حساسية الرؤية الشعرية المغايرة في مجموعة -نون الرعاة- للشاعر السوري خلف علي الخلف


فاطمة الشيدي
2007 / 8 / 7 - 05:08     

* على حافة النص :
تقع مجموعة " نون الرعاة " الصادرة عن دار الرافدي في أثينا في 93صفحة من الحجم الصغير ، وتضم ستة نصوص طويلة هي :
• الملعون ( حلب 1989)
• جمل غيدا ( حلب 1991)
• مروا ( حلب 1993)
• الغريب الغريب : ماتناثر من سيرة الهجر ( الرياض 1994)
• وحيدا وحافلا بالسواد (الرياض 1996)
• أحفاد الريح ( حلب 1999)

في البدء :
لعل الزمن الذي مرت به هذه المجموعة كنصوص (قبل أن تجمع بين دفتي كتاب) كما تخبرنا المسافة بين كل نص وآخر (والتي تصلح أن تكون بين مجموعة شعرية وأخرى)، يضع المتلقي لهذه النصوص في مواجهة قلقة مع النص، حيث يفترض مباشرة أنه أمام تجربة شعرية ناضجة، تم قصقصة الكثير من أفنانها غير المرغوبة، وتشذيب العديد من أفنانها المستطيلة خارج مدى أفق ناصها المتكون بوعي متنامي، وغير متعجل، وأنه قد تم حذف الكثير منها لتغدو بالنضج والشعرية المتقبلة لديه ليظهرها في كتاب .

ملامسة النص:

1. تشكل النصوص الستة في مجملها حالة شعرية خاصة جدا، و مغايرة تماما للكثير من النصوص الشعرية النثرية المعاصرة، في جميع أشكالها المتاحة أمام المتلقي (النص / النص المفتوح / نص الومضة )، فبالرغم تقاطعها مع الشعرية المعاصرة في تناول الكثير من الثيمات كالجسد، والألم، و تصاعد صوت الغربة، ونشيج الموت والحزن والعطش، والملاذ بالأنثى معادل الماء والبلل والرواء، إلا أن الاختلاف يظهر جليا في اللغة الشعرية التي كتب بها النص .
فهي تعتمد المزج الخاص و الدقيق والمتماهي الحدود بين القديم والحديث، حيث يخاتل النص في لغته وألفاظه ومفرداته بين مناطق الشعرية والفاظها القديمة والجديدة، فعلى حين يوهمك بحداثته تجده محملا ومثقلا بالقديم، من مرابض الإبل، حتى حرقة الهجير، ومن صوت الحداء، حتى أنثى الرمل.
وما إن تطمئن إلى ذلك، ويعن لك تتبع حنين المرابع الدارسة، وغرائبية الأمكنة المندثرة، وجنائزية التيه، وجماليات اللغة البعيدة التي تستعير مفردات الصعاليك ونشوة الخمر في رؤوس الشعراء وتغنيهم به، حتى تصطدم بصوره حداثوية جديدة وروح شاعر ضوئي محلق .
كما يظهر هذا الاختلاف أيضا في اعتماد النصوص تقنية الوحدة النصية المتكاملة البناء، فالنص عبارة عن جملة شعرية طويلة، أو عدد قليل من الجمل المترابطة سواء ترابطا معنائيا من خلال نقص المعنى، أو عدم اكتماله في الجملة الواحدة واتصاله (أي المعنى ) بين جمل النص، أو من خلال ارتباطه بإحدى علامات الربط اللغوية كالعطف والتبعية ، والإضافة، أو السياقية كالترقيم.
فكل نص عبارة عن مجموعة من الجمل، معتمدة على جملة أساس، وهي جملة تبئير المعنى المتفرع منها إلى باقي النص، من خلال تفاصيل وخيوط وتفريعات نهرية لغوية، تنطلق منها وتتفرع باتجاهات الأطراف لتكوّن صورة شعرية ممتدة ومتواصلة ومتوالدة في اتجاهات شجرية معنائية مختلفة، حيث لايمكن فصل هذه الصور عن بعضها، كما لايمكن أسلوبيا اقتناص صورة جزئية إلا من خلال ربطها بماقبلها لأنها قائمة على بلاغة الصورة (النص) ..
- غريبٌ
يقرأ خلانه طيراً إثر طير،
أتجرعكم مثل دفلى ، لأشفى من دمٍ عالقٍ
بين الخطى والحنين
لتنهزم القبائل عن تخوم العمر

لأصرخ :

عادتِ الروح مهزومة من حرب البراري
أنجبت شجراً يابساً يحط عليه غراب الندامة ينعب :

هنا مر الغريب
تاركاً أيتامه سورةً
في سيرة الهجرة

غريبٌ تهجى أمه ماءً إثرَ ماء
لفي الغريبَ بشمس الهباري،
احفني له بيديك حفنة من سنين الهوى ،فقد يبس فجره
مثل حمري البليخ ، لريح طافت حول

صوتٍ ضابحٍ في تربة النسيان :

إنّ الغريب …
مرَّ هنا
ناثراً أيامه
خاتماً
"سيرة الهجر "

2. جميع نصوص المجموعة تمثل حالة شعرية متناغمة فيما بينها، حتى لتكاد تكون نصا واحدا، لذلك فقراءة نص يسلمك مفاتيح النصوص الأخرى ويهبك مساحة لدخول عوالمها مجتمعة، فالحالة الشعرية التي تسكن الشاعر بالجزع و الشجن، والعطش، والسعي وراء الماء (الأنثى)، تكاد تجدها ذاتها في جميع النصوص، كما أن معجمه الشعري التي يتكوّن من مفردات خاصة منتزعة الأواصر من الصحراء بما فيها من جِمال ورمل وحداء وقوافل وظمأ، وموت وقبور، وشواهد، وشجر صحراوي ، وبراري وحيوانات صحراوية، يحكم القبضة على مساحات النصوص جميعا ، ويرسمها وفق مفرداته الخاصة وألفاظه الحاضرة بطغيان وفير .
بخور الحرمل المنسيِّ ننثره على العصر اليباس
سرائر الماء التي يبست على شفةِ البليخ،
أستنجد بأمي أن تعيد رضاعتي عري التباهي بالذكورة
وأبي الحادي حداء البدو أيام الفزع :
سنزوج الصحراء للخيل الجياع ولن تمرّوا
من دموع الحافيات الباكيات الدالعات صدورهن نجلو
يماني البريق ، منافحين عن هبوب الريح في ميعادها ،
3. تقديم كل نص بمقطع من نص لشاعر آخر - أكثر حضورا بالضرورة - كحالة تناصية تختصر ماسيقوله النص، أو كتمهيد للمتلقي وتهيئته للولوج إلى جو النص . وهذه هي الاقتباسات التناصية وفق تسلسل النصوص في المجموعة ..
- الشاعر راءٍ وملعون ( آرثر رامبو)
- أيُّها المهر الأسود ،أين تمضي بفارسكَ القتيل( لوركا)
- جمل غيدا يا حزين / مشلكح بذاك البطين /كل الجمال ترعى/ إلاَّ جمل غيدا حزين ( تراث شعبي)
- أيها الموت يا خبز الجميع (أوكتافيو باث )
- أجارتنا إنّا غريبان ههنا .. وكلُّ غريب للغريب نسيب (امرؤ القيس)
- آمل .. قالت الريح (أدونيس )

4. حضور صوت الأنا بنرجسية الألم المرعب، والحزن المغرق في الجزع، في عويل متصاعد نحو الموت، ونواح متقطع بغية منقذ، وعلو صوت الذات المستنفدَة بين النص والكائن، في أشكالها اللغوية الضميرية للمتكلم والمخاطب والغائب، وبصيغ الإفراد والجمع .
هذه الأنا الطاغية تشكل ملامح النص الذي يحيل (بضرورة الألم) إلى ناصه، فلا انفكاك من ربقة الوجع، ولاصوت آخر يضاهي حضور هذه الأنا المتوجعة .
فما النص إلا تفصد حرقة الألم على حياة متمزقة بين ماض غائب بملامحه القاسية في غياهب الذاكرة المتحفزة لاستحضار ذلك الوجع الذي سجلته بمنتهي الدقة، وحاضر يشهر أنصاله في خاصرة الروح من جميع زوايا الكونية، و تكهن كارثي عال بالنهاية التي لامناص منها..
هذا كله في مقابل المعادل الشرطي لاستمرارية الكائن الهش (الناص) وهو الحلم / الأمل / النداء بتجاوز محنته نحو عبور أقل وجعا، وأكثر بهجة وسلاما ..
كما موقدٍ في ديارٍ رحل آهلوها
وتناسوا جمره ميتاً
مثل راعٍ ضيع الإبل
خطّ على الرمل قطعاناً من الإبل

وسرح بها

وحيداً .. وحافلاً بالسواد
تهلُّ عليه الليالي زذاذاً يابساً
يفرش لها تربة السنين الحمل أوزارها
فتبزغ من خافقيه شمسُ الرحيل .
ململماً أشلائه من براريه ،
مكوماً عمره تلة من نحيب :

5. التشكيل اللغوي للنص : حيث يراوح النص في خطابه بين المتحدث (الأنا)، والمخاطب(الـ أنت /الـ هو ، الـ هي) فيكثر في نصوص المجموعة استخدام الضمائر المنفصلة مثل ( هي ، هو ) والمتصلة ( ـه ، ت ِ، تُ ، تْ ) بدلالتها على الأنثى، أو على الكائن الشعري ( الناص) أو المتلبس به / له في النص .
كما يظهر وبشكل جلي بروز الفعل المضارع في جميع النصوص، مما يدل على تجلي حالة النص / الناص حاضرة آنية في ذهنية الشاعر عند الكتابة، فهو يحضّر ماضيه ويستحضر مستقبله في بؤرة الآن، ليتمكن من رسم ملامح النص من خلاله كائنه الغير موارب في صيغ الزمن الماضية أو المستقبلية، مع حضور نسبي لكلا الفعلين (الماض / الأر) في بعض النصوص .
كما تكثر أساليب وصيغ الاستفهام، التعجب، النداء، في غير تموضع عيني لأي منها، ومن دون توجيه لكائن خاص، فلكأن قلق الشاعر ينسرب من بين فجوات النص، متعددا في أشكاله اللغوية والأسلوبية،( فالاستفهام، والتعجب، والنداء)تتنازع الذات والمكان والمرأة (الأم/ الحبيبة) في غير اتساق أسلوبي يمكن إحصاءه.
فهو تدفق شعري شعوري غير متقصد العد والإحصاء، وغير مقصود الرصف في بناء النص، بل يأتي عفوا كما تشاء الروح والتداعي، وكما يحكم النص الناص في مجريات سيره وأندفاعاته الداخلية والخارجية .
من أين لي أن أبدد وحشتي الحاشدة كجيش توثب للنصر..؟
من أين لي أن أقلم شهوتي للبراري ..؟
(هذا بكاءُ فرائصي ، ذاك اشتعال الدم)
شاهراً ما تيسر من شهوةٍ ومسير طويل
تبتدع المنشد الأزلي:
هل الأرض أوسع من كائني ؟
هل الأرض أوسع من شهوتي للمسير ؟
فلماذا كلما أسرجت روحي صهوتها للرحيل،
هبتْ رمال الليل وانكسرتْ ظهور الخيل ،
وصارت الأرض أضيق من دمعة واجفه ؟
***
يا حاملاً عبء الخطى ، أين تمضي في الخواء ؟
إن الدروب مآتمٌ شتّى ، وهذا البرُّ أضيق من خطاك.

6. التوزيع البصري المعتمد على الفكرة الداخلية للناص والنص، حيث عمد الشاعر إلى توزيعات بصرية، وتشكيلات صورية متباينة في نصوص المجموعة، لايمكن الخروج حولها إلا بكونها لاتستند إلا للرؤية الخاصة للشاعر، ولنصه المنبلج من غيابات روحه والمستند على ثقافته، التي يمكن أن يأوّل في ضوئها الكثير من غموض النص، وملامح فتنته أيضا .. !!.