وخرج القمر عن مداره
سعيد مضيه
2008 / 10 / 18 - 08:21
حقا ما دارت البلاد السوفييتية في المدار الاشتراكي. لم يوصلها الصاروخ الستاليني إلى المدار. طورت صناعة ثقيلة شكلت قاعدة صلبة للقدرة العسكرية التي حطمت النازية وبنت مكانة دولية للاتحاد السوفييتي، لكنها قصرت، في نفس الوقت، في تطوير صناعات خفيفة تنتج الوفرة الضرورية لتلبية شرط الإشتراكية الأساس: توفير الحاجات المتنامية باضطراد. كانت خطة لينين ترمي إلى إشباع الحاجات المادية والروحية لجماهير العمال والفلاحين، كما خطط لأن يقوم الاقتصاد الاشتراكي بتوفير السوق الدولية التي تنافس السوق الرأسمالية وتمنعها من افتراس البلدان حديثة الاستقلال، ذات الاقتصاد المتخلف بطبيعة الحال؛ لتضع بذلك حدا لنهب ثرواتها ومضاعفة قدراتها الاقتصادية والعسكرية على حساب الشعوب.
استهدف ستالين بدون شك عظمة البلاد السوفييتية وتعزيز قدراتها المتحدية بنجاح لقوى الإمبريالية؛ لكنه جهل أن للاشتراكية شروطها، في تعزيز وتمتين الجبهة الداخلية، وفي المقام الأول من خلال الاستناد غوخرج القمر عن مداره إلى الجماهير المنطلقةمن عبودية المجتمع الطبقي؛ كما تجاهل وجود كل ما يتعارض مع إرادته الحديدية. لم يتم الالتزام بالخطة اللينينية في البناء الاشتراكي ؛ فهل جاء الوليد رأسمالية الدولة الاحتكارية ؟ أم نمطا سوفييتيا خاصا جمع ملامح رأسمالية مطعمة بتوجه اجتماعي ذي طبيعة شعبوية؟ البيروقراطية أدارت الاقتصاد، و لم تتملك منشآته، لكن موقعها سهل عليها سرقة ثمار العمل. وهذا نمط من استغلال عمل الغير واقتناص مكسب من غير جهد، استرشد بإيديولوجيا البرجوازية . الأمر الذي يؤكد ان إيديولوجيا الاشتراكية لم تترسخ في الحياة العامة. مارست إيديولجيا البروليتاريا دورها في قطاعات ركنٍ محصورٍ من حياة المجتمع، مثل الخدمات العامة والثقافة بجوهرها الإنساني ثم الجانب النبيل في السياسة السوفييتية الداعمة لشعوب البلدان النامية. لكنها لم تكن الإيديولوجيا المهيمنة على كل حال. ألقى التناقض في شخصية ستالين بصماته على طبيعة النظام السوفييتي وآلياته، ما اقتضى إحداث صدمات عنيفة من جانب إدارة ييلتسين لإعادة تركيب النظام على الأسس الرأسمالية.
نواصل القراءة في كتاب " وصية لينين السياسية"، الذي يشير زمن نشره ، 1989، إلى ان الحقبة البريجنيفية حظرت على الآراء الناقدة لستالين وجمدت البنية الاجتماعية ، خاصة الاقتصاد. وهناك أكثر من مؤشر على أنها حقبة الستالينية الجديدة. فإذ تطور الاقتصاد في زمن ستالين بوتائر أسرع مما في الأقطار الرأسمالية فقد هبطت الوتيرة إلى ما دون ذلك في الحقبة الأخيرة من النظام. فشل الاقتصاد في الاستفادة من تقاني الثورة العلمية التقانية ، فبقيت منجزات العلم السوفييتي تحلق في الفضاء الخارجي، أو مخزنة على شكل سلاح الرعب المتبادل.
عندما انتزع لينين من أطبائه فرصة القراءة وإملاء "مذكراته" خلال ستة أشهر لاحظ ان طبيعة شخصية ستالين خطرة على النظام الجديد وبعث بملاحظته إلى اللجنة المركزية. طلب لينين المواد اللازمة لاطلاعاته على قضايا البلاد والكتابة بموجبها؛ وكان ستالين هو المشرف على العناية بالمريض. وسجلت فوتييفا ، إحدى السكرتيرتين اللتين عهدت إليهما اللجنة المركزية مهمة معاونة لينين، ضمن مذكراتها ليوم 30 كانون ثاني 1923: "أمس تلفن ستالين أنه لا يستطيع أن يعطي المواد ( الخاصة بالقضية الجورجية ) بدون موافقة المكتب السياسي. وسألني (ستالين) فيما إذا قلت لفلاديمير إيليتش شيئا ما نافلا ، وعن مصدر اطلاعه على الشئون الجارية . مثلا مقالته عن مفوضية التفتيش العمالي والفلاحي تشير إلى أنه يعرف بعض الوقائع" (ولينين يوجه انتقادات إلى ستالين في المقالة المنشورة في البرافدا، بصفته المشرف على المفوضية). وفي 12 شباط 1923 توصل لينين إلى استنتاج بأن " ليس الأطباء يعطون التعليمات للجنة المركزية إنما الأخيرة هي التي تعطي التعليمات". قال البروفيسور الألماني فرستر ، المشرف على علاج لينين " كان العمل بالنسبة له يعني الحياة ، وكان انعدام النشاط يعني الموت".
وفي أوائل آذار حكت زوجة لينين ،ناديجدا كروبسكايا ، له أن ستالين شتمها وأهانها لأنها كتبت في 21 كانون أول رسالة أملاها لينين إلى تروتسكي بصدد احتكار التجارة الخارجية. توجهت كروبسكايا في البداية إلى كامينيف وزينوفييف عبرت عن امتعاضها وطلبت تجنيبها "التدخل الفظ في الحياة الخاصة والشتم غير اللائق والتهديد". ولما علم لينين بالأمر، كما أورد الكتاب "وصية لينين السياسية"، وجه رسالة (سري تماما) إلى ستالين ونسخة إلى كامينيف وزينوفييف، بصفتهما مطلعين على القضية، قال فيها: "أنا لا أنوي النسيان ببالغ السهولة ما تم فعله ضدي . ولا داعي إلى القول أن ما تم فعله ضد زوجتي قد تم فعله ضدي أنا أيضا. ولهذا أرجوك أن تزن فيما إذا كنت توافق على أن تسحب ما قيل وتعتذر أم تفضل قطع العلاقات بيننا". وفي هذا الجو الدرامي كتب لينين ما اعتبر وصيته السياسية، طرح فيها ، وهو المريض للغاية ما لم يخطر بذهن ستالين وهو بوافر صحته. ظل عقل لينين يعمل بنشاط ، وكما قال مكسيم غوركي كان "نصفه يعيش في المستقبل".
اعتراه القلق من احتمال انشقاق الحزب بين ستالين وتروتسكي: " الرفيق ستالين الذي أصبح أمينا عاما قد حصر في يديه سلطة لا حدود لها . وانا لست على ثقة بأنه سيعرف على الدوام كيف يستعمل هذه السلطة بما يكفي من الاحتراس" . وبصدد تروتسكي "فهو يتميز بكفاءات بارزة ولعله شخصيا أكفأ رجل في اللجنة المركزية الحالية، ولكنه يتميز بما لا حد له من الغطرسة وببالغ الولوغ بالجانب الإداري الصرف من العمل".
لنقارن بين نهجين: أثناء التحضير لانتفاضة أكتوبر 1917، وإقدام كامينيف وزينوفييف على فضح التحضيرات في صحيفة معادية، وبعد ذلك بصدد اتفاقية بريست ليتوفيسك مع بوخارين، ثم عصفت بالحزب خلافات وتجاوزات، ودخل في صراعات حادة، وانجذبت جماهير الشيوعيين إلى النقاش، وحدثت صراعات ضارية داخل الحزب في مرحلة النيب ، حيث تهدد الثورة أخطار قاتلة؛ حافظ لينين على رباطة الجأش وظل إنسانيا في التعامل مع الرفاق المعارضين وتسامح مع تجاوزاتهم على نظام الحزب. استطاع الحفاظ على وحدة الحزب. لينين سياسي مثقف اعتاد التعامل مع الجماهير واستوعب آليتها النفسية وقدر طاقتها الثورية ومارس الديمقراطية في أحلك الظروف ، حيث كان الربان الحاذق المدرك لطبيعة العواصف ومكر الأحداث والآلية النفسية للمادة البشرية التي تعامل معها. لكنه قدر أيضا دور الفرد في التاريخ والأثر المضاعف لسلبياته الشخصية حين يتسلم دفة الأمور. بهذه الروحية وجه رسالته إلى مؤتمر الحزب معلقا قدرا لا يستهان به على أهمية دور الفرد في التاريخ. وفي الاشتراكية تنحسر العفوية في توجيه الاقتصاد وتأخذ القرارات من فوق طابعا موجها . تمثل جوهر الفكرة اللينينية في أن تصادم الشخصيات القيادية في الحزب الحاكم المدعو لقيادة العملية الاجتماعية برمتها في ظل الاشتراكية، وكذلك التصرفات المتهورة والخاطئة ، تكبح التحرك في طريق الاشتراكية ، إن لم تنتكس بها للوراء. جاء في رسالة لينين: " ستالين مفرط في الفظاظة، وهذه النقيصة التي لا يمكن احتمالها في بيئتنا، نحن الشيوعيين وفي الاتصالات فيما بيننا، تصبح أمرا غير محتمل في منصب الأمين العام ". فظاظة ستالين تعويض عن فقره المعرفي وعدم قدرته على دحض الرأي المخالف. ستالين ألغى علم النفس الذي احتل في روسيا موقعا متقدما، وأحل الأوامر محل التربية السياسية والثقافية للجماهير. إن العنف الكلامي الذي مارسه ضد معارضيه داخل القيادة قد ملأت فراغ الثقافة والمعارف العلمية التي تسعف القائد لدى التعامل مع الأحداث والأفراد. وحقا ما لاحظه ميكويان في شخصية ستالين وما فسر به تقصير القيادة في حينه في التقاط وصية لينين: يقول ميكويان في مذكراته ، وقد شغل منصب عضو المكتب السياسي من1926 حتى 1966: "أن زعماء الحزب قللوا، كل من جانبه، من شأن ستالين ولم ير فيه منافسا جديا ، وأن بعضا آخر لم ير فيه مدعيا بدور زعيم من الطراز البونابرتي . لهذا فضلوا بقاءه على تقديم احد من قادة الحزب ممن هم أوفر هيبة ويتمتعون بمكانة بصفتهم نظريين وإيديولوجيين". اكتفوا من ستالين بتعهد أن يراعي الفظاظة في سلوكه ويحد منها. لكن ستالين تخلص منهم واحدا بعد الآخر، ودخل في تحالفات مع البعض ضد البعض الأخر إلى أن أجهز عليه ووصمه بتهمة " عدو الشعب"، كي ينبري للآخر حليف الأمس.
بادر ستالين بتعطيل توجيهات لينين بصدد الثورة الثقافية وتحويل البرجوازية الصغيرة في الريف والمدينة إلى الاشتراكية عن طرق الإقناع؛ فوضع بذلك أول لغم في البناء الاجتماعي. استبدلت الثقافة بوسائل الإكراه. وشاع في الأرياف أساليب القسر وقمعت بالقوة مقاومة الفلاحين للدخول في التعاونيات. "إن طرائق لاإنسانية وحتى وحشية اتبعت لدى بناء الاشتراكية". وبقي كره الفلاح للكولخوز دفينا في الوجدان حتى انهيار النظام . لم ينهض الفلاحون للدفاع عن نظام وهو يتصدع ، بادلوه بالكراهية والنفور.
وتجلى تعلق ستالين بالجانب الإداري في الموقف من القضية القومية. وقد رأى لينين بثاقب بصيرته أن الحل الصائب للقضية القومية في الاتحاد السوفييتي يقرر مستقبل حركة التحرر الوطني في الشرق. توجه ستالين نحو تقليص حقوق الأمم الداخلة في الاتحاد السوفييتي. وعارض لينين التوجه الستاليني مخطّئا فكرته حول الاستقلال الذاتي القومي. ونجح في تضمين قرار اللجنة المركزية للحزب البلشفي في روسيا في 6أكتوبر1922 مبدأ " الاعتراف بأنه من الضروري عقد معاهدة... تبقي لكل منها حرية الخروج من الاتحاد". طالب لينين بعدم المساواة بين التعصب القومي للقوميات التي ظلمت واضطُهدت في السابق وتلك التي مارست الاضطهاد. هناك رواسب الماضي التي تبقى في الوجدان زمنا إلى أن تزول من خلال العلاقات المتكافئة والاحترام المتبادل. غير أن مركزية النظام قد أبقت على الظلم التاريخي لجمهوريات الأطراف، كما تم إغفال نتائج الاحتكاكات المتبادلة بين أبناء القوميات من خلال العمل المشترك والعيش المشترك.
أمسك ستالين بأيد قوية جميع عتلات الاقتصاد والإدارة . احتكر إعطاء التوجيهات ، "وبدون أوامره لم توضع أي خطة أو تحل مسألة جدية". أعفى نفسه من مراقبة مفوضية التفتيش ثم ألغاها في المؤتمر السابع عشر للحزب(1934). وفي جميع قطاعات البناء "استرشدت اللجان والملاكات بإرشاداته. وتجلت السمات السلبية التي شخصها لينين في سلوك ستالين القيادي. تفاقمت فظاظته وعدم تسامحه حيال معارضيه." استمرأ التعظيم ، وشجع المدائح حتى كانت جميع الإنجازات تعزى ل" الربان العظيم" و " قائد المسيرة التاريخية المظفرة" . حتى أن ما لم يذكره لينين، نظرا لافتقار ستالين إليه ، وعرفه عنه رفاقه في قيادة الحزب، ألا وهو الجانب النظري، أقتحمه ستالين بعجرفة وبلا تحفظ واحتكر الكلمة النهائية في كل موضوع يخضع للنقاش. كانت مفاهيمه النظرية جافة قاطعة تتناقض وجوهر الديالكتيك المادي . تمت إنجازات محولة للواقع في عدة مجالات؛ لكن الأخطاء فيها كانت فادحة. وأفدح الأخطاء ما طلع به لتبرير العنف في قمع المعارضة، طرحه عام 1937 بادعاء تفاقم الصراع الطبقي مع تقدم الاشتراكية. وفي دورة اللجنة المركزية للحزب ( شباط آذار1937) عهد ستالين إلى اورجونيكيدزه بمهمة إعداد تقرير عن "التخريب في الصناعة" . ولما فشل هذا في إقناع ستالين بطلان اتهاماته انتحر؛ فعهد ستالين المهمة إلى مولوتوف"، الذي قدم التقرير. نكل ستالين بالعلماء في مجالات الوراثة وعلم النفس والثقافة ، وكان يطلق صفات محقرة لكل فريق يتعرض لتنكيله. وجرت تجاوزات بموجب هذا "القانون"، في ظروف تحول الرقابة الشعبية العامة إلى رقابة أمنية ، و"لم يندر أن حلت قرارات ستالين محل الإجراءات القضائية" . جرت مجزرة فتك ستالين من خلالها بجميع القادة الذين عول لينين على كفاءاتهم وإخلاصهم للاشتراكية . وقبيل الحرب سربت المخابرات الألمانية تقريرا وصل لأيدي ستالين، ففتك بنخبة من زهرة الجيش السوفييتي وأحل الاضطراب والقلق في صفوفه.
وفي المؤتمر السابع عشر صوت بعض المندوبين من القدامى الذين يتذكرون وصية لينين ويدركون شذوذ الوضع ضد مقترحات ستالين . ويبدو أن البعض منهم خطر بباله إزاحة ستالين من المنصب ؛ فقضى ستالين على أكثر من نصف المشاركين بالمؤتمر ( 1108 مندوبا من أصل 1966). كما أبيد 98 من أعضاء اللجنة المركزية والمرشحين للعضوية من قوام 139 عضوا. جاء في كتاب " وصية لينين الأخيرة": " إن التركيز الخارق الاضطراري وتضخم السلطة التنفيذية وسيادتها المطلقة على المجتمع وتقليص الديمقراطية لأقصى حد ونقص كل شيء وانعدام الثقافة السياسية ـ جميع هذه العوامل كانت الأساس الذي تفاقمت عليه في زمن ستالين لا محدودية السلطة، وتعاظم عليه تمجيد الزعيم بلا حدود وبلا انقطاع". وبالنتيجة ، ورغم إعلان إنجاز بناء الاشتراكية فقد كانت إنتاجية العمل ادني بأربع أو خمس مرات عنها في البلدان الرأسمالية المتقدمة ، ومستوى معيشة العمال والفلاحين والمثقفين أدنى مما كانت عليه أثناء الشروع بتطبيق سياسة النيب. حقا انتقل الاتحاد السوفييتي من المرتبة الخامسة من حيث الإنتاج الصناعي عام 1927 إلى المرتبة الثانية عام 1937؛ لكن الاشتراكية تشترط اقتصاداً أغزر إنتاجية ووتيرة تطور أسرع وثراء ماديا وروحيا أوفر للمجتمع بأسره. وهذا ما لم يتحقق.
كتب الروائي قسطنطين سيمونوف، الأديب المشهور بالأبحاث والروايات التاريخية، في مقالة عنوانها " ملاحظات أديب"( 1987): " بقي ستالين وفيا لذلك الارتياب الجنوني حيال أبناء بلاده، فانقلب الارتياب في الحاصل إلى فقدان اليقظة حيال العدو. .. إن ذنبه الرئيس أمام البلاد يتلخص في كونه قد خلق جوا خانقا لم تتوفر فيه للعشرات من الأكفاء وذوي المواهب التي لا شك فيها إمكانية تقديم البرهان لرئيس الدولة على أبعاد الخطر، ولم تتوفر لهم الحقوق لأجل اتخاذ ما يكفي من التدابير لدرء الخطر."
* * *
حدث التطور العاصف في وظائف الدولة وتدخلها ، اقتصاديا وثقافيا وإيديولوجيا مما قضى على الإدارة الذاتية للقطاعات المرتبطة بحياة الشغيلة، والتي اعتبرت الضمانة الوحيدة لوقف خطر البيروقراطية. راحت البيروقراطية تتطور بسرعة في زمن ستالين والحقبة البريجنيفية، وباتت القوة الاجتماعية الكابحة للجماهير. وفي الحقيقة استطاعت البيروقراطية الرئيسة ان تكتسب قدرة سياسية واقتصادية هائلة استوعبت الحزب والعتلات الرئيسة للاقتصاد، ولم يبق عليها سوى تملك الاقتصاد برمته.
لم يدرك خروشوف الصيرورة التي أوصلت الأمور إلى التردي؛ كان جزءا من الآلة البيروقراطية التي بناها ستالين؛ فلم يعاينها من بعد ويدرك مدى خطورتها. والطير المحشور في قفص لا يتعود التحليق. صخرة ضخمة متماسكة وصوانية من القيود والمعيقات لم يتمكن خروشوف وصحبه من التعامل معها؛ لكن خروشوف تميز بالشجاعة والمبادرات الجريئة: لم يجرؤ الأمين العام للحزب ، مالينكوف في الحديث مع بيريا أثناء اعتقاله، فانبرى خروشوف يتحدى قائلا جئنا نعتقل الخائن بيريا ونحاكمه باسم الشعب. وقمع محاولة جوكوف ، وكان وزيرا للدفاع، وله ثقله كبطل الاتحاد السوفييتي لدوره البارز في الحرب العالمية الثانية. أراد فرض وضع للجيش متميز وخارج عن القيادة الحزبية . طرد جوكوف من المكتب السياسي واللجنة المركزية دون أن يبطش به على الطريقة الستالينية، ولكن دون أن يحدث شرخا في علاقة الجيش بالسلطة السياسية..
بقيادة خروشوف تطورت القدرة الدفاعية. سبق الاتحاد السوفييتي الولايات المتحدة في تفجير القنبلة الهيدروجينية وإرسال اول قمر اصطناعي وأول رائد فضاء. ارتفعت هيبة الدولة السوفييتية وهيبة الشيوعية بفضل هذه النجاحات المذهلة في حينه؛ كما تعزز التعاون السوفييتي مع البلدان حديثة الاستقلال وشرع الاتحاد السوفييتي يقدم لهذه البلدان المساعدات لكي تتغلب على الإرث الكولنيالي ، واستطاع عشرات الآلاف ممن يعجزون في حينه عن توفير تكاليف الدراسة الجامعية أن يتعلموا مجانا في المعاهد والجامعات السوفييتية. وتتحسر الأسر في هذه الأيام على تلك الفرص التي تبددت. كما تتذكر الجماهير العربية بالامتنان وقوف الاتحاد السوفييتي بجانب مصر أثناء العدوان الثلاثي عام 1956، وكذلك إمداد الدول العربية بالسلاح وبناء منشئات اقتصادية ضخمة مثل السد العالي في مصر ومصانع حديد وصلب في مصر والجزائر وأخرى في بلدان عربية أخرى وغيرها في عالم الأقطار النامية ، كما سميت في حينه. ويجب عدم نسيان أن ضباطا وجنودا سوفييت سقطوا على أرض مصر وهم يتولون الدفاع عن مصر ضد الهجمات الجوية البربرية الإسرائيلية, هذا النمط من التصرف لم يصدر إطلاقا عن دولة رأسمالية.
وقع خروشوف في شباك الممارسات الفردية وسكت عن التزلف تجاهه وتمجيد شخصه، تواصل نظام الحزب الواحد وانتقلت عدواه إلى البلدان المتحررة حديثا ، ما أعاق عملية التطور والتقدم فيها. وتعثرت مشاريعه لإصلاح الوضع السياسي وفك قيود الاقتصاد كي ينطلق بوتيرة تفوق وتائر التطور لدى الرأسمالية. وهذا ما سهل للبيروقراطية إزاحته بأسلوب تآمري فضح وقوع القيادة الحزبية رهينة للجهاز البيروقراطي ، خاصة المخابرات. أعاد بريجنيف الاعتبار لستالين ، وسكت عن تجاوزاته. فقد لوحظ "التزام تاريخ الحزب الشيوعي السوفييتي المدون عام 1985 الصمت حيال تنكيل ستالين بأنصار لينين السابقين . وفي الباقي يسود صفحاته بلا منازع سوء القصد حيالهم، ويناقض كل روح الوصية اللينينية، وحتى مجرد الفكر السليم ." بينما يورد مؤلف " تاريخ الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي لعام 1963 دورة اللجنة المركزية للحزب عام 1937 بصورة مفصلة وبمزيد من الصحة والصدق. فقد أقام الصلة بين مقولة ستالين بصدد تفاقم الصراع الطبقي مع تقدم البناء الاشتراكي وحملات القمع بالجملة ( تحويل مفوضية الشعب للشئون الداخلية إلى مزرعة خاصة ، إلى مجال من صلاحية ستالين لوحده ـ تعيين يجوف ثم بيريا في منصب مفوض الشعب). كما تحدث عن تطبيع القمع بصورة غير شرعية أولا ضد الأخصام الفكريين السابقين الذين صورهم عملاء للمخابرات الأجنبية ثم ضد الشيوعيين واللاحزبيين الشرفاء ممن لا علاقة لهم بالمعارضة إطلاقا. وأفاد عن انتحار الرفاق الذين لم يريدوا تحمل المسئولية عن جرائم ستالين (اورجونيكيدزه) وبمن حاولوا الاحتجاج عليها ( بوستيف ، كامينسكي). وجميع هذه المعلومات زالت ببساطة من الطبعات اللاحقة لتاريخ الحزب". تشير الوقائع إلى أن عواقب عبادة الشخصية لم تجر بصورة منسجمة ، ورافق ذلك ارتدادات للوراء .
هناك نقاط مضيئة في التجربة السوفييتية ما زالت تتوهج. إن نمط السياسة السوفييتية في مجال الخدمات الاجتماعية ، التأمين الصحي المجاني والتعليم المجاني يجميع مراحله ، وكذلك تربية الكوادر الوطنية في مختلف المجالات نموذج لدولة الخدمات الاجتماعية ينبغي النضال من اجله ، وتكريسه ، خصوصا وقد خبرت الشعوب الهجوم المتوحش على هذه القطاعات الحيوية وتحويلها إلى قطاعات خاصة في ظل العولمة المتوحشة.
وفي العهد السوفييتي لمعت أسماء في مجالات الأدب والفن والسينما والعلوم ألخ باستثناء الفلسفة التي بقيت حكرا للقيادة الحزبية الجامدة، سوسلوف وأضرابه.
كما أن الموقف السوفييتي النبيل من البلدان الفقيرة نموذج في السياسة الدولية ينبغي أن يظل مرتفعا في فضاء السياسات الدولية ، معيارا لعلاقات دولية تستند إلى مبادئ الأخلاق والإنسانية.
وأثبتت التجربة السوفييتية ، ولو بصورة سلبية صحة النهج اللينيني في ربط الاشتراكية والديمقراطية بعلاقة جدلية ، وأن الديمقراطية لا تستحق الاسم إلا إذا ارتبطت بعلاقة جدلية مع الثقافة المتقدمة الرفيعة، وما لم تمسك الجماهير الشعبية بأيديها مصائرها ومصائر أوطانها. إن نموذجا متقدما وأصيلا للديمقراطية راود عقل لينين، لكن القيادة الأوامرية أجهضته، وينبغي أن يعاد له الاعتبار؛ حيث تقترن حرية الاختيار والتعددية السياسية بثقافة إنسانية تضع الجماهير أمام مقود القيادة.