|
قراءة في السلوك الإرهابي بالمغرب
عبد الرحمان الزكريتي
الحوار المتمدن-العدد: 2329 - 2008 / 7 / 1 - 10:40
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يعرف مفهوم الإرهاب رواجا كبيرا ومتزايدا في الخطابات السياسية والفكرية على المستوى الدولي منذ أحداث11 سبتمبر، إلا أن دلالاته ما تزال متعددة ومتقاطعة مع العديد من المفاهيم الأخرى كالمقاومة والجهاد والفداء والتطرف الديني وحتى الإسلام نفسه أحيانا... لذا فإن استعماله في أي خطاب يبقى ملتبسا بالتباس المصالح السياسية المتناقضة دوليا ووطنيا ومحليا. إذا كان الجميع يتفق على ارتباط الإرهاب بقتل المدنيين العزل أو ترهيبهم، فإن شيوع حصره في التطرف الإسلامي يعود لكثرة استهلاكه بهذا المعنى من قبل وسائل الإعلام وأصحاب القرار السياسي، على المستوى الدولي. فالإرهاب يمكن أن يمارس بعناوين مختلفة، ويمكن أن يتقنع بخطابات متعددة، وينطلق من مرجعيات متباينة ومتناقضة أحيانا. إذ يمكن أن يمارس أيضا من وراء يافطة نشر الحرية والديمقراطية وقيم السلام. لذا فإن الاهتمام بتصنيفات الإرهاب، وإنتاج خطابات تسويقية تتغيا الإثارة والتشويق يبعدنا عن فهم الظاهرة، ويسطح التفكير فيها. إن إلباس الإرهاب والسلوك الإرهابي طابع الغرائبية والشذوذ لا يسمح بإدراك الأسباب والدوافع، والمرجعيات والآثار المرتبطة به. وتسويق الخطاب الأمني والأخلاقي، وكذا التوظيف السياسي للأحداث العنيفة التي تستهدف المدنيين بلغة التجريم، يضيق أفق التفكير لفهم الظاهرة/ الخلل!. إن هذا المقال ليس مجالا لتأصيل المفهوم وتتبع تطور دلالاته عبر الزمان والمكان. بقدر ما هو مساهمة بسيطة في التعاطي، مع أحداث الدار البيضاء التي هزت الواقع الأمني والسياسي بالبلد، كما هزت الوجدان الاجتماعي المغربي مؤخرا. فتباينت التحليلات بين متفائلة ومنوهة بالسلطات والإمكانات الأمنية بالمغرب، ومتشائمة بعودة الرعب لأزقة وشوارع ومؤسسات المجتمع المغربي. هذه التحليلات التي تباينت منطلقاتها واهتماماتها ومرجعياتها الفكرية والإيديولوجية، حاولت التعامل مع ظاهرة الانتحار، الوعي أو اللاواعي، الطوعي، بمعادلات سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية متنوعة، متقاربة حينا ومتباينة أحيانا. وعلى مستوى التحليل السوسيولوجي طفت مفاهيم الفقر، والتهميش، والإقصاء، وضعف التمدرس والتكوين الثقافي. وصارت الأكثر تداولا من قبل المحللين الاجتماعيين. إلا أن ترتيبها وانتقاء الأهم منها لتفسير الظاهرة ظل موضع الاختلاف بينهم. وإذ يصعب تغييب أحد هذه العناصر من جملة العوامل الكامنة خلف سلوك الانتحار. فإن محاولة ترتيبها حسب الأهمية ينطوي على مخاطر ابستمولوجية كبرى. ولهذا يمكن القبول بهذه الأجوبة المؤقتة، إلى حين تملك جرأة وقدرة على الاحتكام العلمي البارد للميدان، و اقتحام الظاهرة بالسؤال السوسيولوجي والدقيق. إن مجرد قراءة سريعة في الواقع الاجتماعي الذي خرج الانتحاريين بالواقع المغربي يحيلنا على مجموعة من العوامل التي تبدو مشتركة بينهم جميعا. وهي الفقر والعوز. فأغلبهم خرج من دوار "السكويلة" القصديري بالدار البيضاء، الذي يضم وسطه مختلف مظاهر البؤس الاقتصادي والمادي. وأغلبهم عاش حياة طفولة مضطربة. غاب فيها دور الأسرة وحميمية العلاقات الداخلية فيها. وأغلبهم صارع الحياة من موقع الضعف، فلم يدركها إلا كمجموعة فارغة من أي معنى، ومفتقدة لكل عناصر الجاذبية والإغراء. أما العنصر الثاني الذي يثير الاهتمام، فهو الجهل (والجهل ليس الأمية)، إذ أن قسوة الظروف الاقتصادية والاجتماعية ضيقت فرص إدراك العالم بشكل أوسع لدى هؤلاء الشباب، ولم ينفتحوا إلا على جانب ضيق من تجارب الحياة الاجتماعية، كان عنوانها البؤس والانحراف والاستغلال والسلبية...، مع ما يوازي ذلك من بساطة في التفكير والإدراك والتحليل. فأمام واقع الفقر تصمت مختلف الروادع الأخلاقية والدينية، وفي واقع الجهل والسذاجة تنشط الخطابات السطحية والدوغمائية. فتقولب الواقع في شكل متناقضات لا تقبل التعايش لتحول الحياة إلى حرب ثنائيات سياسية وعقائدية مطلقة (جند الله / جند الشيطان، الإسلام /الجاهلية، الحق/ الباطل، الخير/ الشر...). وحتى لا نتيه في نقاش حول ما إذا كان سلوك الإرهاب بالمغرب هو فعل أم رد فعل، يمكن القول أن واقع "الفساد" وتناقض المصالح يسمح بإنتاج مرجعيات متعددة تستند إليها الفئات الضعيفة في المجتمع، فتستمد منها شرعية و أشكال احتجاجها على الوضع السائد. كما يكون من السهل احتواء هذه الفئات الضعيفة والباحثة عن اعتبار معين، من قبل تيارات ومرجعيات معارضة بدورها لما هو سائد، واستغلال أزمات الفئة المقهورة قصد تحقيق أهدافها الإستراتيجية التي تتجاوز الواقع البسيط الذي تصوره للبسطاء المندفعين والمتحمسين للتضحية. وهذا الاستغلال يصل أقصى درجاته حين يقوم على تصوير معركة المصالح المتضاربة بين النخب بمثابة معركة وجود اجتماعي بالنسبة للفئة المتضررة البسيطة. وتكون المعركة أقسى كلما أضفيت عليها عناوين القداسة. إن واقع الضعف وإدراك هذا الضعف، هو واقع الإحساس بالدونية وانعدام الاعتبار الاجتماعي. وأمام انحصار فرص إثبات الذات داخل الحقل الاجتماعي، يصبح العنف وسيلة الضعيف لتحسيس الآخر بقدرته ووجوده. كما أن الإحساس بقدسية الذات ودنس الآخر، يشجع ويقوي الدوافع التدميرية ضد هذا الآخر. فحتى لا نتسرع في إسناد المسؤوليات بخصوص السلوك الإرهابي، وحتى لا نتقوقع داخل نماذج جاهزة من التحليل، يجب استحضار كل المتغيرات الداخلية والخارجية التي تتغير معها حدود المعادلة الاجتماعية في الزمان والمكان. فإذا كان الفقر والجهل يشكلان تربة خصبة داخليا لنمو السلوك الإرهابي، فإن واقع الفساد الأخلاقي والسياسي داخل المجتمع يغذي تكاثره. كما أن معطيات المحيط الخارجي قد تكسبها القوة من خلال دعمها ماديا ومعنويا، أو إلهامها باستراتيجيات جديدة تمنحها القدرة على الاستمرار. من خلال كل ما سبق نستطيع القول بأن المقاربة الأمنية قد تلعب دورا في التخفيف من حجم الألم، ولكنها لن تلعب دور العلاج أو الوقاية. فقد تنجح في توقيف وقتل إرهابيين ولكنها لن تقضي أبدا على الإرهاب. فالعمليات الانتحارية قد نفذها شباب مغربي انتحرت جاذبية الحياة في واقعه. فكان العنوان المشترك بينهم جميعا كان هو الانتحار الجسدي، في أبشع صوره، أمام عامة الناس أكثر منه استهدافا لعامة الناس. خصوصا وأن أغلبهم كان بإمكانه وضع حد لحياته في وسط الحشود الموجودة بالأماكن العامة، والتي اختفى في وسطها بعد تعذر وصوله للهدف المقصود. إن التجربة الإرهابية المغربية ، تبقى تجربة فريدة وشديدة الارتباط بالشروط الاجتماعية والموضوعية التي نشأت فيها. فهي مرتبطة بواقع الفقر المادي و القيمي و المعرفي، وبواقع الفساد الأخلاقي والسياسي والاجتماعي. لذا فإن محاربة الإرهاب بالمغرب يعني محاربة الفراغ الذي ينفذ من خلاله الفكر الإرهابي أولا، ومحاربة الأزمات الاجتماعية التي تدفع لاسترخاص الحياة الإنسانية لدى الشباب ثانيا. وهذه مسؤولية جماعية محورها إعادة النظر في أدوار مؤسسات التنشئة الاجتماعية، من أسرة ومدرسة ومجتمع مدني ومؤسسات اجتماعية تقليدية، لإعادة توجيهها وفق القيم الدينية والأخلاقية الأصيلة للمجتمع المغربي من جهة، والعمل على التخفيف من التناقضات والاختلالات التي تخترق قيمة المواطنة المغربية حقوقا وواجبات. أما خطاب وسلوك التجريم والرفض والإقصاء فلن ينتج إلا خطابا وسلوكا مضادا قوامه التجريم والرفض، و محاولة الإقصاء المضاد. إن السلوك الإرهابي في طبعته المغربية يدفع لفتح ورشات نقاش متعددة الاهتمامات والتخصصات. فهو قد كشف عن نفسه كشكل من الاحتجاج المنطلق من مواقع الضعف. بعيد إلى حد ما عن التعبير عن انتفاخ للذات وادعاء للفوقية والاستعلاء. وهو إن كان يتبنى الخطاب الديني المتطرف فقد يكون من قبيل التسرع، اعتباره قناعة محركة، خصوصا وأن أغلب المنتحرين عاشوا حياة أسرية فاشلة، ومنهم من هو قريب العهد بتعاطي المخدرات. لذا يمكن الانتهاء إلى القول أن السلوك الإرهابي بالمغرب كمن يتجه نحو هدم المعبد القائم دون أن يهيئ لنفسه خطة واضحة للهدم، أو حتى أي فكرة عما يريد بناءه على أنقاض هذا المعبد لو نجح في هدمه!!. وعودا على بدء..، فسلوك الإرهاب يمكن أن يمارس بأشكال متعددة و تحت غطاء مرجعيات كثيرة ومتناقضة أحيانا. وقد يكون عنوان محاربة الإرهاب إحد أهم العناوين التي يمكن أن يبادلها أو يزاحمها الموقع أيضا.
#عبد_الرحمان_الزكريتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثلوج الأولى تبهج حيوانات حديقة بروكفيلد في شيكاغو
-
بعد ثمانية قرون من السكون.. بركان ريكيانيس يعيد إشعال أيسلند
...
-
لبنان.. تحذير إسرائيلي عاجل لسكان الحدث وشويفات العمروسية
-
قتلى وجرحى في استهداف مسيّرة إسرائيلية مجموعة صيادين في جنوب
...
-
3 أسماء جديدة تنضم لفريق دونالد ترامب
-
إيطاليا.. اتهام صحفي بالتجسس لصالح روسيا بعد كشفه حقيقة وأسب
...
-
مراسلتنا: غارات جديدة على الضاحية الجنوبية
-
كوب 29: تمديد المفاوضات بعد خلافات بشأن المساعدات المالية لل
...
-
تركيا: نتابع عمليات نقل جماعي للأكراد إلى كركوك
-
السوريون في تركيا قلقون من نية أردوغان التقارب مع الأسد
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|