من وثائق منظمة 23 مارس : حول العمل الشرعي
يوغرتن الباعمراني
2007 / 1 / 31 - 11:25
منذ أن طرحت علينا المستجدات السياسية تحديد موقف واضح من مسألة العمل الشرعي، وبعدما تجمعت لدينا مجموعة من المؤشرات الأولية التي تنبئ بإمكانية الانتقال إلى مرحلة جديدة في عملنا الثوري... منذئد ونحن نناقش ونقلب موضوع العمل الشرعي من جميع جوانبه محاولة منا لفهم كل أبعاده وانعكاساته على تطورنا وتطور مجموع الحركة الثورية والديمقراطية ببلادنا.
لقد وضعنا على أنفسنا مجموعة من الأسئلة، كان أهمها :
1 - كيف عالجت الماركسية والأحزاب الثورية هذه المسألة ؟
2 - هل يسمح الوضع الراهن واحتمالات تطوره بإمكانية العمل الشرعي الثوري ؟ وهل يفرض علينا ذلك بعض التنازلات ؟
3 - أين نضع هذه الخطوة في شروط تطورنا الخاص، وفي مجموع عملية بناء الحزب الثوري ؟
4 - ما هي سمات ومهام فترة الانتقال ؟
وعلى هذه الأسئلة التي طرحناها، ويطرحها العديد من الرفاق سنحاول أن ندلي بوجهة نظرنا بصورة مركزة وشاملة كلما أمكن.
1 - كيف عالجت الماركسية والأحزاب الثورية هذه المسألة ؟
في حدود معرفتنا، لم تعالج الماركسية هذا الموضوع معالجة مستقلة بذاتها. ولم تسع بالتالي إلى وضع وصفة جاهزة تحدد على وجه الإطلاق الشروط التي ينبغي فيها على الثوريين أن يقبلوا بالعمل الشرعي، والشروط المناقضة التي لا ينبغي فيها ذلك. وهذا أمر طبيعي مبرر ومفهوم، مادامت الأدبيات الماركسية الثورية تضع دائما إشكالية العمل الشرعي والسري ضمن إشكالية أوسع، وهي ما نسميها بقضايا أشكال النضال، والتي يحددها في التحليل الأخير السمات العينية لكل بلد، وشروط النضال الثوري الملموسة في مرحلة معينة من تطور الصراع الطبقي فيه. وعلى هذا الأساس ودون مجازفة من قبلنا يمكن القول : أن وجهة النظر الماركسية في موضوع الشرعية يستنتج استنتاجا - إن صح التعبير- من وجهة نظرنا العامة حول ارتباط تبدل أشكال النضال بتبدل شروط الصراع الطبقي. والشرط الوحيد الذي تضعه الماركسية في هذا المجال هو ضرورة ارتباط كل أشكال النضال المستخدمة بغرض تنمية عوامل الثورة الاجتماعية-السياسية، والالتزام بها هدفا وممارسة.
إن انجلز ولينين -فيما بعد- لم ينتقدا أبدا الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية أو العمالية التي كانت تتمتع بشرعيتها، على شرعيتها بذاتها. بل على العكس، حبذا ذلك، وفاخرا به أحيانا كمكسب تاريخي سيكون له نتائج بعيدة في نجاح الثورة البروليتارية، وفي الإجمال نظرا إلى الشرعية كخطوة ضرورية وهامة في توعية الطبقة العاملة وتنظيمها وتهيئها للثورة. أما انتقاد لينين -فيما بعد- فقد انصب وبالضبط على تخلي هذه الأحزاب على هدف الثورة بعدما أصبحت ضرورة مستعجلة ومهمة آنية في الوضع السياسي فانتقدها على دعمها لبرجوازيتها وخضوعها المطلق للعمل الشرعي وللبلاهة البرلمانية. لقد قيل وقتها أن الشرعية أفسدت الأحزاب الاشتراكية. وفي الحقيقة فإن الشرعية لا تفسد إلا الأحزاب التي تكون مهيأة لذلك إيديولوجيا وسياسيا واجتماعيا.
حقا إن لينين أكد على سرية الحزب الثوري في روسيا الأتوقراطية التي تكاد تنعدم فيها الحريات السياسية الديمقراطية. بل واستنتج من ذلك مجموعة من الخلاصات التنظيمية التي طبعت اللينينية في المجال التنظيمي إلا أن لينين لم يفكر قط في جعل سرية الحزب شرطا مطلقا لثوريته ومبدأ فوق الزمان والمكان الذي تناضل فيه الطبقة العاملة.
إن نظرية لينين في الحزب الثوري، وفي النموذج التنظيمي الذي وضعه (والذي يحتوي على العديد من السمات الروسية الخاصة) لم يكونا وليدين أو مشتقين من ضرورة العمل السري، ولا كانت هذه الضرورة هي الموجه الرئيسي لنظريته ولنموذجه. فمن المعروف أن عارضي لينين أنفسهم لو يكونوا وقتها ضد سرية الحزب، ولا كانوا بمدافعين عن شرعيته. فالخلاف إذن، وجوهر الجدل اللينيني هما ابعد من هذه النظرة الضيقة لنظرية الحزب الثوري. إن صراع لينين وجداله كانا مرتبطين بمفهومه الأصلي عند دور الحزب في الصراع الطبقي في شروط اجتماع الثورتين الديمقراطية والاشتراكية (صراع لينين كان موجها ضد النزعة الاقتصادية وضد محو الفوارق بين الطبقة والحزب وضد ترك قيادة الثورة الديمقراطية للبرجوازية).
من هذه اللمحة الخاطفة يمكن الاستنتاج بأن الماركسية ليست ضد الشرعية ولا مع السرية من حيث المبدأ. وأنها تترك إشكالية الاختيارين بين أحد الأسلوبين أو الجمع بينهما، لتقدير الثوريين لشروط نضالهم العينية. والشرط الوحيد هو أن ينسجم هذا الاختيار مع أهداف الثورة الاجتماعية والسياسية. ولكنها (ولنؤكد على هذا الاستنتاج فقط لانتشار مفاهيم يسراوية ساذجة) تعتبر أن لجوء الأحزاب الثورية إلى السرية هو حالة اضطرارية يفرضها عليهم انعدام الحريات الديمقراطية ولجوء الطبقات الحاكمة غلى العنف كلما شعرت بأن الديمقراطية قد باتت تهدد مصالحها ووجودها. بينما تعتبر العمل الشرعي هو بمثابة الحالة الأفضل والأمثل لنضال البروليتاريا كلما كان ذلك ممكنا.
وإذا كانت النصوص النظرية لا تقدم لنا ”وصفة جاهزة“ تريحنا من تعقيدات الاختيار الصعب، اللهم إلا الكيفية التي يجب أن نطرح بها المسألة من الوجهة المبدئية، فإن التجارب الثورية تكشف لنا هي الأخرى عن سبل متنوعة وغنية من حيث أسسها التكتيكية وتطبيقاتها العينية. ونعترف مسبقا أننا لا نتوفر على مواد كافية لتقديم صورة مفصلة عن بعض هذه النماذج، ومع ذلك سندلي بملاحظتين أساسيتين :
الأولى : نقدمها كجواب على سؤال طرحته علينا مراجعة التجربة البلشفية وهو : لماذا عارض لينين اتجاه تحويل الحزب إلى حزب شرعي ؟
والثانية : نقدمها كخلاصة من التجربة الفيتنامية التي نراها أقرب من بعض الجوانب إلى ما تهدف إليه تجربتنا في الوضع الراهن.
أولا : من المعروف أن لينين، بعد هزيمة الثورة قد صارع في آن واحد ضد الاتجاه الذي كان يدعو إلى تصفية الحزب السري والتحول إلى حزب شرعي وضد الاتجاه الذي كان يدعو إلى الانسحاب من البرلمان والذي لا يرى فائدة في استغلال الهوامش الشرعية. والذي يهمنا هنا هو الاتجاه الأول. فلماذا عارض لينين الدعوة إلى الشرعية ؟
في نظرنا يرجع ذلك إلى سببين :
الأول : هو أنه اتجاه كان يزعم أن زمن الثورة قد ولى وانتهى بعد انتفاضة 1905. وأن الحقبة التي دخلتها روسيا القيصرية هي حقبة التحول البرجوازي الدستوري الهادئ. وهذا معناه بصريح العبارة تحويل الحزب البلشفي من حزب ثوري إلى حزب ليبرالي مبتذل.
الثاني : هو أن الفترة نفسها كانت من أشد الفترات قمعا ورجعية ضد القوى الثورية على وجه الخصوص بالرغم من كل الإصلاحات الدستورية الفوقية. هذا في الوقت الذي لازالت فيه الطبقة العاملة تختزن طاقة ثورية هائلة رغم ما أصابها من انتكاس مؤقت بعد هزيمة الثورة. وهذا بالضبط ما كان لينين يحسبه ويرتقبه. وهو ما أثبتت الأحداث بعد زمن وجيز صحته وصحة التكتيك اللينيني اتجاهه.
ثانيا : أما التجربة الفيتنامية فهي تمدنا بنموذج آخر، لم يكتف فيه الشيوعيون باستغلال بعض الهوامش الثانوية في الشرعية وحسب، كما فعل البلاشفة بل احتل العمل الشرعي لديهم مركز الثقل في النضال السياسي مستغلين في ذلك وجود حكومة شعبية في المتروبول في أواسط الثلاثينيات، ووجود تناقض عالمي ضد النازية والفاشية.
والجدير بالملاحظة أن الشيوعيين الفيتناميين تنازلوا مؤقتا عن مطلبهم الاستراتيجي الأصلي الذي هو ”استقلال الفيتنام“ في سبيل تدعيم وجودهم وشعبيتهم داخل أوسع الجماهير الكادحة من خلال مجموعة من النضالات والمطالب الديمقراطية والإصلاحية. ولقد قيم الفيتناميون فيما بعد هذه الفترة من نضالهم بكونها كانت التمهيد الضروري الذي لولاه لما كان بإمكانهم خوض الكفاح المسلح، واستنهاض الجماهير في المراحل الثورية اللاحقة.
هذه التجربة مفيدة لنا من وجهتين : الأولى، من حيث أهمية العمل الشرعي في مراحل معينة من تطور النضال الثوري، قصد تعميق ارتباط الحركة الثورية بالجماهير، والثانية من حيث أهمية النضال الديمقراطي العم ولو كان مصحوبا ببعض التنازلات الأساسية والمؤقتة قصد تعبئة الجماهير واستنهاضها لمراحل أعلى من النضال الثوري.
هكذا في نظرنا عالجت الماركسية والأحزاب الثورية مسألة العمل الشرعي. إن الكلمة الفاصلة والأخيرة كما حاولنا أن نبين في كل ما قلناه هي للشروط الخاصة التي يجتازها الصراع الطبقي في مرحلة معينة.
2 - هل يسمح الوضع الراهن واحتمالات تطوره بإمكانية العمل الشرعي الثوري ؟
وهل يفرض علينا ذلك بعض التنازلات ؟
يتميز تحليلنا للوضع الراهن بما يلي :
تخوض الجماهير الشعبية صراعا مزدوجا مترابطا ومتمايزا في آن واحد : من جهة، صراع من أجل تدعيم الصمود الوطني وتثبيت مكتسباتنا في الوحدة الترابية، وفي هذا الصراع تلتقي مصالح الجماهير الشعبية مع مصالح قوى اجتماعية أخرى تمثلها الدولة. وتستفيد الجماهير من هذا الوضع بالضغط على الدولة لاستخدام كل إمكانياتها الدبلوماسية والعسكرية والمالية لصالح معركتها الوطنية ولتحميل الطبقة السائدة قسطها من الأعباء والتضحيات "والتنازلات" التي تفرضها شروط المواجهة الوطنية... ومن جهة ثانية، صراع ضد الطبقة السائدة ودولتها بهدف الثورة الاجتماعية والديمقراطية السياسية. وهذا يفرض في شروط نسبية القوى الراهنة النضال في سبيل مجموعة من الإصلاحات الديمقراطية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي من شأنها أن تنمي الحركة الجماهيرية وتستنهضها لمرحلة نضالية ثورية أعلى. ولقد وضعنا في مقدمة هذه النضالات مطلب انتخاب مؤسسات تمثيلية حقيقية، أي مبنية على حريات سياسية واسعة. واعتبرنا هذا المطلب بمثابة الحلقة المركزية الوسطى للارتقاء بمستوى الوعي الديمقراطي الثوري لدى الحركة الجماهيرية، ولتوسيع مجال تحركها ولتقوية أدوات نضالها واستعداداتها لما هو أعلى من المطالب والشعارات الثورية الأخرى.
هذه باختصار وجهة نظرنا في سمة المرحلة الراهنة. إنها بأحد المعاني مرحلة إصلاحية ديمقراطية. والذي فرض طبيعتها تلك هو هذا التراكب ”الاستثنائي“ بين القضية الوطنية وبين القضية الاجتماعية والديمقراطية في شروط موازين قوى مختلة خارجيا لصالح الأطروحة الانفصالية، وداخليا لصالح الطبقة البرجوازية السائدة.
إلى أي مدى ستدوم هذه المرحلة ؟
طبعا، ليس من الصحيح، وليس بالامكان، تحديد فترة زمنية ما. فتفاعل هذه التناقضات وتأثيرها في قوة وسعة الحركة الجماهيرية وفي مبادراتها الثورية هو الذي يحدد لنا في نهاية التحليل إما تبدل الوضع وإما استمراره ولكن مع ذلك، فإننا نرجح أن التطور سيكون بطيئا. ومن هذه الوجهة نفترق عن الوضع الروسي الذي تحدثنا عنه عند لينين، والذي كانت فيه ديناميكية الصراع الطبقي شديدة التوتر، وكان الدور الطليعي للطبقة العاملة بارزا إلى حد بعيد، والذي أنضجته أيضا مجموعة من الظروف المساعدة الأخرى كالحرب العالمية، وصراع القوميات المضطهدة... الخ. قلنا نرجح التطور البطيء لسببين : أولا، أن وضع القضية الوطنية لا ينبئ بإمكانية حل سريع لها. وثانيا، وهذا هو الأهم، للضعف الشديد في ارتباط القوى الثورية والديمقراطية بالحركة الجماهيرية وللتأخر البارز في الوعي السياسي لدى قطاعات جماهيرية واسعة جدا، وبالدرجة الأولى في البادية. ورغم هذا الترجيح فإننا لا نضع سورا صينيا فاصلا بين برنامجنا التكتيكي وبرنامجنا الاستراتيجي، فالمسألة كلها متوقفة على قدرة الحركة الجماهيرية وعلى قدرة القوى الديمقراطية وسطها.
وإذا كان من الصحيح أن القضية الوطنية قد أعطت قاعدة مادية أكثر صلابة للانفراج السياسي الراهن وأنه بالتالي سيتوقف بشكل ما وإلى حد ما على الحدة والفترة التي ستحتلها القضية الوطنية، فإنه من الصحيح أيضا أن تاريخ الصراع السياسي بالمغرب قد شهد دائما هامشا من الليبرالية، ينمو ويضيق على حسب موازين القوى بين الطبقات المتصارعة. ولقد فسرت منظمتنا ذلك بسببين : أولهما وأساسهما أن القوى الديمقراطية استمدت استمراريتها وشرعيتها من نضالها الوطني ضد الاستعمار التقليدي. وثانيهما أن خصوصية النظام الملكي في الهرم الاجتماعي تجعله بحاجة إلى نوع من ”التوازن السياسي“ مع الحركة الوطنية. واليوم وأكثر من أي وقت مضى هو بحاجة إلى هذا التوازن بعد الذي حصل في الانقلابين. ونعتقد أن هذا التوجه سيظل ثابتا في سياسة السلطة، بل وسيشكل سمتها الأساسية في هذه المرحلة. ذلك أن التجربة قد أكدت أن ”الفراغ السياسي“ الذي يحدثه الكبت الكامل للحريات الديمقراطية يترك الباب مفتوحا على مصراعيه لدور الجيش في بلد يعاني من أشد أثقال مظاهر التطور المحجوز.
هاتان السمتان : حركة وطنية لها مكانتها الجماهيرية والتاريخية، ونظام ملكي له خصوصيته في التطور السياسي والطبقي لبلدنا، هما ما يفسر أيضا وجود هذا الهامش الليبرالي الذي تمتع به المغرب طوال حياته السياسية الحديثة وما يبرر بالأحرى إمكانية استمرار هذا الهامش في المستقبل.
وما يشجعنا على هذا الاستخلاص هو النهوض الديمقراطي العام على الصعيد العالمي والذي فرض على الأطراف الإمبريالية نفسها -محاولة منها لاستباق الأزمة الثورية- أن تتلاءم وتتكيف مع هذا الواقع. إن المرحلة النضالية المقبلة هي بكل تأكيد مرحلة إنعثاق الشعوب المضطهدة من ألوان الديكتاتوريات المطلقة. فإذا كانت مرحلة ما بعد الحرب هي مرحلة الاستقلالات السياسية، فإن المرحلة التي نعيشها هي مرحلة انتصار الديمقراطية بهذا الشكل أو ذاك على الأشكال المطلقة للاضطهاد السياسي.
لكل هذه العوامل، فإننا نعتقد باستمرار الهامش الليبرالي، بل وإمكانية توسعه لكن كيف يمكن أن يشملنا نحن هذا التوسع الليبرالي ؟ وبعبارة أخرى هل يمكن لنا نحن أيضا أن نتمتع بحقنا في المشروعية القانونية في ظل الشروط الراهنة ؟
لقد كان تصورنا لهذا الموضوع قريبا من التجربة اللينينية أو من عدة تجارب ثورية أخرى. وهو أن شرعيتنا ستأتي عبر مد جماهيري ثوري دون حاجة على الإطلاق للشرعية القانونية كما هي مطروحة علينا اليوم. إلا أن الحياة وحاجات النضال الثوري قد أعطت طريقا آخر، وإمكانية أخرى. ليست نتيجة لمد جماهيري سابق، ولا لميزان قوي لدينا ساحق، ولكن لعدة شروط في المعادلة السياسية العامة، والتي بإمكاننا، بل ويجب أن نستفيد منها لكي تأخذ مكاننا بجانب القوى الديمقراطية الأخرى.
ومهما كانت نوايا الحكم في حالة قبوله بشرعيتنا، ومهما كانت أهدافه ومناوراته فإن العامل الحاسم في نظرنا سيبقى في كل الأحوال هو الصمود السياسي الذي برهنا عليه والتضحيات الجسيمة التي قدمناها كتيار والتي بدونها ما كان يمكن حتى الحديث عن وجودنا فبالأحرى إمكانية شرعيتنا. ونؤكد على هذه الحقيقة، أو على هذه الطريقة في التحليل، لا لنغالي في قوتنا، ولا لنغفل عن أهداف الحكم ومصالحه في حالة قبول شرعيتنا ولكن لكي لا نستخف بصمودنا ونضالاتنا، ولكي نمتلك رؤية كفاحية للتطور. فالمبدأ الأول والأخير في الصراع الطبقي هو أن الطبقات الحاكمة لا تقدم شيئا بالمجان، لا توزع الهبات والمنح، ولكنها تتعامل مع تناقضات موجودة وواقعية، والحال، فإن اليسار رغم تناقضاته، قد أثبت وجوده. وأثبت للحكم بأن أسلوب القمع لا يمكن أن ينهي بتاتا الشروط السياسية التي تحدثنا عنها يمكن تميز ووضع إمكانية انتزاع حقنا في المشروعية.
بعد هذا التحديد، نرى أن الهامش الليبرالي المجود في الساحة يتسع لوجودنا الشرعي بل ويفرض النضال من أجل هذا الوجود.
يتسع لوجودنا ما دمنا نناضل في إطار خط ديمقراطي عام ”يحترم المقدسات“ كما ينص عليها القانون. وفي تقديرنا أن هذا المجال في التحرك من الوجهة المبدئية واسع جدا. ونعني بالوجهة المبدئية الحق القانوني في التعبير عن وجهة نظرنا والدفاع عنها ولكن ليس بالضرورة وفي نقطة ما من التطور الحق العملي في ترجمة وجهة نظرنا في كفاحات جماهيرية ملموسة. وهذه هي المعركة الأساسية في ميدان الشرعية مع الطبقة السائدة ومثليها. ولكي يكون قصدنا واضحا سنأخذ المثال من الواقع نفسه : فالتنظيمات الديمقراطية لها الحق في عقد مؤتمراتها ونشر برنامجها، وإصدار صحفها، والقيام بالدعاية لأفكارها الإيديولوجية، وعقد تجمعاتها الداخلية والجماهيرية وترشيح ممثليها، والقيام بدعايتها الانتخابية، والعمل في النقابان الموجودة أو تأسيس نقاباتها الخاصة، والقيام باضرابات نقابية أو احتجاجية... الخ إلا أن هذا تتخلله إجراءات تعسفية دائمة هنا وهناك ومضايقات من شتى الأنواع، بل وحركة قمع واسعة وخطيرة عندما يلمس النظام بأن الحركة الجماهيرية الفعلية قد تتجاوز الحدود التي يستطيع التعامل معها من موقع قوة كما حصل في اضرابات الكنفدرالية.. إلا أن هذه الإجراءات، والخروقات، والمضايقات وحملات القمع الصغيرة والكبيرة لا يمكن لها أن تخفي عنا إطلاقا الفائدة الكبرى التي جنتها وتجنيها القوى الديمقراطية في نضالها الشرعي هذا، ولا يمكن لها أن تحجب عنا التقدم الذي حصلت عليه في ظل الشرعية في ارتباطها بالحركة الجماهيرية، وهي لا تبرر بأي شكل من الأشكال الامتناع عن العمل الشرعي، بل العكس هو الصحيح، إن العمل الشرعي هو السلاح الذي سمح لهذه القوى بتطوير الصراع ولو في هذه المجابهات نفسها، وأن تنمي لدى الجماهير روح المقاومة والصمود والوعي الديمقراطي الحازم. إذن هناك مجال واسع للتحرك الديمقراطي من حيث المبدأ، لكن هناك مضايقات على مجالات تطبيقه العملية تبلغ نقطة الحدة والانفجار عندما يصل هذا التحرك الديمقراطي غلى مستوى فعال في الحركة الجماهيرية.
وإذا قارنا بين هذا التحرك الديمقراطي الدعائي والعملي الذي يسمح به الهامش الليبرالي، خاصة بعد التطور الذي حصل فيه خلال هذه المدة، وبين وضعنا الذاتي الذي لا يؤهلنا اليوم ولا في الغد القريب لمجابهات جماهيرية قوية، ولو في المستوى الذي وصل إليه الاتحاد الاشتراكي، لأدركنا مدى الضرورة، ومدى الاستفادة الهائلة التي سنستفيدها نحن من العمل الشرعي. ولهذا قلنا أن الهامش الحالي لا يتسع فقط لوجودنا الشرعي، بل هو يفرض علينا النضال من أجل هذا الوجود.
فهل سنقدم في ذلك تنازلا ما ؟
لو أن الوضع السياسي يعطينا إمكانيات ثورية أخرى غير النضال الديمقراطي العام من أجل مؤسسات تمثيلية حقيقية، لا يستحق موقفنا نعته بالانتهازية والتخلي عن المبادئ. والحال، فإن تقديرنا للمرحلة ولتناقضاتها، وللحركة الجماهيرية وقدراتها، وللقوى الديمقراطية وإمكانياتها، يثبت صواب توجهنا الديمقراطي هذا كحلقة وصل ضرورية نحو مرحلة نضالية - ثورية أعلى. إن واقعنا من هذا الجانب يشبه إلى حد ما واقع التجربة الشيوعية الفيتنامية في أواخر الثلاثينيات. لقد جمد الفيتناميون مطلبا استراتيجيا مبدئيا هو مطلب الاستقلال عن الاستعمار. واندفعوا للنضال الشرعي الديمقراطي الواسع داخل الهياكل الاستعمارية مما هيأهم للإنغراس وسط أوسع الجماهير وقيادة نضالاتها الثورية في المرحلة اللاحقة. فهل يجوز لنا أن ننعت الشيوعيين الفيتناميين في تلك المرحلة بالشيوعيين الإصلاحيين الاستعماريين ! أليس هذا تجنيا على الحقيقة والواقع ؟!
إن المضمون الثوري لمطالبنا الإصلاحية المرحلية يستمد من هدفنا الاستراتيجي الذي هو إنجاز الثورة الديمقراطية الوطنية وبناء المجتمع الاشتراكي. لكن من أجل أن نعطي لهذا المضمون قوة مادية حقيقية، ومن أجل أن يكون الربط بين التكتيك والاستراتيجية ربطا ماديا وليس لفظيا، في الواقع الجماهيري وليس في الأدمغة والأدبيات، فهناك لا محالة ضرورة لتجميد بعض الشعارات المركزية مقابل شعارات مركزية أخرى.
إن الخبرة الثورية لنا ولغيرنا من الشعوب تعلمنا أن الجماهير تدرك أهمية السلطة في تحركها الاجتماعي والسياسي عبر مسالك نضالية عملية أخرى غير المسالك التي يعي بها المثقف هذه الحقيقة. فإذا كان المثقف يصل إلى هذا الوعي عبر محاكمة عقلية نظرية، فإن الجماهير تصل إلى نفس النتيجة عبر محاكمة نضالية عملية ديمقراطية في جلها تتحول في نقطة ما إلى ممارسة ثورية شاملة. إن الحدود الفاصلة بين المطالب التكتيكية والمطالب الاستراتيجية عندما تستمد من الواقع النضالي الحي هي حدود مؤقتة نسبية، متحركة. ولكنها بنفس النظرة الواقعية حدود ضرورة وحاسمة في العمل الثوري. قال الفيتناميون عن تجربتهم الإصلاحية، لولاها لما كانت مراحل النضال الثوري الأخرى، لما كانت بالأحرى بقيادتهم، ونقول نحن وراءهم، بدون خوض غمار هذه المعركة المماثلة سوف تتأخر وتتغير ثورتنا الديمقراطية الوطنية، ولكن بالتأكيد لن نكون نحن في صفوفها الأمامية فبالأحرى في قيادتها. ولهذا نعتبر أن البرنامج السياسي الذي سطرته منظمتنا في مؤتمرها صالح كقاعدة عامة لتحركنا السياسي في نطاق العمل الشرعي نفسه. ومن المعروف أن ميزة هذا البرنامج في تاريخ منظمتنا أنه ملأ الفراغ المزمن في الممارسة اليسراوية بين الأهداف والشعارات الاستراتيجية والوضع المرحلي الملموس. وأنه أعاد بالتالي الاعتبار لأهمية النضال الديمقراطي ليس فقط من الوجهة المبدئية، ولكن بالدرجة الأولى عبر تحليل لتناقضات الوضع ولخبرة حركة الصراع الطبقي في المراحل السابقة. لقد أبرز مؤتمرنا في استنتاجاته السياسية الأهمية الراهنة والحاسمة للنضال الديمقراطية. ولذلك قلنا ونعيد مرة أخرى، إن الوضع الراهن لا يتسع لوجودنا الشرعي فحسب، بل هو سيتوجه كهدف نضالي مكمل في تركيب عضوي واحد لخلاصات مؤتمرنا ولبرنامجه.
3 - أين نضع هذه الخطوة في شروط تطورنا الخاص، وفي مجموع عملية بناء الحزب الثوري ؟
لقد ركزنا إلى حد الآن على مسألة الشرعية من زاوية ما يتطلبه الوضع السياسي وعلينا بعد هذا أن ننظر للمسألة من زاوية تطورنا الخاص في طريق بناء الحزب الثوري.
قد لا نبالغ إذا قلنا أن مجموع القوى الثورية التي امتلكت جذورا لها في التربة الوطنية كانت إما نتيجة لانشقاق كبير الأهمية عن حزب جماهيري تجاوزه تطور الصراع الطبقي، أو لانوية واكبت ظرفا ثوريا وبالتالي وجدت تجاوبا واستعدادا من قبل الحركة الثورية الجماهيرية. هذه الحقيقة تبدو لنا منطبقة على العديد من التجارب الثورية. وتأخذ كل أهميتها في تفسير أحد الأسباب الرئيسية في الأزمة التي عانينا منها كمنظمة ثورية وبالتأكيد فإن الجانب الآخر من هذه الأسباب تكشفه لنا أخطاؤنا السياسية وضعف خبرتنا الثورية.
لم تكن هذه الحقيقة خافية علينا كلية، بل عبرنا عنها مرارا بقولنا، ونحن بصدد البحث عن أسباب الأزمة، أننا لم نكن وليدين لانشقاق عمودي في داخل الحركة الديمقراطية وبالأخص منها الاتحاد الوطني كحزب جماهيري له امتدادات جماهيرية كثيفة آنذاك. ولقد كنا نراهن، أو بالأصح، نعي خطأ الظرف الذي ولدنا فيه، إذ صورت أدبياتنا وقتها هذا الذرف وكأنه مرحلة ثورية ناضجة. وكان لهذا التقدير الخاطئ نتائج سياسية كبيرة وسلبية على ممارستنا في جميع أصعدتها، وكان أيضا نوعا ما يحمل رهانا على إمكانية تجاوز عزلتنا عبر توسع وتقدم مبادرات الجماهير الثورية... إلا أن تأخر هذا المد (الرهان) كان يصدم مرارا توقعاتنا وخطنا ويفجر باستمرار أزمتنا الداخلية، ويجعلنا وجها لوجه مع تناقضات العزلة.
ومن أجل تجاوز أزمة العزلة خطت منظمتنا واليسار عموما مجموعة من الخطط صاحبها دائما صراع عنيف بداخلنا من جهة ومع الفرق الأخرى من جهة ثانية. وعناوين هذه الخطط معروفة لدينا اليوم، وحصيلتها الهزيلة أو السلبية في بعض الأحيان معروفة هي الأخرى. ويمكن القول بعد هذا التاريخ أن كلا منها لمس بقدر ما من الوضوح جانبا واحدا من الأزمة، لكنها جميعا لم ترق إلى صلب المشكل والذي كان في الحقيقة يكمن في مضمون الخط السياسي الذي حملناه وأردناه أن يكون جماهيريا. فكل هذه الخطط التي حاولت أن تعالج ”أزمة العزلة“ ونظرت لجانب منها أعطت في النهاية جملة من المقترحات التقنية لكنها حافظت في الجوهر على خط إرادي انعزالي يسراوي. وما لم يصلح العطب في بنية الخط السياسي ما كان ممكنا على الإطلاق تجاوز أزمة العزلة.
لقد تلمست ”وثيقة الأطر“ بعض تخبطاتنا السياسية وبالأخص عزلتنا كجسم من المثقفين عن الحركة الجماهيرية، لكنها أعطت حلولا تصفوية على الصعيد التنظيمي، يسراوية مغامرة على الصعيد السياسي.
وتلمست ”خطة عمل“ انسياقنا في العمل الطلابي وأرادت التركيز والتوجه إلى الطبقة العاملة، وكشفت عن حق بعض خصائص تكوينها الحديث الذي من شأنه أن يسهل اندماجنا بها، لكنها أعطت في الحصيلة حلولا تقنية تنظيمية وإرادية تتلخص في عبارة ”التوجه“، بينما حافظت على منظوراتنا السياسية والإيديولوجية كما هي.
لم تكن التوجهات المعرضة لهذه الخطط والتي سادت عند ”إلى الأمام“ أو عندنا بأحسن من التي ذكرناها من حيث الجوهر.
إن الخطوة الكبيرة التي أنجزتها منظمتنا عبر مراجعاتها النقدية المتكررة هي بالضبط أنها عالجت الداء في موطنه الحقيقي أي في البنية الإيديولوجية والسياسية لليسار. فأين تقع مسألة الشرعية من هذا التطور ؟ وما دورها في معالجة مسألة العزلة ؟
إننا نلاحظ من تجاربنا الخاصة أنه بالرغم من تصحيح مسار خطنا السياسي لا زلنا ندور عمليا في فلك فئات المثقفين وكأننا نعيد دورة شبه عضوية وطبيعية ونلاحظ أكثر من هذا. ففي هذه الفئة نفسها التي تبدو أكثر استعدادا لتقبل أفكارنا ودعايتنا وتنظيمنا تنتشر ظاهرة التساقط بنسب لا يستهان بها. وإذا تمعنا قليلا في أسباب هذه الظاهرة فسنجد حتما وراءها ضعف الاستعداد الجماهيري للعمل السري. إن العمل السري إذا لم يتطلب مستوى معينا من الحركة النضالية الجماهيرية، فهو يتطلب على الأقل مناخا جماهيريا أو مزاجا شعبيا مهينا لهذا المستوى من النضال. ونحن نعلم أن مزاج الجماهير ونفسيتها قد يكونان أحيانا من العوامل الحاسمة في نجاح أو ففشل أسلوب نضالي معين. صحيح أن العمل السري يستوعب دائما قلة من المناضلين هم طليعة الجماهير. إلا أن هذه الطليعة لا يمكن لها أن توجد وتنمو وتندمج بالحركة الجماهيرية، إذا كان مستوى استعداد الجماهير لا ينتخبها لذلك. ثم إن خبرة وتقاليد جماهيرنا في العمل السري وفي الميدان التنظيمي عموما سواء في مرحلة النضال الوطني أو في المرحلة الحديثة تكاد شبه منعدمة. ولعل هذا من أحد الأسباب التي تعاني منها مجموع التنظيمات الديمقراطية ولو بتفاوت فيما بينها. وفي الخلاصة فإن العمل الشرعي الذي يبدو في هذه الشروط وكأنه ضرورة مطلقة سيعطينا وبسهولة أكبر في الاتصال بالجماهير وفي التجارب مع استعداداتها الحقيقية من أجل تنميتها لما هو أفضل. وسيمكننا عبر هذا الاتصال الذي مهما كان ضيقا أن نكسر الدائرة التي حوصرنا فيها إلى حد الآن بتوجيه إمكانياتنا وتنظيمنا في شروط مواتية نحو الجماهير الكادحة. هناك حقيقة صارخة تعزز خلاصاتنا السابقة : إن العديد من المناضلين، وخاصة منهم الكادحين رغم تعاطفهم معنا، أو إمكانية انضمامهم إلينا يفضلون ففي الشروط الراهنة الانضمام إلى القوى الديمقراطية الأخرى ففقط لأن أسلوبنا ففي العمل لا ينسجم مع استعداداتهم، ولا يتطابق مع أهدافهم النضالية ففي المرحلة الراهنة. هذه الحقيقة الواقعية يجب أن نحسب لها كل الحساب ما دام الوضع لا يسمح لنا بإمكانية فرز أعلى داخل القوى الديمقراطية نفسها.
إننا نذهب ففي استنتاجاتنا إلى أبعد من هذه الحدود ؛ ذلك أننا نعتبر أن الانخراط في العمل الشرعي مستقبلا هو فرصة تاريخية نادرة لردم الهوة التي لازمت أصل نشأتنا وولادتنا كأقلية من المثقفين معزولة في مناخ جماهيري راكد نسبيا. ففي مخاض هذه التجربة سنعيد لا محالة بناء منظمتنا في ارتباط أكبر مع الواقع ومع الحركة الجماهيرية. إننا نتصور ومن الآن أن هذه التجربة سيكون لها الأثر البعيد في صقل عقليتنا وفي إنجاب أطر نوعية لمنظمتنا. وبهذا المعنى سنكون قد وفرنا الشروط الضرورية لإنجاز ما عجزت عن إنجازه ”وثيقة الأطر“ و”خطة عمل“. إننا الآن في مرحلة التجاوز العملي، وليس فقط النظري أو السياسي لهاتين الأطروحتين.
ومرة أخرى يطرح علينا السؤال التقليدي : ألا يعني هذا في نهاية المطاف أننا سننجب منظمة صغيرة من طراز الاتحاد الاشتراكي أو حزب التقدم والاشتراكية ؟
نقول بصراحة ، إن التطور الفكري لمنظمتنا والخبرة النضالية التي اكتسبناها من التجربة الطويلة نسبيا قد خلصتنا إلى حد بعيد من التصورات الدوغمائية الطبقوية والتي كانت منتشرة في صفوفنا.
إننا اليوم على قناعة كاملة بأن عملية تشكيل الحزب الثوري هي صيرورة طويلة تتماشى من جهة مع عملية نضج الكفاح الشعبي الطبقي، ومن جهة ثانية مع قدرة الفصائل الثورية على الإمساك بالحلقة المركزية في كل مرحلة من مراحل تطور هذا الكفاح الشعبي. وفي هذه الصيرورة لسنا، كما أكدنا مرارا وتكرارا، إلا فصيلا من فصائل الحركة الديمقراطية الثورية. فصيل له شروط تكونه التاريخية، وله سماته الإيديولوجية والسياسية والتنظيمية، وله بالتالي مكانته ودوره في عملية بناء الكتلة الجماهيرية التاريخية التي عليها تقع مهمة الثورة، والتي في أحشائها يتبلور الحزب الثوري. ومجرد تمحيص أولي للخصائص البنيوية للحركة الديمقراطية اليوم يؤكد هذه الخلاصات :
1 - اليسار حركة عريضة من المثقفين... حركة مستمرة ومستقلة رغم كل شروط الأزمة... حركة أنجبتها جملة من الخصائص والظروف منها بلا شك العجز العميق للحركة الديمقراطية السابقة عليها... هذا اليسار يعيش مرحليا فترة من التخمر والتناقض والفرز... فترة لم تستنفد بعد كل إمكانياتها ولم تتشكل بعد كل ملامحها الأخيرة.
2 - الاتحاد الاشتراكي تجمع وطني ديمقراطي يملك تعاطف الشارع الجماهيري ويمثل نوعا ما الاستمرارية التاريخية للحركة الوطنية. لكن نقطة قوته هي في آن واحد نقطة ضعفه. فبصفته كتجمع وتألف بين عدة فئات وإيديولوجيات و”خطوط“، تجعل تناقضاته تلك غير قادرة على قيادة العملية الثورية في المدى البعيد.
3 - حزب التقدم والاشتراكية حزب صغير لا زال يعاني، لشروط تاريخية، من أزمة انفصال عميقة عن الجماهير الكادحة. ويتطور بالأخص في فئات معينة من البرجوازية الصغرى التي ميزتها أنها ذات عقلية ومزاج تقنقراطي.
هذه الخصوصيات البنيوية ”المبررة“ في شروط التطور الحالي للصراع الطبقي تبين لنا ايضا الدور التاريخي الذي يمكن أن نضطلع به في مسيرة بلورة الكتلة الجماهيرية والحزب الثوري. إن لنا بعض السمات الخصوصية الهامة التي يمكن أن نستثمرها للقيام بهذا الدور :
أولا : استنفاذ عملية الفرز داخل اليسار إلى نهايتها القصوى، وتوجيه طاقاته الثورية نحو الجماهير الكادحة.
ثانيا : وحدة إيديولوجية سياسية تنظيمية قادرة من هذا الموقع على الفعل الايجابي في تناقضات الاتحاد الذي سيبقى مصدرا أساسيا لكل تقدم مقبل في الحركة الثورية.
ثالثا : دمج النظرية الماركسية باستمرارية الحركة الوطنية (وهذا لا يعني بالطبع عزل حزب التقدم والاشتراكية).
هذه المهام لم نصطنعها من خيالنا. إنها بالضبط سمات نملكها يكفي أن نعيها ونحسن استثمارها ضمن خطة سياسية رشيدة، وبالأخص ضمن فهم جدلي تاريخي للصراع الطبقي عموما ولعملية بناء الحزب الثوري خصوصا. لكننا في كل الأحوال لن نستطيع استثمارها ما لم نخترق حاجز الشرعية...!
4 - ما هي سمات ومهام فترة الانتقال ؟
تطبيقا وتدعيما لهذا التوجه، قررت منظمتنا مجموعة من الإجراءات الفورية، وحددت بعض المهام الضرورية التي علينا إنجازها في الفترة القريبة :
أولا : إجراءات فورية :
* دخول كل الرفاق المتابعين والمحكومين في الخارج (إلى الوطن)
* تفويض صلاحيات ل.م. للمكتب السياسي.
* تجميد عمل المنظمة السري
ثانيا : أطر ضرورية في الفترة القريبة
* إجراء حوار واسع مع أوسع أطر اليسار بهدف كسبهم لخطنا ولمنظمتنا.
* تقوية دور الجريدة بتقريب دوريتها وتحسين مستواها السياسي والدعائي.
* استكمال مهمة البرنامج ثم وضع الصيغة النهائية لبرنامجنا العام.
* توسيع تيارنا ”الديمقراطي“ في القطاعات الجماهيرية الأخرى.
من مجموع هذه النقط، نرى من الضروري الوقوف عند واحدة منها، نظرا لأهميتها القصوى، وما قد تثيره من أسئلة. وهي النقطة الثالثة المتعلقة ”بتجميد عمل المنظمة السري“ :
تسهيلا لنضالنا من أجل الشرعية، ولتطوير وضعنا الراهن الذي هو أقرب إلى وضعية ”طوليري“ منه إلى منظمة سرية ممنوعة، قررت الهيئات المركزية تجميد كل تحرك جماهيري، وبأي شكل من الأشكال، باسم المنظمة السرية، مع توسيع وتنويع كل أشكال تحركها الشرعي. وهذا يعني أن هياكل المنظمة ستستمر في عملها التنظيمي الداخلي كما كانت في السابق... لكنها ستكف عن التحرك خارجيا بالأشكال والأساليب السرية... وسنكتفي جماهيريا بالوسائل الدعائية والتنظيمية والتعبوية الشرعية التي تملكها أو التي ستعمل على امتلاكها. إن موقفنا هذا ليس بالإجراء المؤقت وحسب، بل هو تصور عام لأسلوب عملنا في كل المرحلة المقبلة، وحتى في ظل العمل الشرعي الكامل.
صحيح أن الثوريين في البلدان التي يستحيل فيها قيام ديمقراطية حقيقية لأسباب اجتماعية-اقتصادية-وسياسية لا يتخلون عن بعض أشكال العمل السري الأول، وهو ما نسميه بالازدواجية التنظيمية و”السياسية“. وهو ما نحن ضده على طول الخط. والثاني وهو الإجراءات التنظيمية الاحتياطية التي يتخذها التنظيم في مواجهة حملات القمع المحتملة.
إن العمل الشرعي في الأسلوب الأول عمل موازي وثانوي بالنسبة للعمل السري. ومن البديهي أن هذه الطريقة في العمل تفرضها شروط المرحلة السياسية، واختيارات التنظيم التكنيكية والاستراتيجية في ارتباط مع واقع الحركة الجماهيرية ومع مقدار الهامش الشرعي المسموح به، ومع الأهداف السياسية التي يبتغيها التنظيم من المرحلة نفسها. ولسنا بحاجة أن نعيد من جديد كل ما قلناه عن طبيعة عملنا الديمقراطي في هذه المرحلة، ولا عن مقدار الهامش الذي يمكن أن نستفيد منه ولا عن واقع الحركة الجماهيرية النضالي في هذه الفترة.
إننا لن نكون بحاجة إلى تنظيم سري موازي، إذ ليست لنا في المرحلة أهداف سياسية أخرى موازية أو فوق الأهداف الديمقراطية عينها التي حددناها في برنامجنا السياسي المرحلي. كما أننا لن نكون بحاجة إلى عمل التنظيم السري ليستكمل ما يعجز عن عمله التنظيم الشرعي حسب الصيغة اللينينية في التجربة الروسية، حيث يقوم التنظيم الشرعي في حقل الدعاية والتحريض بـ : أ و ب وسيكتمل التنظيم السري ب. و.ج... إلخ. إن طبيعة العمل الديمقراطي الذي نمارسه في هذه المرحلة، والذي يشكل خاصيتها كما أسلفنا القول، وتقديرنا لأهمية الهامش الليبرالي المسموح به في ظل الأوضاع الراهنة، وحتى في احتمالات تطورها، يسمحان لنا بالاستنتاج بأن إمكانية العمل الدعائي والتحريضي واسعة دون الحاجة إلى هذا التكتيك المزدوج ولو في ضمن شروط المواجهة وحملات القمع الممكنة. وهذا لا يعني أننا لا نتصور إطلاقا إمكانية العودة إلى العمل السري إذا فرضته علينا شروط أخرى وبالأخص منها حملات قمع شديدة استهدفت القضاء علينا وإزالة الطابع الشرعي عنا، أو إزالة الطابع شبه الشرعي المسموح به من الآن... ولكننا نعتقد أن هذا الاحتمال سيحتاج في كل الأحوال إلى فترة من الزمان علينا أن نستغلها إلى أقصى درجة، ومهما قصرت في تعميق وجودنا في صفوف الجماهير التي هي المنبع الأول والأخير لاستمرارنا. وسيكون علينا بالضرورة، تحسبا لمثل هذه الشروط، أن نتخذ في الوقت المناسب الإجراءات التنظيمية الاحتياطية الكفيلة بضمان الحد الأدنى من الاستمرارية للمنظمة في حالة تعرضها لحملات الإجتثات.
* * *
إن ملامح مرحلة جديدة ونوعية ترتسم أمامنا :
- فالهياكل القيادية للمنظمة ستتحول في وقت وجيز إلى الداخل، بكل ما سيعطيه ذلك من نتائج تنظيمية، ومن سرعة في المبادرة، ومن انعكاسات على اهتمامات المنظمة وعلى صلاتها بالحركة الجماهيرية. هذا بالإضافة إلى مجموعة من الكوادر التي سيفرج عنها من السجن، أو التي توجد خارجه، والتي سنطعم بها تنظيمنا في جميع مجالات نشاطاته.
- ثم أننا ننطلق سياسيا من وضعية شبه شرعية ”طوليري“ كسبناها عبر سلوكنا السياسي في المرحلة الأخيرة، ومن المبادرات التي أقدمنا عليها في المجال الجماهيري والدعائي. إن هذا الوضع يساعدنا كثيرا ففي التحول إلى العمل الشرعي ؛ وحتى لو تأخر هذا التحول للعمل الشرعي الكامل، فهو على كل حال يعطينا مجالا واسعا لتعزيز نفوذ المنظمة في قطاعات جماهيرية متعددة ويسمح لنا بشروط أفضل في العمل. ثم إن هذا الوضع يسمح لنا أيضا بانتزاع زمام المبادرة داخل الحركة الماركسية واستقطاب أفضل أطرها وإمكانياتها، ويسمح لنا بإنجاز مهمة البرنامج في شروط أفضل من ناحية الأطر ومن ناحية الموقع السياسي والتنظيمي الذي نتحرك منه.
إن الصعوبة الكبرى التي ستواجهنا هي في ضعف إمكانياتنا الذاتية بالمقارنة مع ما سيتطلبه العمل الشرعي من طاقات ومن تنوع في الكفاءات، خاصة إذا وقف منا تيار الحركة الماركسية ”ومعظم أطرها على الأخص“ موقفا سلبيا، ولو لمرحلة... لذلك فإن إقناع أطر الحركة، ومحاولة كسب التيار لصالحنا هي من أهم المهام المطروحة علينا وأصعبها. كذلك من الضروري في هذه الحالة أن يكون توقيتنا للإقدام على الرخصة القانونية مختارا بعناية مراعين في ذلك أفضل الشروط من حيث الوضعية الذاتية واستعدادات تيارنا الجماهيري.
ولا يفوتنا هنا أن نسجل حاجاتنا الكبرى التي ستزداد إلى دعم القوى الديمقراطية العربية والعالمية. وإلى السلوك الدقيق والإيجابي الذي يجب أن نتعامل به مع القوى الديمقراطية المغربية في فترة الانتقال. ذلك أن من مصلحتنا كل المصلحة أن نقبب من حجم الصعوبات كلما أمكن. وليس من المستبعد أن يثير توجهنا هذا لدى القوى الديمقراطية مجموعة من ردود الفعل السلبية التي علينا أن لا ننساق معها وأن نحسن ”تبريدها“ وتجنبها، مؤكدين دائما على الوحدة في النضال والهدف.
هذا باختصار ما نود التأكد عليه في هذه النقطة... ولقد تركنا الباقي إلى النقاش الشفوي، إما لوضوحه وإما لأنه يدخل ضمن التفاصيل العملية التي لا حاجة لنا بها في هذا التعميم.
منظمة ”23 مارس“ (المكتب السياسي)
1980