شباب جيل زد 212 يوجه رسالة هامة إلى فصائل اليسار المغربي عبر مذكرة تامة


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8497 - 2025 / 10 / 16 - 04:52
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية     

لم تضع حركة جيل زد 212، هذه القوة المُشتتة والعنيدة لفتيان وشبان المغرب المتواصلين في ما بينهم، الشارع في بؤرة النقاش فحسب، بل أعادت فتح ملف اليسار المغربي المُغلق منذ زمن بفعل ثلة من الفاعلين وبحكم مجموعة من العوامل. خلف الشعارات والستوريات، نقرأ مطلبا واضحا: إعادة بناء الثقة، تحديث الخطاب، والانتقال من الرمزية إلى الاندماج الحقيقي. بلغتهم الملتزمة بهموم وقضايا البلاد، وجهت حركة جيل زد المغربية مذكرةٌ حديثة إلى الأحزاب اليسارية وقد ضمنتها تشخيصا للأعطاب والاختلالات مقترحة خارطة طريق. بعبارة أخرى، أعلنت فيها بصوتٍ مرتفع ما ظل المغاربة يهمسون به لزمن طويل؛ ألا وهو أن اليسار أصبح ملزما بالتخلي عن جعل التاريخ مشجبا أو ذريعة، وأنه صار مطالبا بأن يُعيد تكييف نفسه مع مستجدات الحاضر إذا أراد النجاة من الانقراض.
تحدث واضعو المذكرة عن “أزمة هيكلية متعددة الأبعاد”. لم يكن اختيارهم لهذه الصيغة عشوائيا، بل هو نابع من واقعة أن اليسار المغربي فقد آليات التأطير، وفقد الاتصال بقواعده الاجتماعية، وانطفأت جاذبيته في أعين وأدمغة الشباب الذين اعتبروه آلةً مغلقةً تُعيد إنتاج النخب، واختفت من أفقها تباشير التجديد. لم تعد مشاكلها مقتصرة على ترهل الهياكل التنظيمية فحسب، بل تحجرت اللغة السياسية وصمتت، واكتفت باجترار قاموس الأمس، مبينة عن غياب القدرة على استيعاب الشيفرات الثقافية والرقمية المتداولة حاليا. فعندما يبتكر الشباب قواعد جديدة للتعبئة، غالبا ما تكون ردود أفعال اليسار خارجة عن مواضعات وانتظارات شباب اليوم. وفي نهاية المطاف، وجد اليسار المغربي نفسه أمام عزوف قياسي، وجمود ديمقراطي، وانطباع بالتخلف عن الموعد مع العصر.
لم يطلب جيل زد 212 الانضمام إلى موكب من المواكب، بل فرض أعضاؤه مواضيعهم وصيغهم – الأفقية، والشفافية، والقضايا الجزئية الملموسة، والفعالية القابلة للقياس. لم يعد هذا الجيل يؤمن بالمعارضة الاعتيادية أو بالاحتجاج الموسمي. إنه يريد خطط عمل قابلة للتنفيذ، وأشياء ملموسة، ونتائج مرضية. لهذا، دعت المذكرة تحديدا إلى التخلي عن المواقف المتشددة وبناء “مشروع مجتمعي بديل وواضح”، باعتباره عقدا سياسيا يهتم بالتشغيل والترقي الاجتماعي والعدالة المجالية، والمساواة بين الجنسين، والبيئة البراغماتية، ويمنح الشباب أدوات المشاركة تتجاوز ورقة التصويت. وهذا يعني أنه بات من اللازم تأسيس حزب يبتكر سلطة متقاسمة.
جاء في هذه المذكرة ما يفيد صراحة بأن إبقاء الشباب في دور الخزان الانتخابي أو الواجهة الرمزية لم يعد مقبولا. كذلك تضمنت المذكرة رسالة واضحة فحواها: كفى من عرض شخصيات الشباب مثل ديكور، جان الوقت لانتدابهم لتحمل المسؤوليات. وهذا يعني عمليا شغلهم المناصب القيادية (الوطنية والمحلية)، وفتح مساحات دائمة للنقاش الحر، وإضفاء الطابع المؤسسي على النقد البنّاء، ومنحهم صلاحيات حقيقية في مسائل التخطيط والإدارة. الشباب لا يطالبون بمكانة في الغرفة؛ إنهم يطالبون بمكان على الطاولة، وبمفتاح غرفة العمليات. بدون هذا التحول، سيبقى أي “تجديد” شكليا، عبارة عن وهم بواجهة عصرية موصولة بمكتب خلفي أكل عليه الدهر وتجشأ.
في عرف أصحاب المذكرة، لا تقتصر الحداثة على وسائل التواصل الاجتماعي فحسب، إذ يدعون فيها إلى “واقعية تقدمية” بما تعنيه تخليا عن اللغة الرنانة، واستجابة للطوارئ اليومية، واعتماد الشيفرات الثقافية والرقمية دون إهمال المضامين الواقعية والجادة. بكلمات أخرى، يطالب محررو المذكرة بالتحدث على نحو “كلي” و”جزئي”؛ أي شرح الخيارات المالية والصناعية، ولكن أيضا حل المشكلات الملموسة – إيواء الطلبة، تأمين ظروف نقل مريح، رعاية الصحة النفسية، إزالة الهشاشة غير المرئية. ويشترطون، فضلا عن ذلك، للقيام بذلك التحدث بلغة لا تتجاهل استخدام الرسوم البيانية، البث المباشر، الصيغ القصيرة وكل ما كانت السياسة التقليدية بالأمس تدين “سطحيته” وأصبح نسيجا مألوفا للنقاش العام.
اهتمت المذكرة بنقطة جوهرية أخرى، وهي توحيد عائلة اليسار ليس كتحالف ظرفيىأو موسمي، بل كأفقىمشترك قائم على وضوح البرامج والاحترام المتبادل. يدركون أن الثمن المؤدى مقابل التشرذم باهظ لأنه (التشرذم) يشوّش على الرؤية ويبيد وضوحها، ويثبّط عزيمة المتعاطفين، ويضعف الروابط الاجتماعية (في النقابات، الجمعيات والجامعات).
في بلدٍ ستعيد فيه مواعيد عام 2026 رسم موازين القوى، لم يعد في صالح اليسار التضحية بالوحدة لصالح خصومات شخصية واختلافات هامشية. لا يريد أصحاب المذكرة أن تكون وحدة اليسار المغربي مجرد صورة شخصية لحملة انتخابية سابقة لأوانها، بل يريدونها بنية مكتفية بذاتها أساسها حوكمة مشتركة بناء على قواعد تحكيم صارمة وعادلة لا تزيغ عن مبدإ تكافؤ الفرص، ومنصات مواضوعاتية مفتوحة للمجتمع المدني.
مع اقتراب الانتخابات التشريعية، يتسارع الزمن وينفرض العد العكسي. تعلم الشباب كيف يتعبأون دون وسطاء؛ وسيتعلمون، مع توالي تجارب البراكسيس، كيف يمارسون الحكم في انسجام تام بين القول والفعل. ولعلهم، يتساءلون معي عما جعلهم ينسون مثل هذا الديدن لدى المؤسسين الأوائل: علال الفاسي، المهدي بنبركة، عبد الرحيم بوعبيد، إلخ.. ويبقى البديل معروفا عندهم ليس كيسار تذكاري، مُختزلٌ في الحنين إلى الماضي والهوامش، بل كيسار يقف “حسكة” في مواجهة مجتمعٍ هو الآن بصدد تغيير برمجيته. بدد جيل زد 212 ظلام الغرفة بإضاءاته وإشراقاته كما بدد صمت القبور على هوى الاستبداد بصرخاته؛ والأمر متروكٌ الآن للأحزاب اليسارية للتوقف عن البحث عن المفتاح. الحل مطروح أمامها بكل وضوح، وليس شيئا آخر غير مشروعٌ واضح هو الآخر، وخطابٌ مُعدّل وإدماح حقيقي ووحدةٌ استراتيجية وعودةٌ إلى الميدان. إنه ليس شعارا، بل برنامجٌ للبقاء، بل للنهضة في أحسن الأحوال.