ماركس يتحدى نقاده في الاقتصاد!


ادم عربي
2025 / 2 / 22 - 18:11     

بقلم : د . ادم عربي

ما يزال خصوم الماركسية منخرطين في معركتهم الفكرية التي لم تتوقف ولن تتوقف ضد الجوهر الأساسي لفكر كارل ماركس. رغم ذلك، فهم يواصلون الحوار مع أفكاره وكأنهم يدركون ضعف حججهم، ويعجزون عن إضعاف متانة إرث هذا المفكر العملاق.

ومن بين الحجج التي يعتمدون عليها اليوم هي أنَّ طبقة ماركس، أي الطبقة العاملة أو البروليتاريا ، في طريقها إلى التلاشي والاضمحلال؛ حيث أنَّ العمال في القطاع الصناعي أصبحوا الآن أقل من خمس القوى العاملة، بينما يشكل العاملون في قطاع الخدمات أكثر من نصفها. ومن هنا، يستنتجون أنَّ الطبقة العاملة (البروليتاريا) الصناعية لم تعد تشكل الأغلبية بين أفراد المجتمع.

وتأثير الصناعة، جنباَ إلى جنب مع عمالها، في الناتج القومي آخذ في التراجع؛ حيث لا تتجاوز مساهمتها الآن خُمس هذا الناتج الذي يأتي غالبيته من قطاع الخدمات، وهو قطاع لا ينتج سلعاً أو بضائع مادية، وبالتالي لا يساهم في خلق ثروة مادية حقيقية.

أما نظرية فائض القيمة أوْ القيمة الزائدة، فهي تستأثر بالجزء الأكبر من الجهود (الفكرية) التي يبذلها هؤلاء في محاولة تفنيد ودحض وإثبات خطأ الأساس الذي تقوم عليه النظرية الاقتصادية لماركس؛ حيث يُجادلون بأن نظرية "فائض القيمة" إما أنها كانت خاطئة منذ نشأتها، أو أنها كانت صحيحة فقط خلال مرحلة "الثورة الصناعية"، ثم أصبحت لاحقاً غير صالحة.
والحجة القاطعة التي يستخدمونها لإثبات علمية تفنيدهم لنظرية فائض القيمة هي أنَّ جزءاً كبيراً ومتنامياً من "الناتج القومي" يأتي من خلال أرباح لا ترتبط بأي شكل بمفهوم أو نظرية فائض القيمة.

جميع حججهم ضعيفة ومتناقضة، وقد ساهم في تشكيلها عاملان رئيسيان: العداء الأعمى لفكر ماركس، والجهل به أوْ عدم القدرة على فهمه واستيعابه بشكل صحيح .
عمال الصناعة (بمعناها الشامل، أي الصناعة التي تتضمن الزراعة الرأسمالية الميكانيكية) لم يعودوا يشكلون الأغلبية بين أفراد المجتمع؛ بل إنهم طبقة يتراجع وزنها الديموغرافي باستمرار؛ ولكن أليس ماركس نفسه هو من كشف عن القانون الاقتصادي الموضوعي الذي يفسر هذه الظاهرة، أي ظاهرة تراجع الوزن الديموغرافي لـلبروليتاريا الصناعية بمعناها الواسع؟.
أليس هو من أدرك أنَّ تطور النظام الرأسمالي يتسم، كإحدى سماته الأساسية، بـالارتفاع أوْ النمو المستمر والمتزايد للتركيب العضوي لرأس المال ؛ أي الانخفاض التدريجي لنسبة رأس المال المتغير (الأجور) مقارنة بـرأس المال الثابت (رأس المال في شكل آلات ومعدات وأجهزة...)؟!.

أليس هو من فسَّر وبيَّن النتيجة الحتمية لارتفاع التركيب العضوي لرأس المال حيث تحل الآلات محل العمالة البشرية ، وهي زيادة الميل نحو انخفاض معدل الربح؛ لأنَّ رأس المال المتغير، الذي يُعتبر المصدر الوحيد للربح (التعبير النقدي عن فائض القيمة)، يستمر في التقلص؟!

إنَّ العمل، وهو وحده، يُعد المصدر الأساسي لـلثروة المادية للمجتمع، وهو الذي يمنح المنتج (ذي القيمة الاستعمالية قيمته أي قيمته التبادلية .
والثروة المادية للمجتمع لا تُخلق ولا تنمو ولا تتراكم إلَّا من خلال الاقتصاد الحقيقي (الصناعة والزراعة...)، أي الاقتصاد الذي ينتج السلع والبضائع؛ وهذه الثروة لا توجد إلَّا في شكل "قيم استعمالية مادية ، والتي يجب أنْ تكون، في النظام الرأسمالي، في الوقت نفسه، على هيئة قيم تبادلية، أي على شكل سلع وبضائع.

وعمل البروليتاريا في الصناعة والزراعة، رغم تراجع الوزن الديموغرافي لهذه الطبقة، يظل المساهم الرئيسي في إنتاج الجزء الأكبر من الثروة المادية للمجتمع؛ فهذه الطبقة هي التي تعيل المجتمع، أي غالبية أفراده. فالجزء الأكبر من الثروة المادية للمجتمع يأتي من القيمة الجديدة التي تخلقها "البروليتاريا"، والتي تُترجم نقدياً في شكل أجور يتقاضاها العمال، وأرباح تذهب إلى أصحاب رؤوس الأموال؛ مع العلم أنَّ نسبة الأجور إلى الأرباح في انخفاض مستمر (ولا يُلغي هذا الانخفاض حقيقة أنَّ القيمة الحقيقية للأجور قد ترتفع).

ومن هذا المصدر أي من القيمة الجديدة تأتي الأجور والأرباح في القطاعات الاقتصادية التي لا تُنتج بذاتها الثروة المادية للمجتمع أوْ من وعاءها تغرف ؛ وهنا يكمُن سبب الالتباس في فهم وتفسير النمو النقدي لقطاع الخدمات، سواء في الأجور أو الأرباح، وكذلك لبقية القطاعات الاقتصادية المماثلة التي لا تساهم مباشرة في إنتاج الثروة المادية.

لتوضيح الأمر وإزالة أي التباس، دعونا نأخذ مثالاً عن أسلوب الاستثمار في التجارة وهي قطاع لا ينتج بذاته، من حيث المبدأ، ثروة مادية.

إذا كنتَ شخصًا ثرياً، ولديك، على سبيل المثال، مليون دولار، وقررت استثمار هذا المبلغ في التجارة، فإنَّ أول شيء يجب أن تتعرف عليه هو معدل الربح السائد في مجتمعك حالياً.
لقد علمتَ أنَّ معدل الربح الحالي هو، على سبيل المثال، 20 في المئة؛ وهذا يعني أنَّ المليون دولار الذي تمتلكه، وتخطط لاستثماره في التجارة، يجب أنْ ينمو ليصل في نهاية نشاطك الاستثماري إلى مليون ومئتي ألف دولار.
تقوم بزيارة صاحب العمل الصناعي وتشتري منه، على سبيل المثال، بضائع أنتجها مصنعه بمقدار ثلثي هذا المبلغ، بينما تستخدم الثلث المتبقي لتوظيف عمال وموظفين في متجرك.

صاحب العمل الصناعي وافق (من أجل تسويق إنتاج مصنعه) على التنازل لك عن جزء من أرباحه (أي من فائض القيمة المضمن في البضائع التي باعها لك). لقد أخذ منك ثلثي مليون دولار مقابل أن يعطيك بضائع بقيمة تبادلية تصل إلى مليون ومئتي ألف دولار.

بعد أن أنفقت المليون دولار بالطريقة المذكورة، وقمت ببيع جميع البضائع، أصبحت تمتلك مليوناً ومئتي ألف دولار.

المئتا ألف دولار التي ربحتها لم تأتِ إلَّا من مصدر واحد، وهو فائض القيمة الذي تم إنتاجه في المصنع الذي اشتريت منه البضائع؛ وبطريقة مشابهة تقريباً تستثمر أموالك وتحقق أرباحاً في القطاعات الأخرى مثل المصارف وخدمات أخرى متنوعة.

ولا ينبغي لنا أنْ نغفل عن وجود قطاعات تساهم في إنتاج الثروة المادية للمجتمع دون أنْ تكون رأسمالية؛ فهناك أفراد ينتجون سلعاً (أي ثروة مادية) من خلال عملهم الشخصي أوْ العائلي فقط، مستخدمين آلات وأدوات وأجهزة يمتلكونها بأنفسهم.

ولا يجب أن ننسى أيضاً أنَّ هناك أشياء ليست، في جوهرها، سلعاً، أي لا تمتلك قيمة تبادلية؛ ومع ذلك يتم بيعها بأسعار مرتفعة، مثل الأراضي؛ فليس كل ما يُباع، أوْ له سعر، بالضرورة سلعة، أوْ يمتلك قيمة تبادلية.

لاحظوا، على سبيل المثال، حجم الأموال أوْ رؤوس الأموال التي يتم استثمارها في رياضة كرة القدم، والأجور الفلكية التي يتقاضاها اللاعبون، وكذلك الأرباح الضخمة التي يجنيها المستثمرون.

هذا القطاع ،رياضة كرة القدم ، لا يساهم في إنتاج الثروة المادية؛ ولكنه يعتمد على المصدر نفسه، أي القيمة الجديدة التي يتم إنتاجها في الصناعة أو في الاقتصاد الحقيقي.

نحن نقوم بحساب مساهمة هذا القطاع في "الناتج القومي"، متجاهلين حقيقة اقتصادية موضوعية تتمثل في أنَّ هذه المساهمة هي في الأساس جزء من القيمة الجديدة التي يتم إنتاجها في الاقتصاد الحقيقي.

لقد توصلوا، بعد اعتمادهم أسلوباً سطحياً في الفهم والتحليل، إلى أنَّ مساهمة الصناعة وعمالها في "الناتج القومي" آخذة في التراجع؛ حيث لا تتجاوز الآن خُمس هذا الناتج الذي يأتي معظمه من قطاع الخدمات، وهو قطاع لا ينتج سلعاً أوْ بضائع مادية، وبالتالي لا يساهم في إنتاج ثروة مادية حقيقية .
بالطبع لا؛ فالمساهمة الكبيرة لقطاع الخدمات في الناتج القومي ليست، في جوهرها الموضوعي، سوى جزء كبير ومتحول من القيمة الجديدة التي يتم إنتاجها في الصناعة بمعناها الواسع .
وهذا إنْ كان يُشير إلى شيء، فإنه يُظهر أنَّ الاقتصاد الحقيقي هو الذي يعيل المجتمع بأكمله، وأنَّ البروليتاريا الصناعية ، رغم تراجع وزنها الديموغرافي المستمر، تظل المنتجة لـلقيمة الجديدة ، التي يعتمد عليها الآخرون في تحقيق أرباحهم. ومن هنا نرى هذا المشهد المضلل، حيث تبدو مساهمة الصناعة في تراجع بينما تتعاظم مساهمة قطاع الخدمات في الناتج القومي؛ مما يؤكد أنَّ ماركس ما زال محقاً وعلى صواب!.

وماركس لا يزال يتحدى جميع خصومه بأنْ يقدموا تفسيراً لظاهرة الربح في النظام الرأسمالي يختلف عن التفسير الذي قدمه، والمتمثل في نظرية أوْ مفهوم "فائض القيمة"؛ فمن أين يأتي الربح إذا لم يكن مصدره "فائض القيمة"؟.
نحن نطرح هذا السؤال، بتحدٍ، على جميع معارضي نظرية فائض القيمة، ونتحداهم أنْ يقدموا إجابة عليه؛ فهل من مجيب؟!
يظل تحدي ماركس قائماً" إنْ كان الربح لا ينبع من فائض القيمة، فما مصدره؟ هل يُجيب أحد؟!".