الماركسية والإيكولوجيا - نظرة تأريخية
ثامر الصفار
2007 / 8 / 8 - 06:43
ثمة تاريخ طويل في ادانة ماركس لعدم اهتمامه بالايكولوجيا، بيد ان الحقائق التي بدأت تتكشف خصوصا بعد نشر المؤلفات الكاملة)(1) لماركس وانجلز جعلت مااورده جورج ليختيم في كتابه الشهير الماركسية: دراسة تاريخية ونقدية المنشور عام 1961 من ان (( الطبيعة البشرية هي الطبيعة الوحيدة التي كانت ذات صلة في فهم التاريخ بالنسبة ماركس....)) وان ماركس (( ترك بحكمة كبيرة، الطبيعة – عدا الطبيعة البشرية – وشأنها)) بمثابة نكتة فجة. ولا بد من الاشارة الى ان ليختيم لم يكن ماركسيا لكن ما قاله لم يكن يختلف عن النظرة العامة التي كانت سائدة في اوساط المفكرين اليساريين خلال الستينات ازاء علاقة التجافي بين ماركس والبيئة، واذا شئنا الدقة بين الماركسية والايكولوجيا.
فبعد ان تم نشر المؤلفات، وخصوصا الكتابات العلمية – التكنولوجية، التي حفزت العديد من السجالات، لم يعد هناك مجال للشك باهتمام ماركس بالطبيعة، هذا الاهتمام الذي رافقه طوال حياته. ولكن هل تطور هذا الاهتمام الى الحد الذي مكن ماركس من تطوير فهم ديالكتيكي لعلاقة الطبيعة – المجتمع بحيث يمكن ان يشكل نقطة انطلاق لنا لفهم الازمة الايكولوجية للمجتمع الرأسمالي.
للاسف لا يزال البعض مصرا على الاهمية الثانوية لما كتبه ماركس حول هذا الموضوع قياسا باهمية الموضوع الاساسي له وهو الاقتصاد، ويضم هذا البعض عدد من المفكرين الماركسيين اللذين لا يزالون يساهمون ، ربما دون قصد، في تعزيز هذه الفكرة. نذكر على سبيل المثال موريس غودلييه الذي اشار الى ان ما اراده ماركس قبل كل شيء هو الكشف عن قوانين الحركة الاقتصادية للمجتمع البرجوازي ...... وترك الكثير من القضايا دون ان يعالجها بشكل تفصيلي . (2)
البعض الاخر يلوم ماركس على تبني موقف يضع الصناعة والتصنيع قبل كل شيء مهما كان الثمن، وهو ما يعرف عادة بالموقف البرومثيوسي. في حين يزعم آخرون بان ماركس لم يترك لنا ارثا ايكولوجيا مهما يمكن نقله الى الاطوار اللاحقة من الفكر الاجتماعي.
اما احدث انتقاد، وهو ما ساحاول الرد عليه في السطور القادمة، فقد جاء على ايدي مجموعة من الباحثين في مجلة رأسمالية، طبيعة، اشتراكية عام 2001، حيث اجمعوا على عدم امكانية ماركس المساهمة بتطوير الفكر الايكولوجي لانه ، انتبهوا الى هذا، كان يعيش في القرن التاسع عشر، اي قبل ظهور العصر النووي، وقبل اكتشاف او تصنيع الكثير من المنتوجات المضرة بالبيئة، ولهذا فهو لم يستخدم كلمة ايكولوجيا في اي من كتاباته.
دعونا ننظر عن كثب، حسب التعبير الماركسي، لتاريخ الفكر الايكولوجي وعلاقته بالماركسية، ولنبدء اولا باخر الانتقادات لنثبت افضلية ماركس وانجلز، وغيرهما من مفكري عصره، علينا كونهم قد عاشوا في مرحلة انتقال المجتمع الاقطاعي الى الراسمالية.
لقد اشار ماركس الى وجود ثلاث مراحل في عملية نشوء التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية: (1) التمهيد التي بدأت في ستينات القرن الخامس عشر واستمرت حوالي 140 عاما، (2) الشباب حيث تكون السوق العالمي، وتكاثرت المانيفاكتورات، ودامت حوالي 100 عام، (3) الاخيرة وفيها اخلت المانيفاكتورات الموقع الى المكننة والصناعة الضخمة، وحدثت الثورة في الانتاج الصناعي والزراعي، وشهدت علاقات المدينة بالريف انقلابا كبيرا، وانتهت هذه المرحلة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد ان دامت حوالي 60 عاما(3) . ولا بد من الاشارة الى ان هذا التمرحل ليس سوى تقريب اذ ليس ثمة خط فاصل، دقيق، بين مرحلة واخرى برأي ماركس. (4) ونخلص من هذا الى ان ماركس وانجلز كانا شاهدي عيان لصيرورة التشكيلة الرأسمالية لانها كانت تجري في ايامهما او ان ذكراها لا تزال طرية في الاذهان. وبالتالي فان ما اثاروه حول المجتمع الراسمالي وحول علاقة المجتمع بالطبيعة كان نتيجة ملامسة مباشرة ومعايشة للواقع وهو بذلك يرتدي اهمية اكبر مما يجري طرحه اليوم في الفكر الاجتماعي الايكولوجي.
لا شك ان تكنولوجيا اليوم هي اكثر تطورا منها ايام ماركس وانجلز، وهي اشد خطرا على البيئة مما كانت عليه انذاك، الا ان علاقة العداء بين الراسمالية والبيئة، التي هي لب الازمة الحالية، كانت اكثر وضوحا بالنسبة لاشتراكيي القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين مما هي بالنسبة لغالبية المعنيين بالبيئة اليوم. وتبقى المهمة الاساسية لنا ان نكشف عن هذا التراث غير المعروف لانها جزء حيوي في المسعى العام لقيام تحليل مادي ايكولوجي قادر على مواجهة الاوضاع البيئية المأساوية التي نعيشها اليوم.
ماركس ويوستوس ليبيخ
اعتقد ان القارئ العربي المهتم بقراءة ماركس لابد وان اطلع على اسم عالم الكيمياء الزراعية يوستوس فون ليبيخ حيث اشار اليه ماركس في اكثر من موضع ضمن الادب الماركسي المنقول الى العربية، وربما يتفق ، ايضا، بان اغلبنا لم يدقق في علاقة ماركس بهذا العالم، ولكننا اليوم ونحن نسعى الى تجديد الماركسية واعادة قراءتها بعيون جديدة، شكاكة، خالية من المسلمات والباحثة دوما عن اصل المقولات والمفاهيم بهدف تطويرها، يتوجب علينا التقصي عن مثل هذه العلاقات لتعميق فهمنا للماركسية.
لابد من التنويه بان ما سيرد في الاسطر القادمة مستند في معظمه الى نسخة مصورة لترجمة انجليزية غير منشورة قامت بها الليدي غيلبرت (من هي؟) وجدتها بالصدفة في ارشيف جامعة ويسترن اونتاريو الكندية خلال فترة تحضيري لنيل شهادة الماجستير في البيئة، علما بان النسخة الاصلية متوفرة في ارشيف معهد روتهامستيد في العاصمة البريطانية لندن. اما الفقرات التي ترجمتها من المقدمة فقد وردت في مجلة البيئة والتاريخ العدد 8 لسنة 2002 للباحث ارلاند مارولد " كل شيئ يدور: الكيمياء الزراعية ونظريات اعادة الاستخدام في النصف الثاني للقرن التاسع عشر".
تبدأ حكايتنا باصدار العالم الالماني يوستوس فون ليبيخ للطبعة الاولى من كتابه العلمي الريادي الشهير الكيمياء العضوية في تطبيقاتها على الزراعة والفيزيولوجيا عام 1840. وفي عام 1862 ارسل نسخة من الطبعة السابعة للكتاب الى احد الناشرين البريطانيين بعد ان اضاف اليها مقدمة طويلة خاصة للقراء البريطانيين عرض فيها ما استجد من معلومات كان قد جمعها منذ اواسط الخمسينات تتعلق بطرق الزراعة المكثفة البريطانية. في هذه المقدمة اعلن ليبيخ موقفه من هذه الطرق واصفا اياها (( بنظام سرقة محض)) قياسا بطرق الزراعة العقلانية. فهي تستدعي نقل المحاصيل بشكل متواصل ولمسافات طويلة من الريف الى المدينة دون ان تسمح بفترة زمنية ضرورية لكي تستعيد التربة ما فقدته من خصوبتها وخصوصا فيما يتعلق بمركبات النايتروجين والفسفور والبوتاسيوم. وان هذه المركبات ستقوم بدورها بتلويث البيئة عبر ارتفاع معدلاتها في الفضلات البشرية والحيوانية. وللقيام بذلك فان بريطانيا سرقت خصوبة العديد من البلدان وهذا بالنسبة له يمثل جزءا من مخطط كبير للامبريالية البريطانية يهدف الى نهب موارد البلدان، بما في ذلك عظام الموتى حيث قال:
ان بريطانيا العظمى.... تنهب خصوبة بلدان العالم... لقد حرثت ميادين المعارك في لايبزغ وواترلو، ونبشت مقابر المونى في صقلية... انها كمصاص الدماء تجثم على صدر اوروبا وعلى صدر العالم لتمتص دماء الحياة منها دون ان يكون لها حاجة فعلية.
وواصل ليؤكد ان البريطانيين قد حافظوا على سلامة عظامهم وعلى صحتهم على حساب خصوبة التربة الاوروبية. واشار الى انه مع شحة هذه الموارد انطلقت السفن البريطانية لتجوب بحار العالم بحثا عن فضلات الطيور المتراكمة على سواحل القارات والجزر. وكان كل ذلك يتعارض مع مبدأ تعويض التربة لما خسرته من خصوبتها بعد كل موسم زراعي.
انزعجت السلطات الزراعية البريطانية من مقدمة ليبيخ فطلبت من الناشر ان يتلف النسخة المرسلة اليه وقاموا باصدار الكتاب بدون المقدمة وتحت عنوان آخر ( القوانين الطبيعية للزراعة) وبذلك ظل العالم محروما من الاطلاع على نقد ليبيخ لطرق الزراعة المكثفة الراسمالية.
الى هنا تنتهي حكاية ليبيخ لتبدء حكاية ماركس في متابعة هذا الموضوع .
في ذلك الوقت كان ماركس يسكن لندن وكان قد انجز للتو المجلد الاول من رأس المال، وقد توفرت له الفرصة للاطلاع على نقد ليبيخ وتأثر به كثيرا فكتب الى انجلز عام 1866 معربا عن رغبته في دراسة الكيمياء الزراعية الجديدة في المانيا، وخصوصا اعمال ليبيخ حيث اعتبرها اكثر اهمية من كل اعمال الاقتصاديين . وكتب في المجلد الاول من رأس المال (( ان اظهار الجانب السلبي، الجانب المدمر للزراعة الحديثة من وجهة نظر العلوم الطبيعة هو من الانجازات الخالدة لليبيخ)) . واعتبر مؤلف ليبيخ واحدا من المصادر الهامة التي اعتمد عليها في مؤلفه الاقتصادي رأس المال.
وعند مناقشته وتحليله (( للجانب المدمر في الزراعة الحديثة)) في رأس المال، المجلدين الاول والثالث، تمكن ماركس من تحديد عدد من النقاط الجوهرية يمكن تلخيصها بالاتي:
1- ان الرأسمالية خلقت شرخا لا يمكن اصلاحه في العلاقة التبادلية (الايضية) بين البشر والارض، وبتعبير آخر بين البشر وبين شروط الانتاج الدائمية التي تفرضها الطبيعة؛
2- يتطلب هذا ((ترميما نظاميا)) لهذه العلاقة الضرورية باعتبار ذلك (( قانونا منظما للانتاج الاجتماعي))؛
3- ان نمو الزراعة الواسعة النطاق والتجارة بعيدة المدى في ظل الرأسمالية سيوسع من حجم الشرخ الايضي؛
4- ان ضياع خصوبة التربة يجد انعكاسه في تلوث المدن. فقد كتب ماركس " لم يجدوا في لندن طريقة افضل من التخلص من فضلات اربعة ملايين ونصف نسمة سوى تسريبها الى نهر التايمز"؛
5- تتشارك الصناعة والزراعة الممكننة في هذه العملية التدميرية حيث " توفر الصناعة والتجارة الوسائل التي تحتاجها الزراعة في انهاك التربة"؛
6- ان كل هذا يمثل تعبيرا عن العلاقة العدائية بين المدينة والريف في ظل الرأسمالية؛
7- استحالة قيام زراعة عقلانية في ظل الظروف الراسمالية الحديثة، فهذا النوع من الزراعة يقتضي وجود مزارعين صغار، او نشاط لمنتجين مساهمين ( تعاونية)؛
8- ان الظروف القائمة تحتاج الى تنظيم عقلاني للعلاقة التبادلية ( الايضية) بين البشر والارض في المستقبل، وهي اشارة الى مجتمع ما بعد رأسمالي، اشتراكي او شيوعي.
ان مفهوم ماركس عن الشرخ في العلاقة التبادلية (الايضية) هو العنصر الاساس في نقده الايكولوجي. وفي رأس المال يجري تعريف عملية العمل البشري على انها (( شرطا عاما للتفاعل المتبادل بين الانسان والطبيعة – شروط الانتاج التي تفرضها الطبيعة على الوجود الانساني)) . ويستتبع ذلك ان الشرخ في العلاقة التبادلية (الايضية) سيؤدي الى تقويض (( شروط الانتاج التي تفرضها الطبيعة على الوجود الانساني)).
ثم تأتي مسألة استدامة الارض Sustainabilty- اي الى اي مدى يمكن تسليم الارض الى اجيال المستقبل في حالة مساوية او افضل من حالتها الراهنة. ان المجتمع، الامة، وحتى لو اخذنا كل المجتمعات سوية، ليسوا ملاكا للارض بل انهم، حسب رأي ماركس، (( مستفيدون منها وعليهم توريثها بحالة جيدة الى الاجيال القادمة، كما يفعل الوالدين لاطفالهم)).
ولم يكتف ماركس وانجلز عند دراستهما وتحليلهما الشرخ التبادلي ( الايضي) بالاشارة الى خصوبة التربة او علاقة المدينة – الريف، بل تعديا ذلك الى قضايا عديدة مثل ازالة الغابات والتصحر، التغيرات المناخية، تبضيع الحيوانات، التلوث، الفضلات الصناعية، اعادة استخدام المنتوجات، استنزاف مناجم الفحم، فيض السكان، التدرج (والتدرج المشترك) (Evolution (coevolution للانواع، وكلها قضايا اساسية في زمننا الراهن ضمن الازمة البيئية التي نعيشها.
نستنتج مما تقدم انه برغم وجود فارق شاسع بين تكنولوجيا اليوم والتكنولوجيا في زمن ماركس وانجلز الا انهما تمكنا من الامساك بلب الموضوع ونعني علاقة العداء المستحكمة بين الرأسمالية والبيئة، وبالتالي فان المسالة الاساسية هنا هي ليست مستوى تطور التكنولوجيا بل طبيعة ومنطق الرأسمالية كنمط معين للانتاج.
وللموضوع بقية...
1 المؤلفات الكاملة لماركس وانجلز في 50 مجلدا بدء العمل فيها عام 1975 وانتهى عام 2005 وهوعمل مشترك بين دار التقدم في الاتحاد السوفياتي (سابقا) ودار نشر لورنس أند ويشارت البريطانية وانترناشونال بوبليشر الامريكية.
2 موريس غودلييه، إعادة قراءة أعمال ماركس، على اعتاب القرن الحادي والعشرين، في ما بعد الماركسية، اعداد: فالح عبد الجبار، دار المدى،1998،ص 54.
3 ماركس، رأس المال، المجلد الاول، الجزء الثاني، ترجمة فالح عبد الجبار، د. غانم حمدون واخرون، دار التقدم،1987.
4 غودلييه، مصدر سابق، ص 55.