خضر محجز
الحوار المتمدن-العدد: 2114 - 2007 / 11 / 29 - 11:25
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الوعي الزائف: شكل من أشكال المصلحة الذاتية, لدى فرد معين أو فئة معينة. ويتمثل في رفضه, أو تجاهله ـ عن وعي أو بلاوعي ـ لمطالب فئة أخرى، أو أشخاص آخرين، في المساواة( ).
إن رؤيا الإسلام السياسي للعالم, تعاني من وعي زائف, بسبب ادعاء منظريه من (متعلمي الشريعة) بأن رؤيته للعالم هي رؤية جميع البشر. فنظرية الإسلام السياسي اليوم مجرد مقولات عامة، تستهدي بمصلحة ذاتية لفئة صغيرة، وتستلهم ماضياً مغرقاً في القدم، لم يثبت أحقيته في الحياة، إلا فترة لا تزيد على 22 عاماً، هي فترة الرسول وأبي بكر وعمر؛ رضي الله عنهما.
ثم إن اكتشاف (متعلمي الشريعة) للطبيعة الاستغلالية للدولة التي خلقوها, بعد نجاحهم الجزئي، في القضاء على سلطة منظمة التحرير، في غزة، قد جعلهم يائسين من إصلاحها، على المدى البعيد. الأمر الذي دعاهم لاختيار الاستقرار والرضا بما حدث، إن لم يكن هذا هدفهم ابتداءً
وإذ اكتشف (متعلمو الشريعة) فجأة، أن هذا الواقع الجديد يخدم مصالحهم، فقد كان لا بد لهم من اصطناع مقولات (نظرية) تدعمه, مثبتين ـ دون قصد منهم ـ وجود تناقض قوي في أعماقهم بين دعوات الزهد والمساواة, التي طالما أطلقوها في السابق, والواقع الاستغلالي الحالي الذي يقوم عليه بقاؤهم الآن.
كل هذا الكلام أقوله، كمقدمة استهلالية، لنقد هذا الواقع، الذي صار يعمي أعيننا، ويصم آذاننا، ويملأ بالرعب قلوبنا: واقع تحويل كل هذا العالم إلى أكذوبة كبرى، تستهين بكل قدرة، لكل عقل، لأي مواطن، في هذا المكان المنكوب من العالم، على التحليل.
فأنا ،على سبيل المثال، لا أزال ـ كلما سمعت صوت مكبر الصوت يخشخش، وحتى قبل أن يتكلم ـ أصاب بحالة مقرفة، هي مزيج من الحيرة والخوف: الحيرة من سوريالية ما هو واقع في غزة، والخوف من مغبة انتقاد ما لا أستطيع الصمت عنه: من احتقار لعقلي، بل لقدراتي الأولية على تفكيك العلاقات البسيطة.
وإذا كان مجرد سماعي لصوت الخشخشة يصيبني بكل هذا الاضطراب، فللقارئ الكريم أن يقدر ما يعتريني هذه الأيام، وأنا أسمع صوت الميكروفونات يهدر، على مدار الساعة، يطالبني بأن (أستجيب لله وللرسول، إذا دعاني لما يحييني)!. ولا شك أنك، عزيزي القارئ، قد صرت الآن تخمن ما هي طبيعة هذه الاستجابة المقصودة، التي يفرضها عليّ ولدٌ صغيرٌ يزعق في المسجد بأن أتبعه، في تظاهرته الصاخبة، حتى أستجيب لله ورسوله!.
وتصوروا معي كيف يمكن لي أن أجري في تظاهرة، من بيتي، وتطوف بمسجد الخلفاء الراشدين، وجباليا، وبيت لاهيا، وراء صبي لا يتجاوز عمره سبعة عشر عاما، يقبض راتبا قدره ألف شيكل، يتقاضاها من ثمن الدخان المحرم، لا لشيء إلا لأنه صار كادرا في (جماعة المسلمين) يستحق أن يوجه أوامره لي باسم الله، لأقف في ساحة واسعة، ويخطب فيّ خطيب سمين، يشبع من اللحم أكثر مما آكل من خبز الكوبونات، ويقول لي إن محمود عباس خائن، لأنه ذهب إلى أنابوليس!..
"نعاهد الله العلي العظيم، على أن نرفض التنازل عن يافا وحيفا واللد والقدس والرملة والسبع والجليل. كما نعلن أن من ذهبوا إلى "أنابوليس" للتفاوض، لا يمثلون الشعب الفلسطيني المجاهد...".
هذا هو النداء الراعب الذي ظل يصدع رؤوسنا سائر اليوم. ولعمري إن منطوق هذا النداء ليوحي بأن (متعلمي الشريعة) يرفضون التنازل عن شبر واحد من فلسطين التاريخية، فيما أن محمود عباس ومفاوضيه مصرون على التنازل عن كل ذلك مجانا!.
ولولا الواقع، لكان هذا ممكنا أن يكون مشهدا في فيلم هزلي، من النوع الرخيص. بل لكان ممكنا أن يكون شيء شبيه بهذا افتتاحاً لمهرجان تسويقي، في ساحة سوق (العتبة) بالقاهرة: حيث يمكنك أن تتفاجأ برؤية شخص، يولول ويصرخ ويلطم خديه، نادباً النكبة الحالة به، وداعيا الناس إلى نجدته على الفور. حتى إذا ما تجمهر حوله المارة مواسين، فاجأهم بفرد ملاءة واسعة على الأرض، فيها كثير من البضاعة ـ المهربة، والمضروبة، والمنقضي تاريخ صلاحيتها ـ وهو ينادي:
ـ خمسة بجنيه.. كله بجنيه.. على أونه، على دويه...
فدعونا الآن نفحص الحقيقة، بعيدا عن الشعارات:
محمود عباس يريد دولة في الضفة والقطاع، عاصمتها القدس الشريف، مع ضمان حقوق اللاجئين. وهو يعلن أنه لن يرضى بأقل من ذلك، في أي مفاوضات، ويعيد تأكيد ذلك، بين يدي سفره إلى "أنابوليس".
وخالد مشعل ـ خلال مقابلة أجرتها معه وكالة رويترز، في دمشق يوم الأربعاء 10/1/2007 ـ يقول بأن حماس تقر بأن إسرائيل أمر واقع، وحقيقة سوف تبقى. وأنه يكتفي بدولة على حدود67.
محمود عباس يعارض العمليات القتالية مع العدو الصهيوني، في هذه المرحلة، لأنه يرى أنها تعطي الصهاينة ذرائع متجددة لفرض الحصار، والهروب من استحقاقات التفاوض، الذي قد يؤدي إلى دولة فلسطينية في الضفة والقطاع.
أما إسماعيل هنية فيصرح ـ في مقابلة خاصة أجراها (David Hawkins) مراسل (C.B.S)، يوم 16/3/2006 ـ بأن يديه ليست ملطخة بالدماء؛ حيث إنه لم يأمر شخصيا بأي نوع من العمل العسكري أو (الإرهابي) ضد إسرائيل. لأننا "لسنا شعبا دمويا"، وأنه إذا جاءه أحد أبنائه، ليطلب تنفيذ عملية استشهادية ضد إسرائيل، فلن يفكر "حتى في الدعاء له".
محمود عباس يريد تسوية دائمة مع إسرائيل، تتيح للفلسطينيين التقاط أنفاسهم، والتفرغ للحياة. مع علمه بأن طريق ذلك هو المفاوضات.
والسيد إسماعيل هنية، ومعه وزير أشغال حكومته: زياد الظاظا ـ في مقابلة استثنائية مع صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية يوم23 /5/2006 ـ يعرضان على إسرائيل هدنة، تتجدد تلقائيا كل خمس سنوات، إذا ما قبلت بفتح باب المفاوضات مع حكومة حماس.
محمود عباس يريد حلاً مباشراً، ودون كثير من التلكؤ، يضمن انسحاباً فورياً.
والسيد أحمد يوسف، مستشار هنية، قبل أن يفتتح أحد الكلام معه، يقترح باسم حماس، انسحاباً جزئيا إلى خط مؤقت، وهدنة لمدة خمس سنوات ـ كما تقول صحيفة الحياة الجديدة في عدد يوم 24/12/2006 ـ من أجل المضي قدماً في خطوات عملية وجدية، لإقامة دولتين متجاورتين، وقابلتين للحياة مستقبلاً. مع اعتبار هذه الهدنة (المتجددة) مجرد مرحلة تحضيرية جدية، تقود إلى اتفاق سلام دائم مع إسرائيل.
وحتى لا يتم اتهام صحيفة الحياة الجديدة بالكذب، بدعوى أنها مجرد صحيفة تابعة لمحمود عباس، فقد أوردت صحيفة الثورة السورية الدمشقية البعثية ـ في عدد يوم الخميس 30/11/2006 ـ تصريحا لرئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية، أطلقه في المؤتمر الصحفي الذي عقده في القاهرة، في اليوم السابق، يطالب بضرورة وضع سقف زمني محدد، لتسوية تضمن إقامة دولة فلسطينية، على حدود عام1967. معتبراً أن "المبادرة التي طرحتها فرنسا وايطاليا واسبانيا، لعقد مؤتمر دولي للسلام، في الشرق الأوسط، تتضمن بنوداً ايجابية، ويمكن أن تشكل أرضية لتحرك سياسي أوسع". قبل أن يفاجئنا بأنه (يعرف الفولة) ومدرك "أن البرنامج السياسي، في المرحلة الراهنة، هو إقامة دولة فلسطينية، كاملة السيادة، في حدود1967. مضيفا: إن التوصل إلى تسوية، يمكن أن يستغرق ستة أشهر أو سنة، أو أقل أو أكثر".
فأين هي أوجه الخلاف الحقيقية، التي تستدعي كل هذه التظاهرات، والدعوات الصارخة لإسقاط محمود عباس؟!. ألا يمكن لنا أن نستكشف، من وراء ذلك، أن حماس تريد أن تكون (وحدها) هي التي تملك حق التنازل عن حيفا ويافا واللد والرملة والجليل والنقب؟!.
فإذا كان ذلك كذلك ـ وهو كذلك بالفعل ـ وإذا كان هذا هو مآل كل دعوات المقاومة، فلماذا لا يزال (متعلمو الشريعة) مصرين على ضرورة تخوين الآخرين؟!.
وإذا كان ذلك كذلك ـ وهو كذلك بالفعل ـ فهل يمكن لنا أن نستنتج أن كل الدعوات السابقة، التي أطلقها (متعلمو الشريعة)؛ حول ضرورة الحفاظ على بندقية (الجهاد)، هي دعوات ناتجة عن وعي زائف, بدليل ما أنتجته في الواقع، من تحويل هذا السلاح نحو المواطنين، الذين زعم رافعوه في السابق أنهم مادتهم، والغابة التي يحتمون فيها؟!.
وإذا كان ذلك كذلك ـ وهو كذلك بالفعل ـ فهل يمكن لنا أن نستنتج أن (تحرير غزة) من سلطة عباس، قد حولها من غابة تؤوي (متعلمي الشريعة)، إلى كيان معاد، مهدد لبقاء الأيديولوجيا الدينية نفسها؟!.
إن فحص التاريخ، في ضوء الواقع، لجدير بفتح أعيننا، على حقائق طالما اختفت خلف الشعار البراق: (الإسلام هو الحل): فلقد يرى قارئ التاريخ الآن ـ في ضوء تحقق الشعار الديني في غزة ـ أن الدولة الإسلامية, التي تلت عهدي أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، كانت تمثل مجتمع السلطة ومن دار في فلكها، كما هو حادث في غزة، التي لا تشبه شيئاً، ولا يشبهها شيء.
وإن مراقبة (متعلمي الشريعة) هنا، سوف يقود قطعا إلى إعادة فحص أحوال (معلمي الشريعة) هناك، في دولة ما بعد أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما:
فلئن رأينا كيف توافقت مصالح قاضي القضاة، وحجة الإسلام، وشيخه، وحفاظه، ومحققيه، مع مصالح الحكام الأمويين والعباسيين والأتراك والمماليك، لقد صرنا اليوم نرى بوضوح، كيف تتحقق مصلحة شريحة صغيرة، من (متعلمي الشريعة) على حساب شعب بكامله. وصرنا نرى كيف يشبع (متعلمو الشريعة) من اللحم، بينما يجوع مريدوهم، من أبناء الشعب (المسلم)، ويلهثون وراء الكوبونات.
شيء آخر يمكن الإشارة إليه بهذا الصدد، وهو أنه إذا كان (متعلمو الشريعة) الآن يعرفون أن هذه الدولة, التي أنشأوها في غزة، هي دولة لا تحقق مبادئ إسلام أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ فهم يتمتعون بوعي زائف، ناتج عن قبولهم بمخالفة ما هم مقدمون عليه، لسابق تصوراتهم النظرية. أما إذا لم يكونوا يعرفون هذه النتيجة, فإنهم يتمتعون بوعي زائف، ناتج عن نقص في المعرفة النظرية.
لكن كل الشواهد تقول بأن الوعي الزائف، الذي يتمتع به (متعلمو الشريعة) الحاكمون اليوم، هو من النوع المركب: فهو حالم يتمتع بنقص المعرفة من جهة, ثم إنه ـ إلى ذلك ـ ذرائعي براغماتي, يسعى نحو ترسيخ سلطة جماعة أو فئة, قررت مسبقاً إعادة إنتاج نموذج، لم تعد هي متفقة على صورته النهائية؛ حتى بعد الوصول إلى السلطة.
وبعد،
فإن الحقيقة أيها السادة تقول، بأن كل ما يجري، مآله وتفسيره فيمن يستطيع إقناع السمسار، بأنه يستحق البضاعة قبل أخيه، ليقول له أمام كل المنتظرين المتحفزين:
ـ على تريه.. الله يربحك..
#خضر_محجز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟