التهافت والهرولة الانتخابية في المغرب


محمد الخباشي
2007 / 9 / 26 - 10:04     

عود على بدء.
بعد طول انتظار، كتمت أنفاسي كي لا تكلم، مخافة أن يتهمني احد بالتشويش عليه. وقررت ألا أتكلم وألا اكتب شيئا طول هده الفترة، واضطررت إلى تعليق حتى الرسائل التي كنت قد بدأت أوجهها إلى البعض. وبعد مرور الانتخابات وانكشاف المستور، ها أنا سأعود إلى هدا الموضوع بالذات، في ثلاث مقالات: أولها عن الانتخابات بصفة عامة والظروف التي مرت فيها، والثاني عن الحرب الديماغوجية التي صبرنا عليها على مضض والتي رافقت إعلان حزب الطليعة عن المشاركة، والثالث محاولة لتقييم أداء الحزب وتأثير هده الانتخابات عليه.


أولا : انتخابات ونزاهة أعز من الأبلق العقوق
هده الانتخابات كانت استثنائية بكل المقاييس. استثنائية بعدد من شارك فيها، بمن دخلها لأول مرة، وبنسبة المشاركة فيها، وخاصة بالأطنان الهائلة من الأوهام التي تم تسويقها من طرف الأحزاب والسلطة على حد سواء. وسال مداد كثير عقب انتهائها، وبروز نتائجها. وتضاربت ردود الفعل والتقييمات الأولية، والتفسيرات لإشكالية العزوف المتزايد.... وهده الانتخابات استثنائية أيضا بحجم المصطلحات التي تم اختلاقها من جديد كالحياد الايجابي للسلطة، والمهرولون المخزنيون....الخ ورغم كل ما قيل، وغزارته، فان العزوف المسجل لم يتجرأ احد من ديناصورات الأحزاب السياسية أن يشير إلى مكمن الخلل الحقيقي.
قال وزير الداخلية ان نسبة المشاركة بلغت حوالي 37بالمائة ولم يقل انها بلغت 37 بالمائة، وهناك فرق بينهما ما دام صوت واحد قادر على خلق الفارق. مارأي الديناصورات السياسية في هدا البرلمان الذي "انتخبه" أقل من ثلث المسجلين؟ بل ما رأيهم ادا قلنا ان من صوتوا، بما في دلك الاوراق الملغاة، لا يمثلون سوى اقل من 1/7 من المغاربة؟؟. وتجاوزا، ادا افترضنا ان نسبة المشاركة هي كما تم التصريح بها، لمادا فوجيء الديناصورات بهدا العزوف؟ اقرارهم بالمفاجأة، يؤكد ان الاحزاب لا تعرف اي شئ عن المجتمع المغربي، وهدا امر مؤكد. والمتتبع للاجواء العامة للانتخابات، مند فتح التسجيل في اللوائح الى يوم التصويت، بدون شك سيعرف ان مشاركة المغاربة لن تكون الا ضئيلة. من يتحمل المسؤولية ادن؟ أولا تتحملها السلطة، وهده مسألة لم يشر اليها ولا واحد من ديناصورات القوى السياسية. ولا اقصد ان السلطة تتحمل تبعات عزوف المغاربة عن التصويت، بل تتحمل مسؤولية 37 بالمائة، حيث احتسبت هده النسبة بقياس عدد المصوتين على عدد من وردت اسماءهم في اللوائح. وهده مسألة غير منطقية. ان من تقدم بمحض ارادته الى السلطات قصد التسجيل باللوائح الانتخابية ليس هو العدد المسجل فعليا اي 15 مليون و700 الف مواطن. بل أقل بكثير، لأن السلطة عمدت الى تسجيل الناس تلقائيا انطلاقا من سجلات الحالة المدنية، ونفخت في عدد المسجلين، بعد ان لاحظت العزوف عن التسجيل، وبعد فتح فترة استثنائية للتسجيل دون جدوى. وعليه فالسلطة لم تفاجأ بتلك النسبة. فلو تم الاكتفاء بعدد المسجلين تلقائيا، لكانت نسبة المشاركة في التصويت ما يناهز 90 بالمائة. ادن من هده الناحية تتحمل السلطة جزءا من المسؤولية. تتحمل المسؤولية ايضا بنفخها في ما اسمته الاقبال على سحب البطائق الانتخابية.، وهدا امر لم يحصل ابدا، حيث تجند اعوان السلطة لتوزيع تلك البطائق على الناس في منازلهم. وبقي عدد هائل لم يسحب ولم يتم ايصاله الى علب الرسائل في المنازل.
اما الاحزاب السياسية فهي تتحمل المسؤولية من جراء اطنان الاوهام التي تسوقها، وقبل دلك في المساهمة في تسويق الاوهام التي سوقتها السلطة. فيما سبق، كانت الاحزاب توزع منشوراتها الانتخابية المليئة بالوعود، في غالبيتها تشكل مشاريع تتعهد تلك الاحزاب بالقيام بها في حالة الفوز، في الوقت الدي يفترض ان يكون المنشور بمثابة برنامج للحكومة في حالة الفوز بالأغلبية في البرلمان. والبرلماني لا تربطه صلة بتلك المشاريع، لانها من صلاحيات المجالس البلدية والجماعات المحلية. وتشكل وعي زائف لدى النخبة، ولدى المواطنين الدين يبررون عدم مشاركتهم بانهم"مادارو لنا والو" اي انهم لم يفعلوا لنا شيئا. وفي الاصل لا يمكن ان يفعلوا شيئا مادام ليس من صلاحياتهم. فهاهي الاحزاب تحصد نتائج الوعود الكادبة والاوهام التي تسوقها.
ما لا يعرفه المواطن البسيط هو ان ما تسميه الاحزاب السياسية برنامجا انتخابيا، هو في حد داته وهم كبير. بالنظر الى القانون الانتخابي، لا يمكن أن يتمكن حزب ما بالفوز بالاغلبية دون تحالف. وبالنظر الى ما سمته برامج انتخابية، يصعب ان تجد ما يمكن التحالف حوله او برنامجا موحدا. وبالتالي فإن اية حكومة لا يمكن ان يكون برنامجها منسجما مع البرامج الانتخابية للأحزاب المشكلة لها. اضافة الى هدا، فان الحكومة محكومة هي نفسها، ليس ببرامج الاحزاب السياسية، بل بالتزامات المغرب بشروط المؤسسات المالية الدولية والدوائر الامبريالية. كل هدا تعرفه الاحزاب السياسية بما فيها اليسارية جيدا وتستمر في الضحك على الدقون. وقبل هدا وداك، فوز حزب سياسي بالأغلبية، ولو كانت مطلقة، لا يعني بالضرورة ان الوزير الاول سيكون في صفوفه. ما يعني أن الوزير الأول ليس ملزما بالتقيد ببرنامج انتخابي معين، نفس الشيء بالنسبة لبقية الوزراء الدين يعينهم الملك باقتراح من الوزير الاول.
في تبريرها للمشاركة الهزيلة، امطرتنا بعض الاحزاب بسيل من التضليل والخطاب الديماغوجي المقيت . وأخطر تلك الخطابات هي التي قدمها من يسمون انفسهم ظلما بالاحزاب اليسارية (لا اقصد كل التنظيمات اليسارية). ولعل اكثرها خطورة ما قاله احد الديناصورات الرافضة للانقراض، حيث قال ان في فرنسا كانت المشاركة ضعيفة في الانتخابات الرئاسية، ولما رأى الفرنسيون انفسهم امام خطر اليمين العنصري، هبوا الى ما يشبه تزكية جاك شيراك، ولأن المغاربة لم يحسوا يأي خطر فإنهم فضلوا الا يصوتوا ..... هدا تضليل ما بعده تضليل. لست ادري من اية زاوية يمكن المقارنة بين الانتخابات الفرنسية والمغربية؟؟؟ ولا اعلم ان كان في فرنسا مقدمون وشيوخ واعوان السلطة الدين يدقون الابواب لتسجيل الناس في اللوائح الانتخابية، او يودعون البطائق الانتخابية تحت أعتاب الابواب او في علب الرسائل المنزلية، ولا اعلم ان كان مواطن فرنسي واحد قادر ان يصوت على مرشح ما مقابل 50 درهما ..... وقبل كل دلك لا اعلم ان كان في فرنسا حزب واحد لا يملك برنامجا انتخابيا، كي لا اقول ان كان في فرنسا حزب مليء بالاعيان والرعايا والاتباع والبيادق وسماسرة الانتخابات....
وعاد نفس الشخص، بعد تحسسه للصفعة التي تلقاها، حين استفاق على بيادقه التي تتساقط كأوراق الخريف، ليتهم المغاربة بأنهم لم يستجيبوا لنداء للملك. هدا كلام خطير، فيه مس بشخص الملك أولا. بادعاء صاحب القول ان المغاربة لم يستجيبوا للملك فيه انتقاص من شخصية الملك، كأنه يريد أن يقول ان هده سابقة في المغرب، وهو الدي صرح امام الملأ ان معتقلي فاتح ماي يسبون رئيس الدولة. وبدلك فهو يكرر نفس الشيء على الاقل مرتين، وباختصار يريد ان يقول ان المغاربة اصبحوا يتجرأون على الملك. والعهدة على من قال دلك. فيه ايضا احتقار للمغاربة ، حيث يعتبر عدم اقبالهم على الانتخابات، تسجيلا وتصويتا، ينم عن عدم وعي ، متجاوزا امكانية ان يكون دلك عقاب لمخزنيته التي فاتت المخزن نفسه. وفيه نوع من التخوين المبطن للمغاربة، متناسيا ان الحكومة هي التي لا تستجيب لنداء الملك حين دعا الى المفهوم الجديد للسلطة و واطلاق برامج تنموية حقيقية، مما ادى به الى اطلاق مجموعة من المبادرات، بعد عجز الحكومة عن دلك.
وتعددت التبريرات لكنها غير قادرة على الاعتراف ان الاحزاب السياسية لا تِؤطر بسبب بنيتها التنظيمية، الا عدد ضئيل من المغاربة. اغتراب الخطاب الحزبي على المجتمع المغربي امر واقع، لانها لم تستوعب ، او ترفض ان تستوعب بنية المجتمع المغربي، التي تستحيل في ظها الحديث عن انتخابات حرة ونزيهة. فالمجتمع المغربي يتشكل اولا من غالبية سكانية قروية، وما يتحمل دلك من تبعات اهمها الفقر والامية. لنسأل كل الاحزاب، ومنها اليسارية على الخصوص، عن استراتيجية التواصل مع الكتلة الناخبة في المناطق القروية. حسب الاحصائيات الرسمسة، بلغت نسبة التصويت 43 بالمائة. وحسب نفس المصادر، 57 من المسجلين باللوائح الانتخابية هم اميون. فعلى اي برنامج يصوت هؤلاء؟؟؟ وهل يعرفون اصلا معنى البرنامج الانتخابي؟
المجتمع المغربي ايضا منبني على اساس عرقي وقبلي. وتعقد تشكل العلاقات الاجتماعية فيه، يحول دون اجراء انتخابات حرة ونزيهة على اساس البرامج الانتخابية فرضا انها موجودة. والدي جرت به العادة، ان الناس لا يصوتون على الاحزاب، بسبب الامية والفقر و التشكل القبلي والعرقي، بل يصوتون على الاشخاص. وهو الامر الدي لم يحل دونه حتى النظام الانتخابي الحالي.
الاحزاب السياسية بعددها الذي شارك في الانتخابات، لا يعكس بالضرورة ديناميكية سياسية في المجتمع المغربي، اقتضت ان تتعدد الافكار والمداهب الفكرية والسياسية. بل تفبركت في وقت سابق من طرف الداخلية لتعويم الخريطة السياسية. ومع مرور الزمن اصبح تفريخ الاحزاب امرا مالوفا، حيث يتم تأسيس احزاب بين عشية وضحاها دون امتدادات جماهيرية، في الوقت نفسه، تحدث انشقاقات، ليس بسسب اختلافات ايديولوجية او سياسية، وهده سمة ميزت حتى الاحزاب المحسوبة على اليسار. وبالتالي يحق السؤال : هل تعني مشاركة 33 حزبا في الانتخابات وجود 33 برنامجا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.... لحل معضلات المغرب؟؟؟؟؟؟
الاحزاب السياسية لا تستطيع ان تغطي الدوائر الانتخابية كلها، فتلجأ الى منح التزكية لأناس لا تربطهم صلة بالحزب، هدا ادا تحدثنا عن الاحزاب المنظمة.، وهي مسألة تثير الكثير من الحزازات والحساسيات، تصل احيانا الى درجة الانسحابات الجماعية والانشقاق.... اما الاحزاب التي يتم تفريخها بين لحظة واخرى، بانعدام قاعدة جماهيرية، فهي اصلا فتحت كوكالات انتخابية ليس الا. وبعد الانتخابات شهد البرلمان وكدا الجماعات المحلية والمجالس البلدية، هجرات وجولات بعض الاشخاص بين الاحزاب وتبديل الالوان الخ... يعني دلك ان حزبا حصل على 60 مقعدا، ليس بالضرورة ناجما عن قاعدة جماهيرية متعاطفة مع الحزب بل في غالب الاحيان مرتبطة نفعيا او عائليا او عرقيا ... بالشخص "المنتخب"، بل ليس مضمونا ان الحزب داته قد يحتفظ بهدا العدد نظرا للاستقطابات المصلحية التي جرت بها العادة. والانكى من دلك، اية سلطة تملكها الاحزاب السياسية على "منتخبيها" الوافدين من خارج التنظيم الحزبي أن وجد؟؟؟ المشكل الحقيقي الاول يكمن في دات الاحزاب السياسية التي ليست احزابا حقيقية.
اما المشكل الحقيقي الثاني، وهو الاساسي، فقد تم السكوت عنه الى حين. ويكمن في صلاحيات البرلمان نفسه. بغض النظر عن الدستور وطبيعته، وبغض النظر عن طبيعة "المنتخبين" وتركيبة البرلمان على علاته، فإن ما براه جزء من المغاربة من غياب عن جلسات البرلمان، وكدا عدد الدين يصوتون على مختلف القوانين ومنها الميزانية مثلا، يدرك أن البرلمان مجرد غرفة لتسجيل قرارات الحكومة. وادا اضفنا الملاحظات المتعلقة بالتركيبة، نتأكد أن البرلمان لا يهم جزءا من اعضاءه "المنتخبين" في شيء. بل يهمهم في شيء واحد وهو الحصانة البرلمانية والراتب الشهري والتقاعد.... والمسؤولية تقع على الاحزاب السياسية بالدرجة الاولى، لانها هي التي تمنح التزكية لجميع اصناف الوصوليين والانتهازيين.
والنتيجة ان ما جرى في المغرب هو تهافت بين ما يشبه احزاب، على برلمان ليس سيد نفسه، وبعضها على حكومة بدون حكم. والمنطقي هو ان التنافس الحقيقي يكون بين احزاب حقيقية على سلطة حقيقية.