أكتبُ إلى جدي الأفتراضي:
سأنتظركَ ياجدي الأفتراضي...
سنكون بخير لأنني وأنتَ سنبني أفتراضيا أوهامنا أحلامنا وبلادنا!
قشرتُ لكَ ما يكفي من الفستق والكستناء،
أريدكَ أن تساعدني في تقشير بعض الحكايا والظواهر الثقافية التي تُصدّق!
جدي، هل الأدب الساخر يقع في المتن أم الهامش من البساط الثقافي المعتّق والمحدّث؟!
وأرجوك ألا تعبس بوجهي كما كانت الجدات تقول: ضعي يديكِ على فمكِ حين تتكلمين! وكما بعض الأمهات ما زلنّ يطلبن من الفتاة: ضعي يدكِ على فمك حين تضحكين!
هذا مع الاستدراك أن في بعض البلاد، يكون الفم مبرقعا ومفترض أن يغيب!
* * *
حدث وأن نسيتُ الابتسام أيضا، وأراكَ تحزن لإنني حفيدة " بكاءة "، تبا للمناديل، كنتُ متأهبة للفرح ياجدي، أمسكتُ بقصص صديقكَ زكريا تامر وعنوانه يعد بالكثير " سنضحك " ولكنه (أطار نعمتي) ما أن حكى لي قصة " النائمات " وكيف أن سعاد راحت تبكي بعد أن استيقظت من النوم، وهي تطالب الأب والأخ بقتلها للذود عن ( شرفهم) الذي أهرقه رجل غريب مزق ثيابها وأغتصبها في المنام:
" قاومتُ وصرختُ بأقصى قوة يملكها صوتي، فكان يضحك ويقول لي إننا في منام، وما يحدث في عالم النائمين لا يعلم به عالم المستيقظين" ص 23
هل تعتقد يا جدي أن " ما حدث مع سعاد، سيحدث أيضا مع الكثير من نساء الحارة، وسيحتار الرجال، يعجزون عن الإنتقام ممن يعتدي على أعراضهم، ويحاولوا أن يمنعوا نسائهم من النوم، ولكن المحاولة تخفق، وتضطر النساء إلى النوم، ويتعرضن للاغتصاب، ويستيقظن من نومهنّ ممزقات الثياب" (1) ص 23
هذا حين الشرف محصور في البكارات، هذا وأن الجاني لا يتم التعرف عليه، وهذا ما يجري في الواقع حيث القضايا معلّقة، وتقفل بـ " قيّد ضد مجهول"!
* * *
وعدّتكَ يا جدي أن نمرح كما حفيدة وجدّ، نفترض الفكاهة والضحك، ونتكئ قليلا على مبررات (برغسون) في جدوى الضحك " يؤكد برغسون أن للضحك دورا في تقويم الأعوجاج ونقد العيوب، والدفاع عن الحياة الجمعية والمبادئ والأعراف السائدة..." ( 2) ص 16
وهنا يحضرني الموروث الديني. وكم يلزمنا أن نتجاوز ما قاله السيد المسيح في الكتاب المقدس:
" طوباكم أيها الباكون، لأنكم ستضحكون، ويل لكم أيها الضاحكون الآن لأنكم ستحزنون وتبكون " (2) ص 38
ولكنك َ تعيد علي أن في القرآن الكريم ورد ذكر الفاكهة والفواكه، ثمار عجيبة لأهل الجنة، وأما الفكِهون، فكانوا أهل كفر، ويوبخ الله تعالى الذين يسخرون ويضحكون، ويهددهم بعذاب عظيم، بقوله:
" فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون " ( التوبة : 82 ) ( 2)/ ص 39
فيضحكوا، أو يفكهوا، ولكل نصيبه من الجنة أو العقاب، إذ الضحك هنا متعلق برسالة دينية، عقاب أو ثواب.
* * *
ألهذا ياجدي أصبحت السخرية والفكاهة والضحك، هامشا في نصاب اللغة والثقافة، وأصبح البكاء والثأر أملنا في الطريق إلى الجنة، محفوفين بالمناديل والدموع والدماء؟!!
أو لعله ما حفظ من التراث الذي شاع فيه الكثير من مخطوطات تعنى بالفكاهة والضحك، لكنه لم يتم تبويبها بشكل مستقل لتشكل نسقا، وإنما جاءت (مهمشة) مختلطة بكل العلوم الأخرى، أي أنها لم تصبح (متنا) إلاعلى يد الجاحظ في " رسالة التربيع والتدوير" حيث تخصص الكتاب بكل اشكال الفكاهة والاضحكاك، الدعابة والسخرية، وتبعه بعض الكتاب في هذا النسق لاحقا،كـ ابن الجوزي في كتبه الثلاثة: ( الأذكياء/ أخبار الحمقى والظرفاء/ أخبار الظراف والمتماجنين) ص 56 .
هذا ما تشير إليه أبحاث الدكتور "رياض قزيحة" في كتابه المعنون " الفكاهة والضحك / في التراث العربي المشرقي" ( 2) يبحث في الفكاهة ومدلولاتها ومخطوطاتها بتفصيل وشواهد ( من العصر الجاهلي وحتى نهاية العصر العباسي. يقدم ابحاثه مبوبة ويقسمها إلى:
المدخل : دلالات الفكاهة والضحك / الفكاهة في المجتمع الجاهلي / مظاهر الفكاهة في علاقة العربي بخرافاته ومثله/ الفكاهة في المجتمع الأسلامي الأول وفي المجامع وفي المجتمع العباسي.
هذا ويفند نمخطوطات قديمة وأعلام وأسماء ويخلص إلى نتائج منها مثلا أن:
" إستطاع ابن العيناء أن يتبوأ مركزا رفيعا فيجالس الخلفاء والوزراء، ويفرض أحترامه وهيبته، بفضل فصاحة لسانه، وحضور جواب وسرعة بديهة، كانت له تعويضا عن حَوله، وعن عماه بعد ذلك. ... خلد علما من أعلام الفكاهة العباسية، بما جمعت له من النوادر والفكاهات الغزيرة بأعدادها، والغنية بألوانها ودلالاتها، والصادقة في تصويرها مجتمع بني العباس إبان سنوات زهوهوازدهاره. " (2) / ص 355
* * *
أراك مللتَ يا جدي ولكن زكريا تامر وعدنا بأننا " سنضحك... سنضحك كثيرا "
أسمعُه يقول الفجيعة ضحكا، عبثا يبعث على البكاء في أقصوصة " المطر العابث " إذ الغيمة أمطرت منذ الصباح حتى المساء، دولارات جمعها الفقراء وأبتهجوا...ذهبوا في اليوم التالي إلى المصارف ولكن
" المصارف أبتْ التعامل مع دولاراتهم، إذ ثبت أنها نزورة تزويرا ساذجا .... واضطرت السلطات المختصة باصدار قرار ... ومعاقبة مقتنيها ومروجيها " ص 107
وربما بسبب مغبة هذه الأتراح والأمطار والأحلام المخلوعة، وأشياء أخرى كثيرة، ماتت الأمّ ورثاها الحبر بأسود مرير الضحكة، وبأصرار عبثي يستوجب أن نضحك، في المقبرة أيضا ورغم الموت:
" في يوم من الأيام ذهبنا إلى المقبرة لزيارة أمي، فهاجم رجال الشرطة المقبرة وقبضوا على أمي ، ولم ينجحوا في القبض علينا لأني تحولتُ كلمات رثاء مكتوبة بحبر أسودعلى شاهدة قبر، وتحولت زوجتي باقة من الورد الذابل، وضحكنا كثيرا من سذاجتهم" ( 1) / ص 121
تبا للموت، أريدكَ أن تضحك يا جدي ولن نثق بالقصص الموجعة في حبر زكريا تامر.
* * *
كريم هذا الوقت الأفتراضي، وسنتعلم الإبحار في القديم والحديث والحداثة متأبطين ملفاتنا الإلكترونية وما تبقى من كتبنا التي كثر عليها الغبار وأرجوك ألا تنسى ثانية أن تحضر معك كتاب " العلم المرح" لنيتشه، راعي زرادشت الذي أراد لنا دوما أن نتخلص من أحمالنا، نتخفف من مخزون الذهن والفكر والوجع السالف، ونرقص ونضحك، وربما نعيد النظر في مسألة موقفه من المرأة والأفعى والكتب التي تحتاج لأسنان بمواصفات شديدة للهضم، الفكر كي يكون، يلزمه أسنان في الرأس!
* * *
ستذهب ولن أموت حزنا، وقل لجدتي أن تسامحني، لأنني سأسامحهاا، قل لها أنني لم أعد أضع يدي على فمي عندما أضحك، رغم أن أسناني متعبة أيضا، وليست قوية كفاية لتهضم ( المتن الأعوج ) ونريد ويلزمنا أن نقول له ( أعوج بعينه )
وأما أسناني فلم أعد أستطع إصلاحها هذه السنة يا جدي، لإن الدولارت لم تهبط من الغيمة ولا من الجدران ولا من السماء. وكما وأنني لم أعد أضع يدي على أنفي عندما أكثر من السؤال والشغب. ولكن! هل لاحظت يا جدي، أن التراث كله والقديم والجديد قلما تجد فيه امرأة كتبتْ سخرية أو فكاهة أو ضحكة؟!
أعتقد لأن العالم كمثل أغلب الجدات، ما يحكم كل ضحكة، بالابتذال والسوقية والخروج عن المتن التليد والتقاليد المعيقة، التي ترى أن البنت أو المرأة المهذبة والخلوقة من المحبذ أن تكون على مقاس المثل الشعبي السوري ( لا من تمها ولا من كمها) يعني ( القط بياكل عشاها) ! هل يرضيكَ يا جدي أن تأكل القطط عشائنا وفطارنا، ونموت من الجوع؟!
هذا وأن التلفزيون الكندي خصص مرة برنامجا، تكلمت ْ فيه بعض السيدات اللواتي يقفن على المسرح، ويلقين النكتة والدعابة والسخرية لإضحكاك الجماهير المتعبة المسحوقة يوميا تحت ضغط مجتمع الآلة... الذي لفت نظري أنهنَ أجمعن على أنهنَ يواجهن مصاعب ومضايقات أكثر من الرجل الذي يشتغل أيضا في تقديم عروض الكوميديا، لأن الرجل هنا أيضا لا يهضم تماما فكرة أن يذهب ويدفع نقودا لأمرأة كي( يضحك) ويخرج بمزاج رائق يعينه على تجاوز إحباطه ونسيان متاعب الإسبوع. والرجل ذاته لايكون لديه ذات الشعور إذا كان في حضرة بائعة جسد!
* * *
أما لماذا يسخر الكتاب السوريون!
أستمعتُ إلى بعض سخرية كتابنا السوريين وضحكاتهم الجميلة واللئيمة والمؤلمة أحيانا، راقَ لي منها الكثير، سخريتهم حاضرة بجد واجتهاد، وربما أصواتهم المئوية قليلة قياسا للذين يكتبون بجدية بليغة وصحية أيضا.
تعال، سأحكي لك يا جدي قصة -على ذمة مخيلة- القاص وليد معماري، عن رجل رفسه حمار في الشام، فمات!
ولابأس أن نبتسم/أو نكشّر، لهذه الأقلام السورية المجدّة في هذا الصنف من الكتابة، أذكر وليس حصرا، الكاتب شوقي بغدادي، حسن م يوسف، (حسيب كيالي / خطيب بدلة) وشيخهم زكريا تامر وآخرون...وهنا نجد الكاتب شوقي بغدادي يتحدث عن هذا المضحِك بجدية معتمة، فيقول:
" ان ازدهار ادب السخرية مرتبط على ما يبدو باجواء الكتابة المنفتحة على التنوع والاختلاف وحرية الابداع وانه كلما ضاقت هذه المساحة لسبب او لآخر سادت الكتابة الجادة او تحول ادب السخرية الى ما سميناه سخرية سوداء. نحن بحاجة شديدة الى ان نضحك كما هي حاجتنا الى ان نبكي ونرقص ونلعب ونكافح ونقاوم وهذه الانشطة المتنوعة لا تزدهر في اعتقادي في مجموعها الا باجواء الحريات العامة والتحرر من التزمت والتعصب وهو ما نحتاج اليه الآن قليل من الضحك في هذا المناخ العربي البائس المعتم" ( 3)
أما الكاتب الصحفي السوري حسن م يوسف يقول:
." أن السخرية بالنسبة لي وجهة نظر بقدر ما هي أداة نظر! السخرية بالنسبة لي هي صمام الامان الذي يمنع طنجرة الضغط التي احملها فوق كتفي من الانفجار! هي وسيلتي كانسان ضعيف للتوازن في هذا العالم المليء، هي فن (الخيمياء) الذي يحول معادن الحياة اليومية الخسيسة الى معادن نفيسة! بالسخرية يتحول الالم الى ضوء والعجز الى افكار" (3)
* * *
سأترك لك التفاصيل تتسلى بها في غيابي، ولا تبتئس لأنها " ظلمات فوق الظلمات" يختم بها زكريا تامر مجموعته القصصية، بضحك شقيّ، يطلب من السارد أن يدعو جارهم الذي يسكن في الطابق السابع للنزول إليهم في العالم السفلي، وحين يذهبون في تقصي أحوال العالم والمدن، تقع أهوال الرؤيا ويا لفداحة ما رأوا:
" سرنا معا في الأرض تلاحقنا الصيحات المستغيثة وتطوقنا.
رأينا مشانق يتدلى منها أطفال وعصافير ..
رأينا أجمل كلمات تختنق ...
رأينا قمرا يبزغ على مدن ليس فيها سوى المنتحرين طلبا للنجاة مما هو أشد هولا من الموت ..
رأينا .... رأينا...
......
رأينا شعوبا معصوبة العيون تنتظر لحظة إعدامها، ويتأخر جلادوها في التنفيذ حتى يتمتعوا برؤية رعبها/ فنظرنا إلى جارنا العليم بكل شيء فكان واجم غاضب كأن اللذين يتعذبون أبناؤه العاجز عن نجدتهم .... " ( 1) الصفحة الأخيرة 239
* * *
ماذا عن تقشير الحكايات اللاحقة، هل أنتظركْ!
هذا بالإضافة إلى أنني أتمنى من الناشر إلا يحذف الهوامش، لأنها ليست ترفا، وإنما يتوجب أن ننظر إلى ضرورتها، كي ننجو أو نحدّ من ظاهرة تغييب الهامش على حساب المتن، والرثاء والبكاء على حساب الفرح والفكاهة، والتي تؤدي لاحقا إلى سرقات ( المتن ) وتغييبه كاملا!
ويحدث أن يسرق متن وتاريخ وشعوب بكل حذافيرها.
هل تصدق يا جدي حكايات جدتنا عن ( الجن والغول والسعلاة )؟ وأنه حدث أن:
" أن حرب بن أمية بن عبد شمس، وهو والد أبي سفيان، قتل في الفلاة حيّة، كانت من فصيلة الجن متشكلة بشكل ثعبان" فعدت الجن على حرب ابن أمية فقتلوه بتلك الحية، فقبره أصحابه هناك ، حيث لا جار ولا دار" ( 2) / ص 108
وكتب في ذلك الجان :
( وقبرُ حربٍ بمكان قفرِ / وليس قربَ قَبرِ حربٍ قَبرُ ) وكان للجاحظ تعليقا طريفا عليه، لما يسببه من تعتعة وثقل في اللسان.
لن أصدق الغول والسعلاة يا جدي وسأصيخ بحزن وحسرة إلى ما قالته الأم للشاعر العراقي بلند الحيدري ذات مرة حين كان ما بين ذراعيها:
" ذات مساء هتفت في أذني
ابني ... إياك وإياكم يا أولادي
في ذاك الوادي عفريت مفتول القرنين ومحموم العينين
في ذاك الوادي تنين
يترصدكم ألف كمين للجنّ
.....
وبعد طول" دروب في المنفى" أكتشف الشاعر وحين ماتت الأم وحين تجاوز حدود ذراعيها أن تلك الحكايات ما كانت:
" وأن كل وصايا الأجداد وكل وصايا الهمس / الغائر كل مساء في أذني / ما كانت إلا ظلي / وما كان الوادي إلا وطني ...استلقيت وكانت عيني فانوسا أعمى يحملني من تيه / وليته يبحث عني / في حي موبوء .. في حي / أخشى ألا يبقى حتى في غبش الظنّ " ( 4) / ص 233
هذا وسنبحث يا جدي الأفتراضي، عن مبررات كي نضحك خارج داخل المتاهة.
جاكلين سلام: كاتبة من سوريا تقيم في كندا
www.jackleensalam.com
[email protected]
.............
هوامش:
( 1) :" سنضحك" مجموعة قصصية للكاتب السوري زكريا تامر، صدرت عام 1998، عن دار رياض الريس للكتب والنشر. ومن الجدير ذكره أن زكريا تامر فاز منذ سنوات بجائزة
سلطان العويس تقديرا لإبداعه.
(2) : "الفكاهة والضحك/ في التراث العربي المشرقي " تأليف الدكتور رياض قزيحة، صدر عن المكتبة العصرية ببيروت عام 1998.
(3) : مقتطف من حوار أعدته في دمشق( ميادة بيلون) وشارك فيه عدد من كتاب الأدب الساخر في سوريا/ نشر في صحيفة البيان.
(4): عن قصيدة" بين ذراعي أمي" في إصدار طبع بعد رحيل الشاعر بلند الحيدري في لندن بعنوان "اغتراب الورد" .