الشيوعي يرتبك بين البرتقالي والاخضر
اسماء اغبارية زحالقة
2007 / 11 / 20 - 10:58
لا شك ان الحزب الشيوعي الذي يتحرك برأسين كل في اتجاه مختلف، ويجمع بين اجندتين متضاربتين، ينذر بخلافات قادمة حتى لو انه تم مؤقتا تطويق الازمة دون حلها جذريا. التيار القومي تبنى اللون القومي البرتقالي، في حين تبنى التيار التقليدي اللون الاخضر، وكلاهما معا موّها تماما اللون الشيوعي الاحمر، مما يعني ان الحزب لم يفقد طريقه فحسب بل فقد هويته ايضا.
لم تمض اشهر قليلة على المؤتمر ال25 للحزب الشيوعي الاسرائيلي، حتى بدت انعكاساته في تحركات قياداته في الميدان، طرفان يبحث كل منهما عن شركائه في محيط مختلف تماما. ورغم الحديث المستمر عن وحدة الصف، الا ان الفجوة بين التيار الشيوعي والتيار القومي لم تكن أوضح مما هي عليه اليوم. ليست مجرد فجوة. انه تناقض لا تعايش معه، يقضي على هوية الحزب الشيوعي بعد تسعين عاما من وجوده.
يظهر الخلاف بشكل خاص على خلفية استعدادات الجبهة، الاطار الجماهيري للحزب الشيوعي، لمؤتمرها العام في تشرين ثان (نوفمبر) المقبل. وقد دخلت الاطراف المعنية، الحزبية وغيرها، الى حالة من النشاط لتجنيد القوة وتوسيع صفوف الجبهة، استعدادا لانتخابات المؤتمر لمجلس الجبهة الجديد. وهي انتخابات هامة، علما ان مجلس الجبهة هو الهيئة المخوّلة بحسم تركيبة القائمة الانتخابية للكنيست القادمة. قد يبدو الامر عاديا، لولا ان كل طرف يجنّد لأجندتين مختلفتين تماما، بل متناقضتين: واحدة قومية تغازل جماعة التجمع وواحدة خضراء تغازل جماعة ميرتس.
حزبان في حزب واحد
الاجندة القومية، يقودها التيار بزعامة محمد بركة الذي صار يتمتع باغلبية ليس في الجبهة فقط بل في الحزب ايضا بعد المؤتمر ال25. مدفوعا باعتبارات وحسابات انتخابية، وانجرارا وراء المزاج الشعبي بعد انتفاضة اكتوبر 2000، يركّز هذا التيار على الخطاب القومي، يسعى لتغيير هوية الحزب "الوطنية الاسرائيلية"، يرفع العلم الفلسطيني، يتحدث عن النكبة، يزعزع موقف الحزب من قرار التقسيم، ويصيغ وثائق التصور المستقبلي ويقترح تغيير الطابع اليهودي لاسرائيل. وهو في ذلك ينافس التجمع الوطني على قاعدته الانتخابية، وهي مهمة باتت اسهل نسبيا، خاصة بعد استقالة عزمي بشارة من رئاسة التجمع وتركه البلاد.
هذا التيار يقترب من خط التجمع ويمحو شيئا فشيئا هويته التي ميّزته، حتى لم يعد بالامكان التفريق بين الحزبين في المواقف، وبدا الحزب كاي حزب عربي عادي. اذ لا تقتصر المنافسة على القضايا الداخلية، بل تتعداها للمواقف من القوى الاقليمية. ايران وسورية تحولتا منذ مدة في نظر هذا التيار الى "القوى الممانعة لاستراتيجية الهيمنة العدوانية الامريكية-الاسرائيلية في المنطقة" (انظر موقع الجبهة، مقال "براك وحكومته يؤججان بؤرة التوتر"، 22/10). وهو الموقف الذي جعل التيار القومي في الحزب يهلل ل"انتصار" حزب الله على اسرائيل في حرب لبنان الاخيرة. على رأس هذه "القوى الممانعة" تقف روسيا، زعيمة للمحور المضاد لامريكا، الدب الروسي الذي لم ولن يخضع للثور الامريكي، على حد تعبير احمد سعد في "الاتحاد".
يصعب الترويج لهذا التوجه القومي في الشارع الاسرائيلي، خاصة بعد انتفاضة اكتوبر 2000، التي زادت عزلة العرب وأوصلت العمل البرلماني الى طريق مسدود. كما ان طرحا كهذا يسبّب مشكلة للحزب اذ يضعه في خانة القوميين المنغلقين الذين حاربهم تاريخيا. من جهة اخرى، يُفصح بعض المنتمين للموقف القومي، بعدم المنطق في تخصيص مقعد في الكنيست لعضو يهودي مع انه يفتقد القاعدة الانتخابية الملائمة، فقط بحجة الشراكة اليهودية العربية.
الاجندة الخضراء
ما يحدث في القسم العربي للحزب ليس جديدا بل صار امرا واقعا منذ الانتفاضة. الجديد هو رد فعل انصار التيار الثاني للحزب، الشيوعي التقليدي، على هذه الردة القومية، والذي كما يبدو راح بنفسه يبرز قوميته اليهودية ويغطيها بالغطاء الطبقي ليبرر وجوده.
ويتخبط هذا التيار فيما يجب عليه فعله. ويبدو ان تمار غوجانسكي ودوف حنين ومعهم الامين العام السابق عصام مخول، الذين يمثلون هذا التيار، قد وجدوا ورقة اخرى يلعبوا بها ليحظوا بدعم الطرف الاسرائيلي، ويُبقوا الحزب ضمن دائرة الشرعية الاسرائيلية. لقد اكتشفوا الورقة الخضراء وحماية البيئة. ويمكن القول عمليا ان دوف حنين يسعى على هذا الاساس، الى بناء قاعدة انتخابية جديدة وواسعة قدر الامكان، ليعزز مكانته داخل الحزب ويثبت استحقاقه للكرسي من جهة، وينقذ الحزب من تصويره كحزب قومي عربي الامر الذي يهدد بعزله اكثر بين الاسرائيليين.
وقد تحول دوف حنين الى متحدث رئيسي في كل ما يتعلق بموضوع البيئة في اسرائيل، في الجامعات والبرامج التلفزيونية، كما ترأس الكتلة الخضراء في الكنيست ونجح في تمرير قوانين في هذا المجال في الكنيست، متحالفا لاجل ذلك مع عناصر مختلفة، متدينة وحتى يمينية.
المقابلة التي نشرت في ملحق السبت لصحيفة "يديعوت احرونوت" (19/10/2007) تشير ان حنين يتعاون بشكل وثيق مع عضو الكنيست موشيه جافني (يهادوت هتوراة) لتمرير عدة قوانين حول البيئة. ويعمل الاثنان حاليا بشكل مكثف على تمرير قانون يلزم المواطنين باستخدام الاكياس الورقية وليس البلاستيكية لغرض التغليف.
ويبدو ان حنين مستعد لاجل تمرير اجندته، ان يدفع ثمنا سياسيا وايديولوجيا، ويموّه اللون الاحمر لصالح الاخضر. فنراه يبرز موضوع المخاطر على البيئة، على حساب موضوع الاحتلال. في سعي واضح للتحبب على الاسرائيليين اليهود، يقول حنين: "انا جدا يهودي، من ناحية قوميتي ومن ناحية الشعور... انا وعائلتي مرتبطين بالثقافة اليهودية". حنين وابنه قاما بطقوس البلوغ كما يفرضها الدين اليهودي، وهو يرى اهمية في الحفاظ على يوم السبت ويوم الغفران، بحجة الفائدة التي تعود على البيئة جراء الحد من التلوث ومن عادات الاستهلاك. حسب رأيه "بالامكان التعلم من الدين اليهودي، لان فيه افكارا تساهم في بناء حياة افضل". وقد يتساءل المرء ما حاجة العضو الشيوعي ان يُبرز على الملأ يهوديته ويحولها الى رايته وعلمه، علما انها تناقض روح الاممية والهوية الشيوعية التي لا تقيم وزنا للانتماءات الدينية او القومية.
وتشير المقابلة ايضا الى تقارب في وجهات النظر بين حنين وجافني في الامور السياسية. عن سؤال بالنسبة لقضية الصراع العربي-الاسرائيلي رد حنين بشكل قاطع: "لا قدسية في خط الرابع من حزيران. المبدأ الموجِّه يجب ان يكون امكانية الفلسطينيين اقامة دولة مستقلة وقابلة للحياة".
ولا يتصرف حنين دون مرجعية. بل ان وثيقة الحزب التي جرى إقرارها بالاجماع في المؤتمر الحزبي ال25 الاخير تتبنى هذا النهج. اذ تركز على المشاركة في النضالات الاجتماعية، المنقسمة الى نضالات لحماية البيئة، حقوق المرأة والطفل، حقوق العمال، الحق الوطني للفلسطينيين وما شابهها، كونها تعبيرات للازمات التي تخلقها العولمة الرأسمالية. يلاحَظ ان الموضوع الفلسطيني يصبح في هذه الوثيقة جزءا من كل، وليس امرا رئيسيا. وفي ذلك اشارة الى تقزيم الموضوع الفلسطيني لصالح الصراعات الطبقية، ليلقى آذانا صاغية بين جانب كبير من الاسرائيليين اليساريين، الذين لم يعودوا يستظرفون الفلسطينيين بعد العمليات الانتحارية.
ولكن لن يكون تلقائيا جذب هؤلاء. فالشارع الاسرائيلي يتجه بشكل واضح الى اليمين. الاجندة الخضراء تعبر عن ظاهرة غير سياسية، تهم الطبقة الوسطى العليا في المجتمع الاسرائيلي وهذه الطبقة ليست احتكارا لحنين، بل تنافسه فيها احزاب كثيرة بينها حزب الخضر، وميرتس الذي اعلن نفسه حزبا اخضر، وحتى الليكود. ويشير هذا الى ان موضوع البيئة لم يعد حكرا على اليسار اصلا. ومن الطبيعي ان يوجه الاسرائيليون الخضر اصواتهم الى احزاب اسرائيلية مئة بالمئة، وليس الى حزب منفصم الهوية اخضر من جهة ولكن باغلبيته قومجي يرى في حزب الله وايران حليفا.
موضوع البيئة هام بلا شك، ولكنه بعيد عن ان يكون استراتيجيا او في سلم اولويات دولة مثل اسرائيل. لاسرائيل مشكلة بيئة من نوع آخر، البيئة الفلسطينية والعربية. فهذه الدولة لا تزال موجودة في صراع وجودي، لن ينقذها منه تغيير اكياس التغليف من بلاستيك الى كرتون، فهي لم تحل نزاعها القومي مع الفلسطينيين. كما تواجه من جهة اخرى مشكلة داخلية تتجلى في الفجوات الاقتصادية-الاجتماعية وما تسببه من فقر، والتي لا تساهم في تعزيز حصانتها. وتبقى هذه الامور الموضوع الرئيسي الذي يتم التصويت عليه في اسرائيل.
شراكة غير مبدئية
لا شك ان الحزب الشيوعي الذي يتحرك برأسين كلٍّ في اتجاه، ويجمع بين اجندتين متضاربتين، ينذر بخلافات قادمة حتى لو انه تم مؤقتا تطويق الازمة. وتبقى المشكلة الرئيسية التي يواجهها الحزب هي فقدان الاستراتيجية من بعد انتفاضة اكتوبر. فهذه الانتفاضة كانت اعلان الطلاق بين الدولة والجماهير العربية، فلا طرف يريد علاقة بالطرف الآخر، وصارت اللامبالاة من جهة والعنصرية المتزايدة من جهة اخرى اللاعبتين الرئيسيتين. الحزب الشيوعي فقد خطه الاستراتيجي المبني على التحالف مع حزب العمل، والذي على اساسه دعم اوسلو (ولا يزال) وحكومة رابين، وتحالف مع حزب العمل ودعا للتصويت لمرشحيه في انتخابات الرئاسة بحجة اسقاط اليمين.
قسم من الحزب فهم ان هذا الموقف لم يعد يأتي باصوات العرب الحانقين على اسرائيل في هذا الظرف السياسي الجديد، وادرك انه لحفظ بقائه الاعلامي في قناة "الجزيرة" وراديو "الشمس" وعدم ترك الانتخابية رهنا لخطاب التجمع والحركات الاسلامية، عليه تبني الخطاب القومي هو ايضا؛ اما القسم الآخر من الحزب فلا يزال يحن لحميمية التحالف مع حزب العمل "الاشتراكي-الديمقراطي"، ويخشى العزلة عن المجتمع الاسرائيلي. لذا نراه يتحبب عليه ويبرز في وثائقه هويته الاسرائيلية، وانه اسرائيلي اكثر من الاسرائيليين وانه هو حامي الديمقراطية البرجوازية (وثيقة المؤتمر ال25)، ويقزّم من الموضوع الاحمر والفلسطيني لصالح الاجندة الاجتماعية والخضراء.
وكانت حالة الانفصام هذه قد انعكست في المؤتمر ال25 للحزب الشيوعي الاسرائيلي. وكنا في مقال سابق (الصبّار، حزيران 2007) قد أشرنا الى ان الحزب خرج منقسما الى اجندتين واحدة اجتماعية-طبقية متمسكة بهويتها الاسرائيلية، كما انعكست في الوثيقة؛ واجندة اخرى قومية تعارض التماثل مع الهوية الاسرائيلية، وتضع موضوع الاحتلال في رأس سلم الاولويات، ولكنها لم تطرح موقفها في وثيقة مضادة ولم تقدمها للنقاش. وقائع المؤتمر كانت غريبة اذ انتهت بإقرار بالاجماع لوثيقة الحزب الطبقية، ولكن في نفس الوقت حصل التيار القومي على الاغلبية في انتخابات اللجنة المركزية المعارضة تماما لخط الوثيقة.
في وضع طبيعي كان المفروض ان ينتهي الامر بانشقاق، ولكن هذا لم يحدث لان كلا الطرفين يحتاجان الى بعضهما البعض، وهما يواصلان الطريق على مضض، تربط بينهما مصلحة انتخابية. فتيار بركة يحتاج الى كوادر الحزب وميزانياته كما يحتاج الى هيئة الشراكة اليهودية-العربية كيلا يبدو كالتجمع ويعزل نفسه اكثر. اما القسم الثاني فيدرك انه دون الجبهة والتيار القومي لا يستطيع ان يأتي بمقعد واحد في الكنيست.
كل طرف يستخف بالطرف الآخر وباجندته. فلا بركة يطيق حديث غوجانسكي عن الشيوعية في الاجواء الدينية السائدة، ولا غوجانسكي تطيق حديث بركة عن النكبة. الجناح القومي يستخف بالحزب الشيوعي والماركسية، ويتعامل مع "اليهود"، على نحو اشبه بالشراكة العربية اليهودية في "القائمة التقدمية" التي جمعت عناصر من الجناح الوطني العربي وعناصر من الجناح الصهيوني الليبرالي، وكانت تلك شراكة مصالح غير مبدئية سرعان ما انفرطت.
الشراكة في الحزب الشيوعي اليوم باتت بعيدة عن اي اساس ديمقراطي يجمع اشخاصا تفرّقهم القومية او اللون ولكن يجمعهم المبدأ والبرنامج، كما كان الحال مثلا في المؤتمر الوطني في جنوب افريقيا. بسقوط الاتحاد السوفييتي فقد الحزب المادة الجامعة التي تغلبت على المشاعر القومية ووحّدت العرب واليهود على خط سياسي فكري مشترك.
اذا اخذنا الامور برمزيتها، يمكن القول ان التيار القومي تبنى اللون القومي البرتقالي، لون التجمع، في حين تبنى التيار التقليدي اللون الاخضر، وكلاهما معا موّها تماما اللون الشيوعي الاحمر، الصفة المميزة وسبب وجود الحزب الشيوعي الاسرائيلي، مما يعني ان الحزب لم يفقد طريقه فقط بل فقد هويته.
اسماء اغبارية-زحالقة