|
وجودية نزيه أبو عفش في (أهل التابوت)..
نادين باخص
الحوار المتمدن-العدد: 2307 - 2008 / 6 / 9 - 07:38
المحور:
الادب والفن
قد يحتاج كتاب(أهل التابوت) إلى أكثر من قراءة أو قراءتين ليتمكّن القارئ من فهم رسالته، و إسقاط تهمة الكلام المكرّر بلزومٍ و غير لزوم عنه.
فقد يضيق ذرعاً بكم الزواحف التي يتعثّر بها في طريق القراءة، لكنّ نظرةً تأملية في صميم روح الشاعر التي أبدعت هذا الكتاب، لابدّ أنْ تكشفَ له أنّه- و مع تعدّد نصوصه- بمثابة نصٍّ واحد ينتمي إلى الفلسفة الوجودية بامتياز، «فالقلق و المسؤولية و موقف الإنسان في العالم، و الحرية و الفعل الخالق:هذه كلها هي المعاني الكبرى التي تنطوي عليها الوجودية»،و هذه كلها هواجس تكتنف الشاعر، فيضمنّها نصوصه المعتمة في هذا الكتاب، و ما عتمتها إلاّ لأنَّ الشاعر يستند - في وجوديته المُبدِعة- إلى صداماته مع العالم، و صداماته منه، فمن الواضح أنّه بات يفتقر للفطرة الأولى التي خُلِقَ عليها، ما يجعل حياة الشاعر ظلاماً و موتاً لأنّ إيمانه أنّه خُلِقَ ليكون على تلك الفطرة، أما في حال غيابها، فلا حياة، و هو في ذلك يعيش جوهر الوجودية، ذلك أنّ «العصب الرئيس لها هو أنّها فلسفة تحيا الوجود، و ليست مجرد تفكير فيه». يقول قاصداً الأمهات:
« نصغي إلى أنين الظلام الذي خلّفناه في أرحامهن
الشقيّة.. إلى عويل هواء الخريف الذي حرّكناه، بلا ندم، يوم قذفتنا
آلامهنّ إلى الحياة:
...
هناكُ على سرير الأرض، سرير أمهاتنا، سريرِ اللطافة
و الورد و النور و الغفران.. هبطنا إلى الحياة»
هكذا يقرّ أبو عفش ولادة البشر، فوق سريرٍ ما هو إلا الأرض التي يصفها طوراً بجدّته، و طوراً آخر بأمه الأولى، فهو يكرز ببشارة تبتعد بالإنسان عن القيود التي كبّل نفسه بنفسه بها، و بشارته هذه تدعو إلى التخلّص من قولبة الله في شرائع محدّدة، و الانطلاق إلى الحياة الأم، الحياة التي خلقها الله مطلقة و غير متناهية الاحتمالات:
و ما تكرارُ صفة (الأولى) في شعره، إلا من باب هاجسه نفسه في الحنين إلى الفطرة التي خُلِقَ عليها الإنسان:
« فأطرقُ الظلامَ كي أعبدَ ما يفيضُ عن لؤلؤة اللطافة الأولى»
و يقول:
« أستحضرُ الفطنة من طلاسمِ العبارة الأولى ».
و كذلك من باب عشقه لأمه الأرض، أو جدَّته كما يصفها في القصيدة الثانية (يوم قادتني جدتي لنشهدَ هبوطَ الموتى):
« و كنتِ تشبهين، بصمتكِ و بهائكِ، القديسة مريم
الأولى...»
ذلك هو ما يفعله النهج الوجودي في الإنسان، تصبح الشجرة خالته ، و الدودة أمّه الأولى، و الأرض جدّته، و الثعبان حفيده، و النحل صديقه.
لقد رأى رائد الوجوديّة (كيركجور)، «أنّ الإنسان بوصفه الذات المفردة هو مركز البحث، و أحواله الوجودية الكبرى مثل الموت و الخطيئة و القلق و المخاطرة... هي المقومات الجوهرية لوجوده، و الحرية و المسؤولية و الاختيار هي المعاني الكبرى في حياته» و نزيه أبو عفش لا يخرج في كتاب (أهل التابوت) عن هذه الرؤية في شيء، إذ يبتدئ كتابه بالكلمات الآتية:
«منذ زمن و أنا أحفر في هذا الظلام الوَحِش،
لا أحفر بحثاً عن مفاتيح قلاع أو كنوز مدنٍ ميتة،
...
لا، بل أحفرُ الظلامَ كي أُبصرَ أسمائي في آخره..
أحفرُ كي أنظِّفَ المرآة من غبارها الأبكم..
أحفرُ الغيابَ كي أرى
شهوةَ نفسي حيّةً في صدأ الغيابْ».
إنّ فعلَ الحفر و أدواته لدى نزيه أبو عفش، دائماً يتجاوز معناه المعجمي إلى معنى البحث عن الحقيقة، و اكتناه الذات البشرية و فحوى الوجود، يقول:
« و ليس لديّ من النور سوى هذا الإزميلِ»
فالإزميل هنا انزاح عن كونه أداةً من أدوات الحفر، إلى معنى البحث.
و في المعنى نفسه يقول:
« لا شيء سوى النور.. و أني
لا أملك من أدوات النور سوى روحي»
حيث أسبغَ على الروح الإنسانية نعمةً هي من فضل الله على الإنسان أساساً، و هي نعمة البحث عن الحقيقة و الوصول إليها.
و لأنّ الوجودية تقوم على الذات المفردة للإنسان، و على تطرّف الفرد في تأمّله لذاته، و ذات الوجود كما حال الشاعر، فإنّ أحاديةً في الوجود تُلحَظ في (أهل التابوت)، أي اختفاء أحد قطبي الوجود البشري، و هو الأنثى، و ربما إلى هذا تعود النظرة المعتمة للحياة، فقد صبغت الظلمات عيني الشاعر. حتّى عندما حضر الضمير المؤنث في إحدى صفحاته، وُجِدَ الشاعر يماهي بين الأنثى و الورقة، بحيث يلتبس على القارئ إنْ كان يقصد أنثى ما، أم ورقة:
« كأني لم أحرث من قبلُ..
و لم أطرق هذا البابَ الغامض من قبلُ،
أردُّ لُحافَ العميانِ على شهوةِ نفسي
و أواصلُ حرثي الماكرَ
كي أُطفئَ شهوةَ هذي الأنثى البيضاءْ»
فصحيحٌ أنّه استعار مفردات تشير إلى العلاقة الجسدية التي تربط الرجل بالمرأة، إلاّ أنّ ذلك ليس سوى خدعة فنيّة من خدع الشاعر، تمنح النصّ شعرية عالية، و تتناول فكرة (الكتابة على الورقة البيضاء) بطرافةٍ و توهّج.
و تتداخل في (أهل التابوت) مفهومات الموت و الحياة و الشعر، على نحوٍ يوصل الشاعر عبره رسائل عدّة، تصبّ جميعها في المصبّ نفسه، فهو الإنسان الذي يعيش حياته شِعراً، لكنّ الحروب، و جشعَ البشر، و أشياء كثيرة تعادي الإنسانية، تجعل الموت هو السيّد:
« أنتم غريبون حقّاً، و لا تستحقون نعمةَ هذي الحياة التي
تتهشم بين مخالبكم و نعالِ سلاطينكم.
أنتمو بشرٌ تقتلون الحياةَ لتلهوا بأنقاضها»
و يعلن الشاعرُ في مطلع الكتاب أنّه في أثناء بحثه الوجودي، يكون الحبر أداةً من أدواته:
« أحفرُ.. لا مستعجلاً و لا ملولاً،
ثمّ أنفخُ الحياةَ في الحبرِ.
_ إذن: أحفر.
بل أحفر كي أرى
ما لا يُرى بعينِ القلب:
أحفرُ كي أراني»
لكنه يعود في لحظة يأس ليعلنَ عكسَ هذا:
فـ... لماذا إذن أشعر الآن أني حزين؟...
ألأني تعبتُ من السيرِ في جنّتي_ جنّة الميتين...؟
أم لأني
ضِقْتُ ذرعاً بنفسي
و ضجرتُ من الشعرِ_ فاكهةِ الميتين...؟
و بكاء الشاعر غزيرٌ في الكتاب، لكنه بكاءٌ يشبه بكاء الأنبياء، و منفتحي البصيرة، و في هذا تصوّفٌ و روحانية لا يخرجان عن مغزى الوجودية:
« نتدحرج إلى حيث تقودنا الأوهامُ.. و نبكي:
من الضجر أحياناً..
و من الحنين أحياناً،
أحياناً من آلامِ الشعر
و أحياناً لأننا نعرفُ "أنّ العالمَ كلّه على خطأ»!
لقد كان الشعر قدرَ نزيه أبو عفش، و قد عاش متعةَ الكلمة، و نشوةَ الحبر مراراً، حلمَ كثيراً، و انتظر تحقّق الأحلام، لكنّه فُجِعَ حين اكتشفَ سيادةَ الظلام:
«أنا الذي حين كنتُ كجميع الحالمين،
أصرخُ: يا وطنْ.. يا وطنْ..
ما كنتُ أعرف أنّ بلادَ الله ضيقة إلى هذا الحدّ
و أنّ الشعراء ليس لهم وطن
غيرَ القبورِ و المحابر..»!!
هكذا يدخل الموتُ في(الحياةِ- الشعر)، حتّى يلتبسَ معنى الأحياء، فأهل التابوت هم أهل هذي الحياة، و الأمواتُ هم أبطال هذا الكتاب الذي كثيراً ما يعدم قارئه التمييز بين الأحياء و الأموات فيه:
يرقدُ الميتون إلى جانبي في السرير و لكنّهم لا ينامون / ص37
و اللافت بقوة في هذا الكتاب، هو ثنائية(الجمال و الضعف) التي تشكّل هاجساً يظهر جلياً في روح الشاعر، و ينعكس في نصّه بتكرارٍ ملحوظ، حيث يظهر(الجمال)، و(الضعف) مقترنين على طول كتاب(أهل التابوت):
داوِ حديدي بحليبِ الضَّعف
داوِ حيرتي بحيرةِ الجمال / ص11
و يقول كذلك:
جئتُ أصلّي لإله الضعف
جئتُ أعبدُ الجمالَ صامتاً / ص13
و ليست هذه الثنائية التي ينحاز إليها الشاعر بقوّة، إلا سعادة الإنسان في حال تحقّقها، و تجسّدها فيه، إذْ هذا ما شاءه الله للإنسان، فخلقه جميلاً بضعفه:
أشمُّ طعمَ الصلواتِ، الندمَ، الغفرانَ..
و الضَّعفَ الذي صيّرَهم آلهةً:
أرى الجمال. / ص14
و يقول:
و أنا ساكتٌ في السديمِ الأصمّ
هادئٌ و ضعيف.. كما شاءني الله.. / ص53
و يقول:
أهلُ الحبرِ الضعفاءْ
ما أجملهم! / ص14
غير أنّ مصطلح (الضعيف) قد يُفهَم على معنى سلبيّ نظراً إلى أنّ الضعفَ مذمّة في الإنسان، إلاّ أنّ الشاعر قصد به(الفطرة)، أو البساطة الأولى، فقد بات معروفاً أنّ فكره يتّجه نحو الطبيعة البكر، و الأرض الأمّ بكلّ ما فيها من مخلوقات صغيرة قبل الكبيرة، و فكره المُشكَّل من عجينة الحياة و المخمَّر بخميرة الكتاب المقدّس، لا يكفّ عن ترديد مقولة أنّ أسما اكتشاف لقوّة الخالق الهائلة، هو في تأمّل مخلوقاته الضعيفة، صغيرة الحجم:
«اجعلوا قلبكم يقظاً في الظلام
لكي تسمعوا نأمةَ الكائنات الضعيفة تشهقُ في نومها
انظروا... حيث ترعى الحلازين في باطن الأرض
كي تفهموا لوعةَ الطين من حولها»
لكنْ، و بما أنّ مناخ الظلمة يعمّ الكتاب منذ الغلاف الأمامي حتّى الغلاف الخلفي له، فالحياة تحوّلت إلى ساحة حرب دموية لا نهاية لها، فلابدّ إذن أنْ يختلّ طرفا معادلة السعادة في الإنسان(الضعف و الجمال)، ليعمّ الحزن:
أرى الضّعفَ مُنْتَبَذاً... و الجمالَ حزيناً!
و يقول:
يا إله السماء...
ردّني خائباً و ضعيفاً كسابقِ عهدي
رُدّ الجمالَ القديم، و شوقَ اليتيم إلى الحبّ.
إلاّ أنّ ملاحظة تركيز الشاعر على التأمّل في المخلوقات الضعيفة، تقودنا إلى ملاحظة أُخرى، و هي نزعة قَرْن البشر بالحيوان، و بعناصر الطبيعة، و من شواهد هذه النزعة:
عِمْ يا جدي الظلامَ..
يا أرضُ عِمي..
و عِمْ أخي الدودَ.. / ص10
و يقول:
و يدي تقرأ في أنفاسِ الديدان شقاءَ الناسِ_الديدانِ / ص21
و أيضاً:
و تحطّون من قيمةِ الدودِ و هو شبيهٌ بكم:
هو أوّل أسلافكم، و الوريثُ الأخير. / ص41
و في موضعٍ آخر يقول:
الذئابُ بشر
و الغرابُ بشر
و الصنوبر و التين و الماء و الأفعوان
و رائحة الورد، و الحلزون..
...
كلّه بشرٌ مثلكم
فيه منكم حنانٌ قديم و توقٌ إلى أوّل النور..
فيه جميع فضائلكم
...
فيه عواطفكم كلّها:
...
فيه بعض حرارة أنفاسكم حين تحتضنون النساء
و شهقةُ أبدانكم للجمال.. / ص 41 ، 42
و أمثلة هذا كثيرة في الكتاب.
إنّ نزيه أبو عفش من الشعراء الذين أبدعوا أدباً وجودياً ذا اتجاه ديني، و الذي مثّله في أتمّ صوره جبرييل مارسيل، في حين مثّله جان بول سارتر في اتجاه مضادّ لا تجاه جبرييل، إذْ أبدع بمعزلٍ عن كلّ شعورٍ ديني.
و يبقى أنّ (أهل التابوت) كتابٌ يُطرَق من جوانب عدّة ، و يستفز لأكثر من قراءة .
#نادين_باخص (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رائحة القرفة ل (سمر يزبك) حين تكون الكلمات سلعاً مهرّبة ..
المزيد.....
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|