انقلاب قومي في الحزب الشيوعي الاسرائيلي
اسماء اغبارية زحالقة
2007 / 6 / 28 - 12:06
المؤتمر ال25 للحزب الشيوعي الاسرائيلي يكشف عن خلاف ايديولوجي عميق بين تيار قومي عربي وتيار شيوعي اسرائيلي، اساسه الموقف من الصهيونية واسرائيل. ولكن رغم الخلاف فلن يفترق الحزب عن الجبهة لاعتبارات انتخابية وللالتقاء في المواقف السياسية. الحزب الشيوعي نزع عن نفسه الزي الاحمر وتبنى برنامجا غير معلَن، فضفاضا، يفتح المجال لعناصر انتهازية كل همها المناصب والتقدم الشخصي على حساب الجماهير.
اسماء اغبارية
انتهت اعمال المؤتمر ال25 للحزب الشيوعي الاسرائيلي الذي انعقد في 31/5 بانقلاب خطير. اولا، تم انتخاب لجنة مركزية ذات اغلبية للتيار القومي الذي يقوده محمد بركة داخل الحزب، ثانيا، انتَخَبت اللجنة المركزية المكتب السياسي يوم 16/6 وأطاحت بالامين العام عصام مخول من التيار الشيوعي. مع تغيير اللجنة المركزية والامانة العامة يكون الانقلاب الفكري والتنظيمي على الهوية الشيوعية الاسرائيلية للحزب وتغليب الطابع القومي عليه، قد اكتمل.
تقود هذا الانقلاب مجموعة متنفذة داخل "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة"، الاطار الجماهيري الذي أسّسه الحزب في السبعينات وشكّل عموده الفقري، وضمّ اليه شخصيات وطنية، وسيطر عليه من ناحية تنظيمية ومالية. وتسعى الجبهة اليوم من خلال تيارها القومي داخل الحزب، بزعامة محمد بركة، للتحرر من "الديمقراطية المركزية" التي يفرضها الحزب، والاستيلاء على الاجهزة الحزبية لتمرير خطها السياسي القومي المضاد للشيوعية.
وكان الحزب الشيوعي قد اختتم مؤتمره في وضع وصل فيه الخلاف الايديولوجي مرحلة خطيرة وعميقة، تضع في لب النقاش هوية الحزب نفسها. ورغم الانكار المستمر لوجود هذا الخلاف، وادعاء الوحدة والتأكيد على انطلاقة الحزب وامميته، الا ان الاحتقان غلب اجواء المؤتمر.
تياران نشطا في المؤتمر الحزبي الاخير: واحد معلَن بزعامة مخول، والثاني غير معلن ولكن محسوس بزعامة بركة؛ واحد شيوعي اسرائيلي تقليدي يطرح موقفا اسرائيليا عاما ويرى نفسه جزءا من الرأي العام الاسرائيلي على اساس تحليل طبقي، ويتحدث في المؤتمر باللغة العبرية مع ان الاغلبية عرب؛ والثاني قومي عربي يطالب بوضع القضية الوطنية الفلسطينية وموضوع الاحتلال على رأس سلم اولويات الحزب، وإخضاع اليهود في الحزب الى هذا الموقف القومي؛ واحد وضع وثيقة، طرحها للنقاش، دعا للتصويت عليها وحظي بالاجماع؛ والثاني لم يطرح وثيقة مضادة تعبر عن افكاره، تصرف بشكل غير ديمقراطي، ومع ذلك حظي بالاغلبية في انتخابات اللجنة المركزية.
الموقف من الصهيونية
نتائج الانتخابات التي فاجأت تيار مخول اضطرته للرد، وطرح نقاط الخلاف للنقاش العلني. في موقع الجبهة يوم 15/6، قبل يوم من انتخاب الامين العام الجديد، نشر مخول فقرات من تلخيص المؤتمر، أزال فيه النقاب عن الخلاف الايديولوجي الاساسي داخل الحزب، الا وهو موقف الحزب من الصهيونية واسرائيل.
يكتب مخول: "ما الذي يرمي اليه التشكيك من على منصة المؤتمر في موقف الحزب من الصهيونية ومحاولة تشويهه؟! ام ان هناك من يلمّح او يفترض وجود تفاوت في مواقف الرفاق اليهود والعرب في هذا الموضوع؟!!...".
ولتوضيح الموقف من الصهيونية يكتب مخول: "ان التقسيمة الاساسية بالنسبة لنا ليست بين اليهود والعرب، بل بين اولئك الذين لديهم مصلحة في النظام الطبقي القائم ومن لديه مصلحة في تغييره... وقد حلّل حزبنا طابع الصهيونية الطبقي واعتبر انها "تعبّر عن مصالح البرجوازية اليهودية الكبيرة وتتناقض مع مصالح العاملين ومصلحة شعب اسرائيل الوطنية، ومع مجمل قضايا التقدم والاشتراكية.
"اننا نرى في النضال ضد ايديولوجية الصهيونية وممارساتها ليس فقط مصلحة طبقية للطبقة العاملة وعموم الكادحين في اسرائيل، وليس فقط مصلحة لقضايا التقدم والاشتراكية، وانما- وبما لا يقل عن ذلك- اهتماما حقيقيا بمصالح اسرائيل الوطنية..." (قرارات المؤتمر الـ18 للحزب الشيوعي الاسرائيلي). لذا رفضنا دوما الادعاء الصهيوني بافتراض التماهي بين اسرائيل وبين الصهيونية وبين اليهود والصهيونية، ونحن نعود ونؤكد هذا الموقف في المؤتمر ال25".
ماذا يقول مخول عمليا؟ انه يكشف اولا، بطريقة "تقسيمه" للامور، ان الحزب الشيوعي يهمّش الصراع القومي بين اليهود والعرب في هذه البلاد، ويحدد ان الصراع هو طبقي خالص. وفي هذا تسطيح للصراع، لان الحقيقة ان الصراع الطبقي في منطقتنا له تعبير قومي ساطع، وواضح ان قضية الصراع الوطني وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وانهاء الاحتلال الاسرائيلي هي القضية المركزية التي تشكّل السياسة المحلية وتؤثر نوعيا على السياسة الاقليمية.
وليس ان مخول يقلّل من اهمية الصراع القومي فحسب، بل يقر ويعترف ان الحزب الشيوعي هو اسرائيلي اكثر من الاسرائيليين، وانه هو الاسرائيلي الوطني الحقيقي الذي يعبر عن "المصلحة الوطنية للاسرائيليين". وللتصديق على كلامه يقتبس من وثيقة المؤتمر ال18 للحزب الشيوعي الذي انعقد قبل 31 عاما. وكان الحزب في تلك الفترة يرفع العلم الاسرائيلي ويحيي "عيد الاستقلال" ويغني نشيد هتكفا. طرح هذا الموقف اليوم لا يأخذ بالحسبان المتغيرات الكثيرة وانهار الدماء التي سالت بين الشعبين منذ تلك المدة، والتي جعلت حديثا من هذا النوع امرا معزولا عن الواقع في نظر الاسرائيليين والعرب على حد سواء.
مخول يبرر "اسرائيليته"، بالقول انه ليس هناك "تماهٍ" او تطابق بين اسرائيل والصهيونية. في هذا التفسير، في اقل تقدير، تشويه لحقائق التاريخ. فلقد قامت اسرائيل كدولة اليهود على اساس ايديولوجية صهيونية متكاملة كانت جزءا من الحركة الاستعمارية الغربية ومربوطة لليوم بالفلك الامريكي الرأسمالي. وهي جاءت لتبرر تشريد شعب، حتى تقوم دولة لشعب آخر. ولولا هذه الايديولوجية، وهذا البُعد الاستراتيجي الامريكي، لما قامت اسرائيل ولما بقيت.
ان موقفا كهذا وتمسك الحزب بهوية اسرائيلية تحت غطاء الطبقية بات معزولا عن الواقع، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي شكل المرجعية لهذا الحزب. المناخ العام متأزم ومعقد والشرخ بين الدولة ومواطنيها العرب، تفجر باندلاع انتفاضة اكتوبر 2000، وصار كبيرا لدرجة تجعل قضية التماثل مع اسرائيل امرا مستحيلا بل وحتى مشبوها.
تيار محمد بركة الذي يتزعم الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، يدرك ان طرحا كهذا غير ملائم للواقع، ويبعد الجماهير العربية عن الحزب ويُضعف امكانية فوزه في الانتخابات. فقد ذهب بعض هذه الجماهير الى التجمع الوطني المنافس ذي الطرح القومي الصرف، وذهب البعض الآخر للحركات الاسلامية بجناحيها، وذهب بعض ثالث الى اليأس واللامبالاة. وفي كل الحالات ابتعدت الجماهير العربية عن التماثل مع اسرائيل.
وانجرافا مع التيار القومي العام، يريد بركة عمليا التخلي عن الشيوعية. وما النقاش حول الصهيونية الا مبررا يستخدمه لالغاء الهوية الشيوعية للحزب. فالشيوعية بالنسبة له رواية تقادم عليها الزمن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وصارت كلمة "شيوعي" في الوسط العربي امرا مكروها في ظل الاجواء القومية والدينية المسيطرة.
ويشير هذا الى ان الاجماع على وثيقة الحزب كان وهميا. الخلافات السياسية طفت على السطح في المسائل التنظيمية، اهمها اقتراح بركة ان يتم تغيير اسم الحزب من "الحزب الشيوعي الاسرائيلي" الى "الحزب الشيوعي في اسرائيل". وليس هذا تكتيكا بل هو اقتراح لتغيير هوية الحزب وتعريفه لنفسه: هل هو مع الاسرائيليين او انه مع العرب؟ هل هو اسرائيلي تتحكم القيادة اليهودية به، ام انه حزب عربي قومي وطني، يقبل بالشراكة اليهودية ولكن على اساس ان تخضع للاغلبية العربية وللطرح القومي؟
ان وضعا من هذا النوع ينذر بحالة انفصام داخلية يمكن ان تؤدي للشلل التام. فالحزب يقر خطا معينا ولكن القيادة الجديدة تؤمن بخط مضاد. وليس صدفة ان كوادر حزبية كثيرة خرجت من المؤتمر في وضع من الاستياء ودون ان تعرف الوِجهة التي تتجه اليها، وما هي استراتيجية الحزب للمرحلة المقبلة. وليس هذا فحسب، بل ان الامين العام الذي اقترح الوثيقة التي حظيت بالاجماع وجد نفسه خارج منصبه.
لا يفترقان
كيف وصل الحزب الى هذه المرحلة، ولماذا لا يجرؤ على فتح الجرح واشفائه؟ سببان: الاول يكمن في الصراع على البقاء السياسي في الكنيست، الساحة الوحيدة التي بقي للحزب وجود فيها. وفي هذا الصدد يعتبر الحزب الشيوعي والجبهة جسمان لا يستغنيان عن بعضهما البعض. فالجبهة بحاجة الى الحزب لان كوادره اقوى وتتمتع بتجربة والتزام، وقادرة على تجنيد عشرات آلاف الاصوات يوم الانتخابات. وهو امر تفتقده الجبهة التي تعتبر اطارا فضفاضا. اما الحزب فيحتاج الى الجبهة لانها تضم الشخصيات المربوطة بالعائلات كمصدر يتم فيه تجنيد الاصوات.
الجبهة لا تريد التنازل عن الشراكة العربية - اليهودية، ولكنها تريد ان تُخضع اليهود فيها الى الطابع والخطاب القوميين العربيين، وهي لا تريد ان تذهب بعيدا في طرحها القومي مثل التجمع فتعزل نفسها عن الجمهور الاسرائيلي، ولكنها لا تريد ان تبقي المجال مفتوحا للتجمع والحركات الاسلامية لمنافستها في الطرح القومي. اليهود من جانبهم بحاجة الى البقاء في الجبهة لانهم يدركون ان "قوتهم الانتخابية" في الشارع اليهودي محدودة جدا، لا تتعدى بضعة آلاف، ولا تضاهى بامكانيات التجنيد بين الجماهير العربية.
القضية الثانية التي تفسر بقاء الجسمين معا، هو الالتقاء في المواقف السياسية رغم الخلاف الفكري. صحيح ان التيار الشيوعي لا يزال يعرّف نفسه شيوعيا ويعتبر نفسه معارضا للرأسمالية والامبريالية، غير ان كلا التيارين، وجدا قاسما مشتركا في الموقف من قضايا الائتلافات مع المؤسسة الاسرائيلية، مثل الائتلاف مع عوفر عيني بالهستدروت، او الائتلاف مع يونا ياهف من حزب كديما في بلدية حيفا. صحيح ان الخطاب قومي، ولكن على ارض الواقع الحزب والجبهة مستعدان للتواصل والائتلاف مع حركات صهيونية حفاظا دائما على المناصب.
المشكلة الاساسية في موقف بركة الذي حصل على الاغلبية في اللجنة المركزية، انه يسعى للتماشي مع مناخ الشارع العام، وهو مناخ قومي ديني يخدم التيارات الاكثر رجعية في العالم العربي. كلا التيارين في الحزب الشيوعي يلتقيان ايضا في الموقف من السلطة الفلسطينية والدعم الكامل لحركة فتح وابو مازن، على اساس دعمهما لاتفاق اوسلو وتبني المبادرة السعودية. ومن هذه الناحية فان كلا التيارين لا يشكلان اليوم بديلا سياسيا فكريا برنامجيا للطريق المسدود الذي وصلته القضية الفلسطينة والجماهير العربية، والذي انفجر مؤخرا في الانقسام الى "فتح لاند" و"حماستان".
في الوقت الذي ينزع فيه الحزب الشيوعي عن نفسه الزي الاحمر والفكر الشيوعي الاساسي، فانه يتبنى برنامجا غير معلَن، فضفاضا، يفتح المجال لعناصر انتهازية كل همها هو المناصب والتقدم الشخصي على حساب مصلحة الجماهير العربية.
رغم النواقص في المؤتمر ال18 للحزب الشيوعي، الذي اقتبس منه مخول، الا ان روح الوحدة التي ميّزته حينها أتاحت له الفرصة لانطلاقة حقيقية استمدت قوتها من المد الوطني حينها. اما المؤتمر ال25، فيشكل علامة على التراجع الخطير الذي طرأ على الحزب، فقد خرج منقسما لانه لم يعرف كيف يلائم برنامجه وطريقه ونهجه للواقع الذي تشكل بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.