نحو رؤية ماركسية للايكولوجيا


ثامر الصفار
2007 / 7 / 9 - 11:35     

((..طالما الناس موجودون، فان تاريخ الطبيعة وتاريخ الناس يشترطان بعضهما البعض)).
ماركس وانجلز، المؤلفات، المجلد 3، ص. 16
يعرف قاموس اللغات العلمية ((الإيكولوجيا)) على انها العلم الذي يدرس العلاقات بين الكائنات الحية، كبيرها وصغيرها حتى المجهرية منها ، والبيئة المحيطة بها. وقد فضلت استخدامها بلفظها الاجنبي بدلا من مقابلها العربي ((علم التبيؤ)) لسببين: الاول انها اسهل على اللفظ من المقابل العربي، والثاني ان الكثيرين من الباحثين والمترجمين العرب يستخدمونها او يترجمونها خطأ بعلم البيئة التي تقابل Environment . للوهلة الاولى يبدو التعبير فظفاظا اشبه بتعبير العرقية او العنصرية، فهو يغطي ظواهر ذات مستويات عديدة، نتجت بفعل اسباب عدة، عارضا نفسه في خدمة تطور جملة واسعة من الايديولوجيات والاطر النظرية المتصارعة. من هنا جاءت الاتهامات القائلة بان ماركس مفكر اقتصادي لا علاقة له بالايكولوجيا، بل انه معاد لها، خصوصا وانه ركز معظم حياته على موضوعة الاقتصاد، وفشل في ادراك مساهمة الطبيعة في الثروة، الى آخره من الانتقادات التي ربما سيكون الرد عليها موضوعا لمقالة آخرى. اما اليوم فحسبي ارجاع القارئ الى الهجوم العنيف الذي شنه ماركس وانتقاده اللاذع للاشتراكي الالماني فرديناند لاسال لقوله بان العمل هو المصدر الوحيد للثروة مهملا بذلك مساهمة الطبيعة.
وعودة الى صلب الموضوع بودي ان اتساءل :هل ان ماركس والماركسية عرضيان ام جوهريان في النضال ضد عملية تدمير البيئة وكافة اشكال استغلالها ونهبها؟ لا ريب ان الجواب الذي سنسمعه من حماة البيئة سيكون عرضيان، بل ان السؤال نفسه لا يخطر على بالهم . فهم يؤمنون بان صراعهم اليومي في سياق حماية البيئة سيقودهم الى نظرية كاملة، شاملة، قادرة على توضيح الصلات الضرورية بين المشاكل التي تبدو منعزلة ومنفصلة عن بعضها البعض، وهم بذلك يهملون وجود عوائق بنيوية رأسمالية تقف في طريق نجاح نشاطهم الفردي على الصعد القانونية والسياسية. من هنا تأتي ضرورة ان لا يكتفي الماركسيون بالنقد النظري فقط، بل عليهم المساهمة في نضال محدد، يتعلمون فيه من تجاربهم ويشاركون الاخرين (حماة البيئة) بما تعلموه، خصوصا اولئك الذين يختلفون معهم في الرأي لكنهم يتفقون معهم في الهدف السياسي. لكن ذلك لا يعني ان يتحول العمل النظري الى شيء ثانوي امام العمل السياسي اليومي. بل على العكس، فكلما اتضحت طبيعة الرأسمالية، كلما خلقت السمة المتسارعة لدورة رأس المال والعمل ظروفا لنشوء منظمات وحركات للطبقة العاملة تتجاوز حدود تواجدها الجغرافي . وفي نفس الوقت، فان استغلال الطبيعة ودورة الفضلات والتلوث والفايروسات والامراض المعدية والاوبئة وامراض النباتات، وغيرها من الامور تسلط الاضواء يوما بعد اخر على السمة العالمية للمشاكل الايكولوجية. وكلما ساءت الاحوال على الصعيد المحلي، والاقليمي، والعالمي، كلما استدعى ذلك تحليلا تاريخيا ماركسيا لشروط وجودها واعادة انتاجها مع مرور الزمن، واستدعى ايضا تطوير مؤسسات نظامية، والى تخطيط المساهمات الماركسية في الايكولوجيا التي برغم اهميتها اليوم الا انها ستغدو اكثر اهمية مع الزمن.
ان قراءة متأنية لماركس وانجلز ستقودنا الى ادراك ان اقتصادهما السياسي المستند الى مقدمات مادية راسخة، ينطوي على مقولات نظرية هامة وخطوط منهجياتية للتحليل النظري لتحديدات الازمة الايكولوجية الراهنة، ولتطوير ايكولوجيا ماركسية مبنية على مبادئ ايكولوجية جوهرية بالنسبة للمنهج الماركسي. ان من بين الامور الملازمة للمادية التاريخية فكرة التطور المشترك للطبيعة والمجتمع، اي الاشتراط المتبادل بين الطبيعة والبشر. ان تطور البشرية والكشف عن امكانياتها ونشوء حاجات ومواهب جديدة تفترض مقدما انتاج واعادة انتاج الحياة ووسائل العيش، التي يجري خلالهما تغير البشر والطبيعة، وتقتضي اعتمادا متبادلا بينهما. ان ماركس يفترض وجود عملية من التبادل الايضي الاجتماعي (عملية الهدم والبناء) بين البشر والطبيعة، ويحدد، في ظل الرأسمالية، وجود شرخ او صدع ايضي نتج عن الممارسات الزراعية والتجارية التي تنهب موارد الارض دون ان تعوضها، وتسلب كل بقاع العالم شروطها الطبيعية للانتاج. وبرفضهما لهذا الشرخ الايكولوجي بين الطبيعة والمجتمع الذي تواجه فيه المجتمعات حدودا طبيعية لا تقهر، فان ماركس وانجلز يقدمان لنا رؤية مادية ديالكتيكية للعلاقة بين البشرية والطبيعة. ان حدود الطبيعة هي حدود مادية،مقيدة للتنظيم الاجتماعي والوجود الانساني، وهي في نفس الوقت، تعمل في ظل ظروف اجتماعية نشأت بواسطة مستوى معين من تطور قوى الانتاج وعلاقات الانتاج القائمة. بكلمات اخرى، ان الماركسية، وبخلاف النظرة السائدة اليوم تسعى الى وضع معالجة ديالكتيكية تحافظ على الجانب المادي للطبيعة وقوانينها في الوقت الذي تعترف به بطاقة البشرية وقدرتها على صناعة التاريخ.
لقد قال ماركس ان العائق الذي يقف في وجه التراكم الراسمالي هو الراسمال نفسه ويتجسد ذلك في الازمات الدورية لفيض الانتاج وتخلف الاستهلاك، الاضعاف المتواصل لظروف الانتاج، والمد والجزر في الصراعات الطبقية، النكوص، الهجوم، وجمود الحركة. وكلما كبرت الاثار التدميرية للسوق الحرة على الطبيعة، كلما اتضحت اكثر الحاجة الى نقيضها ( اي، منع، تنظيم، تخطيط). لا شك ان ثمة امكانية لنجاح حماة البيئة في نضالهم ضد استغلال الطبيعة ومن اجل تغير نوعي في علاقتنا بالبيئة وغيرها من اشكال الحياة، بالرغم من شكوكهم الحالية بقدرة ماركس والماركسية في اطلاق طاقة جماعية ضرورية لتدمير اصنام حرية السوق والمنافسة والنمو الاقتصادي المستمر امام انظار الرأي العام، مما يمهد الطريق لاجراء تغيرات اجتماعية لا تسعى فقط لانهاء استغلال الطبيعة بل لانهاء استغلال العمل ايضا. لكن هذه التغيرات لا تحدث بصورة اوتوماتيكية، في ظل غياب حوار واسع ومتواصل ومبدئي بين الماركسيين وحماة البيئة يمكن ان يحقق مكاسب كبيرة للبيئة وللانسان ويؤسس لرؤية ماركسية للايكولوجيا.