يوسف ليمود
الحوار المتمدن-العدد: 1957 - 2007 / 6 / 25 - 07:09
المحور:
الادب والفن
في منتصف كل عام, وبعودة حزيران إلى مدينة بازل, تتحول الأخيرة الى كعبة لتجار الفن وهواته ومقتنيه الأثرياء من كل زوايا الكرة الأرضية, في أكبر سوق للفن في أوروبا (آرت فير بازل). هذه المدينة الصغيرة الهادئة التي تتفاخذها, على بعد خطوات, المانيا ذات اليمين, وفرنسا ذات الشمال, تصبح فجأة نموذجا مثاليا لمعنى الكوزموبوليتانية, حيث تمتزج في هوائها أجراس كل اللغات واللهجات صانعة لغطا راقيا كالطنين الصادر عن أوركسترا يضبط عازفوه آلاتهم قبل أن يرفع المايسترو عليهم العصا, كما تتداخل في ساحاتها وطرقاتها أطياف الأجساد والوجوه التي أتت من كل مطار عميق لمدة أسبوع واحد تحشُد فيه كل المؤسسات التنظيمية والمرورية والطوارئية والتجارية والفنادقية والمطاعمية والترفيهية والإيروتيكية كامل طاقاتها لاحتواء هذا الغزو البهيج. المبنى الرئيسي الدائري الضخم المكون من ثلاثة طوابق, والذي يحتاج يوما كاملا لمشاهدة ما اكتظ به من أكشاك أشهر جاليرهات العالم تعرض بضاعتها الفنية من أعمال فنانين ذوي أسماء لامعة أو في طريقها للمعان أو التلميع, جنب الأسماء التي أخذت من النجوم صفاتها, أحياء كانوا أم غابوا الى الأبد بأجسامهم دون أعمالهم, لم يكن هذا المبنى ليكفي تلال اللوحات والأعمال الفراغية والمركبة والفيديو والجرافيك وصور الفوتوغرافيا, الضخم منها والصغير الحجم, فيلحق بهذا المبنى الرئيس عدة مبان وفروع أخرى (تضم في الغالب جاليرهات ناشئة أو أعمالا تجريبة غير تجارية, مستقلة أو تدعمها مؤسسات) تنتشر في الجوار أو على مبعدة نصف ساعة من التمشي العذب وسط هذه القيامة الراقصة التي لا حساب فيها ولا عقاب.
أعرف المنظر جيدا بتفاصيله التي لا تتغير كثيرا, فقد رأيته عشر مرات في خمسة عشر عام: زحام من وجوه أمام زحام من فن: الأصيل صاحبه والمزيف .. النابع من المنطقة الإلهية في الفنان والخارج من مقلب القمامة البشرية فيه .. المصنوع من وللتأمل الروحي والمصنّع من أجل حوانيت البقالة وصراخ البورصات. تصطف الجاليرهات في ردهات وتقاطيع أنشئت في المكان بين نهارين وليلتين, بحوائط جاهزة محسوبة باحتراف وهندسة وذوق: الإضاءة, درجة الحرارة, لون سجاد الممشى, نسبة الأكسجين, المداخل والمخارج, أماكن الاستراحة والتدخين… وأي مكان يناسب العمل الفني لفلان.
اليوم, الثلاثاء 12 يونية هو الافتتاح, أنتهز فرصة دعوة أرسلت إلي للدخول المجاني. لو أردت العودة بعد هذا اليوم فعلي دفع ثمن تذكرة أفضّل أن آكل بقيمتها وجبة غداء في مطعم صيني. ليس هذا مكاني المناسب لتأمل عمل فني, يلزم أن أكون وحدي, أو على الأقل على مبعدة من متأملين صامتين, فما بالي بهذه الحشود الناعمة التي تخطف روائح برفاناتها الأنوف, وتخطف البصرَ رقة خطوطها وألوانها التي تُظهر من المفاتن أكثر مما تخفي حتى لتكاد تقفز الحلمات من فتحات الصدور الأنيقة رسمتها أكبر بيوتات تصميم الأزياء, وتكاد السيقان تكون دعوة للركوع أمام محرابها لتقديم فروض عبادة وثنية مشروعة, بل ولازمة أحيانا. لا, لم آت هنا لأشاهد المعرض فقط, بل لأشاهد معرضا داخل معرض.. عرضا بشريا متحركا لا يقل فنية عن البقع الملطوخة على الحيطان أو الكتل المتبجحة في الفراغ أو الصور المغبشة تهتز على شاشة فيديو. ولم آت لأرصد عددا من الأسماء من بين آلاف الفنانين وعشرات الآلاف من الأعمال وأرصّ, في بلاغة, بعض الجمل الوهمية عن أعمالهم في مساحة ورقة. تجوّلْ إذن بلا هدف وأنت مفتوح على مفاجآت الفن الحي غير المقصود. لشد ما أنت مجذوب إلى هذا النوع الخفي من الفن الذي تمارسه الحياة بشكل يكاد يكون أعمى وفي أكثر اللحظات نزقا, كنفورك المتزايد من الفن المحنط في المتاحف وصالات العرض إذ غالبا ما تشعر بعد قليل بالرغبة في الخروج لرؤية السماء الواسعة وتدخين سيجارة في الهواء الطلق.
بعد دقائق من بدء جولتي, سقطت عيني عليهما وكأني كنت أبحث عنهما بغير وعي, إنهما الوجه الذي يكاد يكون رمزا لهذا الحدث: ايفا وأديلي*. أقول “وجه” وليس وجهان لأنهما حقا كذلك, إذ لا يكادان يُريا في أي مكان إلا متشابكي الأيدي, بالملابس النسائية نفسها, بالابتسامة نفسها, وبتلويحة اليد نفسها لكل من يحييهما وهُمو كُثرُ. هما فنانان أو فنانتان قررا أن يجعلا من حياتهما عملا فنيا .. تخطيا الحاجز الذي يحدد الهوية الجنسية .. حلقا رأسيهما بالموسى .. يشبّعان وجهيهما بالماكياج تبرق فيه نترات الفضة على الجلد الأبيض كنجوم في النهار.. يقطنان برلين .. يصممان ملابسهما الشهوانية الألوان بأنفسهما .. يحضران افتتاحات كل المعارض والأحداث الفنية الهامة منذ نهاية الثمانينيات .. أصبحا ظاهرة فنية .. لهما إنتاجهما الفني من الرسم والبيرفورمانس وأفلام الفيديو .. يؤمنان بـ, بل يجسدان فكرة أن كل شيء في الحياة هو عمل فني أو هكذا ينبغي أن يكون: الابتسامة عمل فني, التلويحة عمل فني, ممارسة الحب عمل فني, التسوّق عمل فني. يقولان: “حيثما نكون يكون متحف”. لم يتغير فيهما شيء منذ آخر مرة رأيتهما. اندهشت إذ لم ألمح فيهما يد الزمن التي غالبا ما أراها مسّدت وجوه من أعرفهم يوما بيوم. فكّرت في نسبية أينشتين والتوأمين الذين يذهب أحدهما في كبسولة فضائية تسارع الزمن بينما يبقى الآخر على قضبان الأرض التي يجري فوقها قطار الوقت.. يشيخ الأخير بعد عشرين عاما, ويعود الأول بوجهه الشاب الذي طار به في الفضاء. تساءلت, في أية كبسولة فنية يطير هذان أو هاتان الرفيقان الحبيبان المدهشان, وهل سيرحلان متشابكي الأيدي معا كما يعيشان؟
أتسكع في الردهات, بعين ضبابية على الأعمال, وأخرى أكثر صفاء على حركة الأطياف الناعمة المتداخلة أمام الأعمال, شبه غائب في سيل من أفكار مبهمة يترشح عرقها من مسام التأمل في الخيوط غير المرئية بين ألفاظ: سوق, دنيا, مكسب, خسارة, حياة, موت, وإذ بكياني يرتعش وتكاد دمعة تفر من عيني وهلة رؤيتي وسط الزحام وليدا حديث النزول من مملكة الغموض, مرفوعا بحركة رائعة فوق ذراعي أمه اليابانية. انفصلت فجأة عن كل مايدور حولي ولم أنتبه إلا بعد عشرين دقيقة تقريبا أنني كنت أسير خلالها دون أن أرى. لقد رأيت العمل الفني الحي الذي لم ينتبه إليه أحد: منظر الأم بخطوطها الرقيقة وهي مادة يديها بوليدها كأنها تطيّره في الهواء, بينما العينان الجميلتان للطفل تلتهمان العابرين بفكرته التي لن يقرأها أحد, وكأنه إله صغير بالغ الكمال يتفقد أبعاد ملكوته القادم. كانت هذه علامة لي أن قد وصلت إلى النهاية, أخرجْ الآن إذن لرؤية سمائك العريضة ودخّن سيجارتك في الهواء الطلق.
خرجت من الباب الرئيسي وكنت قد دخلت من آخر جانبي, لأجد حافلة ركاب خضراء ضخمة تشبه وجه تمساح عجوز, عليها من الأمام ومن الجنب رسم هلال باللون الأحمر, وفي أعلى المقدمة يافطة مكتوب عليها بالعربي “قصر اليقطين” تشير إلى الاتجاه أو المكان الذي ينتهي إليه الباص. عرفت أنه باص باكستاني قديم اشتراه فنان أمريكي زار باكستان ليعرضه هكذا في الميدان العام كعمل فني من نوع الأعمال الجاهزة الملتقطة من الواقع دون التدخل أو تغيير أي شيء فيها. تأملت المنظر مدة دقيقة دون التفكير لحظة في الوقوف في طابور المنتظرين للولوج إلى داخله, ولكني خشيت أن يضيع مني الأثر الذي تركه فيّ منظر الطفل وأمه, فمشيت ساحبا دراجتي العتيقة على مهل والرنين العذب لـ “قصر اليقطين” يداعب مخيلتي. ماذا قصد الفنان الأمريكي بهذه الحافلة التي استجلبها من شارع في أكثر البلدان فقرا إلى ميدان في أكثر البلاد ثراء؟ وهل شعر بجمال لفظة يقطين أو تساءل عن معناها بالعربية أو بالأرديةَ عندما رأي في هذا العمل فنا؟ قصر اليقطين, ياله من تعبير شاعري. ترى أين يكون؟
عاد شتات الأفكار يلح على دماغي ويتجمع, هذه المرة في صيغة سؤال: من خسر في هذا السوق ومن كسب وماذا؟
يوسف ليمود - سويسرا
[email protected]
* رابط موقع الثنائي الفني المذكور :
http://www.evaadele.com/INTRO.HTM
#يوسف_ليمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟