|
إسرائيل والمشكلة الإسرائيلية و..المشكلة العربية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2093 - 2007 / 11 / 8 - 12:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كان إنشاء دولة إسرائيل حصيلة التقاء أربعة عناصر: الهولوكوست النازي، تطلع الطبقة الوسطى اليهودية في غرب أوربا وشرقها إلى إقامة دولة خاصة بها، ومصالح القوى الغربية المهيمنة في السيطرة على منطقة الشرق الأوسط القريبة من أوربا ومستودع النفط العالمي، فضلا عن كونها موطن شعوب ودين وثقافات (عرب ومسلمين..) لا يكن لهم الغرب شيئا من الود. أما العنصر الرابع ففلسطيني وعربي جوهره تخلفنا الاجتماعي والسياسي والثقافي. كانت البرجوازية اليهودية طورت مشاعر قومية بالتزامن مع الموجة القومية الأوربية الثانية في الثلث أو الربع الأخير من القرن التاسع عشر، زمن توحد ألمانيا وإيطاليا. وهي طبقة مثقفة عموما، ميسورة ماديا، وتعرف الغرب جيدا، ولا تشعر بغربة عقلية فيه، لكنها تشعر بغربة سياسية وروحية، لكون عصر القوميات المتأخرة الأوربي، في ألمانيا وأكثر في بولونيا وروسيا كان معاديا جدا لليهود. وبعد عقدين فحسب من مؤتمر بال 1897 الذي أسس للصهيونية الحركية، سيصدر تصريح وزير الخارجية البريطاني اللورد آرثر بلفور معبرا عن رعاية الحكومة البريطانية لمشروع دولة يهودية في فلسطين، وبعد ثلاثة عقود أخرى ستقوم الدولة الموعودة. كيف نفهم قصة النجاح هذه؟ لقد جعل المصالح الاستراتيجية والاقتصادية الغربية من قيام دولة اليهود شيئا ممكنا، فيما جعلته تطلعات البرجوازية اليهودية المثقفة أمرا مرغوبا. أما الهولوكوست فسيضفي على قيام إسرائيل قيمة أخلاقية وخلاصية. فإذ التقى الممكن والمرغوب والواجب، ولم يواجه لقاءهم بمقاومة من المستوى نفسه، أو ووجه بمقاومات مشتتة ومتخلفة وغير فعالة، فكيف للنجاح أن لا يكون رابعهم! وهكذا ستحل المسألة اليهودية، وهي مسألة غربية، بينما ستولد مسألة إسرائيلية، وهذه مشكلة عربية. ونقول مشكلة عربية لا مسألة عربية لأنه ليس ثمة ذاتية عربية قادرة على تحويل المشكلات المختلطة إلى مسائل منظمة. بعبارة أخرى مشكلة العرب مع أنفسهم أولا. فإن حلت هذه سهل حل المسالة الإسرائيلية. غاب عن معادلة إنشاء إسرائيل بالكامل سكان البلاد الأصليين الذين كان اعتبرهم "وعد بلفور" (2 تشرين الثاني 1917) جماعات أو جاليات أخرى في فلسطين. هذا أمر مألوف في تاريخ التوسع الاستعماري. فالتقليل من شأن السكان الأصليين وصولا إلى إنكار وجودهم ذاته يتيح للمسيطرين الغربيين أن يجمعوا المجدين: انتهاك حقوق المسيطر عليهم، وحفاظ المسيطرين على راحة ضمائرهم وسلام نفوسهم. على أن إسرائيل لا ترتد إلى تجربة التوسع الاستعماري الغربي خلافا لما استقرت عليه القراءة القومية العربية التقليدية. الصهيونيون في فلسطين ليسوا مثل الفرنسيين والبريطانيين في بلدان المشرق والعرق ومصر، ولا حتى مثل الفرنسيين في الجزائر. وفوزهم بدعم القوى الغربية ذات التاريخ الاستعماري لا يرد إسرائيل محض دولة استعمارية، وتحالفهم الوثيق مع القوى الغربية وقياهم بوظائف أمنية واستارتيجية مهمة للقوى الغربية المهيمنة لا يرد الدولة العبرية إلى "دولة وظيفية" فحسب. فعدا الهولوكست، وقد كان تجربة كاوية ومكونة للوعي اليهودي المعاصر، ثمة عقيدة "أرض إسرائيل"، وهي ليست مخترعة من عدم؛ والأهم أن هناك تاريخا من ستة عقود لدولة مزدهرة وقوية طورت ثقافة ونظما اجتماعية وتعليمية وجامعية متقدمة، وتاريخا يقارب القرن للتوطن اليهودي في فلسطين. ويلقى ذلك كله تعزيزا من المكانة التي تحتلها إسرائيل واليهود في الغرب، والغرب ذات العالم الحديث ومثاله. يمكن الكلام على عنصر فوق أخلاقي في ارتباط الغربيين بإسرائيل، يضفي على بقائها وأمنها وازدهارها قيمة مقدسة لا يكاد يضاهيها مقدس آخر. من المباح نقد المسيحية في أوربا وأميركا، ومن الشائع نقد الثقافات القومية والذاكرات القومية، ومن السهل نقد الديمقراطية، لكن نقد إسرائيل، أو بالخصوص التشكيك بالهولوكوست هو أقرب شيء إلى الكفر لدينا. و"تكفيريو" الغرب مختصون بملاحقة أي تشكيك بالهولوكوست، وبإسرائيل، لا يشغل بالهم نقد الديانة اليهودية أو المسيحية. يضاف إلى ذلك كله استدعاء ذاكرة اضطهاد نشط لليهود في الغرب قبل الحديث، وتمييز ضدهم في غيره. يضاف إليه أيضا دور بالغ الأهمية لمنحدرين من اصول يهودية في تكوين العقل الغربي الحديث والعلم الحديث. يضاف إليه أخيرا وزن كبير ليهود في الاقتصاديات الغربية والجامعات الغربية والإعلام الغربي. على أن العامل الأهم في مشكلتنا الإسرائيلية هو مشكلتنا العربية كما ألمحنا فوق. وهذه مشكل مركبة، سياسة وثقافية ومادية (أي اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية ..). وليست المشكلة هذه سرا ولا كذلك معالجتها. فلا مجال لمقاربة مثمرة للمشكلة الإسرائيلية دون تحويل عميق في علاقات السلطة في بلداننا، بحيث يعامل سكان دولنا بطريقة تقارب معاملة إسرائيل لسكانها اليهود. هم يعاملون اليوم بطريقة إسرائيلية، أي كما تعامل إسرائيل الفلسطينيين. ولا معدى من حفز نهوض تعليمي وثقافي عام، وتوسيع قاعدة المشاركة في الثقافة الوطنية والتفاعل الثقافي العربي. ولا بديل عن إرساء هياكل إنتاجية فعالة، تثمر الميزات التفاضلية الطبيعية والبشرية في بلداننا، بما يمكن اقتصادياتنا من التفاعل الإيجابي مع محيطها والعولمة الجارية. كل هذه التحولات يمكن أن تنجز في جيل واحد، أي ثلاثين عاما. قد نذكر أن تركيا سورية كانتا في مستو واحد قبل جيل فقط، وكانت مصر وكوريا الجنوبية في المستوى نفسه قبل جيل ونصف. فإن استدام تمركز نظمنا حول السلطة وبقائها الخاص، فستتفاقم مشكلاتنا جميعا، ولن تحل قبل جيلين أو ثلاثة... لكن خلال جيلين أو ثلاثة قد نتحلل بدل أن تحل مشكلاتنا. وهذه عملية تجري الآن على قدمين ثابتتين. وبافتراض سرنا نحو حل المشكلة العربية المركبة فإن المشكلة الإسرائيلية ستتجه نحو الحل تلقائيا. لا لأننا سوف "نقضي على" إسرائيل، بل لأننا سوف نكف عن الاستثمار في إسرائيل ومواجهتها والتهويل من شأنها لإدامة نظم سياسية وثقافية واجتماعية هي مشكلتنا الحقيقية. إن المشكلة الإسرائيلية لا تنبع تلقائيا من وجود إسرائيل، لذلك فإن القضاء على المشكلة الإسرائيلية لا يعني بحال القضاء على إسرائيل. إنه يعني القضاء على حاجتنا إلى شبح إسرائيل وتعللنا بإسرائيل ووهمنا حول إسرائيل، وجملة الهياكل والمادية والثقافية والسياسات، المصانعة للواقعة الإسرائيلية لكن كذلك "الممانعة" حيالها. إسرائيل بنت الغرب واليهود، أما المشكلة الإسرائيلية فابنتنا نحن. لذلك تغيير واقعنا هو المنطلق الصحيح للتخلص من المشكلة الإسرائيلية، ومن ثم ضبط إسرائيل.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظام ثلاثة مارقين أو أربعة: من أين تأتي العدالة؟
-
وضعيةُ معاصَرةٍ: من النبي محمد إلى المثقف المعاصر
-
في توازي التفكك الوطني وانقسام الطيف الحداثي في سورية
-
العلمانية كوعي ذاتي لدنيوية الدولة
-
في إيديولوجية المواجهة ووظيفتها ومآلاتها
-
في نقد الردح والردح الذاتي
-
حوار شخصي وصريح مع إسلامي سوري في شؤون الإسلام والحرية والعق
...
-
في النموذج الإخواني وتناقض الإسلامية المعاصرة
-
نحو إعادة هيكلة الدور الإقليمي لسورية
-
خواطر مرسلة في شأن السياسة والثقافة
-
في أن الليبرالية الاقتصادية سياسة الجيل البعثي الثالث
-
في أصول المشكلة الثقافية العربية وجوهرها
-
في أزمة الهيمنة ومصير العروبة في سورية
-
قضية محمد حجازي وحرية الاعتقاد الديني
-
صراع مطلق فصنع طوائف فتقسيم دول..
-
تأمل في شأن الحرية ونقد الدين
-
العلمانية أهم من أن تترك للعلمانويين!
-
العرب أمام المشكلة الغربية
-
سورية والدول العربية بين ما دون الدولة وما فوقها
-
-أمتان-: حكم ذاتي إسلامي في ظل دولة علمانية، أو العكس!
المزيد.....
-
موزة ملصقة على حائط.. تُحقّق 6.24 مليون دولار في مزاد
-
تقارير عن معارك عنيفة بجنوب لبنان.. ومصدر أمني ينفي وجود قاد
...
-
قوات كييف تعترف بخسارة أكثر من 40% من الأراضي التي احتلتها ف
...
-
إسرائيل تهاجم يوتيوبر مصري شهير وتوجه له اتهامات خطيرة.. وال
...
-
بوليتيكو: الصين تتجاوز الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في
...
-
وسائل إعلام عبرية: اختفاء إسرائيلي في الإمارات والموساد يشار
...
-
غرابة الزمن وتآكل الذاكرة في أعمال عبد الله السعدي
-
فوائده كثيرة .. ابدأ يومك بشرب الماء الدافئ!
-
الناطق باسم -القسام- أبو عبيدة يعلن مقتل إحدى الأسيرات الإسر
...
-
-تحليق مسيرة ولحظة سقوط صواريخ-.. حزب الله يعرض مشاهد استهدا
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|