أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - قاسم حنون - في الذكرى 45 لانتفاضة معسكر الرشيد















المزيد.....


في الذكرى 45 لانتفاضة معسكر الرشيد


قاسم حنون

الحوار المتمدن-العدد: 2330 - 2008 / 7 / 2 - 10:37
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


المهمشون يقرعون بوابات التاريخ
قراءة في كتاب :( العراق ـ البيرية المسلحة ـ حركة حسن سريع وقطار الموت 1963 ) لمؤلفه د. علي كريم سعيد

في 3 تموز 1963 أقدمت ثلة من الجنود والمراتب الشجعان على عمل جريء بالاستيلاء على معسكر الرشيد تمهيدا لإطلاق سراح المعتقلين السياسيين في السجن العسكري وتنفيذ خطة الإطاحة بالنظام الفاشي الذي انبثق عن الانقلاب الدموي في 8 شباط 1963 وإنهاء الأحكام العرفية واستئناف مسيرة الثورة الوطنية ومواصلة نهجها التحرري
ماهي ممكنات هذه الانتفاضة البطولية ؟ وماهي شروط تحققها ؟ ومن هم رجالها ؟ وما صلتهم بالحركة الثورية ـ الحزب الشيوعي تحديدا ؟ وما هي العقبات التي واجهتها وما أسباب إخفاقها ؟ هذه التساؤلات والأفكار كانت موضوع دراسة الباحث الراحل د . علي كريم سعيد من أجل معاينة واستقصاء الخسارات في تاريخنا المعاصر وتأمل الجراح النازفة على مدى عقود طويلة تكبد فيها شعبنا خسائر فادحة في أبنائه وثرواته ومسيرته نحو الاستقلال الناجز والحرية والتقدم الاجتماعي ومازلنا الى اليوم نعيش آثار تلك الارتدادات والانعطافات السياسية والثقافية التي وفرت المناخ الملائم لبروز تيار نكوصي عارم أفضى الى التفريط بما أنجزته قوى شعبنا التقدمية في كفاحها الطويل والشاق .
يتناول الكتاب المذكور انتفاضة معسكر الرشيد في 3 تموز 1963 بتسليط الضوء على أبرز رجالها ففي الباب الأول يتناول الباحث موطن بطل الحركة أو قائدها حسن سريع ( في شثاثة أو عين التمر ) ذات الجو الصحراوي الملتهب وأصوله العشائرية في بادية السماوة التي رحل منها في ظروف سابقة ، ومهما ذكر من تباين في الآراء بصدد نسبه وانحداره المناطقي فإن ذلك غير كاف لتقديم تفسير لمبادرته الثورية ، فإن الحماسة الثورية والخيار السياسي والأخلاقي الرصين هو ماميز حسن سريع في استقطابه لأقرانه من الجنود وضباط الصف وإقدامه على مشروع كبير يتعالى على وضعه المهني ليمس السلطة السياسية السائدة بأجهزتها القمعية ونظامها البوليسي . على أن عوامل معينة ساعدت على رفع مستوى الوعي السياسي بين أبناء تلك البلدة القصية التي كانت في الخمسينات أو قبلها منفى للسياسيين مثلها مثل نقرة السلمان في بادية السماوة أو بدرة في الكوت ، وأكثر المنفيين إليها من المثقفين الثوريين عامر عبد الله وابراهيم كبة ، كما كانت تضم نخبة من الموظفين العاملين فيها وهم شبه مبعدين سياسيا . فلا غرو أن ينتشر الفكر الماركسي في وقت مبكر فيها وان يلتحق عدد من أبنائها بفصائل الثورة الفلسطينية في الستينات فيما بعد.
بعد الهجوم الوحشي الذي وجهته زمر 8 شباط 1963 الى الحزب الشيوعي وطالت قيادته ولجانه المحلية في المحافظات وبغداد وهيئاته التنظيمية في القطاعات المهنية ، كانت هناك محاولات جريئة لاستنقاذ خلايا وقواعد حزبية والاتصال من جديد بقيادة الحزب التي كانت تتمثل في ثلاثة مراكز قيادية أحدها في الفرات الأوسط ويمثلها زكي خيري وباقر ابراهيم ، والآخر في بغداد بعيدا عن الأنظار والرقابة المشددة ويقودها جمال الحيدري ومحمد صالح العبلي والثالث في كردستان حيث وفرت الثورة الكردية لها الحماية بسبب طبيعة المنطقة وتعاطف قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني ويقود تنظيماتها عزيز محمد وكريم أحمد وآخرون ويبدو أن مجموعة نائب العريف حسن سريع كانت واحدة من تلك التنظيمات التائهة التي حافظت على وجودها لكون مسؤولي أكثر المنظمات الحزبية العسكرية كانوا إما من القتلى أو المختفين أو المعتقلين بينما يواصل بعضهم وجوده في السجن منذ ماقبل الانقلاب الأسود ، وليس صحيحا ماقيل أن حسن سريع كان قد انتمى الى الحزب الشيوعي واللجنة الثورية القيادية لمعسكر الرشيد قبل أيام فقط من قيام الانتفاضة وإلا كيف تسنى لمنتم جديد أن يتمتع بهذا القدر من الحماسة والانضباط والخبرة التنظيمية في تصدر الحركة والتخطيط للانتفاضة . وربما يجد تبريره في غياب مرجعية محددة للتنظيم العسكري الذي أدى بدوره الى غياب خطة طواريء لدى الحزب في حالة تردي الأوضاع وانفلاتها من السيطرة واندفاع قوى الردة وهذا متأت من الجدل والانقسام في قيادة الحزب الشيوعي بخصوص الموقف من قيادة ثورة 14 تموز وانسياقها في أفق الفردية ومعاداة القوى الديمقراطية وهيمنة تيار تصفوي لايرى في السلطة السياسية هدفا ممكنا ومشروعا لحركة الطبقة العاملة وحلفائها بل ارتهن الى حسابات الصراع بين الدولتين العظميين في العالم وما يستتبعه من ( مقايضة ) وتنازلات وشروط حل مسائل التطور الداخلي دونما مراعاة للتوازن الحقيقي لحركة القوى الطبقية والسياسية ومستقبل العملية الثورية في العراق والبلدان العربية . وهكذا فكر مجموعة من المناضلين الشجعان مدنيين وعسكريين في الامساك بزمام المبادرة واستثمار مامتوفر من امكانات تنظيمية في معسكرات الجيش ومن بين أولئك محمد حبيب ( أبو سلام ) الذي قاد الحركة وعمل على لم شتات الخلايا العسكرية التائهة في المعسكرات ومنها جماعة حسن سريع واشراكها في التخطيط للانتفاضة دونما اجراء مشاورات كافية أو اتصالات مع مراكز الحزب مختزنا في ذاته المرارات والآلام الناجمة عن الفترة السابقة والمتأتية من التفريط بالتنظيم العسكري والتقاعس عن مجابهة القوى المعادية للثورة قبل الانقلاب كما أشرنا . ويبدو ان محمد حبيب العامل النقابي القادم من الجنوب ( البصرة ) تسلم مسؤولية هذا الدور بعد استشهاد ابراهيم محمد علي العامل الشيوعي الكردي في أقبية التعذيب وبهذا تشكلت جماعة عسكرية عمالية وضعت أمامها هدفا هو قلب السلطة بواسطة القوات المسلحة الثورية التي اعتمدت أساسا على مراتب الجيش فيما كانت أعداد كبيرة من الضباط أسرى سجون الانقلاب وقتل عدد منهم أثناء التحقيق أو في الساعات الأولى من قيام الانقلاب فتركزت أهداف الخطة العسكرية بالسيطرة على ثلاثة محاور في معسكر الرشيد ( كتيبة الدبابات الأولى ـ قاعدة بغداد الجوية والمطار العسكري ـ السجن رقم 1 ) أما مهمة قوات معسكر الرشيد بعد السيطرة عليه فكانت السيطرة على مدينة بغداد وضرب مراكز الحرس القومي وكانت مهمة اقتحام السجن واطلاق سراح الضباط المعتقلين خطوطا مفصلية في آداء الحركة وسيرورتها وبدون ذلك فانها ستصاب بالشلل والعجز الأكيد . ان اعداد خطة عسكرية يتطلب حسابا حقيقيا لقوى الخصم ونقاط ضعفه ومنظومة من الاجراءات والفعاليات لحشد قوى الانتفاضة والظروف المساندة لها وهذا لن يتأتى إلا بوجود خبرة أكاديمية وتصور ستراتيجي واضح ، وفي ذلك كان مقتل الانتفاضة التي افتقرت الى قيادات عسكرية وقدرات تنظيمية راسخة لتعبئة قواها وتوزيعها بما يتناسب ومهامها وأهدافها الآنية والمستقبلية .
هل كان إحساس المراتب بالخذلان من القيادات العسكرية الثورية وسخطها على ماآلت اليه الاوضاع وشروط الواقع السياسي شديد التعقيد هو مادفع قيادة الحركة الى المغامرة بتنفيذ خطتها ؟ هل كان الارتجال وضعف الخبرة وراء التعجيل بموعد قيام الحركة دون توفير الأسس الضرورية لنجاحها ؟
ان الحماسة الثورية والقوة العددية للثوار وحدهما لايقدمان ضمانا لاختراق بوابات السلطة السياسية والفوز بمقاليدها إذا لم يقترنا بالحنكة والتمرس في فنون القتال والخطط العسكرية خاصة وأن السلطة آنذاك خرجت من رحم الجيش ومازالت تحت مظلته وثمة تواشج كبير بين المؤسسة العسكرية والسياسية . لقد نفذ انقلابيو شباط 1963 خطتهم في اسقاط حكم الزعيم عبد الكريم قاسم المدعوم شعبيا وبوجود حركة سياسية مؤثرة تقوم سياستها على دعم الثورة والوقوف بوجه مؤامرات أعدائها لذا كان لابد من اللجوء إلى أساليب متقنة عسكريا لحشد بضع عشرات من الضباط والقادة في الجيش وبمساعدة حوالي ثلاثمائة من المدنيين البعثيين المزودين بأسلحة خفيفة من رشاشات بورسعيد اعتمدت الخطة على المباغتة والخديعة والإيهام واغتيال القيادات العسكرية الهامة منذ فجر الانقلاب . كان ينبغي للحركة أن تضع في حسابها تلك التجربة وتسعى الى حشد امكانياتها وتقديم سياق عسكري مناسب للقوة الثورية الفاعلة في معسكرات الجيش والمصانع والاحياء وتحريك التململ الشعبي في وجدان الناس الذين ابتلوا بممارسات الطغمة الحاكمة ، وهكذا واجهت الحركة مصيرا تراجيديا عبر عدد من الأخطاء التكتيكية التي ان دلت على شيء فإنما دلت على هيمنة البداهة والارتباك في تنفيذ الخطة دون حساب المتغيرات فقد تهيأ للانتفاضة ان تحقق اختراقا الى قلب السلطة باستدراج رموزها المؤثرين الى معسكر الرشيد والقبض عليهم
( حازم جواد ، طالب شبيب ، منذر الونداوي ، عبد السلام عارف ) ولكن ارتهان بعض أفراد الحركة الى عقلية المراتب وتقاليد الطاعة العسكرية العمياء أديا الى ضياع هذا الصيد الثمين الذي انقلب من حالة الاستكانة والأسر والذهول الى حالة التوحش والانقضاض الكاسر على الضحايا بعد فشل الانتفاضة حتى ان حازم جواد أصر على اعدام الجندي الذي قام بأسره دون أن يوجه له اساءة تذكر . لكن يبدو انه أطلع على مظاهر ضعفه وتوسلاته فالجلادون بما انهم سدنة الموت فهم الأكثر ذعرا منه إيثارا لأنفسهم .
من المحزن أن تؤدي هفوات وأخطاء عابرة بمشروع ثوري كبير كان يمكن أن يحقق انعطافا في مسيرة الحركة الثورية ويرتق عيوبا وثغرات كبيرة في مسار الثورة الوطنية الذي أجهضته عصابات البعث وقد يؤدي الى قلب مجرى الأحداث في العراق والشرق الأوسط .
ثمة تفارق واضح بين المشروع الأخلاقي والسياسي للانتفاضة وتوجهات سلطة القمع والاستبداد الغارقة في برك الدم وأوحال الجريمة وبهذا الصدد يقول المؤلف ( إن انهيار المعركة بين ضباط نصف بدو يسيطر عليهم عقل الغنيمة وجنود بسطاء مؤدلجين ، لم يحصل بسبب الوضع الاجتماعي والأيديولوجي والاقتصادي والمذهبي والعنصري ( عرب وأكراد ) فقط ، بل وأيضا بشكل أساس بسبب النصر الصريح للمتخلف على المتقدم ، البسيط على المدني المتطور والمعقد ) . وفي موضع آخر يشير إلى ( انزواء العقل المثقف الرصين والحر الشجاع ليحل محله مصارعون من مستوى أدنى ) وبقدر ماعبرت الحركة عن التنوع القومي والديني والمذهبي وانحيازها للخيار الوطني الديمقراطي فقد عبرت عن النسغ الكفاحي في تراث وتقاليد شعبنا وتطلعه نحو الحرية فيما عبرت اشتغالات السلطة البعثية العارفية عن منحى همجي يعيد الى الأذهان الصور المعتمة في التاريخ العربي والاسلامي في التعصب وأحادية النظرة والسلوك الوحشي إزاء الخصوم ومازالت أفعالها وممارساتها تمثل وصمة عار في جبين السياسة والعسكرية العراقيتين فكان نظام صدام حسين استمرارا حيا ومولودا طبيعيا لتلك الحاضنة التي أنتجت مخلوقات شائهة فعلت من الخطايا والآثام مايفوق التصور والوصف . وبينما كان أبطال الانتفاضة يتسابقون في ركوب الموت غب فشلها برباطة جأش وجرأة نادرة ( روى شهود أن الجندي صباح إيليا وهو مسيحي آثوري أصر على أن يكون في مقدمة المحكومين بالإعدام استخفافا بالموت وإشهارا لدوره في الانتفاضة ) كان الفاشيست يعدون لفصل جديد من الوحشية فقد كانت تجري خطة تقدم بها عبد السلام عارف وأحمد حسن البكر وعبد الغني الراوي لاعدام جميع الضباط المعتقلين في سجن الرشيد رقم 1 لادراك خطورة وجود هذا العدد الكبير من الضباط رهن الاعتقال وقريبا من السلطة المركزية في بغداد أو يمثل اغراء لقوى أخرى بالانقلاب أو اعلان العصيان أو التمرد ، وقد عارض الخطة بعض أعضاء ( المجلس الوطني لقيادة الثورة ) ، وأمام هذا الاختلاف تفتق العقل البوليسي عن خطة أخرى وهي نفي المعتقلين الى نقرة السلمان ولكن بطريقة تضمن وصولهم موتى إذ أعد قطار حمل مصفح وملوث بالقار من داخله ومحكم الاغلاق من الخارج مشفوعا بتعليمات رحلة اعتيادية أي أن الرحلة ستستغرق عشر ساعات من بغداد إلى السماوة وهذا كاف لاتلاف البضاعة ( البشرية ) بالكامل في نهار تموزي ساخن . لا أحد يعلم من الذي أوحى بتلك الفكرة الجهنمية إلى قيادة السلطة ، ولكن مشهد الثنائي عبد السلام عارف والسفير المصري فهمي هويدي في سيارة مصفحة يوحي بمباركة مصر الناصرية لإجراءات السلطة القمعية وأفعالها الدموية . لقد كانت رحلة قطار الموت واحدة من أكثر المشاهد رعبا في تاريخ عنف السلطة ضد خصومها وهي تنفتح على سجل فظائع النازية والفاشية في امتهان كرامة البشر وابتكار وسائل جديدة في التعذيب والقتل والتنكيل .
في مساء 3 تموز 1963 بعد فشل انتفاضة معسكر الرشيد والحكم على قادتها اقتيد المعتقلون في سجن رقم ـ1ـ عسكريين ومدنيين الذين وردت أسماؤهم في قوائم تم اعدادها من قبل مجلس قيادة الثورة وتضمنت أكثر من 450 ضابطا وضابط صف وسياسيا من مجموع عدد السجناء والمعتقلين البالغ ( 1150 ) وتم ربط أيديهم بالحبال خلف ظهورهم وراح الضباط الذين كانوا بأمرة حازم الأحمر يروحون ويجيئون وهم يكيلون الشتائم والاهانات لهم فيما كان ضباط الصف يعربون عن دعمهم بعبارات التشجيع والتأييد أثناء عملية الربط وأبلغوهم بنقلهم الى سجن نقرة السلمان ، وهكذا عبئوا بسيارات نقل عسكرية الى المحطة العالمية حيث تم توفير قطارات حمولة وأبلغ السائق الذي جيء به في وقت متأخر بعد منتصف الليل واشترط أن يكون متمرسا في القيادة وبسيطا ليس له علاقة بالسياسة وأحوالها بعد ابلاغه عن رحلة مفاجئة الى البصرة لقيادة القطار النازل الذي يحمل مواد حديدية ، على أن هناك بعض التصرفات المثيرة للشك من ترحيل القطار دون تزويد حراسه بمفاتيح اقفال العربات ولذلك اضطروا عند وصولهم للسماوة الى كسر الاقفال واخلائهم المحطة في تلك الليلة من عمالها المدنيين ولم يحضر غير المسؤولين العسكريين وبعض القيادات الحزبية البعثية .
يقول الدكتور رافد صبحي أديب الذي كان أحد ركاب قطار الموت ( شاهدنا بوضوح عبد السلام عارف وطاهر يحيى ورشيد مصلح وعدد من قادة البعث يشاهدون عملية تحميل المركبات بهذه البضاعة البشرية ) وقد كان قطار حمولة لنقل البضائع ، عرباته شبيهة بعلب حديدية صماء محكمة الاغلاق بلا نوافذ ومقاعد وكان المنفذ الوحيد للهواء الخارجي الداخل للعربات هو الشقوق الضيقة جدا الموجودة بين أبواب العربات واطاراتها ، وكانت ثلاث عشرة من عربات القطار الخمسة عشرة عارية من الخارج وغير مبطنة من الداخل الا من طلاء الأرضية وبعض الجدران من الداخل بالقار ، وهكذا تتحول كل عربة الى تنور ساخن يغلي بالمعتقلين فالحديد غير المبطن بتفاعله مع أشعة الشمس سيفعل فعل العدسة المكثفة التي تستقبل النور من أحد وجهيها وتعكسه على وجهها الآخر وحسب التقديرات فإن السجناء سيواجهون الموت بعد ساعتين من سير القطار عند اشتداد حرارة الشمس وامتصاص الحديد للحرارة التي تتمركز في أرضية وجدران العربات المطلية بالقار السود .
على أن الأفكار الشريرة لاتجد تحققها دوما إذ أن تلك الخطة الجهنمية أجهضت بفعل عوامل وارادات انسانية تشير الى ما في تراث شعبنا من نوازع وتقاليد وقيم خيرة منها ما يتصل بقدرة الانسان على التحمل ونزوعه للبكاء والمقاومة بما يجعله في وضع يؤهله لتجاوز محنته وهذا مافعله المعتقلون من خلال الأغاني والأناشيد والاستذكارات دون الاستسلام لحال خانقة ومميتة وكذلك مايتعلق بموقف سائق القطار الذي حين عرف بأمر الحمولة البشرية للقطار وماتتعرض له من أذى واختناق وموت بطيء إن هو واصل السير بتعليمات رحلة اعتيادية فقد تجاوز كل تلك التعليمات والسير بأقصى ما يستطيع لانقاذ أرواح المنفيين ، كما تجب الاشارة الى وجود عدد من الأطباء والصيادلة والكوادر العلمية مما ساهم في التخفيف من آثار تلك المحنة بتوجيه المعتقلين وارشادهم لما يجب التعامل به في تلك الأحوال ولن تنسى نجدة اولئك الذين تابعوا القطار عبر سيره من بغداد الى المحاويل فالديوانية من المواطنين العاديين أو المناضلين الشيوعيين وحتى وصول القطار الى السماوة في الساعة الرابعة عصرا من يوم 4تموز 1963 حتى انتفض أهالي السماوة لنجدة المعتقلين وتوفير شروط انقاذهم ولقد كانت تلك صفحة مشرفة من حياة شعبنا تتضاءل إزاءها صفحات النهب والسلب والتخريب و(الحوسمة) التي وسمت منعطفات هامة في تاريخنا المعاصر . أحسب ان الروائي السوري حيدر حيدر رغم رسوخ تجربته الروائية لم يستطع أن يرتقي إلى شدة الواقعة وغرائبيتها في وصفه لرحلة قطار الموت لأنه لم يعتمد على شهود من داخل الرحلة كما فعل المؤرخ مع الفارق بين الرؤية الجمالية والرؤية الأخرى التي اعتمدت التاريخ والوثائق وإفادات الشهود والمرويات .
في التقرير الذي قدمه هشام الآلوسي الى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي حول حركة 3 تموز 1963 تناول الوضع التنظيمي بعد الضربات التي تلقاها الشيوعون في انقلاب 8 شباط وقوى الانتفاضة وتركيبها الاجتماعي ومدى ارتباط الانتفاضة بالحزب والقنوات التنظيمية التي سعى الحزب من خلالها للاتصال بقادة الحركة وتقييمه لخطتها والثغرات الكامنة فيها ومن أسباب الفشل كما يرى التقرير ضعف القيادة العليا للحركة وعدم وجود ارتباط مع قيادة الحزب ولم تكن هناك حدود تنظيمية بل كانت مجاميع ثورية من شيوعيين وغير شيوعيين وليست هناك صلات موحدة وضعف الضبط الحزبي وعدم وجود روابط كافية بين المكلفين باسناد قوات الجيش من المدنيين وبين قيادات الوحدات العسكرية وهذا ما أدى الى فشل الانتفاضة في ساعاتها الأولى رغم ماتوفرت عليه من تأييد في صفوف العسكريين وتعاطف قطاعات واسعة من الشعب المفجوع بآلام الانقلاب الفاشي وتداعياته الخطيرة . ومن الأسباب التي أدت الى فشل الانتفاضة عسكريا كذلك ـ كما يشير التقرير ـ ضعف قيادة المعسكرات وعدم تنفيذ الخطة في التحرك الأول حيث ركزت الجهود في البدء على الباب الرئيسي لمعسكر الرشيد بينما بقيت الفقرات الأخرى في الخطة رهنا بتلك البداية المتعثرة ثم مقاومة حرس السجن وضعف معالجتها مما حسم الموقف لغير صالح الانتفاضة وكذلك ضعف خبرة الجنود والمراتب القائمين بالحركة الأولى بالمسائل الفنية إذ لم يستطع بعض الجنود حتى استخدام رشاش ضخم أو استخدام نوع من الرمانات والاعتماد على تحرك جزئي ، فلو استخدمت الحركة كل قواها لتغيرت النتيجة بالتأكيد .
ويبقى كتاب ( البيرية المسلحة ) لمؤلفه د . علي كريم سعيد تمثيلا رائعا للكتابة التاريخية المنزهة عن الأغراض والمقاصد الضيقة والتعسف في الأحكام ولي أعناق الحقائق لكي تتطابق مع رؤية المؤرخ أو الكاتب ، والمنحازة لحرية البحث العلمي دونما إملاء أو وصاية أو أحكام مسبقة ، ولقد توافرت لدى الكاتب مادة وثائقية وشهادات حية فضلا عن استقصاءاته المثابرة لجوانب الحدث التاريخي مما أوصله الى اصدار أحكام موضوعية والتوصل الى استنتاجات على قدر عال من الدقة والعلمية . قدم لنا الباحث الراحل عدداً من المساهمات الجادة في اضاءة تاريخنا المعاصر واغناء المعرفة التاريخية التي تشكل ركنا هاما في ثقافتنا الوطنية ، وبناء تشكيلة معرفية تتوفر على أدوات علمية في البحث والاستتقصاء وبناء الأحكام .
في ذكرى انتفاضة الرشيد يجدر بنا أن نقف اجلالاً واكباراً لأولئك الأبطال الذين صاغوا بجسارتهم وأحلامهم الكبرى ملحمة مجيدة من ملاحم الكفاح من أجل الحرية ومقارعة الفاشية ، وأن نشير لتلك اللمحات النادرة في تاريخ شعبنا . ثلة من بسطاء الشعب المهمشين ، جنود وصنّاع وخبازين وحرفيين بمساندة حزام الفقر في بغداد والتنظيمات الثورية في المحافظات الأخرى يقترحون تعديلاً لمسار التاريخ ولجم قوى الردة وانهاض الحركة الثورية من كبوتها وهي تجابه فصولاً دامية من القتل والأبادة والتشرذم وصنوفاً من القهر والتعسف والموت البطيء في السجون والمعتقلات . هي مغامرة واقعية مترعة بالرومانسية الثورية والبطولة الإنسانية أملتها المرارة والسخط الشعبي المتعـاظم ازراء فظاعات الأنقلاب الأسود ودفعت بها الروح الثورية التي ما برحت تتوثب في معسكرات الجيش والأحياء الشعبية والأرياف والتحشدات العمالية والمدارس والمعاهد والكليات هي محاولة لتصحيح الإخفاق الذي منيت به الحركة الثورية ( الحزب الشيوعي العراقي ) خارج الأطر النظرية المعهودة وخارج مداولات الأنتلجينسيا والأنساق الأيديولوجية المهيمنة .
وحين تقدم قيادة الأنتفاضة تشكيلتها للحكومة فانما تعبر عن إدراكها لضرورة استكمال المشروع الوطني الذي دشنته ثورة 14 تموز 1958 وتعميق مساره الديمقراطي فالتشكيلة المقترحة تضم الراحلين الكبار : كامل الجادرجي ومحمد حديد وفيصل السامر ومحمد مهدي الجواهري وابراهيم كبة وهي ان دلت على شيء فانما تدل على تجذر الوعي الوطني لدى رجال الأنتفاضة وسموهم الأخلاقي ونزاهتهم وانحيازهم للمصالح الوطنية بينما تتردى النخب الحاكمة في عراق اليوم بعد أكثر من أربعين عاماً في نفق المساومات والتسويات والمحاصصات الكريهة لأقتسام (كعكة) البلاد وتوزيع المناصب والمزايا والأمتيازات بين الأقارب والأتباع والموالين وتحويل الوظيفة العامة الى مغنم شخصي أو عائلي أو حزبي وإنعاش دورة الفساد واقتصاد الغنيمة والتفريط بمقومات الدولة الحديثة لحساب أولوية المصالح الضيقة والولاءات التقليدية وإهدار الضرورة الملحة للأعمار والنهوض وتصفية التركة الثقيلة للنظام الدكتاتوري المقبور .
يا لمكر التاريخ وأسفاره المدهشة !!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (يمكن تقصي الدور المصري في السياسة العراقية من 1958 إلى عام 1968 في عدد من المصادر وآخرها سلسلة مقالات للدكتور سيار الجميل في جريدة الزمان في صيف 2003 )



#قاسم_حنون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البديل الديمقراطي في العراق -عقبات وتحديات-


المزيد.....




- بعد ارتفاع أسهم تسلا عقب الانتخابات الأمريكية.. كم تبلغ ثروة ...
- وزير الخارجية الفرنسي: لا خطوط حمراء فيما يتعلق بدعم أوكراني ...
- سلسلة غارات عنيفة على الضاحية الجنوبية لبيروت (فيديو)
- هل تعود -صفقة القرن- إلى الواجهة مع رجوع دونالد ترامب إلى ال ...
- المسيلة في -تيزي وزو-.. قرية أمازيغية تحصد لقب الأجمل والأنظ ...
- اختفاء إسرائيلي من -حاباد- في الإمارات وأصابع الاتهام تتجه ن ...
- أكسيوس: ترامب كان يعتقد أن معظم الرهائن الإسرائيليين في غزة ...
- بوتين يوقع مرسوما يعفي المشاركين في العملية العسكرية الخاصة ...
- -القسام- تعرض مشاهد استهدافها لمنزل تحصنت فيه قوة إسرائيلية ...
- للمرة الأولى... روسيا تطلق صاروخ -أوريشنيك- فرط صوتي على أوك ...


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - قاسم حنون - في الذكرى 45 لانتفاضة معسكر الرشيد