الاحتكارات النفطية في العراق قراءة في التاريخ والاستراتيجية


سعد محمد حسن
2007 / 11 / 9 - 12:39     

يشغل قانون النفط والغاز الجديد الذي وافقت الحكومة العراقيةعليه وعرضته على مجلس النواب لمناقشته وإقراره , العديد من الأوساط المحلية والدولية على حد سواء , ففي الوقت الذي ترى الحكومة العراقية فيه انه يسهم في تطوير قطاع النفط وزيادة معدلات إنتاجه وتصديره وبالتالي زيادة عائدات العراق جراء ذلك , ترى قوى سياسية والعديد من الاقتصاديين والمختصين والمعنيين ومنظمات المجتمع المدني ونقابات النفط وأوساط إقليمية ودولية بان القانون المذكور يمكن احتكارات النفط العالمية , الانكلو أمريكية خاصة من الدخول إلى مواقع النفط العراقية والاستثمار فيها بصيغة عقود المشاركة أو التقاسم في الإنتاج وهي العقود التي تفضلها الاحتكارات نفسها لما تحقق لها من أرباح طائلة تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات , وتذهب هذه الأوساط إلى التأكيد بان صيغ العقود قد تم إعدادها من قبل شركة العقود الأمريكية ( بير ينفع ______) وبتكليف وحيد الجانب من قبل الاحتكارات الأمريكية والغربية وهي تطرح على الحكومة العراقية في ظروف العراق الراهنة وفي أجواء تتسم بعدم الوضوح والشفافية , وإذا كان لابد من الاستثمار الأجنبي في قطاع النفط فالأجدى كما ترى تلك الأوساط إن يتم توظيفه في عقود الخدمة الفنية أو عقود الشراء التي تمكن العراقيين من امتلاك التقنيات الحديثة وتطوير الملاكات الفنية حيث تشكل الأساس السليم لقيام صناعة نفطية وطنية متطورة وتساهم في زيادة إنتاج النفط وراء تلك العقود يكمن ليس للهيمنة على مقدرات العراق الاقتصادية وإعادة تبعية اقتصاده بالرأسمالية العالمية وتحديد خيارات تطوره اللاحق فحسب بل التأثير على مجموع الدول المصدرة ووحدة منظمة الأوبك وذلك بالتحكم بأسعار النفط ومعدلات إنتاجه في السوق العالمية .

............................

تضعنا دراسة قضية النفط في العراق وتتبع النهب الذي مارسته شركات النفط الأجنبية من العوده لبحث واقع استخراج النفط وتصديره والريع الممنوح للحكومات العراقية المتعاقبة في ظل الامتيازات الممنوحة لتلك الشركات لمجموع الاتفاقيات المعقودة وبيان شروطها وإحكامها العامة والمطالب العراقية وكيف تلاعبت تلك الشركات بحصة الحكومات العراقية قبل إن تشرع ثورة 14 تموز 1958 قانون 80 لسنة 1961 الذي تم بموجبه انتزاع ما مساحته 95,5 % من مجموع الأراضي الخاضعة الامتيازات الشركات نفسها والتي اقتربت من إجمالي مساحة العراق والشروع لاستثمارها وطنياً في السعي لتأسيس شركة النفط الوطنية , وسعي تلك الشركات عبر دفع ودعم قوى سياسية واجتماعية عراقية وبإسناد وتدخل إقليمي ودولي ليس لإلغاء القانون المذكور بل العمل على الإطاحة بالثورة الذي توج بانقلاب شباط الأسود 1963 .

............................

يقترن تاريخ الامتيازات الممنوحة للاحتكارات النفطية العالمية بطبيعة تطور الرأسمالية في طورها الاستعماري , حيث أصبحت الاستثمارات المالية التي تدر الكثير من الإرباح الوجه الرئيسي لها , اثر صراعات واتفاقيات لمصالح سياسية واقتصادية وعسكرية للدول الاستعمارية في سعيها لإعادة صياغة المنطقة واقتسام تركة ألدوله العثمانية ورسم حدود الدول الحديثة وتثبيتها بمعاهدات علنية وغير علنية وتثبيت حدود وصلاحيات الدول الاستعمارية ورسم مصالحها الحيوية ومنها النفطية خصوصاً وذلك بصياغة العقود والاتفاقيات مع السلطات المحلية لتلك البلدان .

............................

شهد العراق سنوات الحكم الملكي عقد أربعة اتفاقيات مع شركات النفط الأجنبية الأولى عام 1925 , الثانية 1931 , الثالثة 1938 , والرابعة 1952 وبموجب الاتفاقيات الأخيرة تم تعديل إحكام الاتفاقيات الثلاث السابقة وإقرار زيادة ريع الحكومة العراقية من عائدات النفط لتصل إلى 50 % وعلى الرغم من التعديل الأخير في حصة الحكومة العراقية فان الاتفاقيات الأربع الأخيرة جاءت تحقيقاً لمصالح تلك الشركات ففي اتفاقيتي 1925 و 1931 تم إقرار النص الإنكليزي والعمل به وبالتالي استبعاد النص العربي للاتفاقيات وكان ذلك ملائماً للشركات تماماً (1) إذ إن النص الإنكليزي قد تم وضعه بصورة غير واضحة ينطوي على تفسيرات متعددة تتيح للشركات ليس التلاعب بمعدلات الإنتاج واقيام مبالغها وحصة الحكومة العراقية فيها فحسب وإنما تمكن الشركات من ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية على الحكومة العراقية نفسها (2) كما عمدت الشركات على تثبيت مبدأ الشركة الأكثر حضوه لها ففي اتفاقية 1931 نصت المادة الثالثة منها على عدم جواز منح الحكومة العراقية أي امتيازات في الأراضي التي تقع غرب نهر دجلة شروط أسهل لطالبي امتياز آخرين من الشروط المعروضة على الشركة نفسها مالم تعرض تلك الامتيازات لهذه الشروط عليها اولاً (3) .
لقد جاءت الاتفاقيات الأربع لتمنح الشركات العاملة في العراق امتيازاً لاستغلال النفط واستخراجه وبيعه على مساحة من الأرض مايقارب من (450) إلف كم مربع وهي المساحة التي تقارب المساحة الإجمالية للعراق , فيما بلغت مدة الامتيازات الممنوحة لتلك الشركات (75) سنة مما مكنها من حجز الأرض طيلة مدة الامتياز وترك أمر استغلالها من عدمه بيدها دون الالتفاف إلى مصلحة العراق ودون إن تفض تلك الاتفاقيات عن أي تنازل أو تخلي تقوم به الشركات نفسها عن بعض من تلك الأراضي , بل على العكس فلقد أبقت هذه الشركات الباب مفتوحاً لمنع الحكومة العراقية من السماح لأي شركة نفطية أخرى من العمل والاستثمار في العراق .

............................

طيلة أكثر من خمس وعشرين عاماً أي منذ اتفاقية 1925 وحتى عام 1952 وهي السنة التي عقدت فيها اتفاقية جديدة على أساس قاعدة مناصفة الإرباح بين الحكومة العراقية وشركات النفط حيث كانت الأخيرة تدفع للحكومات العراقية ريعاً مقداره ( 4 – 6 ) شلنات ذهبية للطن الواحد من النفط وعلى أساس سعر الذهب في السوق الحره غير إن الشركات ظلت تمارس التهرب عن التزاماتها المالية بطريقة أو بأخرى فقبل تعديل عام 1952 كان المفترض إن يكون سعر الذهب هو سعره في السوق الحر غير إن الشركات كانت تدفع للحكومة العراقية على أساس سعر الذهب الرسمي والذي يقل عن سعره في السوق الحره (4) .
لقد كانت الحكومات العراقية تتقاضى (330) فلساً للطن الواحد من النفط تعادل لأربع شلنات في الوقت الذي كانت فيه المملكة العربية السعودية تتقاضى (12) دولار للطن الواحد من النفط المستخرج وحتى بعد تعديل 1952 فان الشركات استمرت بالتلاعب بحسابات الكلفة والاندثار وتدقيق الريع ونفقات التحري والحفر والإنجاز المطلق وفوائد القروض ونفقات الدعاية والى ذلك (6) بغية تقليل حصة الحكومة العراقية وجعلها في الواقع اقل من الحصة المتفق عليها لقد نصت اتفاقية 1952 على إن لايقل الحد الأدنى من إنتاج النفط على الثلاثين مليون طن سنوياً على إن لا تقل حصة الحكومة العراقية عن (25) مليون باون استرليني سنوياً خلال عام 1955 وما بعدها غير إن الشركات عادت وفي المادة السابعة من الاتفاقية إلى النص على إمكانية انخفاض نسب الحد الأدنى من الإنتاج لظروف خارجه عن سيطرة الشركات تمنعها من تصريف الحد الأدنى المذكور .
لقد ترك تحديد أسعار النفط بيد الشركات نفسها ولم يكن للحكومة العراقية رأي فيها مما مكن تلك الشركات من ممارسة العديد من إشكال الضغط سياسياً واقتصادياً وخاصة في مواجهة المتغيرات التي أحدثتها ثورة 14 تموز 1958 مما دفع تلك الشركات من أجراء العديد من التخفيضات في إنتاج النفط سنوات 1958 – 1960 .
لقد خسر العراق جراء سياسة شركات النفط الأجنبية بتخفيض معدلات الإنتاج ملايين الدولارات في الوقت الذي لم يكن وراء تلك التخفيضات أي مبررات سوقية أو اقتصادية في ظل تزايد الطلب العالمي على النفط. وفي مواجهة ضغوطات الشركات سعت العديد من الدول المصدرة للنفط إلى إنشاء منظمة الدول المصدرة للنفط ( أوبك ) وسعت من خلال هذه المنظمة إلى إعادة تنظيم عملية تصدير النفط والتحكم بأسعاره ومعدلات إنتاجه ومن الجدير بالذكر إن شركات النفط الاحتكارية أبقت أمور الإدارة والتوظيف والاستخدام بأيديها على الرغم من وجود العديد من النصوص التي تلزمها باستخدام موظفين عراقيين ممن تتوفر لديهم الكفاءات المطلوبة بل إن الحكومة العراقية لم تستطيع من تعيين مدراء عراقيين في مجلس إدارة الشركات ليكونوا ممثلين لها في إدارة الشركات . وفي جانب أخر اشترطت الاتفاقيات المعقودة على إحالة الخلافات التي قد تحدث إلى التحكيم الدولي وبذلك منع القضاء العراقي من ممارسة حقوقه في هذا الشأن الذي يمس سيادة الدولة العراقية على أراضيها . كما أعفيت الشركات من الضرائب والرسوم الأخرى وخاصة الجمركية منها .
لقد عكست الاتفاقيات المعقودة بأحكامها وشروطها شركات النفط الأجنبية العاملة في العراق من إن تتحول إلى دولة داخل الدولة العراقية , تمارس صلاحيات الدولة الأصلية في مناطق امتيازاتها دون إن يحق للدولة العراقية من التدخل في شؤونها .
............................

شكلت ثورة 14 تموز 1958 انعطافاً كبيراً في نضال الشعب العراقي وقواه الديمقراطية وبداية مرحلة جديدة في تطور العراق اللاحق على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وأراد العراق ضمن ما أرادته الثورة من التخلص من هيمنة شركات النفط الأجنبية وتلاعبها في مقداراته .
كانت المفاوضات بين المفاوضين العراقيين وشركات النفط والتي استمرت زهاء ثلاثة سنوات تتركز في وحدة المطالب العراقية في ضرورة إن تتنازل الشركات عن الجزء غير المنتج في حينه من امتيازاتها وإعادة النظر في حسابات الكلفة وما يتعلق بضرورة الاتفاق على تحديد أسعار النفط وأنواع الكلف ونسبها وكيفية حسابها وتدقيق الربح وتعديل قاعدة المناصفة في الإرباح وزيادة حصة الحكومة العراقية منها والنظر في مساهمة العراق في شركات النفط العاملة تطبيقاً لما جاء في اتفاقية ( سان ريمو ) وتنفيذاً لروح النصوص ألوارده في الاتفاقيات المعقودة وما يتعلق بذلك من المشاركة في الإدارة العليا وفي الشؤون التوظيف والاستخدام والتسريع بعملية تعريق ـــ الشريكات وكذلك الاشرف على حساباتها والإسهام بشكل حقيقي وفعال في إدارة شؤونها غير إن الشركات واستمراراً لنهجها المعادي لمصالح العراق مارست عمليات المماطلة والتسويف في رفض أو قبول بعض من تلك المطالب , في إطالة المفاوضات بغية إيصال الملل واليأس في نفوس المفاوضين العراقيين ودفعهم للاستسلام لمطاليبها والإذعان لسلطتها لهذا لم تصل الحكومة العراقية طيلة سنوات المفاوضات الثلاث إلى أي نتيجة ايجابية في الوقت الذي لم يكن للشركات من إن تتوقع إن تخطو الحكومة العراقية إلى إمام لسن قانون النفط رقم (80) لسنة 1961 الذي أفضى باسترجاع 99,5 % من الأراضي العراقية الخاضعة الامتيازات تلك الشركات . ولوضع القانون موضع التنفيذ أعدت الحكومة العراقية لائحة قانون تأسيس شركة النفط الوطنية كأداة للحفاظ على الثروة النفطية وحقوق العراق بإنشاء قطاع نفطي عراقي يمنح شركة النفط الوطنية حق الاستثمار حصراً في جميع المناطق التي تحتوي على الثروة النفطية بما هو مشمول بتعيين مناطق الاستثمار للشركات النفطية في القانون المذكور . ووضع شركات النفط الأجنبية في العراق إمام الأمر الواقع وسد الطريق إمام مناوراتها ومحاولاتها في إيقاف العمل بالقانون المذكور . غير إن طبيعة الأوضاع السياسية الداخلية غير المستقرة التي شهدها العراق حينها وظهور صراعات وتحالفات سياسية واجتماعية لقوى متعددة المصالح ولأهداف سياسية محددة رافق ذلك قيام شركات النفط الأجنبية بممارسة العديد من الضغوطات لمنع شركات النفط العالمية الأخرى من شراء النفط العراقي أو العمل على استخراجه أو مشاركة الحكومة في ذلك أو التعاقد معها بل إنها أنذرت بقية الشركات بمقاضاتها إمام المحاكم الدولية إن أقدمت على العمل في العراق أو شراء نفطه أو المساهمة في استخراجه في الوقت نفسه قامت بتخفيض نسبة الزيادة في الإنتاج من13,3 % عام 1960 إلى 3,5 % عام 1961 لتصل إلى 1,3 % عام 1962 , لقد كانت تلك أهم الضغوطات التي مارستها الشركات في بلد يعاني من تخلف في بناه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .
............................

سعت شركات النفط الأجنبية العاملة في العراق لاستغلال الأوضاع الجديدة التي نشأت بعد الإطاحة بثورة 14 تموز فأقدمت ابتدأً على زيادة إنتاج النفط مرة واحدة ليصل معدل إنتاجه إلى 14,3 % وكان وراء ذلك محاولة للالتفاف على قانون (80) وإفراغه من مضامينه والسعي لإلغائه فيما بعد . ولم يكن من باب المصادفة إن يأتي سعي الشركات متوافقاً مع سعي الحكومة العراقية لإفراغ القانون المذكور من مضامينه فجاء قانون شركة النفط الوطنية الذي تم إقراره عام 1964 مبتوراً ومشوهاً بالنسبة لمسودة لائحة القانون لسنة 1962 التي احتوت على نص يقضي بمنع شركة النفط الوطنية حصراً حق استثمار جميع المناطق التي تم استرجاعها من الشركات الأجنبية بموجب قانون (80) فيما جاء قانون الشركة الجديد الذي حمل الرقم (11) لسنة 1964 خالياً من هذا الاشتراط وكانت تلك أول إشارة على عدم جدية الحكومة العراقية آنذاك في استثمار النفط وطنياً بل إنها وجهت ضربة كبيرة لشركة النفط الوطنية وهي في مهدها فولدت مشوهة لا تستطيع الحركة أو العمل حيث لم تخصص لها أي ارض تستطيع فيها من ممارسة نشاطها النفطي .

دشنت قرارات تأميم شركات النفط الأجنبية العاملة في العراق عام 1972 و 1973 مرحلة جديدة في تاريخ العراق المعاصر في ظروف وطبيعة تشكيل نظامه السياسي الذي جاء بانقلاب 1968 وأفاق تطوره اللاحق في طبيعة المهام الملقاة على الدولة العراقية بعد هيمنتها على عائدات النفط جراء تلك القرارات .
لقد أصبحت الدولة العراقية بحق حاملة __ للعلاقات الرأسمالية في ____ رأسمالية الدولة الوطنية وفي ظل غياب طبقة برجوازية صناعية عراقية قادرة على أنجاز مشروعها ألتحديثي. غير إن التضخم الذي أصاب الدولة وعزز من قوتها في مواجهة مجتمع مدني ضعيف غابت عنه مؤسساته نتيجة القمع المستمر الذي مارسه النظام الدكتاتوري.
لقد تضخم النظام بأجهزته القمعية فيما أدت سياسة القمع والحروب ليس لإضعاف المجتمع المدني وتغييب مؤسساته وإعاقة تطوره فحسب بل في إفراغ قرارات التأميم من كل مضامينها .