هل ستالين هو السبب في سقوط الاتحاد السوفيتي وفشل مشروعه؟
عبدالرحمن مصطفى
2025 / 2 / 22 - 02:54
تاريخ الحركة الشيوعية الروسية هو ليس مجرد تاريخ هامشي لدولة من دول العالم النامي كما كانت روسيا عليه في بدايات القرن الماضي ،فالشيوعية الروسية لم يقتصر هدفها على مجرد التحرر الوطني وإن كان هذا ما أنجزته فعليا بل تجاوزت هذا الهدف القومي الى رؤية عالمية ترنوا الى تجاوز النظام الرأسمالي الاستغلالي والمثقل بالأزمات والتناقضات الداخلية التي لا تفتأ من أن تلقي بعيوبها على مستقبل الجنس البشري ،لهذا الحركة الشيوعية الروسية لم تكن تنظر لذاتها كفرع منفصل عن الشيوعية العالمية الرامية الى اسقاط النظام الرأسمالي في مراكزه أولا ،ومن هنا ضرورة مراجعة هذا التاريخ واستظهار مشاكله وعيوبه ،وما نتج منها من أثر سلبي على مستقبل الحركات اليسارية بشكل عام وهي التي رغم تكرر أزمات الرأسمالية في العقود الثلاث الماضية إلا أنها لم تحتل الصدارة كرد على هذه الأزمات ولم تقدم طرحا بديلا كبرنامج عمل مناقض للنيوليبرالية شكلا ومضمونا ،فتأثير انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991 لا يزال يلقي بظلاله على الحركات الاشتراكية واليسارية وربطها دوما بالماضي الستاليني أو الطوباوية الشيوعية اليسارية.دون ادراك أن المسار الستاليني لم يكن مسارا حتميا حتى في الظروف الغير طبيعية التي كانت عليها التجربة البلشفية في القرن الماضي ،فروسيا مرت في حرب عالمية مدمرة وفي ظرف هزيمة مع المانيا ثم تلتها حرب أهلية أشد فتكا ،ورغم هذه الشروط المسهلة للمسار الستاليني كنموذج شمولي بونابرتي يسعى الى لملمة الأمة المشتتة وضبطها بصرف النظر عن أي اعتبارات اخرى ،الا ان نهج ستالين لم يكن تحققه حتميا.
من المؤكد أن نهج ستالين كان انقلابا على الطريق اللينيني في مقاربة القضايا المختلفة الاقتصاد والسياسة داخل الحزب والعلاقة بين العمال والفلاحين والقضية القومية و فيما يتعلق بشعوب الاتحاد السوفيتي ،نهج ستالين الاقتصادي كان يقتضي تركيز كل قطاعات الاقتصاد بيد الدولة وهو ما سيخلق طبقة بيروقراطية كبيرة مع امتيازات خاصة وفي احتكار شامل للاقتصاد دون أي مزاحمة من أي طرف آخر ،وهو ما سيفقد الاقتصاد ديناميكيته وقدرته على تجاوز الأزمات والصدمات ويخلق اختلالا بين القطاعات ونقص في بعض المنتجات الخ...لم تكن هذه رؤية لينين لكيفية معالجة هذه القضايا،بل الأقرب فعليا هو ربط نهج ستالين بنهج اليسار البلشفي ممثلا بتروتسكي ،بينما لينين كان لديه مقاربة أخرى تطورت أثناء الحرب الأهلية وأكثر بعد انتهائها وفشل الثورات الأوروبية ،فتروتسكي أقرب الى ستالين فعليا عكس مما يبدو للوهلة الاولى .
الانقسام الرئيسي في الاتحاد السوفيتي كما يصور في الميديا او الكتب هو الانقسام بين المعارضة اليسارية ممثلة بتروتسكي والجناح الستاليني ،وهذا التصور يغفل حقيقة أنه كان هناك تيارا آخرا مهما كان له دور في معارضة كلا من النهج التروتسكي والنهج الستاليني ،وهذا التيار هو الجناح اليميني في الحزب البلشفي ممثلا ببوخارين وميخائيل تومسكي مفوض النقابات العمالية السوفيتية وألكسندر ريكوف ،هذا التيار كان خصما للطوباوية اليسارية التي مثلها تروتسكي في الاتحاد السوفيتي واستعار ستالين مذهبها الاقتصادي فيما بعد في عام 1929 بعد أن ألغى حاملها السياسي ،الجناح اليميني في الحزب البلشفي لم يملك رؤى طوباوية حول تحقيق الاشتراكية وتحويل المجتمع الروسي الزراعي الضعيف الصلة بالرأسمالية العالمية الى جنة الشيوعية في بضع سنين وذلك بأن تتولى الدولة تدبير شؤون الاقتصاد والمجتمع في كل تفاصيله ودون أن تترك شيئا للمبادرة الفردية والمجتمعية ،فهنا ستتحول الدولة الى غول يبتلع كل شيء وتقضي على أي ديناميكية داخلية تمنح النظام الاقتصادي والمجتمعي المناعة الذاتية في مواجهة الأزمات والصدمات ،والقدرة على التكيف مع هذه الأزمات وفي البيئات العالمية الجديدة وهو ما فشل النظام السوفيتي في تحقيقه في نهاية القرن الماضي ،الحقيقة أن من يقرأ رؤى هذا التيار وخصوصا كتب ومقالات بوخارين الأخيرة سيجد تشابها في النهج مع أفكار مهندس الاصلاح الصيني دينغ شياو بينغ في نهاية سبعينيات القرن الماضي،وكأن بوخارين هو فيلسوف الانفتاح الذي استرشدت الصين بأفكاره لإصلاح اقتصادها! بوخارين لم يمتلك فقط رؤية واقعية على كيفية تشغيل الاقتصاد وآلية عمله بل كذلك رؤى سياسية منفتحة على أحزاب الأممية الثانية في أوروبا والنقابات العمالية الأوروبية ،فقد كان في تواصل دائم معها بل كثيرا ما توسط لتخفيف الأحكام القضائية التي صدرت بحق أعضاء من أحزاب مناوئة للبلاشفة كالاشتراكيين الثوريين والمناشفة في استجابة لطلبات من أحزاب الأممية الثانية ،الى أن جاء ستالين وأنهى هذه العلاقة وهو ما سرع بوصول هتلر الى الحكم في عام 1933
السوفيتالوجيا وفرت مراجع مهمة في نقد التجربة السوفيتية وفي تصليت الضوء على تيارات بلشفية مبكرة تحدت هيمنة البيروقراطية التي مثلها ستالين منذ سيطرة البلاشفة على الحكم في روسيا ،مؤرخين في تاريخ الحكم البلشفي لروسيا خصوصا في بداياته كستيفن كوهين وموشي لوين (الأول مارس تأثيرا على تفكير غورباتشوف في مشروعه البيروسترويكا من خلال كتاباته عن بوخارين وأفكاره الاصلاحية) قدموا تحليلا جذريا للستالينية والأساسات التي استندت عليها في سيطرتها على الحكم في روسيا وفي نجاحها في اقصاء كل التيارات المعارضة لها داخل الحزب البلشفي ،الرؤية التي قدموها تتناقض مع الايديولوجية الرسمية الستالينية وكذلك الايدولوجيا التروتسكية ،حيث أن كل تيار حاول أن يطوع لينين في صفه ،بينما في أواخر حياته كان أقرب لليمين البلشفي ممثلا ببوخارين ،الذي لم يقفز على رؤية ماركس المتمثلة بأن تطور قوى الانتاج هو الشرط الأساسي لتحقيق الاشتراكية دون ذلك سيكون هناك مساواة في العوز وليس اشتراكية .
بطبيعة الحال يتحمل سالين المسؤولية الكبرى عن ما آلت اليه الأوضاع في الاتحاد السوفيتي من سيطرة البيروقراطيين على مفاصل الدولة وتطويع الحزب البلشفي الذي كان حزبا تتصارع فيه تيارات مختلفة ،وكانت حرية الرأي داخل الحزب مصونة بل ومرحب بها ،لكن مع وصول ستالين الى الحكم جرى تأميم الحزب البلشفي ذاته! بالطبع القول بأن ستالين هو الذي غير كل شيء وأن ذلك كان بمحض الصدفة هو تفسير لا تاريخي فممارسة ستالين كانت امتدادا لممارسات الحرب الأهلية للبلاشفة وللجيش الأبيض الذي كان مشكلا من عناصر النظام القيصري القديم
الظروف التي نشأت فيها الاشتراكية السوفيتية هي ظروف غير طبيعية فهي أعقبت حربا عالمية خرجت منها روسيا مهزومة وحربا أهلية مدمرة تسببت بالدرجة الأولى في القضاء على الكوادر الفنية والإدارية التي لا يقوم اقتصاد ولا مجتمع بدونها حتى الطبقة العاملة التي تقلصت الى حد كبير فيكفي الاشارة الى أن عدد العمال في سانت بطرس بيرغ وموسكو كان 4 ملايين مع نهاية الحرب الأهلية تقلص العدد الى مليون و 700 ألف بما خلفته الحرب الأهلية ،فعدد كبير من العمال اضطروا الى العودة الى قراهم حتى يسدوا رمقهم ،الحرب الأهلية كانت مدمرة تسببت في تصحير روسيا ثقافيا واجتماعيا ،بالطبع عندما تكون الشروط أكثر قسوة يصبح المناخ ملائما للديكتاتورية والمناهج الشمولية في الحكم والإدارة .
لكن اليسار البلشفي أيضا يتحمل مسؤولية كبرى عن وصول ستالين الى الحكم ،من الصحيح أن تروتسكي خرج من اللعبة مبكرا في 1927 ،لكن الرؤى الطوباوية التي قدمها تروتسكي كانت عمليا البساط الذي ركبت عليه البيروقراطية السوفيتية لا شك أن تروتسكي مفكر لامع وقدم تحليلا عبقريا لتطور النظام السوفيتي ومستقبله خصوصا في كتابه الثورة المغدورة الذي شكك فيه بسرعة تقدم الاقتصاد السوفيتي في الثلاثينيات وأورد عدة جوانب على هشاشة هذا النمط رغم عملية التحديث التنموية السريعة التي كانت آنذاك ،وعن الحدود التي يمكن أن تبلغها البيروقراطية في عملية التحديث في عهد ستالين وما بعده ،كان تروتسكي من أوائل الثوريين البلاشفة الذين حذروا مبكرا من خطر البيروقراطية وسطوتها على الاقتصاد والمجتمع والحزب البلشفي ،لكن رغم هذا ،تروتسكي عمليا كان من الممهدين لسيطرة وسطوة البيروقراطية على الدولة والحزب ،بل إن تروتسكي كان من الممهدين لوصول ستالين ونهجه الى الحكم .
تروتسكي أراد أن يحشد الحزب ضد البيروقراطية لكن دون أن يقوض أساساتها والأرضية التي تنتعش فيها ،تروتسكي حارب البيروقراطية سياسيا لكن دون أن يحاربها اقتصاديا ،كانت الأطروحات التي نادى بها تروتسكي هو وتياره اليساري داخل الحزب البلشفي تطالب بتسريع عملية التصنيع بل تبني نهج حرق المراحل عمليا وتجميع الفلاحين والقضاء على الكولاك (المزارعين الأثرياء) بأي ثمن،رغم أن الكولاك لم يكن لهم وجود في العشرينيات أو في أدنى حدودهم ،هذا النهج المتمثل بالإقلاع الصناعي السريع والذي يتضمن أن تحكم الدولة قبضتها على الاقتصاد وتحشد وتوجه الموارد لما يخدم هذه العملية كان هذا النهج هو نهج ستالين ذاته الذي تم الشروع في تطبيقه من عام 1929
والحقيقة أن تروتسكي كان وفيا لماضيه المنشفي ،فهو لم يؤمن ولو للحظة بإمكانية أن تطبق الاشتراكية في دولة متخلفة وطرفية كروسيا ،فهو ربط بين هذه الاجراءات في تسريع التصنيع وإحكام الدولة قبضتها على الاقتصاد والمجتمع بحتمية نشوب الثورات الاشتراكية العالمية خصوصا في الدول المتقدمة ،فإذا بقيت هذه الاجراءات حبيسة الحدود الروسية دون أي سند من بلدان العالم المتقدم التي تمتلك التقنية والخبرة الادارية والتنظيمية لتطوير الانتاج والاقتصاد ،فمصير الاشتراكية السوفيتية محكوم مسبقا بالفشل ،لذلك كان تروتسكي مؤمنا بحتمية الثورة الاشتراكية في أوروبا خصوصا في ألمانيا بعد هتلر الى الحكم ،وتروتسكي تنبأ بنزوع النازية الهتلرية التوسعي وبنهجها الحربي وتوقع ايضا أن الثورة الاشتراكية ستندلع حتما في ألمانيا كنتيجة لهذه الحرب القادمة ،بهذا تروتسكي لم يؤمن بإمكانية أن يحقق الاتحاد السوفيتي تنمية مستقلة مستدامة بمعزل عن النظام العالمي ،لهذا كل تحليله لنجاح الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي كان مبنيا على ضرورة تصدير الثورة الى دول العالم المتقدم في أوروبا وأمريكا .
عكس هذا النهج اعتقد بوخارين ومن بعد فشل الثورات الأوروبية في بداية العشرينيات أن الاشتراكية في البلد الواحد ممكنة التحقق ،لكن الطريق اليها لا يمر من خلال اليوتوبيا اليسارية التي تم تطبيقها في شيوعية الحرب أثناء الحرب الأهلية ،ففي بلد يشكل الفلاحون معظم سكانه لا يمكن أن تطبق الاشتراكية من خلال منهج بيروقراطي تهيمن فيه الدولة على الاقتصاد دون الأخذ بالاعتبار مصالح الفلاحين ورغبتهم في الحفاظ على ملكياتهم وحيازاتهم الزراعية ، كان بوخارين والجناح اليميني في الحزب البلشفي واعيا لخطر البيروقراطية وهيمنتها على الاقتصاد وهو ما تحقق في عهد ستالين ،بوخارين آمن بشكل من الاقتصاد المختلط الذي يتوسطه قطاع صغير (نسبيا) مملوك للدولة لكن هو بمثابة القلب في الجسد الذي يغذي قطاعات الاقتصاد المختلفة ،فقطاع الدولة يتكون من المجالات الحيوية في الاقتصاد والتي لاغنى عنها لأي فرع في الاقتصاد ،فهي المركز التي تحتاج اليه كل مؤسسة وشركة مستقلة .
هذا النهج هو الذي شجعه لينين في الفترة الأخيرة من حياته مطالبا الشيوعيين بالتعلم من التجار المحليين والعالميين وأن القطاع الخاص ضروري للاقتصاد حتى يحاكيه القطاع العام في أساليبه وطرقه في الادارة والمنافسة ويتفوق عليه من خلال التعلم لا الالغاء والتأميم الشامل!
فضلا عن هذا ،فالعواقب التي ستنجم عن مثل هذا التأميم ستكون كارثية على المستوى السياسي وعلى الحزب البلشفي السوفيتي ذاته ،فهذا التأميم حول الحزب الى منظومة اقتصادية كما حلل ذلك موشي لوين ،فالحزب البلشفي كانت تتصارع داخله تيارات مختلفة حتى أثناء الحرب الأهلية الروسية كانت هناك معارضة قوية ضد لينين من داخل الحزب البلشفي خصوصا فيما يتعلق بالقرارات المصيرية كاتفاقية بريست ليتوفسك مع المانيا التي عارضها بوخارين الذي كان آنذاك في الجناح اليساري للحزب وعارضها تروتسكي أيضا،لم يكن الحزب البلشفي كتلة موحدة حتى في أحلك الظروف (اثناء الحرب الأهلية) لأن تعدد الأراء والنقد الداخلي ضروري لعمل أي منظومة وبدونها ستتراكم المشاكل والأخطاء التي كان يفترض أن تعالج في وقتها وستصبح أكثر خطرا مع تقدم الزمن وستأخذ شكلا انفجاريا عند خفوت السيطرة المركزية وهو ما حدث في الاتحاد السوفيتي ..
فكرة التناقض والتي تمثل جانب محوري في التحليل الماركسي الاجتماعي والتاريخي غابت عن بال القادة السوفيت ،فالتناقض هو محرك التقدم ووجود القوى المتصارعة هو الذي يعطي النظام حيويته وقدرته على تجاوز الأزمات ،بينما كان الاتحاد السوفيتي ومن عهد ستالين يتبنى سياسة القفزات بما يخالف الواقع الموضوعي وشروط المرحلة ،فالقطاع الخاص كان ضرورة خصوصا في دولة ريفية يشكل سكان الريف أكثر من 80 بالمائة من سكانها ،وهو يتطلب منهجا عقلانيا في التعاطي مع هذا الواقع لا القفز عليه وقوننة الاشتراكية في ظروف غير مواتية ،فهنا تتجاوز علاقات الانتاج قوى الانتاج فإن كانت الرأسمالية كعلاقات انتاج لا تتناسب مع متطلبات المرحلة (أو متأخرة عنها) فالاشتراكية (بالمعنى الستاليني أي التأميم) هي كذلك تقفز على الواقع وتتقدم على الظروف الموضوعية ،من ناحية المتطلبات التي يشترط توفرها لتبني مثل هذا المشروع ،كالكوادر الفنية والبنية التحتية وقدرة المدن على امتصاص الأعداد الهائلة من سكان الريف .
بوخارين آمن بالاشتراكية في البلد الواحد ،لكنه لم يغفل أهمية أن يكون النموذج السوفيتي جاذبا للشعوب والأمم الأخرى ،وهو ما يتحقق من خلال الديمقراطية والتوفيق بين مصالح العمال والفلاحين،بينما رؤية ستالين للاشتراكية في البلد الواحد ومفهومه لتصدير الاشتراكية كانت تتمحور حول المصانع العملاقة ومحطات توليد الطاقة والجيش الأحمر! وهذا ما كان مفهوما من الشعار الذي كان منتشرا في تلك المرحلة "ابني لي مصنعا في الأورال ولتذهب الحقوق الى الجحيم!".
لكن ما كان لستالين أن يشرع بهذا النهج لولا التيار اليساري البلشفي ممثلا بتروتسكي الذي أراد أن يحارب البيروقراطية دون أن يحارب قاعدتها الاقتصادية (سيطرة الدولة على الاقتصاد بصورة كلية) فمعارضة اليسار البلشفي للنيب وأهمية الحفاظ على التحالف العمالي الفلاحي هو ما أوصل الستالينية كنهج شمولي الى الاتحاد السوفيتي ،نظرة الاقتصادي الروسي اليساري بريوبراجينسكي للكيفية التي ينبغي أن يعمل فيها الاقتصاد لتتحول روسيا الى دولة صناعية حديثة تمثل عمليا ما آلت اليه الأوضاع في زمن ستالين ،فهذا الاقتصادي هو من اخترع مصطلح التراكم الاشتراكي البدائي نظير للتراكم الرأسمالي البدائي ،وهو اعتبر أن الاشتراكية لا يمكن لها أن تحذو حذو الرأسمالية في شكل الاستغلال واستعمار الدول الأخرى ،لكنه رأى أن لا مناص من استغلال الفلاحين وأن تجميعهم في كميونات يشكل ضرورة لنمو الصناعة وبدون ذلك لن يكون هناك صناعة ،وبهذا ينبغي أن تتم التضحية بمصالح الفلاحين لجيل أو جيلين حتى تقلع الصناعة.
وهذا ما انتقده يوخارين ،مع ان بوخارين اقتنع بضرورة تطوير الصناعة سريعا لكن ليس بالأهداف الخيالية التي وضعها ستالين ولا بحرق المراحل ،كان الاقتصادي الروسي كوندراتيف (كان صديقا لكيرنسكي رئيس وزراء الحكومة المقتة بعد ثورة فبراير وهو يمثل الجناج اليميني في الاشتراكيين الثوريين) صاحب فكرة الدورات الاقتصادية الشهيرة مؤيدا للنيب وهو كان على رأس مؤسسة تعاونت مع مراكز الدولة السوفيتية لرسم الخطط رغم أن نظرته كانت ضحلة لكيفية تطوير الاقتصاد فهو اعتقد أن الدولة ينبغي أن تركز على الزراعة حصرا وتصدر السلع الأولية في ظروف غير مناسبة للتصدير،لكن ستالين قام بإغلاق هذه المؤسسة واعدام صاحبها بل قام بتطهير الغوسبلان لأنه كان يضع أهداف خيالية لأرقام النمو ..
ختاما..
المزايدة اليسارية قد لا تأتي بالنتيجة التي ترجوها ،بل قد تنقلب ضدا عما ترنوه ،ماو كان يهاجم خروتشوف لأنه اتبع النهج السلمي في التعامل مع الغرب وأدخل الاصلاحات الى الاقتصاد السوفيتي ،لكن ماو فيما بعد اتفق مع كيسنجر ونيكسون لمواجهة النفوذ السوفيتي في شرق آسيا،فالموقف اليساري المتطرف قد ينقلب الى موقف يميني متطرف ،ستالين كان يشكل بونبارت الثورة البلشفية الذي حذر منه تروتسكي في بداية الثورة البلشفية ،والبيروقراطية في طبيعتها انتهازية ،فحى نابليون كان من اليعاقبة الثوريين في البداية لكنه سرعان ما انقلب عليهم وأوقف المراهقة الثورية ،ستالين كان في البداية مؤيدا لاستمرار النيب وسياسات لينين وتحالف مع بوخارين ضد تروتسكي ،وعندما انتهى من خطر المعارضة اليسارية تنكر لبوخارين وتخلص من اليمين البلشفي بتبني الساسيات التروتسكية اليسارية كان الأمر سيكون مختلفا لو أن تروتسكي تحالف مع بوخارين ضد البيروقراطية التي يمثلها ستالين ،ولو كان مؤيدا للنيب ،فالبيروقراطية لا مكان لها مع اقتصاد سوق موجه ،البيروقراطية تنتعش في ظل الدولة ،والسوق لا يمكن القفز عليه يمكن توجيهه وتحديد اتجاهاته وتغيير هويته ،لكن السوق هو الترياق ضد تغول الدولة والطبقة البيروقراطية ،وهذا ما اقتنع به لينين في آخر حياته وكذلك بوخارين.،فالحفاظ على التحالف الفلاحي العمالي هو الضامن لاستمرار الديمقراطية أو المشاركة الشعبية بعد أن تم القضاء على هذا التحالف عاد ستالين الى نمط الاستبداد القيصري الزراعي الذي كانت تمارسه الدولة في عهد بطرس الأكبر والقياصرة الروس العظام ،طور ستالين كأسلافه من القياصرة اقتصادا حديثا لكن هذا الاقتصاد لم يكن مستداما فسرعان ما انفجرت تناقضاته في العقود التالية وهو ما جعل مهمة الاصلاح صعبة ومعقدة ،فالمجتمع المدني الذي تم تخليقه سريعا بفعل التطور الصناعي كان له احتياجات أخرى مختلفة عن المجتمع الزراعي الذي كان سائدا في عهد ستالين وهو ماتطلب شكلا جديدا من الاقتصاد لكن تناقضات الاقتصاد السوفيتي بلغت مبلغا كبيرا وهو ما جعل مهمة الاصلاح صعبة ومعقدة ،بهذا كان اليسار ممثلا بتروتسكي هو ما قوض ديناميكية المجتمع السوفيتي وقدرته على التغيير وكانت الستالينية تجسيدا للتروتسكية! .