-الاتحاد الأوروبي يواجه الإنكسار-


حازم كويي
2025 / 2 / 16 - 15:53     

ترجمة وإعداد:حازم كويي

ناضل يانيس فاروفاكيس لسنوات عديدة من أجل إرساء الديمقراطية في أوروبا،شغل منصب وزير مالية اليونان سابقاً. بعد إستقالته من حكومة أليكسيس تسيبراس وهو يرى المؤسسات الأوروبية تخنقُ أي أمل في التغيير الحقيقي في بلاده. وبرؤية جذرية الى الأشتراكية أسس ما يسمى "حركة الديمقراطية في أوروبا 2025" أو DiEM25. وحددت الحركة لنفسها هدفاً يتمثل في صياغة دستور أوروبي بحلول عام 2025 من شأنه أن يشكل الأساس لإتحاد ديمقراطي وإجتماعي مختلف. لكنه اليوم يقول إن هذا الحلم أصبح أخيراً تاريخاً. ويوضح لماذا يجب علينا الاستعداد لنهاية الاتحاد الأوروبي.
وبدلا من مناقشة دستور جديد، تهيمن الحروب والمخاوف الاقتصادية والدعوات إلى الترحيل الجماعي على النقاش في أوروبا. أصبح الاتحاد الأوروبي غير قادر على مواجهة التحديات، ناهيك عن تقديم مستقبل أفضل لمواطنيه؟
وأصبح يانيس فاروفاكيس أكثر تشاؤماً.فهو يشيرعن آثار الحروب في أوروبا وغزة، والخطر المُتجدد الذي يُشكله إعادة إنتخاب دونالد ترامب، ولماذا لم يستبعد بعد التجربة الاجتماعية العظيمة في الصين.
يانيس، تم منعه مؤخراً من دخول ألمانيا لحضور مؤتمر يخص فلسطين. بل حتى من المشاركة في الحدث رقمياً عبر تطبيق Zoom أو أية وسيلة أخرى، وهو أمر فريد من نوعه في تاريخ جمهورية ألمانيا الاتحادية. والأمر الأكثر إثارة للغضب هو أنه لا يعرف لماذا منع من دخول البلاد.فقد راسل وزارة الداخلية سائلاً: من طلب منعي من الدخول؟ متى كان الدخول ممنوعاً؟ وما كان السبب في ذلك؟ وأجابت الوزارة، إنه لأسباب تتعلق بالأمن القومي ومن أجل عدم تعريض التعاون بين أجهزة الاستخبارات الألمانية وأجهزة الاستخبارات الأجنبية للخطر،لكنهم لم يجيبوا على الأسئلة.
مع ذلك، أشعر بالأمان التام في ألمانيا. أعتقد أن السؤال هو ما إذا كان ينبغي للألمان أن يشعروا بالأمان في ظل نظام يتصرف بهذه الطريقة. وهذا يتجاوز حتى حدود الديمقراطية البرجوازية.
مؤتمر ميونيخ للأمن يُعقد سنويا منذ عام 1963. "الموضوع لهذا العام هو "السلام من خلال الحوار".لكن فاروفاكيس يحتج على المؤتمر بمثل يورده: إذا قامت شركة مارلبورو بتسويق السجائر كمنتج صحي، فهل ستصبح السجائر أكثر صحة؟ لا، هذا من شأنه أن يجعل الأمور أسوأ بكثير. سيتم ببساطة إعطاء الورم السرطاني بالداخل وجهاً جديداً. هذا هو ما يفعله حلف شمال الأطلسي. وكما هو الحال مع المافيا، فإن عملهم هو خلق حالة من إنعدام الأمن من أجل زيادة قوتهم ــ وبطبيعة الحال، بيع المزيد من الأسلحة. إنه سوق الأسلحة الكبير.


نحن الذين أتينا إلى هنا للتظاهر ضد دعاة الحرب، نقوم بتنظيم مؤتمر ميونيخ للسلام. إن MSC ليست هي المشكلة بحد ذاتها. المشكلة هي أن دعاة الحرب الذين هم في السلطة. فإذا كنت تريد السلام والعدالة حقاً، عليك التأكد من أن أولئك المُستفيدين من الحرب والظلم لايملكون السلطة.
وأود بشدة أن أرى تراجع الهيمنة الأميركية، ولكن هذا مجرد تفكير متفائل. الإتحاد الأوروبي في حالة تراجع. الغرب في حالة تراجع. الصناعة الألمانية، والصناعة اليونانية ــ نحن جميعا في حالة انحدار سريع وحاد للغاية. ولكن الهيمنة الأميركية لم تبدأ في التراجع بعد.
لم يسبق من قبل أن كان لدولة أو طبقة حاكمة مثل هذا القدر من النفوذ والسلطة على بقية البشرية كما تفعل الولايات المتحدة اليوم. يحاول ترامب تجنب الانحدار. في الأساس، هذا ما فعله بايدن، خاض ثلاث حروب على ثلاث جبهات في وقت واحد، واحدة في أوكرانيا، وواحدة في الشرق الأوسط، وواحدة في الصين. يعتقد ترامب أن الولايات المتحدة تقاتل على جبهات كثيرة ويجب أن تركز على الصينيين.
فهل ينجح في تجنب الانحدار الحتمي للولايات المتحدة؟ تصل كل إمبراطورية إلى ذروة يبدأ منها تراجعها. لذا لا أعتقد أنه سينجح. لكن المؤسسة الليبرالية والوسط الراديكالي، وأخشى أن بعضاً من اليسار، يقللون إلى حد كبير من شأن الخطة الرئيسية لترامب لتوسيع الهيمنة الأميركية.
في كثير من الأحيان أجد صعوبة في فهم سياسات ترامب. يبدو أن إضعاف وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أو إغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية أمر غير منتج من وجهة نظر الإمبريالية الأميركية.
لدى ترامب فكرة مثيرة للاهتمام حول الشكل الذي ينبغي أن تبدو عليه الهيمنة الأميركية. ويعتقد أن محاولة السيطرة على العالم من خلال وكالة المخابرات المركزية، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ومنظمة التجارة العالمية، ومنظمة الصحة العالمية وما إلى ذلك خطأ. إنه يريد تقسيم الكوكب بالكامل إلى نصفين، أحدهما سيكون ملكاً فعلياً للولايات المتحدة. ليس فقط السيطرة، بل الإمتلاك. وعندما يتحدث عن ضم غرينلاند، وضم كندا، وضم بنما، فهو يعني ذلك حقاً. إنه سعيد للغاية بامتلاكه نصف الكرة الأرضية ويسيطر عليه بالكامل، طالما أن قوته العسكرية تسمح له بإبرام الصفقات مع بوتين وشي جين بينغ.
إنه يعتبر الاتحاد الأوروبي قوة منتهية الصلاحية، وبالتالي فهو لا يريد أن يمتلك أوروبا، لكنه يريدنا أن نكون تابعين له بشكل مباشر، وهو ما أصبحنا عليه بالفعل إلى حد ما. ليس لديه أي اهتمام بحلف شمال الأطلسي، لأنه إذا كان الجيش الأمريكي موجود، فلماذا تحتاج إلى حلف شمال الأطلسي؟ إن فكرة الإطاحة بالحكومات، كما فعلت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية منذ عام 1945، لا تهمه. وبدلاً من ذلك، فهو مُعجب بالعلاقات التبادلية التي تحافظ عليها الصين مع الدول الأفريقية. ويريد أيضاً عقد الصفقات.
يمكن أن يكون لدينا عالم أحادي القطب، سلمي ولكن استبدادي تماماً - الإمبراطورية الرومانية، على سبيل المثال. يمكنك أيضاً أن تحصل على عالم حر للجميع، عالم كما صوره الفيلسوف الأنكليزي هوبز، حيث يقاتل الجميع بعضهم البعض، وهو عالم متعدد الأقطاب تماماً وقاسٍ ومرعب تماماً.
في رأيي، لدينا عالم ثنائي القطب: لدينا الولايات المتحدة ولدينا الصين. لقد جعلت أوروبا نفسها عتيقة وغير ذات أهمية، والهند بعيدة كل البعد عن تطوير دور دولي لنفسها.
وأعتقد أننا نشهد أيضاً طفرة جديدة في رأس المال، أسميها "رأس المال السحابي"، الذي لا ينتج وسائل الإنتاج، بل وسائل تغيير السلوك، ومن يملكه اكتسب سلطة باهظة على البشرية. هناك دولتان فقط في العالم تتمتعان بـ "رأس المال السحابي": الولايات المتحدة والصين.
وهذا هو أحد الأسباب التي دفعت جو بايدن إلى تأجيج الحرب الباردة الجديدة ضد الصين، والتي بدأها ترامب بالفعل بقانون الرقائق، من خلال محاولته حرمان شركات التكنولوجيا الكبرى الصينية من الوصول إلى الرقائق الدقيقة عالية الأداء. لقد فشل هذا تماماً. وهذا هو السبب أيضاً وراء تجمع اللوردات الإقطاعيين التقنيين، كما أسميهم، في قصر دونالد العظيم، على أمل أن ينقذهم من أخطائهم الحمقاء ويحميهم من المنافسة الصينية.
إن الرومانسية التي تضفي على الديكتاتوريين مثل فلاديمير بوتين، الذين يسجنون رفاقنا في موسكو، هي سياسة غبية للغاية بالنسبة لأي ماركسي في الغرب.
أما الصين فهي قصة مختلفة. لا ينبغي لنا أن نجمع بين روسيا والصين. تعتبر الصين تجربة مثيرة للاهتمام للغاية. مازال قيد التطوير. ليس لدينا أدنى فكرة عن النتيجة التي ستؤول إليها الأمور، ولكنني أرى بعض العلامات الرائعة والمفعمة بالأمل في الصين والتي تشير إلى التطور الاشتراكي جنباً إلى جنب مع الاستغلال الرأسمالي الأكثر وحشية. لذا فإن الأمر عبارة عن مزيج من الصراع الطبقي بكامل قوته.
ينبغي علينا أن نكون ناقدين. يتعين علينا أن نكون جدليين وفي نفس الوقت لا نقع في فخ الوقوف إلى جانب الصين ضد الولايات المتحدة أو البقاء محايدين. عندما أسمع أن الصين دولة إمبريالية، أشعر بالذعر. إنها ليست دولة إمبريالية. آخر مرة خاضوا فيها حرباً كانت منذ أكثر من 40 عاماً مع فيتنام، وكانت مجرد مناوشة إقليمية. علينا أن نحافظ على عدم انحيازنا، وقدرتنا على الإنتقاد دون الحياد.
ولا أعتقد أن دور الصين كفاعل استعماري جديد في الجنوب العالمي أومع التوسع في بحر الصين الجنوبي، هذا خطأ فادح، ولو كان كارل ماركس لا يزال على قيد الحياة، لكان قد شيطن أي شخص يصف الصين بالإمبريالية. الصين ليست توسعية، وليست إمبريالية بمعنى أنها تطيح بالحكومات، وتغتال القادة المُنتخبين، وتبني قواعد عسكرية في دول أخرى مثلما تفعل الولايات المتحدة والأوروبيون.
ويستخدم الصينيون المبالغ الضخمة من الدولارات التي تراكمت لديهم من خلال الفوائض التجارية الضخمة لتوقيع صفقات مع دول في أفريقيا وأماكن أخرى. وربما يكون هذا الأمر ضاراً على المدى الطويل، ولكن هذه مجرد حالة أخرى من حالات عدم المساواة في الموارد التي تؤدي إلى عقود استغلالية لن توقعها البلدان لو كانت لديها خيارات أخرى.
وبهذا المعنى، تلعب الصين دور المعتدي في الصراع الطبقي في الجنوب العالمي، ولكنها في الوقت نفسه تترك وراءها مخزوناً من رأس المال. إنها تترك وراءها الموانئ والاتصالات والبنية التحتية. الولايات المتحدة لم تترك وراءها سوى القتلى والأمراض والإشعاعات والحفر الضخمة في الأرض. إن وصف الصين بالإمبرياليين هو إنتهاك صارخ للتحليل المادي التاريخي الأساسي.
أما بالنسبة للشمولية، أخشى أنه لو كنت صينياً وأعيش في الصين، لربما كنت جالساً في زنزانة الآن. لذلك أنا لا أجعل الأمر سراً. إنه نظام إستبدادي. ولكن في الوقت نفسه، يجب أن أقول إنني قضيت بعض الوقت في الصين، وأن مستوى المناقشة والديمقراطية على المستوى الشعبي في المجتمعات هو شئ لا نملكه في أوروبا. إنهم يتمتعون بديمقراطية أكثر حيوية من تلك التي لدينا. ولكنهم في الوقت نفسه يعيشون تحت السيطرة الكاملة للحزب الشيوعي الصيني. لقد بادرت الصين أيضاً إلى تحقيق أعظم تطور للقوى الإنتاجية في أي بلد خلال الثلاثمائة عام الماضية، وكل ذلك في ظل نظام أشتراكي مخطط مركزياً. وبما أن 60% من وسائل الإنتاج مملوكة جماعياً أو للدولة، فهذه ليست تجربة يمكننا رفضها ببساطة باعتبارها رأسمالية دولة.
أتذكر أنني كنت مؤخراً في شنغهاي وقمت بزيارة إحدى البلديات التي تعيش فيها 22 ألف أسرة. في ظل ظروف رائعة. لا تدفع شيئاً. وينظمون مجتمعاتهم على أساس مجلس للمواطنين، يديرونه بأنفسهم. إنه مجتمع اشتراكي بحت. وعندما تحدثت إلى بعض ممثليهم وسألتهم ما هو أكبر تهديد يواجههم، أشاروا إلى ناطحات السحاب المجاورة لهم. قالوا الرأسمالية، لأن الرأسمالية كانت تتغلغل في المجتمع.
هذه هي الصين. هناك القطاع المجتمعي والقطاع الرأسمالي، وهما يتصادمان. إنه مكان يتغير. وقد ينتهي الأمر بكابوس كامل آخر، أو أعظم أمل للبشرية.
إن الاتحاد السوفييتي مثير للاهتمام لأنه كان بمثابة تجربة كان من الممكن أن تتطور بشكل أكثر إيجابية لو كانت هناك ديمقراطية حقيقية وإدارة ذاتية في المصانع، وهو ما لم يكن موجوداً للأسف. لكن الصين والاتحاد السوفييتي يعيشان على كوكبين مختلفين. في الاتحاد السوفييتي كان هناك سبوتنيك، الذي كان إنجازاً تكنولوجياً عظيماً، لكن تأثيره لم يصل إلى الأحياء. أما في الصين، فقد تغلغل التطور في كل قرية وكل حي.
سابقاً وكما دافعت عن إصدار سندات اليورو، والاتحاد المالي، وصندوق الاستثمار المشترك، والصفقة الخضراء الأوروبية الجديدة.
اليوم، أصبح هذا الأمر طوباوياً، لأنه مع أزمة اليورو أو مع وباء كورونا، أضاعت أوروبا كل فرصة للحفاظ على التماسك الكافي للتمكن من متابعة سياسة مالية مشتركة، أو سياسة استثمارية مشتركة، أو سياسة دفاعية مشتركة. والآن فإن جيلي، وخاصة الجيل الحالي ــ وأنا أقول هذا الذي يؤلمني قلبياً ــ هو الجيل الذي سيشهد عملية تفكيك الاتحاد الأوروبي. لا توجد قوة على الأرض أو خارجها تستطيع منع ذلك.
الإتحاد الأوروبي مهدم.في نهايته. فهو على طريق لا رجعة فيه يؤدي إلى الهدم. إن الحديث الآن عن كيفية الحصول على ميزانية دفاع مشتركة هو أمر مثالي. لا يمكننا فعل ذلك لأننا لا نستطيع أن نكون أسرة مشتركة. لا يمكن أن يكون لديك جيش مشترك إذا لم يكن لديك مجتمع مشترك. إذا لم يكن لدينا اتحاد، فمن سيقرر من يذهب إلى الحرب؟ أورسولا فون دير لاين(رئيسة الأتحاد الأوربي)؟
هل تعلم ماذا يجب علينا أن نزيدهُ الآن؟ إنفاقنا على برنامج المشتريات المشتركة. ولكن لا أحد لديه القدرة على القيام بذلك. أعني أن برلين ليس لديها حكومة. حتى بعد الانتخابات الفيدرالية، لن تكون هناك حكومة في ألمانيا قادرة على تحقيق التوازن في الميزانية. نحن جميعا نرى أن كل دولة أوروبية كبرى تعيش حالة من الفوضى، وبروكسل تحاول ببساطة تنظيم الأمور من أجل منح هؤلاء البيروقراطيين مزيداً من السلطة.
إن الاتحاد الأوروبي سفينة تغرق، وبالتالي فإن وظيفتنا لا ينبغي أن تتمثل في إضاعة وقتنا وطاقتنا في مناقشة مشاريع طوباوية مثل الدفاع المشترك، بل يتعين علينا أن نبذل قصارى جهدنا لوضع الأسس لدعم ضحايا هذا التفكيك ورعاية شعبنا، وهذا يعني شعوب أوروبا.
أي بمعنى المستوى الوطني وخارجه، وهذا هو ما تدور حوله حركتنا الديمقراطية في أوروبا: التضامن على مستوى القاعدة الشعبية في جميع أنحاء أوروبا، ورعاية الجميع في أوروبا ومساعدتهم على التعامل مع الضربات التي ستأتي واحدة تلو الأخرى - من الفاشية، ومن العسكرية، ومن التقشف، ومن تدمير شبكة الأمان الاجتماعي، ومن كل الأشياء التي ستؤثر على حياة الألمان واليونانيين والفرنسيين وهلم جرا على حد سواء. ولكننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بمفردنا كألمان، وفرنسيين، ويونانيين. وهذا هو مشروع التضامن الدولي بأكمله والذي أصبح الآن جزءاً مما أعتبره حالة الطوارئ الأوروبية.