الصين وما أدراك ما الصين!


ادم عربي
2024 / 12 / 24 - 11:23     

بقلم : د .ادم عربي

إنها الصين، وما أدراك ما الصين؛ الدولة التي قلبت معادلات كثيرة في النظام العالمي، وكانت سنة 1989 علامة فارقة في علاقتها مع الرأسمالية الغربية، حيث تبادلت معها ما يمكن وصفه بـ"الإنقاذ المتبادل". وكما أشار وزير الخارجية البريطاني الأسبق ديفيد ميليباند بدقة ومهارة، أنقذت الرأسمالية الصين حينما سمح "الحزب الشيوعي" الحاكم فيها لاقتصادها بتناول "الفيتامين الرأسمالي"، وهو جرعة من نظام السوق الحرة. هذا التزاوج المدروس بين الاشتراكية والرأسمالية أدى إلى طفرة اقتصادية مذهلة، جعلت الاقتصاد الصيني ينمو بمعدلات غير مسبوقة.

نتيجة لهذا النمو، تحول "التنين الصيني" إلى قوة اقتصادية عملاقة، أثارت قلق الدول الغربية، التي وجدت نفسها أمام منافس شرس يتفوق ليس فقط في حجم الإنتاج، بلْ في التقدم التكنولوجي، والتوسع التجاري، والقدرة على استقطاب الأسواق العالمية. ولم يتوقف الأمر عند الجانب الاقتصادي؛ فالصعود الصيني حمل معه أبعادا ديموغرافية وثقافية وحضارية، ما جعل القلق الغربي يتجاوز المخاوف الاقتصادية ليشمل التأثيرات الاستراتيجية والجيوسياسية.

الصين بذلك لم تنقذ نفسها فقط، بلْ وضعت نفسها في مسارٍ جديد، حيث تحولت من دولة تعتمد على الدعم الخارجي والتقليد إلى مركز عالمي للإبداع والتأثير، ما جعل الغرب يعيد حساباته تجاه هذا "المارد" الذي خرج من قمقمه، وأصبح لاعبا رئيسيا في تحديد ملامح المستقبل العالمي.

في سنة 2009، برزت الصين، التي كانت تُعتبر سابقا "المُنْقَذ"، لتتحول إلى "المُنْقِذ" الحقيقي للرأسمالية الغربية، حيث لعبت دورا محوريا في التخفيف من حدة الأزمة المالية والاقتصادية الكبرى التي عصفت بالعالم. وربما سيُكتب في صفحات التاريخ أنَّ "سنة 2009 كانت العام الذي أنقذت فيه الصين النظام الرأسمالي العالمي" ، في سنة 2009 ظَهَر "المُنْقَذ الصيني" على أنَّه "المُنْقِذ" للرأسمالية الغربية من أزمتها المالية والاقتصادية الكبرى؛ بلْ سوف يكتب التاريخ أنَّ في سنة 2009 أنقذتْ الصين النظام الرأسمالي العالمي من الإنهيار الحتمي ليس حباً بالغرب وإنما حباً للمستهلك الغربي الشره. .

ولم تجد الولايات المتحدة خياراً سوى الاعتراف بتلك الحقيقة التي بدت كجرعة مُرة في فمها. وقد عبَّرت وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق مادلين أولبرايت عن هذا الواقع بوضوح، مشيرة إلى أنَّ الولايات المتحدة كانت القوة الاقتصادية العظمى بلا منازع في نهاية القرن العشرين، ولكن الصين بدأت تأخذ مكانها لتصبح القوة الاقتصادية العظمى في القرن الحادي والعشرين.

وفي هذا السياق، يؤكد الخبير الاستراتيجي مارتن جاك، مؤلف كتاب "عندما تحكم الصين العالم"، أنَّ هذا التحول الاقتصادي لن يقتصر على المال والأعمال، بل سيمتد ليُحدث تغييرات جذرية في النظام العالمي. ويعتقد جاك أنَّ هيمنة الدولار كعملة عالمية ستتراجع، ليحلّ اليوان الصيني مكانه تدريجيا. ومع هذا التحول المالي، ستتأثر الحضارة الغربية، التي طالما سادت العالم، بروح الحضارة الصينية العريقة وثقافتها.

هذا التحول لا يعكس مجرد تقدم اقتصادي، بل يعيد تشكيل القوى الثقافية والحضارية في العالم. فالصين التي تحمل إرثا حضاريا يمتد لآلاف السنين، تقدم نموذجا مختلفا للتطور والنمو، حيث تتداخل عناصر الأصالة مع الابتكار. وهذا النموذج الصيني بدأ يُثبت قوته ليس فقط في مجالات الصناعة والتكنولوجيا، ولكن أيضا في التعليم، والدبلوماسية، والفن، مما يجعل العالم يقف أمام مستقبل جديد متعدد الأقطاب يتسم بطابع صيني مميز.
إنَّ الاقتصاد الصيني المتنامي، الذي استطاع بفضل المزاوجة المبتكرة بين مزايا "الاقتصاد الاشتراكي" ومزايا "اقتصاد السوق الحرة" أنْ يحقق قفزات نوعية غير مسبوقة، يعتمد بشكل كبير على التصدير بوصفه أحد الأعمدة الرئيسية لنموه. ومن بين الأسواق العالمية، تبرز الولايات المتحدة باعتبارها السوق الكبرى لصادرات الصين، ما يعكس علاقة اقتصادية معقدة تجمع بين التنافس والشراكة.

هذا الاقتصاد، في مساره التصاعدي، يظهر ميلا واضحا إلى تعزيز الصادرات وتقليل الواردات، وهو ما يؤدي باستمرار إلى ترجيح كفة الصادرات على حساب كفة الواردات. هذه الفجوة في الميزان التجاري ليست مجرد نتيجة عرضية، بل هي انعكاس لاستراتيجية اقتصادية مدروسة تسعى الصين من خلالها إلى استثمار قدراتها الإنتاجية الضخمة وإغراق الأسواق العالمية بمنتجاتها التي تجمع بين الجودة العالية والتكلفة المنخفضة.

إضافة إلى ذلك، تُعتبر هذه السياسة التصديرية جزءا من نهج أوسع لتحقيق الهيمنة الاقتصادية العالمية. فالصين لا تكتفي بتلبية الطلب المحلي، بل تسعى بشكل منهجي إلى خلق ارتباطات اقتصادية عميقة مع الدول الأخرى، مما يجعلها لاعبا لا غنى عنه في سلاسل التوريد العالمية. ومن خلال تعزيز صادراتها، تُسهم الصين في تراكم الفوائض التجارية، التي تُترجم إلى استثمارات في البنية التحتية، والتكنولوجيا، ومشاريع مبادرة الحزام والطريق، مما يُعزز نفوذها الجيوسياسي.

وبالرغم من نجاح هذه الاستراتيجية، فإنها تُثير تحديات أمام الاقتصاد العالمي، خاصة فيما يتعلق بالاختلالات في الميزان التجاري، والتي تُعتبر واحدة من أسباب التوترات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن هذا النموذج الاقتصادي الصيني يستمر في إثبات فعاليته، ما يضع الدول الأخرى أمام تحديات جدية في محاولة التكيف مع هذا الصعود السريع.
لتحقيق أهدافها الاقتصادية، تبذل الصين جهودا كبيرة للمحافظة على انخفاض سعر صرف عملتها (اليوان) مقارنة بالدولار وغيره من العملات الصعبة. هذا التوجه يمثل استراتيجية محورية لتعزيز قدرتها التنافسية في الأسواق العالمية، إذ يساهم رخص اليوان في جعل الصادرات الصينية أكثر جاذبية من حيث السعر. منذ عام 1996، أصبح اليوان قابلا للتحويل، مما عزز من مكانته كعملة تسهل التبادل التجاري وتدعم نمو الاحتياطيات الصينية من العملات الأجنبية، التي تعد الآن الأعلى عالميا.

هذا النمو في احتياطيات الصين من القطع النادر ليس مجرد مؤشر على قوتها الاقتصادية، بل هو أداة استراتيجية تمكنها من الحفاظ على استقرارها المالي وضمان مرونتها في مواجهة الأزمات العالمية. ومع اجتماع عاملي زيادة الصادرات وانخفاض سعر صرف اليوان، أصبحت الصين تعتمد بشكل كبير على الأسواق الخارجية، لا سيما الولايات المتحدة وأوروبا، لاستمرار زخمها الاقتصادي.

للصين مصلحة حيوية في أن يواصل المستهلكون في الولايات المتحدة وأوروبا إنفاقهم بمعدلات مرتفعة. قبل الأزمة المالية العالمية، كان هؤلاء "المنفقون المستهلكون" يضخون أكثر من 12.5 تريليون دولار سنويا في الاقتصاد العالمي، مما أتاح لصناعات التصدير الصينية فرصة التوسع والنمو بمعدلات مذهلة. هذا الاستهلاك المرتفع لم يكن مجرد محرك للنمو الاقتصادي في الصين، بلْ كان أيضاً عصبا أساسيا للاقتصاد العالمي، حيث شكل الطلب الغربي على المنتجات الصينية جسرا لتوسعها الاقتصادي.

إضافة إلى ذلك، يعكس هذا الاعتماد المتبادل بين الصين والأسواق الغربية تعقيد العلاقة الاقتصادية بين الطرفين، حيث تجد الصين نفسها معنية بتعزيز استقرار الأسواق الغربية لتأمين الطلب المستمر على صادراتها. من جهة أخرى، تعتمد الاقتصادات الغربية على المنتجات الصينية منخفضة التكلفة للحفاظ على مستويات استهلاك مرتفعة، مما يجعل "المنفقين المستهلكين" في الغرب أحد المحركات الرئيسية للنمو الاقتصادي العالمي. هذا التوازن الدقيق يعكس شبكة مترابطة من المصالح، حيث يشكل كل طرف جزءا أساسيا من ديناميكية الاقتصاد العالمي الحديث.

قوام السياسة الاقتصادية للدولة الصينية يتمثل في تشجيع التصدير، وهو نهج يتطلب جهودا مستمرة للإبقاء على سعر صرف العملة الصينية (اليوان) منخفضًا بشكل مصطنع. هذا التخفيض في سعر العملة يجعل السلع الأجنبية أكثر تكلفة داخل السوق الصينية، ما يؤدي إلى تقلص حجم الاستيراد وتشجيع الاستهلاك المحلي للمنتجات الصينية. نتيجة لذلك، يرتفع معدل الادخار الوطني، مما يُعزز فائضًا ماليا ضخما يُعتبر أساس القوة الاقتصادية الصينية.
بفضل هذا الفائض المالي المتأتي من تفوق حجم الادخار على الاستثمار، أصبحت الصين واحدة من أكبر الدائنين للولايات المتحدة. العلاقة الاقتصادية بين البلدين تأخذ شكلاً ديناميكياً: الصين تُصدّر بضائعها إلى الولايات المتحدة، فيتراكم لديها النقد الورقي (الدولار) الناتج عن عمليات البيع. لكن الصين لا تُعيد إنفاق هذا الدولار على استيراد البضائع الأمريكية؛ بدلاً من ذلك، تستخدمه في شراء "سندات الخزانة الأمريكية"، وهو ما يحوله فعليًا إلى قروض تُقدَّم لحكومة الولايات المتحدة.

عندما تشتري الصين السندات الأمريكية، فإنها تحول الدولار إلى ما يشبه "ودائع" مضمونة لدى الولايات المتحدة. هذه السندات تجعل الصين مُقرضا رئيسيا للولايات المتحدة، ما يعني أن أي تغيير في سياسة الصين بشأن هذه السندات يُمكن أن يُحدث اضطرابات كبيرة في الاقتصاد الأمريكي. إذا توقفت الصين عن شراء السندات، ستفقد حكومة الولايات المتحدة مُقرِضا مهما لها. وإذا قررت الصين التخلص من بعض هذه السندات، فإنها لن تحصل في المقابل على الذهب أو موارد ملموسة، بل ستحصل فقط على الدولار.

بمجرد استرداد الدولار، يمكن للصين أنْ تستخدمه لشراء بضائع من الولايات المتحدة أو من أسواق أخرى. هذا الخيار يجعل الدولار أداة متعددة الاستخدامات، تتيح للصين مرونة كبيرة في إدارة فوائضها المالية. ومع ذلك، فإن الاحتفاظ بالسندات يظل الخيار المفضل للصين لأنه يعزز نفوذها الاقتصادي والجيوسياسي، ويمنحها أداة ضغط قوية على الولايات المتحدة، خاصة في أوقات التوترات الاقتصادية أو السياسية.

السياسة الاقتصادية الصينية، القائمة على التصدير المكثف واستثمار الفوائض المالية في السندات الأمريكية، تعكس توازنا دقيقا بين التنافس والتعاون. فمن جهة، تُسهم صادرات الصين في سد احتياجات السوق الأمريكية، بينما تُتيح السندات الأمريكية للصين دورا حيويا في الاقتصاد العالمي. ومن جهة أخرى، يُظهر هذا النهج كيف تُعيد الصين صياغة قواعد اللعبة الاقتصادية العالمية، مستخدمة أدواتها بذكاء لتحقيق مكاسب استراتيجية طويلة الأمد.