( 1 )
وثيقة جنيف والتحضيرات التي رافقت إشهارها القت بظلالها على حوار القاهرة وتسببت بإشاعة أجواء سلبية سبقت هذا الحوار، حيث فهمت أطراف فلسطينية عدة وكأن المطلوب هو وضع لقاء القاهرة في إطار مؤتمر جنيف وعلى نسق غيره من الفعاليات التي نشطت في الآونة الأخيرة ، لا سيما أنه لم يكن خافياً على أحد أن المستوى الأول للسلطة الفلسطينية يقف وراء وثيقة ومؤتمر جنيف.
لكن هذه الأجواء السلبية تم تبديدها نسبياً بعد أن التقت اطراف الحوار على سحب وثيقة جنيف من التداول لتجنب الوقوع في المحظور، ومن أجل وضع حوار القاهرة في الإطار السليم الذي ينتسب إليه ( وحدة الكلمة . وحدة الصف. البرنامج المشترك . عناصر الحركة السياسية وآلياتها ) وليس في أي إطار آخر ، أي في إمتداد جولات الحوار بصيغها المختلفة التي لم تنقطع منذ الحوار الفلسطيني الأول الذي استضافته القاهرة في مطلع هذا العام .
من جهة أخرى ، وقبل ان يختتم حوار القاهرة أعماله اشيعت أجواء غذتها بعض الأوساط الفلسطينية للأسف الشديد ، أجواء مفادها ان ثمة محورة قد وقعت بين الأطراف المشاركة أدت إلى اصطفاف واصطفاف مقابل حول مسألتي وقف إطلاق النار وتفويض السلطة الفلسطينية .
وبين هذه المقدمات المتطيرة وعدم صدور بيان ختامي تم الإجحاف بأعمال حوار القاهرة بتجاهل إنجازاته الحقيقية، التي، وإن بقيت دون اصدار بيان سياسي يعكس المحقق من نقاط التقارب أو الإتفاق، لا يجوز تجاهلها نظراً لما ستؤسس له من نجاحات لاحقة قد لا يطول التوصل إليها او إلى بعضها في المدى المنظور .
( 2 )
إذن، ثمة ما تحقق في حوار القاهرة ليس فقط على مستوى القضايا التي لا ينشب في العادة خلاف حولها ( خيار الإنتفاضة ومقاومة الإحتلال ، توفير مقومات الصمود للمجتمع الفلسطيني ، وحدة الحركة الفلسطينية بجناحيها في الوطن والشتات ، قضايا النضال الساخن والمباشر: من ملف الأسرى والمعتقلين إلى مسألتي القدس والاستيطان ) ، بل أيضاً في إبراز ما يتصل بحق العودة الذي يكتسي على خلفية وثيقة جنيف والخلاف الناشب حولها ، قيمة خاصة في ضوء اجماع كل الأطراف المشاركة بالحوار على التمسك بحق العودة .
إلى ماذكر وبشكل محدد يحتسب ايضاً في خانة إنجازات حوارات القاهرة أمرين هامين :
• التوافق على ضرورة تجاوز اسلوب العمل القيادي في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير والقائم على التفرد والإنفراد بالقرار الوطني ، لصالح إرساء صيغة القيادة الموحدة أو المشتركة التي تجمع بين تمثيل جميع الأطراف وإعتماد صيغة وآلية فاعلة للمشاركة بالقرار السياسي والكفاحي وبكل ما يتصل بتوفير متطلبات الصمود المجتمعي .
وفي هذا السياق تجدر ملاحظة الإستعداد المبدئي للإتجاهات الإسلامية بالانضمام الى منظمة التحرير التي سيعاد بناؤها ، والحال هذه ، على قاعدة تعكس بأمانة واقع التعددية في صفوف الحركة الفلسطينية ، وتأخذ في الوقت عينه بالإعتبار مدى النفوذ السياسي لكل طرف على حدة .
• التوافق على إيراد نص واضح بتحييد المدنيين على جانبي خط الصراع . ما يعني وقف العمليات ضد المدنيين في مناطق الـ 48 مقابل وقف الإعتداءات الاسرائيلية على المدنيين في الجانب الفلسطيني .
هذه المسألة كانت من القضايا الخلافية الكبرى ، كما هو معروف ، منذ إندلاع الإنتفاضة حيث تقابل رأيان : أحدهما يعتبر الضرب في العمق المدني الاسرائيلي ، نظراً للخسائر التي يتسبب بها، خطاً معادلاً ( يصحح ميزان الخسائر ) ورادعاً ( يغل أيدي العدوان ) ضمن مقولة "توازن الرعب".
والرأي الآخر يقصر المقاومة المسلحة على الأهداف العسكرية والاستيطانية في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 67 ضمن مقولة " إدامة الاستنزاف " . ما ينسجم وحدود استعداد الرأي العام الدولي ( وخاصة بعد 11/9 ) لتقبل أسلوب معين دون غيره للعمليات ضد الإحتلال ، وللجم إندفاعته وبطشه المتمادي بإعتماد العنف الدموي الزائد . وإنطلاقاً من حقيقة أن استهداف المدنيين يوحد المجتمع الاسرائيلي في مواجهة خطر وجودي مزعوم ، بينما التركيز على أهداف عسكرية واستيطانية في مناطق الـ 67 يذكي أوار الإنقسام في هذا المجتمع على قاعدة التسريع بإنضاج شروط البت بجدوى بقاء الإحتلال من عدمه في الضفة الغربية وقطاع غزة .
( 3 )
أما في مسألة وقف إطلاق النار التي إحتلت حيّزاً إعلامياً مبالغاً به ، فلم يكن التباين – بالقطع - في المبدأ ، خاصة بعد أن تم استحضار سوابق الإجماع الوطني أمام أصحاب الطرح الأيديولوجي في ثلاث محطات هامة منذ بدء الإنتفاضة : 1- في 1/6/2001 بعد عملية ملهى الدلافين عندما تلقت السلطة الفلسطينية إنذاراً حقيقياً باجتياح مناطقها . 2- في 16/12/2001 بعد تفجيرات حيفا والقدس ( 1 و 2/12 ) أثناء زيارة شارون لواشنطن وتلقيه الضوء الأخضر للقمع المفتوح لمدة شهرين ( بحسب طلبه ) وإدراك جميع الفصائل لجدية المخاطر التي تحيق بالوضع الفلسطيني. 3- وفي 29/6/2003 عندما أخذت حكومة محمود عباس موافقة واشنطن على الاستعاضة عن تفكيك البنى التحتية وجمع السلاح ( وهو ما تضمنته المرحلة الأولى من خارطة الطريق ) .. بوقف إطلاق النار.
في جميع هذه المحطات وتحت وطأة الخطر الداهم كان الإجماع ( بقناعة ) والإلتزام (بانضباط) بوقف إطلاق النار ينعقد فلسطينياً ، ولكنه كان باستمرار يُخرق اسرائيلياً . وعلى تمايز التقديرات بين أطراف حوار القاهرة على حجم والحاح المخاطر التي تتهدد الوضع الفلسطيني حالياً حيث ذهب البعض بعيداً جداً في تصوير أزمة الولايات المتحدة في العراق وحكومة شارون في اسرائيل .. تباينت الرؤى إزاء وقف إطلاق النار ، ليس في المبدأ، بل في الشروط والآلية إنطلاقاً من التجارب السابقة وبغرض التثمير الوطني الفلسطيني الأفضل.
على هذه الخلفية كان رأي البعض أنه لا بد من وضع الإلتزامات الاسرائيلية اولاً على الطاولة قبل البحث بوقف إطلاق النار . ورأى البعض الآخر أنه بالإمكان تكليف رئيس الحكومة بسبر إمكانية ضمان تلقي المقابل المجزي وطنياً على ألا يتخذ القرار إلا بعد عودة الحكومة الفلسطينية إلى إطار الفصائل . وهنا تدخل مسألة ما سمي ، ربما تجاوزاً ، بالتفويض .
( 4 )
من جهتنا ربطنا وقف إطلاق النار المتبادل والمتزامن والمشروط برعاية وضمانات دولية تتمثل برقابة وإشراف اللجنة الرباعية الدولية بجميع اطرافها وعلى أساس وقف العمل فوراً بجدار الاستيطان العنصري ، وبما يحقق ما لا خلاف عليه فلسطينياً وفي الأوراق والمشاريع المجازة دولياً ( مشروع ميتشل ، ورقة تينيت ، خارطة الطريق .. ) : الإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين دون شرط وبدون تمييز ، وقف شامل للأنشطة الاستيطانية وتفكيك البؤر الاستيطانية التي اقيمت بعد آذار ( مارس ) 2001 وإزالة جدار الاستيطان ، إنهاء الحصار والإغلاق والإعتداءات اليومية من إجتياح وتدمير وتجريف وإغتيالات وإنكفاء قوات الإحتلال إلى خط 28/9/2000 ، ورفع الحظر عن المؤسسات الفلسطينية في القدس .
وفي كل هذا تبقى خلفية أي بحث محكومة بالتقدير التالي : لا تساورنا أية أوهام حول إحتمال استعادة المسار التفاوضي في ظل حكومة شارون التي مازالت في نهاية العام الأول من ولايتها والتي تضعنا عملياً أمام خيارين رئيسيين : إما القبول "بدولة فلسطينية" ذات حدود مؤقتة وضمن كانتونات مغلقة على نصف مساحة الضفة ومعظم مساحة غزة .. أو المضي بمخطط جدار الإستيطان شرقاً وغرباً وقدساً .
وهذا ما يترتب عليه فلسطينياً إلى جانب تنظيم الصمود المديد ووحدة الصف والكلمة والتصدي لهذا العدوان المتمادي بكافة الأشكال والسبل المتاحة .. التفكير بعناصر التحرك السياسي الفلسطيني التي توفر أقصى ما يمكن من حماية للشعب الفلسطيني وللإنتفاضة . وهذا ما كان يفترض ان يتركز عليه حوار القاهرة بإعتباره البند الأول والأهم من البندين اللذين تشكل منهما جدول الأعمال .
( 5 )
من هنا تبلور ما يلي في سياق حوار القاهرة : إن الاسلوب الرئيسي الذي ينبغي اتباعه في الحركة السياسية الفلسطينية يقوم على فكرة " الخطوات المتقابلة " ( أو الإلتزامات ، أو الاستحقاقات .. ) من أجل الخروج من حالة الجمود السياسي التي يستغلها شارون بشكل بشع للمضي بمخطط التدمير المنهجي تجاه الحالة الفلسطينية باعتماد سياسة الإغتيال المكاني ( جدار الإستيطان .. ) على طريق استكمال حلقات الإغتيال السياسي ( المضي في مخطط استئصال البنى الفلسطينية ) .
وعلى فكرة " الخطوات المتبادلة " يترتب عدم إقدام الجانب الفلسطيني على أية خطوة ما لم تتوفر الضمانات الدولية لما يقابلها اسرائيلياً مع تعزيز آليات الرقابة والإشراف الدوليين التي من شأنها أن تضمن حماية الوضع الفلسطيني وحقه في النضال بكافة الوسائل في سبيل نيل حقوقه الوطنية الثابتة.
إن حوار القاهرة ، بجانبه السياسي ، لم يقتصر فقط على شروط وآليات وقف إطلاق النار الذي أدرج في سياق صون المقاومة كخيار قائم وفاعل ، بل تناول وإن ليس بالعمق المطلوب اسلوب وآلية الحركة السياسية برمتها . وفي هذه النقطة بالذات اصطدم التوافق الفلسطيني المنشود بجدار تدنى درجة الثقة السياسية بالسلطة الفلسطينية في ضوء نزوع قيادتها لإدارة الظهر لخيارات الجوامع الوطنية المشتركة .
وضمن هذه الأجواء يصبح مفهوماً أن تتضخم مسألة ما سمي بتفويض السلطة القيام بالتحرك السياسي المطلوب، فنشب خلاف، لا أساس حقيقي له، يدور بين من يدافع عن الشرعية ( باعتبارها لا تحتاج إلى تفويض من الفصائل ) ومن يسعى إلى ثلم هذه الشرعية ( باعتباره يحجب التفويض ) ، بينما الأمر لا يتعدى حدود طلب يوجه إلى السلطة للقيام بتحرك معين لتحقيق مكاسب وطنية بالشرط المعلق ( على ضمان استجابة الطرف الأخر ) قبل الحسم بأية وجهة .. وهذا ما يندرج بدوره في سياق السعي لايجاد آلية مشاركة حقيقية في صياغة القرار الوطني بقضية بالغة الحساسية لجميع القوى ولعموم الحركة الفلسطينية .
( 6 )
وهذا ما ينقل النقاش مرة أخرى إلى مسألة المشاركة بصياغة القرار الوطني وآلية متابعة تطبيق مختلف حلقاته وهي المسألة التي لم تتمكن الجولة الحوارية في القاهرة من إيجاد حلول عملية وسياسية لها وإن تقدمت نحوها بحدود معيّنة .
كما أنه يطرح في الوقت نفسه مسألة البرنامج المشترك الذي مازالت بعض الأطراف تتعمد الغموض في التعبير عنه بعيداً عن خطاب قرارات الشرعية الدولية الضامنة للحقوق الوطنية بدعاوى فكرية وعقائدية تستبطن سياسة غير مفصح عنها ، دعاوى من الصعب أن تصمد أمام أي نقاش مسؤول حيث لا خلاف بأن عدم الإفصاح عن حدود الدولة التي نناضل في سبيلها -على سبيل المثال- لا يساعد الحركة الفلسطينية على إحتواء الضغوط الاسرائيلية - الأميركية للقبول بما هو أقل من حدود 4 حزيران ( يونيو ) 1967 .
إن العام 2004 ، عام الإنتخابات الأميركية وتفاقم أزمة الإحتلال في العراق واستمرار المواجهة على أرض فلسطين ، هو عام مفصلي للقضية الفلسطينية وللمنطقة عموماً . وعليه ينبغي أن يطلق الفلسطينيون حركة سياسية فلسطينية متسقة وذات مغزى بعيداً عن حملات العلاقات العامة والترويج لمشاريع افتراضية على غرار وثيقة جنيف التي لن يكتب لها النور .. حركة سياسية موضع إجماع وطني فلسطيني إن لم تدرأ المخاطر المقبلة على الحالة الفلسطينية ، فبأقله تسهم في تقليصها وتؤمن أقصى ما يمكن من حماية للشعب الفلسطيني ولانتفاضة الإستقلال .
وهذا ما يعيدنا الى مسألة الإطار القيادي المشترك، الذي لا بد من المسارعة إلى تشكيله بإعتباره المستوى السياسي الأعلى صاحب القرار في الشأن الوطني، الذي يحدد أهداف النضال المباشرة واشكال الكفاح والعمل بالوتيرة المناسبة لتجتاز الحالة الفلسطينية بنجاح قطوع العام القادم .
" القاهرة 2 " كانت محطة هامة ، وما سيتلوها سيكون في امتداد نتائجها بلورة وتطويراً . فهذه ضرورة وطنية لا مراء فيها ، وهو أمر نفترض ونأمل أنه سيكون من مسلمات جميع القوى بدون استثناء
13/12/2003