أرض النخبة وقوة القاع: رحلة في تفاوتات المغرب الاجتماعية
الشهبي أحمد
2025 / 4 / 15 - 10:10
في المغرب، حيث يتداخل صخب الأسواق الشعبية مع هدوء الفيلات الفاخرة، يظل التفاوت الاجتماعي بمثابة شبح يطارد كل نقاش عن العدالة والتنمية. إنه ليس مجرد إحصائية في تقرير اقتصادي، بل واقع يعيشه المواطن يوميًا، يراه في الشارع، يسمعه في شكاوى الجيران، ويحسه في جيبه الذي يخف وزنه مع كل زيادة في أسعار الخبز أو فاتورة الكهرباء. لكن السؤال الذي يفرض نفسه، بينما نمشي في شوارع الدار البيضاء المزدحمة أو نسمع همهمات فلاحي الأطلس: من يملك هذا البلد فعلاً؟ من يقرر مصير الأرض والثروة؟ ولماذا يبدو أن الإجابة دائمًا تقودنا إلى نفس الأسماء، نفس العائلات، نفس الأبواب المغلقة؟
تخيل معي مشهدًا يتكرر يوميًا في إحدى الأسواق الشعبية بمراكش. أم محمد، امرأة في الأربعينيات، تقف خلف عربة خشبية تبيع الخضروات. تعمل منذ الفجر، تحمل أكياس البطاطس والجزر تحت شمس حارقة، وبالكاد تجمع ما يكفي لشراء دواء لابنها المريض. في نفس الوقت، على بعد كيلومترات قليلة، في حي كاليفورنيا الراقي، يجلس رجل أعمال في مكتب مكيف، يوقّع عقدًا لبيع أرض فلاحية شاسعة إلى شركة عقارية كبرى. الأرض التي يبيعها ليست مجرد تراب، بل هي مصدر رزق عائلات بأكملها كانت تعتمد عليها لزراعة القمح أو تربية المواشي. لكن أم محمد لن تسمع بهذا العقد، ولن تعرف أبدًا أن قرارًا اتُخذ في مكتب فخم قد يغير حياتها وحياة أبنائها إلى الأبد. هذا هو التفاوت الاجتماعي في أبسط صوره: قرارات تُتخذ في القمة، وتبعات تُعاش في القاع.
الأرض في المغرب ليست مجرد مورد طبيعي، بل هي رمز القوة والنفوذ. من يملك الأرض يملك مفاتيح الاقتصاد، وبالتالي السياسة. لنأخذ مثالاً من الواقع: في المناطق الريفية، حيث يعتمد أغلب السكان على الزراعة، تجد أن الأراضي الخصبة غالبًا ما تكون بيد عائلات معدودة أو شركات كبرى. هؤلاء لا يزرعون الأرض بأنفسهم، بل يؤجرونها لفلاحين مثل أبو حسن، الذي يعمل طوال العام ليجد نفسه في النهاية بالكاد قادرًا على دفع الإيجار أو شراء البذور للموسم القادم. أبو حسن ليس لديه عقد عمل ثابت، ولا ضمانات قانونية، ولا حتى أمل كبير في تغيير واقعه. في المقابل، صاحب الأرض يجمع الأرباح دون أن يتسخ بنطاله، وربما يستخدم هذه الأرباح لشراء شقة فاخرة في الرباط أو تمويل حملة انتخابية لصديق سياسي. هكذا، تتحول الأرض من مصدر رزق إلى أداة لتعميق الهوة بين الأغنياء والفقراء.
لكن دعنا نتوقف قليلاً ونسأل: هل الأمر يتعلق بالأرض فقط؟ بالطبع لا. الأرض هي مجرد قطعة من اللغز. القوة الحقيقية تكمن في شبكة معقدة من العلاقات التي تربط الثروة بالسياسة. في المغرب، من يملك المال غالبًا ما يملك مقعدًا على طاولة القرارات. تخيل معي مواطنًا عاديًا مثل خالد، موظف حكومي يعيش في شقة صغيرة بطنجة. خالد يحلم بامتلاك منزل خاص، لكنه يكتشف أن أسعار العقارات في مدينته قد تضاعفت خلال سنوات قليلة. لماذا؟ لأن شركات عقارية كبرى، غالبًا ما تكون مرتبطة بأسماء نافذة، اشترت أراضي شاسعة وبدأت تبني مجمعات سكنية فاخرة لا يستطيع خالد حتى التفكير فيها. هذه الشركات لا تعمل في فراغ؛ إنها تستفيد من تسهيلات ضريبية، وعلاقات مع مسؤولين، وقوانين تُصاغ لتخدم مصالحها. وخالد؟ يظل يدفع إيجارًا يأكل نصف راتبه، ويحلم بيوم يستطيع فيه توفير شيء لمستقبل أبنائه.
هذا الواقع يجعلنا ننظر إلى التفاوت الاجتماعي ليس كمشكلة اقتصادية فحسب، بل كظاهرة اجتماعية وسياسية متجذرة. فكر في فاطمة، وهي أم عازبة تعيش في حي شعبي بالقنيطرة. فاطمة تعمل خادمة في بيوت الأحياء الراقية، ترى كل يوم الفارق بين حياتها وحياة من تخدمهم. بينما هي تكافح لشراء الحليب لأطفالها، ترى أصحاب البيت يناقشون شراء سيارة جديدة أو قضاء عطلة في دبي. لكن فاطمة لا تملك رفاهية الحلم بالعطلات؛ كل ما تريده هو أن يذهب أطفالها إلى مدرسة جيدة، لكن المدارس العمومية في حيها مكتظة وتفتقر إلى الموارد، والمدارس الخاصة؟ تلك حلم بعيد المنال. في المقابل، أبناء النخب يدرسون في مدارس دولية، يتعلمون لغات أجنبية، ويُعدون ليكونوا الجيل القادم من أصحاب القوة والثروة. هكذا، يتكرر التفاوت عبر الأجيال، ليس بسبب نقص الموهبة أو الكفاءة، بل بسبب نظام يضمن بقاء القوة في أيدي قلة.
ما يجعل هذا الواقع أكثر إيلامًا هو أن التفاوت لا يظهر فقط في المال أو الأرض، بل في الفرص. في مدينة مثل فاس، قد تجد شابًا مثل ياسين، خريج جامعة بدرجة امتياز، لكنه يقضي أيامه في مقهى الحي يبحث عن عمل. ياسين ليس كسولًا، ولا ينقصه الطموح، لكن الوظائف الجيدة غالبًا تذهب إلى من لديهم "معارف" أو علاقات مع أصحاب النفوذ. في الوقت نفسه، نرى أبناء العائلات الثرية يحصلون على مناصب مرموقة، ليس بسبب كفاءتهم، بل بفضل اسم عائلتهم أو شبكة علاقاتهم. هذا النظام لا يكافئ الجهد، بل يكافئ القرب من السلطة، مما يترك ياسين وأمثاله يشعرون أن المستقبل مغلق أمامهم.
لكن ماذا عن الطبقة الوسطى، تلك التي كانت يومًا ما الأمل في تحقيق التوازن؟ اليوم، الطبقة الوسطى في المغرب تتآكل كقطعة قماش تُمزقها الضغوط الاقتصادية. خذي حالة سعيد، وهو أستاذ في مدرسة ثانوية بوجدة. سعيد يعمل ساعات طويلة، لكنه بالكاد يستطيع تغطية نفقات أسرته. ارتفاع أسعار المواد الغذائية، زيادة تكاليف النقل، وفواتير الماء والكهرباء تجعل حياته صراعًا يوميًا. في السابق، كان سعيد يحلم بتوفير المال لشراء سيارة أو قضاء عطلة مع عائلته، لكن الآن يفكر فقط في كيفية دفع رسوم دراسة ابنه في الجامعة. الطبقة الوسطى، التي كانت تمثل جسرًا بين الأغنياء والفقراء، أصبحت اليوم أقرب إلى حافة الفقر منها إلى الرفاهية.
هذا التفاوت ليس مجرد نتيجة ظروف اقتصادية، بل هو نتيجة سياسات وسلوكيات اجتماعية تُكرس اللامساواة. في الأحياء العشوائية على أطراف المدن الكبرى، مثل دوار السعادة في الدار البيضاء، يعيش الناس في ظروف لا إنسانية، بلا ماء نظيف أحيانًا، وبلا كهرباء مستقرة. في المقابل، في أحياء مثل أنفا أو المعاريف، تجد شوارع نظيفة، ومباني فاخرة، وخدمات متطورة. هذه الفجوة ليست صدفة، بل هي نتيجة توزيع غير عادل للموارد، حيث تُعطى الأولوية دائمًا لمن لديهم النفوذ أو المال. حتى السياسات الحكومية، التي تُروج لمشاريع تنموية، غالبًا ما تخدم مصالح النخب، سواء من خلال بناء منتجعات سياحية أو إنشاء مناطق صناعية تستفيد منها الشركات الكبرى.
في هذا السياق، يصبح من الصعب الحديث عن العدالة الاجتماعية دون الشعور بنوع من السخرية المريرة. كيف يمكننا أن نتحدث عن المساواة بينما أم محمد لا تستطيع شراء الدواء، وخالد يحلم بمنزل لن يملكه أبدًا، وفاطمة تكافح لإطعام أطفالها؟ الحديث عن العدالة يبدو كمسرحية هزلية عندما نرى أن القوانين والسياسات تُصاغ لتحمي مصالح من يملكون الأرض والقوة، بينما الغالبية تُترك لتتدبر أمرها. حتى الخطابات الرسمية التي تتحدث عن "التنمية الشاملة" تبدو فارغة عندما تُقارن بالواقع الذي يعيشه الناس في الأحياء الشعبية أو القرى النائية.
لكن وسط هذا الواقع القاتم، هناك أسئلة لا بد أن نطرحها: هل يمكن أن يتغير هذا النظام؟ هل يمكن أن يحصل أبو حسن على أرض يزرعها لنفسه، أو أن يجد ياسين وظيفة تكافئ كفاءته؟ الإجابة ليست سهلة، لأن التغيير يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وسياسات اقتصادية تعيد توزيع الثروة بشكل عادل. يتطلب الأمر أيضًا وعيًا اجتماعيًا يرفض تقبل هذا التفاوت كأمر طبيعي. لكن في الوقت الحالي، يبدو أن النخب الاقتصادية والسياسية تملك كل الأوراق، بينما الشعب يقاتل من أجل لقمة عيش أو حلم بسيط بالكرامة.
في النهاية، التفاوت الاجتماعي في المغرب ليس مجرد أرقام أو إحصائيات، بل هو قصص أم محمد وخالد وفاطمة وياسين وسعيد. إنه شعور بالظلم يتسرب إلى قلوب الملايين الذين يرون أحلامهم تتحطم على صخرة واقع لا يرحم. إنه سؤال يتردد في كل بيت مغربي: لماذا يملك البعض كل شيء، بينما لا نملك نحن إلا الأمل؟ وربما، فقط ربما، إذا استمعنا إلى هذه القصص، وإذا قررنا أن نطالب بتغيير حقيقي، يمكن أن نبدأ في بناء مجتمع يعطي الجميع فرصة عادلة ليعيش، لا أن يملك الأرض فقط من يملك القوة.