الوجود والعدم عند مصطفى أبو حسين، قصة -ابن الجزمة- نموذجا.
محمد فرحات
2025 / 2 / 1 - 10:18
المنهج الوجودي في النقد الأدبي يركز على حرية الإنسان، ومسؤوليته، وقلقه الوجودي، والتجربة الفردية للذات في مواجهة العبث والمعاناة. قصة "ابن الجزمة" تتناول هذه القضايا بعمق، حيث تسلط الضوء على الأزمة الوجودية لبطلها، الذي يواجه المرض والموت ويعيد النظر في مفهوم الخير والشر، والقيم المطلقة، وعلاقته بالعالم.
يبدأ البطل رحلته الفكرية من تساؤلات فلسفية حول الخير والشر، ثم تتعاظم أزمته عندما يواجه المرض، حيث يصبح هذا المرض رمزًا لانكسار سيطرته على حياته. الموت، باعتباره النهاية الحتمية، لم يكن حاضرًا في وعيه إلا حين "نزل عن تلة الحياة"، ليجد نفسه في الضفة الأخرى، حيث يسير الآن حافيًا، أي مجردًا من قوته الرمزية التي تمثلت في "جزمته". هذا التشبيه الوجودي يعكس مفهوم سارتر وهايدغر عن القلق الوجودي، حيث يكتشف الإنسان هشاشته حين يفقد عناصر السيطرة التي كان يتوهم امتلاكها.
في الوجودية، الرموز الشخصية تعبر عن الفردانية والذاتية، وهنا نجد أن الجزمة ليست مجرد قطعة ملابس، بل هي هوية البطل، انعكاس لرؤيته للعالم، وحصنه النفسي. الكعب العالي يعكس محاولته التحليق فوق الواقع، اللون الأسود يشير إلى رؤيته القطعية للعالم (الأبيض والأسود)، والمقدمة العريضة توحي باستعداده لركل الواقع والتصادم معه، أما الرباط القوي فهو القانون الذي فرضه على نفسه. عندما يُجرد من جزمته في المستشفى، فإن ذلك يرمز إلى فقدانه هويته، وعجزه عن التمرد.
الوجودية ترى الحرية كجوهر الوجود الإنساني، لكن البطل يجد نفسه مقيدًا في المستشفى، عاجزًا عن تقرير مصيره، خاضعًا لسلطة الأطباء، والمحاليل الطبية، وقوانين الفيزياء التي طالما كرهها. هنا يظهر الصراع بين إرادته التي طالما ظنها مطلقة، وبين القوانين التي تسيره رغمًا عنه، مما يعكس فلسفة سارتر عن الحرية المفقودة في مواجهة حتميات الوجود.
البطل، الذي كان معلم فلسفة، يجد نفسه ممزقًا بين ما قرأه في كتب الفلسفة الوجودية، وما كان يردده من آيات قرآنية في طفولته. يحاول استدعاء صورة النبي محمد ليطرد أشباح نيتشه وشوبنهاور وكانط، لكنه لا يستطيع حسم صراعه الداخلي. هذه الثنائية بين الإيمان والشك، وبين الطمأنينة والقلق، تعكس أزمة الإنسان الحديث، الذي لم يعد قادرًا على اليقين المطلق، بل يتأرجح في برزخ الأسئلة بلا إجابات قاطعة.
في المستشفى، يشعر البطل بالغربة، وكأنه أصبح مجرد "ثمرة مشمش مستوية"، أي جسدًا بلا روح، يُختبر عليه العلم دون أن يسأله أحد عن شعوره. هذه النظرة الموضوعية للإنسان، بوصفه مجرد حالة طبية، تعكس رؤية كافكاوية وجودية، حيث يصبح الفرد مجرد رقم في منظومة بيروقراطية ضخمة، بلا قيمة فردية حقيقية.
مع اقترابه من الموت، يتوق البطل إلى العودة إلى ذاته الأصلية: قريته، حقل أمه، دراجته، وحتى إلى جزمته التي يطلب أن تدفن معه، وكأنها جزء من روحه. هذا الحنين يعكس إدراكه بأن وجوده كان مرتبطًا بتلك الأشياء الصغيرة، التي تبدو بلا معنى في نظر الآخرين، لكنها كانت تشكل عالمه الشخصي. في النهاية، يدرك أن كل ما بناه، وكل الفلسفات التي قرأها، لم تمنحه إجابة حاسمة، وأنه مجرد عابر في الحياة، مثل غيره من البشر.
تعكس قصة "ابن الجزمة" أزمة الإنسان الوجودي في مواجهة المرض والموت، حيث يفقد سيطرته على حياته، ويتحول من كائن فاعل إلى مجرد جسد في منظومة طبية. من خلال لغة رمزية عميقة، تطرح القصة أسئلة جوهرية عن الحرية، والهوية، والمعنى، والقدر، لتجعل القارئ شريكًا في هذا القلق الوجودي الذي لا إجابة نهائية له.
الشهداء
٣١ يناير ٢٠٢٥