شبحُ ماركس يعود مع كل أزمة!


ادم عربي
2025 / 2 / 17 - 13:37     

شبحُ ماركس يعود مع كلِّ أزمة!
بقلم : د . ادم عربي

في كل مرة تواجه الرأسمالية أزمة اقتصادية عميقة، مثل الأزمة الحالية أوْ تلك التي سبقتها، والتي يمكن وصفها بحرب عالمية ثالثة ، لكن بأسلحة اقتصادية، يطفو على سطح الذاكرة اسم كارل ماركس، كشبح لا يمكن إغفاله. هذه الذاكرة البشرية، التي تخضع لقانون "تداعي الأفكار" كما وصفه ديفيد هيوم، تجعلنا نربط تلقائياً بين الأحداث والأسماء، وكأن ذكر أحد الأطراف يستحضر تلقائياً ذكر الطرف الآخر، في لعبة ذهنية لا مفر منها.
لنُذَكِّر أنفسنا، إذا كانت الذكرى تُجدي، بأنَّ ماركس ليس هو الاتحاد السوفياتي، الذي حكم عليه التاريخ بالفناء. وبالمثل، فإنَّ الاتحاد السوفياتي ليس هو ماركس، الذي استمدَّ قوته من انهيار ما سُمىَّ بـالنظام الاشتراكي أو الشيوعي. وحتى لو رفض الحمر الاعتراف بهذه الحقيقة، فإنَّها تزداد وضوحاً مع مرور الوقت، كضوء يتسع يوماً بعد يوم.

الرأسمالية هي النظام الذي أفرز كارل ماركس، حيث استمد أفكاره من الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي عايشه، وقام بتفصيلها في كتابه الشهير "رأس المال"، مما سمح للنظام بفهم ذاته بشكل أفضل.
من قبيل الصدفة أنْ يُولد هذا المفكر في ألمانيا، في الفترة الزمنية التي ظهر فيها، وأنْ يكون من أصول يهودية، وأنْ يحمل اسم كارل ماركس؛ لكن ظهور شخصية مماثلة له في الفكر كان حتمية تاريخية. فلو لم يظهر ماركس، لكانت الضرورة التاريخية قد أفرزت شخصاً آخر ليقوم بنفس الدور. فالتحديات التاريخية الكبرى هي التي تخلق العظماء، وكأنَّها تلدهم لتلبية متطلبات العصر.

منذ البداية، تعاملوا معه بتجاهل تام، ثم تحول هذا التجاهل إلى سخرية، وبعدها إلى مواجهة مباشرة، لكنه في النهاية سيحقق النصر. لقد أعلنوا وفاته مرات لا تُحصى، ربما عشرات، بلْ مئات، بلْ آلاف المرات، وأصدرت ضده منشورات معادية تفوق بكثير ما أصدره البنك الاحتياطي الفيدرالي من دولارات خضراء. ومع كل هذا، استمروا في حوار لا ينتهي مع أفكاره، وكأن عصره ومبادئه ما زالت حية ولم تمت بعد!
حتى أولئك الذين قدسوا ماركس ورفعوه إلى درجة التمثال، حتى أنَّه صرح علانية قائلاً: "أنا لست ماركسياً"، تحولوا فجأة إلى أشخاص ينكرونه، تماماً كما أنكر بطرس المسيح ثلاث مرات، خاصة عندما سمعوا بخبر انهيار الاتحاد السوفيتي. وكأنَّ انهيار مبنى على رؤوس ساكنيه هو دليل قاطع على أنَّ قواعد الهندسة كانت مليئة بالأخطاء!
لو عاش ماركس في زمن الاتحاد السوفياتي، ورأى كيف يُقدِّم نفسه للعالم على أنَّه الجنة الموعودة ، لرفض أنْ يُنسب إليه هذا النموذج، ولأعلن بصراحة: "أنا لست شيوعياً بالطريقة التي يمارسونها". فلو كان النظام الذي طبَّقه السوفيات وغيرهم هو نفسه المجتمع المثالي الذي تنبأ به ماركس، لربما فضَّل أنْ تظل الرأسمالية قائمة إلى الأبد أوْ دعا لها بطول البقاء!

لقد كرَّس ماركس جهده لتحليل الرأسمالية في مؤلفاته الضخمة، بينما لم يخصص سوى صفحات قليلة للحديث عن الاشتراكية. ذلك لأنَّه كان معارضاً لأي تصورات خيالية أو مثالية غير قابلة للتحقيق. كان يرى الاشتراكية كمسار تاريخي محتمل، وليس كحلم طوباوي. وفقاً لرؤيته، الرأسمالية إما أنْ تتطور نحو الاشتراكية، أو تسقط بالبشرية جمعاء إلى عصور من التخلف والهمجية والبربرية . وإذا أردتم أنْ تفهموا معنى هذا التقهقر والسقوط، فلتنظروا بعين الواقع، بعيداً عن الأوهام، إلى ما يُطلق عليه اليوم "الرأسمالية المتوحشة" أو "الليبرالية الجديدة"، مع تلك الفلسفة التي تُروج لفكرة "نهاية التاريخ" ، وانظروا إلى العالم كيف ينحدر إلى الفاشية بقيادة أهم مركز رأسمالي عالمي ..

انهيار الاتحاد السوفيتي اعتبروه نهاية لفكر ماركس، فاتخذوا قراراً بإهانة هذا الرجل وأفكاره بطريقة توحي بأنَّهم يتسامحون معه، فبدأوا يتسامحون في تعاملهم مع كلِّ من يذكر اسمه، أو يقرأ أعماله، أو يكتب عنه، أو يدعو إلى أفكاره ويناصرها، وكأن الخوف الذي زرعه في قلوبهم قد زال ولم يعد له وجود.
في الماضي، عندما كان الخوف يسيطر عليهم، كانت عبارة "اكرهوا ماركس!" هي المحور الرئيسي لخطابهم السياسي والإعلامي والفكري. لقد صوروه على أنَّه الملحد الكافر، اليهودي، العدو الأكبر للقومية، والمجرم الذي تزرع أفكاره بذور الصراع والحروب الأهلية، وتُضعف السلام الاجتماعي، وتفسد الطبيعة البشرية الأصلية، وتعارض أي شكل من أشكال الملكية الخاصة، حتى لو كانت بسيطة كصحن أو كوب. لكن بمجرد أنْ تأكدوا من موته ودفنه، حتى أصبحوا يعشقون اليهودي الصهيوني، و "وول ستريت" والكونغرس... وحتى أدخلوا العالم كله في حرب الجميع ضد الجميع، مستفزين ومُلهبين في النفوس كل نزعة عنصرية تُنزل الإنسان إلى أدنى مستويات الحيوانية. فعرف العالم خلال ربع قرن من الفساد الشامل ما لم يشهد له مثيلاً من قبل، سواء في الكم أوْ النوع، منذ بداية التاريخ المدوّن.

في مؤلف "رأس المال"، الذي يعد المرجع الأبرز لفهم جوهر الرأسمالية، سواء في الماضي أوْ الحاضر، يتم تجريد هذا النظام الاقتصادي من كل الزخارف والمظاهر الخارجية، ليظهر في صورته الحقيقية والعلمية. ومن خلال هذا العمل، يتضح أنَّ كارل ماركس كان الأكثر قدرة على تحليل النظام الرأسمالي بعمق، واستكشاف قوانينه الأساسية، وفهمه بشكل شامل ودقيق. ولا يزال تحليل ماركس للرأسمالية صالحاً للتطبيق طالما استمر هذا النظام في الوجود.

هذا المفكر، الذي غرس أفكاره بعمق في أرضية العلم، تحدى جميع منظري الاقتصاد الرأسمالي بأنْ يقدموا تفسيراً علمياً للربح الرأسمالي يختلف عن التفسير الذي قدمه هو. ومن خلال تفسيره هذا، كشف أنَّ مفهوم "عدالة الأجر" ما هو إلّا قناع يخفي وراءه ظلماً اقتصادياً واجتماعيا ًوتاريخياً، متخفياً في ثياب ما يسمى بـ"العدالة الرأسمالية".
قام ماركس بتفنيد الأساطير المحيطة بقانون "العرض والطلب"، مؤكداً أنَّ هذا القانون، رغم أهميته، لا يُفسر سوى مدى ابتعاد السعر عن القيمة الحقيقية للسلعة، ولكنه عاجز تماماً عن تفسير أصل تلك القيمة نفسها.
والدليل على صحة هذا الادعاء هو أنَّ التوازن بين العرض والطلب يحدث فقط عند بيع السلعة بقيمتها الحقيقية. ولكن إذا كانت قيمة السلعة تعادل مجموع قيم جميع السلع المستهلكة في إنتاجها، فكيف يمكن بيعها بربح في حالة توازن العرض والطلب؟ هذا التناقض يثبت أنَّ الربح لا يمكن تفسيره ببساطة من خلال هذا القانون.
حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، لم تظهر أي إجابة علمية أو مقنعة من الجانب الرأسمالي على هذا السؤال المحوري الذي طرحه ماركس، والذي أكد من خلاله أنَْ طبيعة الرأسمالية ستظل كما هي، تتمحور حول هدفين رئيسيين: تحقيق "أقصى ربح" و"تراكم الثروة"، أي زيادة تركيز رأس المال في أيدي قلة قليلة من البشر.

عندما وُجِّه السؤال لصاحب العمل، أي أي صاحب عمل، "من أين أتيت بهذا؟"، أجاب وكأنه يتحدث باسم الحقيقة المطلقة: "من اعتمادي على نفسي، فكل ما أملكه هو نتاج جهودي وتعبِي وعملي وعرق جبيني... وذكائي".
لكن الواقع كان له رأي آخر، حيث ظل يردد: "من يعمل لا يملك، ومن يملك لا يعمل، وأكثر الناس ذكاءً هم الفقراء"!