالم الرأسمالي ككل، في أزمة اقتصادية، لم تنتهي إلاَّ بإشعال أكبر حرب من الحروب العالمية في تاريخ البشرية. وفي الأبحاث اللاحقة، ندخل الموضوع من زاوية علاقة السوفيت بالأزمة العالمية التي انطلقت من أمريكا في عام 1929، وانتهت بتقسيم العالم بين الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الثانية، و نعني بهم أوروبا، والاتحاد السوفييتي، وأمريكا.
و هكذا، أيها السادة، ان الروايات عن قدرة لينين أو ستالين، في توجيه الاتحاد السوفييتي نحو الاشتراكية و بمعزل عن السوق العالمية و القانونيات الاقتصادية التي تحكم عليها، ليست سوى الاحلام الافلاطونية بخصوص سيطرة الفلاسفة على العالم.
ان الفلسفة الماركسية تتبنى الاوهام الهيغلية عن سلطان الفلاسفة على العالم، و ان الماركسيون يكتفون بالقاء نظرة سريعة على المجتمع خلال كلمات و مصطلحات لينين البراقة المنتفخة و الطنانة عن الاشتراكية، ولكن دون النظر الى التأريخ الفعلي و القانونيات الفاعلة فيه. و ان النظرة التي تحمل الناس على قبول الروايات و الحكايات عن الافراد (لينين، ستالين)، لا تختلف اطلاقا عن وجهات نظر لاهوتية. ان الفلسفة الماركسية، لم تتجاوز التأملات التأريخية الهيغلية، الامر الذي يضع الماركسيون بالضرورة، في موقف المعارضة مع المادية التأريخية.
و هكذا، ليست الفلسفة الماركسية، التي هي من صنع الاممية الثانية بكتليتها اليمين و اليسار (كاوتسكي، بليخانوف، لينين)، سوى محاولة للتخلص من التأريخ المادي، أي العودة الى فلسفة التأريخ عند هيغل و الفكرة التأملية عند فيورباخ، فلدى التأمليين على العموم و الماركسيين على الاخص، ان التأريخ مجرد تأريخ الفلسفة، لذلك تصبح الفكرة الفلسفية، القوة المحركة للتأريخ، فالاختلاف الجذري بين الفلسفة و المادية على العموم، هو الاختلاف بين (الفلسفة الماركسية) و (المادية التأريخية)، أي بين المنهج المادي للتأريخ و الفلسفة ككل.
الخلاصة:
ان الاختلاف الجذري بين (المادية التأريخية) و (الفلسفة الماركسية)، تتلخص في:
أولا: ان الماديون لا يتكلمون عن التاريخ إلاَّ بوصفه ظاهرة عالمية، لذلك لا يعالجون أية ظاهرة من الظواهر، إلاَّ من خلال علاقتها بالتاريخ العالمي، لذا ليس من المستغرب أن يستنتج الماديون، كما استنتج كارل ماركس: لا يمكن للشيوعية أن توجد على الاطلاق، إلاَّ من حيث هي وجود تاريخي عالمي، و إنَّ كلَّ التاريخ العالمي، يثبت هذا الاستنتاج في كلِّ فقرة من فقراته. أما التأريخ عند الماركسيين – اللينينيين، منفصل تماما عن المادية، لذا ليس من المستغرب ان يحل ماركسي – لينيني، روايات و حكايات عن لينين و ستالين، و أفكارهم الفلسفية، مكان التفسير المادي للتأريخ.
ثانيا: لقد أثبتت تجربة الكومونة، بان الهدف المباشر للثورة البروليتارية، هو، كسر سلطة الدولة، و على العكس من البلشفيين، قامت الكومونة منذ الايام الاولى للثورة، بتدمير الاجهزة العسكرية و البيروقراطية للدولة، و هذا هو الطريق الوحيد للقضاء على آلة السيطرة الطبقية، أي سلطة الدولة، فالدولة لا تضمحل، بل يجب تحطيمها و استعاضتها بادارة كومونية، أي ادارة الاشياء و الامور، يشارك فيها كل فرد من أفراد المجتمع في المدينة و الريف، بدل النخبة السياسية التي تسيطر على المجتمع و تقوم بنهب ثرواته للحفاظ على المصلحة الخاصة و الحق الخاص. لذلك لا يمكن للبشرية تنظيم انتاجا كومونيا، دون السيطرة المسبقة على السلطة السياسية التي، هي، في الاساس، نتاج الملكية الخاصة. ان التربة التي تظهر عليها الدولة هي الملكية الخاصة، لذلك، اضطرت الكومونة الى اجتثاث جذورها من المجتمع مرة واحدة و الى الابد، كما يقول كارل ماركس. أما ما حاولتها البلشفية، لم تكن سوى اعادة الحياة الى الاعتقاد الخرافي بالدولة و ترسيخ فكرة الفلاسفة عن الدولة في أوساط البروليتارية في العالم، فكأنت الفلاسفة لديهم القدرة في السيطرة على الطابع التناقضي للدولة، و كل هذا لنسيان الطابع التأريخي و المهمة التأريخية للثورة الكومونية التي لم تستهدف سوى الاطاحة بسلطة الدولة، و اذا كان النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قد طرح على بساط البحث مسألة الدولة الجمهورية، فالنصف الثاني من نفس القرن، قد طرح على بساط البحث مسألة انهاء الدولة و اجتثاث جذورها في المجتمع الى الابد، و ان ما كررتها البروليتاريا في محاولتها الرائعة في 1917 - 1923، لم يكن سوى ما قامت بها البروليتاريون الكومونيون في 1871. لذلك لم يكن من الممكن للبلشفية اخفاء نفسها وراء السلطة، دون التنكر بشعارات الثورة نفسها: السوفيتات! ولكن رغم أنف البلشفيين، ها هو العالم يتحرك من جديد نحو استقبال الصرخة الصاخبة التي لا بد و ان تهز النظام الرأسمالي العالمي من جديد بصرخة كومونية: عاشت الثورة!
نفس المصادر السابقة
انقر هنا: http://www.ahewar.org/m.asp?i=2282 لو رغبتم الاطلاع على القسم الاول و الثاني و الثالث و الرابع لـهذه الدراسة