|
(حين ميسرة)... إبن يوسف شاهين ألبار يعتذر للناس
محمد جبار الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 2298 - 2008 / 5 / 31 - 09:44
المحور:
الادب والفن
علامات استفهام كبيرة قادتني الى هذا الفلم ...فقد واجهت الفلم موجة من الإنتقادات والإعتراضات والرفض من قبل النقاد ورجال الدين حتى وصلت إلى المطالبة بمحاكمة ممثلتين في الفلم (فقد اعطت اللقطات الدعائية التي بثتها القنوات الفضائية رسالة مشوهة عن الفلم ) فمن يشاهد تلك اللقطات يعتقد أنه إزاء فلم يتحدث عن الشذوذ الجنسي عند النساء وانه يشجع على الرذيلة فكان لزاماً عليّ إطفاء علامات الإستفهام تلك بمشاهدة الفلم بلا آراء جاهزة وبموضوعية تامة .. وبدأ الفلم...وانسابت اللقطات ومنذ اللقطة الاولى تتبدد الفكرة المسبقة فالمشاهد يحس منذ البداية ان للفلم خط واضح وموضوعة مهمة يريد طرحها بشجاعة .....تعودنا ان اللقطات في التايتل غالباً ماتكون لقطات عامة جداً أو كما نطلق عليها في السينما لقطات تأسيسية وغالباً ماتكون لقطات عشوائية للمدينة غايتها التأسيس لمكان وزمان الأحداث ألتي ستحصل أو في بعض الأفلام يكون التايتل والمقدمة فيها صور للممثلين تتحرك بطريقة فنية خصوصاً ان أهمية التايتل تكمن في إبراز أسماء الممثلين والعاملين لكن في هذا الفلم الامر يختلف فمنذ اللقطات الاولى تتكون عندك فكرة مسبقة عن موضوعة الفلم وما سيطرحه فهو يعطي للمشاهد جرعات معلوماتية بواسطة لقطات قريبة للصحف والتي تحوي معلومات احصائية عن عدد المواطنين الذين هم تحت خط الفقر وعن اعداد المشردين وعن إستخدامهم المقابر للسكن ويكثف عدد اللقطات العامة للمناطق العشوائية السكن لأناس بنوا كيفما اتفق بيوتاً صغيرة جدا وُتظهر اللقطات بؤساً واضحاً ومعاناة مريرة , ويتنقل بحرية بين حجوم اللقطات المتعارف عليها بإنسيابية مريحة وبطرق فنية كلقطة قريبة جدا على جريدة تحوي المعلومات التي ذكرتها آنفاً ثم يركز على صورة في الجريدة وتتحول هذه الصورة الى لقطة عامة حيّة للمساكن يعطيها الحياة بحركة بانورامية للكاميرا وهكذا كل هذه المعطيات والفلم ما زال في مرحلة التايتل، من خلال هذه اللقطات والمعطيات يفهم المشاهد ان موضوعة الفلم ستكون عن الفقر والتشرد وأثرهما على المجتمع ...ثم يعطينا قبيل نهاية التايتل زمان ومكان الفلم الإفتراضي وهو القاهرة عام 1990 وهو إختيار موفق لما شهد هذا العام من أحداث مهمة وعواصف عربية لامثيل لها في التأريخ العربي فهي تبدأ بأجتياح العراق للكويت ثم التحشيد من قبل الكثير من دول العالم والعربية منها لتحريره وبالتالي محاربة العرب لدولة عربية لاخراجة من دولة عربية احتلها !!! (وستوظَف هذه الأحداث السياسية فيه لخدمة بنية الفلم الدرامية بشكل ذكي ومتقن) , فنحن ازاء خطين للفلم خط رئيسي وهو الخط الواضح وهو لحياة سكان المنطقة العشوائية البائسة والضياع الذي يلفهم وخط ثاني خفي يظهر بين الفينة والأخرى وهو خط الأحداث السياسية الكبيرة التي القت بظلالها على تلك البقعة الصغيرة والمعدمة في القاهرة وهذا الخط يتحرك بموازاة الخط الأول وقد استغله المخرج إستغلالاً متقناً لتصعيد الأحداث بإشارات رمزية معبرة, وسنرى بعد حين كيف تعشّش الجريمة والمخدرات والزنا وكل ماهو مرفوض اجتماعياَ ودينياَ في المجتمعات السويّة وسنرى ايضاً الأطفال المشردين الذين يسكنون مناطق مهجورة بلا بيوت أو سقف يحميهم وكيف يقتاتون على الفُتات وكيف تحركهم غرائزهم بطريقة بهيمية (بحيث لايعرفون من هو ابو الولد الذي ولدته احدى الفتيات) تماماً كالقطط التي تسكن المقابر والمناطق المهجورة وتتكاثر عشوائياً .... فالمجتمع العشوائي له قوانينه الخاصة وتقاليده الخاصة واعرافه الخاصة التي تكون بعيدة كل البعد عن العرف الإجتماعي والديني المتعارف عليه. هذا هو الإنطباع العام الذي يعكسه واقع الفلم في رؤيا يغطيها التشاؤم واليأس بالواقع المرير الذي لاامل فيه. مخرج الفلم هو( خالد يوسف ) وهو مخرج مهم خرج من معطف مخرج كبيرهو يوسف شاهين لكن له بصمته الخاصة به وله افلام مهمة جريئة مثل (زواج بقرار جمهوري) و( العاصفة )و(خيانة مشروعة )و (هي فوضى) بالإشتراك مع يوسف شاهين( الذي لم يشارك احد فلماً قط قبل هذا الفلم) وهو من قصة وسيناريو وحوار المخرج نفسه يشاركه الكاتب( ناصر عبد الرحمن) و من تمثيل سمية الخشاب وعمرو سعد وعمرو عبد الجليل وهالة فاخر واحمد بدير وقد حصل الفلم على الجائزة الذهبية الاولى في مهرجان السينما القومي المصري وجائزة أفضل اخراج للمخرج خالد يوسف وحصل عمرو سعد على جائزة أفضل ممثل ثان فيما حصلت هالة فاخر على جائزة أحسن ممثلة ثانية وكذلك حامد حمدان لأفضل ديكور
محور احداث الفلم هو عائلة تسكن المنطقة العشوائية ونجد عادل(عمرو سعد) الذي يسحبه سوء حظه الى المشاكل والسجون , وتحصل علاقة بينه وبين ناهد(سمية الخشاب) ويتخلى عنها بعد ان تلد منه ولداً ولا تجد مأوى تلوذ به فتترك وليدها في الباص ليصبح احد الاطفال المشردين وتتعرض ناهد للاغتصاب وتتحول بعد ذلك الى راقصة وبنت ليل . فهي مشردة وعادل ضائعاً وولدوا للشارع مشرداً آخر . وينعدم عند هذه العائلة الأمل ..حتى رضوان اخوهم الاكبر الذي تردد امهم (هالة فاخر) اسمه وتعتبره المنقذ الذي سوف يخرجهم من كل هذا الفقر... يمثل بالنسبة لهم مصدر شؤم فهو يتحول الى إرهابي في تنظيم القاعدة يجلب الدمار اينما حلّ، وفي مشهد حلمت امهم بأنه عاد حاملاً معه مروحة ارضية(كما يفعل العائدون من السفر) ويوزع النقود على الناس وهو جلّ ماتتمناه الام يتبع هذا الحلم مباشرة مشكلة تسبب في دخول عادل السجن ثم بعد ذلك يسبب انتمائه للعائلة في تعذيبهم وانتهاك اعراض نسائهم من قبل الحكومة فحتى هذا الأمل تحول الى مشكلة مقلقة فالحكومة تطارده فهو امل مجهض مسبقاً رغم تشبث الام به وتبقى تكرر اسمه وبعودته وهو أمل يائس لن يتحقق و لايظهر في واقع الفلم ، فقط يتكرر اسمه في الاحداث. ونلاحظ ان المخرج يستعرض حياة هذه الشريحة من الناس و همومهم ومشاكلهم وفقرهم وكيف تتكاثر الجريمة بينهم كالفطريات الخطرة حتى تضطر الحكومة الى ازالة المنطقة بأسرها من أجل القضاء على بؤر الجريمة والتطرف فيلجأ المتطرفون الى تفجير المنطقة في مشهد درامي مؤثر. وسنلاحظ ايضاً كيف يدمر المجتمع ابناءه فيكبرون ويدمروا المجتمع في علاقة طردية مفزعة. وقد أجاد المخرج في إستخدام أدواته بحرفة عالية وإتقان فقد استخدم اسلوباً متفرداً في إختصار زمن المشاهد واللقطات (دون ان يؤثر ذلك على البنية الدرامية)فقد اعطى للمشهد واللقطة حقهما تماما دون الزيادة في كادر واحد وقد كانت الكثير من المشاهد عبارة عن لقطة واحدة لاتتعدى في بعض الاحيان عدة ثوان ولم يزد زمن عرض الكثير من المشاهد على الدقيقة فلدى الرجل خبرة كبيرة في اختزال زمن العرض دون ان يؤثر ذلك على مجريات الحدث وهذا ولّد حالة من التظخيم في وقت العرض دون ان يكون للملل اثر يذكر وكما انه اعاد لنا الأساليب الكلاسيكية الأصيلة للمونتاج والتي أسس لها بودوفكين الرائد الأول في هذا المجال فاستخدم الرمزية في المونتاج مثل مشهد اغتصاب ناهد بدمجه بمشهد سقوط بغداد وكذلك استخدم التناقض بدمجه مشهد تعذيب العائلة بلقطات لناهد وهي ترقص وكرر ذلك اكثر من مرة فكلما زاد التعذيب والصراخ زادت الحركة والصخب في الرقصة وهو استخدام جميل جدا وتوظيف لطرق عريقة في المونتاج صار من النادر استخدامها هذه الايام. ومن المشاهد المهمة في الفلم وربما يكون الأهم هو المشهد الأخير في الفلم والذي يعتبر عصارة مجموعة الأفكار التي يطرحها الفلم ..... ومشهد النهاية في الكثير من الافلام يشكل مشكلة كبيرة بين المخرج والمنتج فالمنتج يميل الى نهاية توفيقية سعيدة لرواج الفلم فالجمهور بطبيعته يكره النهايات الحزينة فيلجأ المنتج الى التدخل في النهاية لكن هذه المرة وفي حالة المنتج كامل ابو علي الذي يبدو انه تبنى الفكرة بشكل كبير بحيث انه تبرع بمبلغ جائزة الفلم البالغ 28 الف دولار الى سكان المناطق العشوائية فقد ترك للمخرج الحرية الكاملة فكانت النهاية (خالد يوسفية) بحتة!!! جمع المشهد الأخير العائلة الصغيرة المحطمة التي تتكون من عادل وناهد وابنهما ايمن وام ابنه وطفلهما جمعهم كلهم في قطار واحد بالصدفة دون ان يعرف احدهم بوجود الاخر وبدون ان يعرفوا وجهة القطار فهو امر لايشكل عندهم فرقاً فجميعهم هارب من قدره الى المجهول لكنه يعطي بصيص امل في عائلة ابن عادل الصغيرة التي تكون اكثر اصراراً على العيش والإستمرار بضراوة والتي تكافح من اجل بقائها رغم ان مكان جلوسهم في نهاية هذا المشهد قلق وغير مستقر فهم على سطح القطارلكنه في اللقطة المتوسطة القريبة لهما معاً في آخر لقطة من المشهد يظهرهم وفي عيونهم إصرار وتحد على الإستمرار رغم القلق الواضح من الغد وقد اعطوا ظهرهم للماضي بينما كان قد اظهر الابوين في لقطات منفصلة وقد غطاهم التيه والضياع ...فالقطار يرمز هنا الى الحياة .... ثم لايدع خالد يوسف الأمر ينتهي حتى يعطيك جرعة من الإدهاش وذلك بعرض كلمات موقعة بإسمه وهي عبارة عن اعتذار منه للناس لانه لم يقدم حياتهم كما هي عليه لانه رأى ان الواقع اكثر قسوة من ان يقدم على الشاشة ... فتخيل اي واقع سوداوي هو , واراهن ان من المشاهد بعد نهاية الفلم لابد ان تاخذه سحابات الحزن والتأمل مدة وهو يرى واقعاً بمثل هذا السواد.! كان الممثلون على قدر عال من المسؤولية بحيث اعطى كلٌ منهم طاقاته الإبداعية بإتقان وبحرفية حتى الوجوه الجديدة منهم فأستحق عمرو سعد جائزة التمثيل وكذلك هالة فاخر وسمية الخشّاب وأعجبني كذلك اداء عمرو عبد الجليل الذي أضفى على الفلم مسحة كوميدية جميلة. الفلم مهم جداً ويستحق المشاهدة لأكثر من مرة بإستثناء بعض المشاهد الجريئة التي لاتناسب مجتمعاتنا العربية المحافظة وزادت الطين بلّة لقطات الإعلان عن الفلم التي ركزت على تلك المشاهد وأساءت للفلم ولسمعته ولموضوعته المهمة فواجه هذه الموجة من الرفض ولا أعلم كيف وافق خالد يوسف على اختزال عمله المهم في هذه اللقطات .... ( حين ميسرة) فسحة الأمل الصغيرة بالغد ... علّ الامور تتحسن وُتحل المشاكل ....الغد الذي لايبشر بالخير ويبقى السواد هو مايغطي جو العشوائيات الخانق .... وتبقى مشكلة سكانها عصيّة على الحل ونبقى ندفن رؤوسنا في الرمال لكي لانواجه هذه المشكلة التي ستعصف بالمجتمعات اذا لم توضع لها حلول ناجعة تستأصل هذا السرطان الزاحف نحوها .
#محمد_جبار_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
( مرجان احمد مرجان) وزعامة عادل امام الآفلة !
المزيد.....
-
“حليمة تعطي ترياق السم لــ علاء الدين“ مسلسل المؤسس عثمان ا
...
-
البلاغي المغربي سعيد العوادي يكشف عوالم جديدة لحضور الطعام ب
...
-
الكريسماس .. قائمة أفلام رأس السنة الميلادية 2025 الجديدة
-
مصر: وفاة أحمد عدوية أحد رموز الغناء الشعبي عن عمر 79 عاما
-
الغرافي يرصد مظاهر البلاغة الجديدة في الخطاب البلاغي الحديث
-
الممثلة الأسترالية ريبل ويلسون وزوجتها رامونا أغروما تحتفلان
...
-
مؤرخ أميركي للمقابلة: واجهت الرواية الإسرائيلية لحرب 48 من م
...
-
وفاة الممثلة دايل هادون بسبب تسرب غاز قاتل في منزلها
-
الإحتلال يستهدف المدنيين بريف دمشق + فيلم
-
السجن السياسي كما صورته السينما.. 10 أفلام بين يدي السجان
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|