من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - ما العمل - لينين 15


عبدالرحيم قروي
2024 / 12 / 16 - 15:58     

الحلقة الخامسة عشر

VI-عمل الإقتصاديين الحرفي وتنظيم الثوريين

إن ما قمنا بتحليله من مزاعم "رابوتشييه ديلو" أن النضال الإقتصادي هو الوسيلة التي يمكن استعمالها بأوسع شكل للتحريض السياسي، وأن واجبنا الآن هو إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه، الخ.، يعرب عن فهم ضيق لا لمهامنا السياسية وحسب، بل لمهامنا التنظيمية أيضا. فـ"النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة" لا يتطلب على الإطلاق - ولذلك لا يمكن أن تنشأ على أساس هذا النضال - منظمة متمركزة لعامة روسيا توحد في ضغط واحد عام جميع مظاهر المعارضة السياسية والاحتجاج والاستياء على اختلافها، منظمة تتألف من ثوريين محترفين، يقودها زعماء سياسيون حقيقيون للشعب كله. وهذا الأمر بديهي. فطابع تنظيم كل مؤسسة يحدده بصورة طبيعية محتومة مضمون نشاط هذه المؤسسة. ولذلك تكرس "رابوتشييه ديلو" مزاعمها التي حللناها أعلاه وتصبغ بالصبغة الشرعية لا ضيق النشاط السياسي وحسب، بل ضيق العمل التنظيمي أيضا. فهي في هذه الحالة أيضا، كشأنها في جميع الحالات، جريدة يقف وعيها عاجزا أمام العفوية. والحال أن تقديس الأشكال التنظيمية التي تتكون عفويا، وعدم إدراكنا لمدى ضيق عملنا التنظيمي وطابعه البدائي، وجهلنا إلى أي حد ما نزال "حرفيين" في هذا الميدان الهام، أقول أن هذا الجهل هو مرض حقيقي في حركتنا. بديهي أنه مرض نمو، لا مرض انحطاط. ولكن، في هذا الوقت الذي تدفقت فيه موجة السخط العفوي، ويمكن أن نقول ذلك، علينا نحن قادة الحركة ومنظميها، في هذا الوقت بالذات لا بد لنا بصفة خاصة أن نخوض نضالا لا يعرف الهوادة ضد كل دفاع عن التأخر، ضد كل تسويغ لهذا الضيق، لا بد لنا بصفة خاصة أن نوقظ في كل من يساهم أو يهم فقط بالمساهمة في النشاط العملي، روح الإستياء من العمل الحرفي السائد عندنا والتصميم والحزم على الخلاص منه.
أ) ما هو العمل الحرفي؟
فلنحاول الجواب على هذا السؤال بإعطاء صورة صغيرة عن نشاط حلقة اشتراكية-ديموقراطية نموذجية في سنوات 1894-1901. لقد أشرنا إلى شغف الطلبة العام في ذلك العهد بالماركسية. وواضح أن هذا الشغف لم يستهدف الماركسية بوصفها نظرية وحسب، وبالأحرى لم يستهدفها بوصفها نظرية بمقدار ما استهدفها بوصفها جوابا على سؤال "ما العمل؟"، بوصفها نداء إلى شن حملة على العدو. وقد نزل المقاتلون الجدد إلى الحملة بتدريب وعتاد بدائيين لدرجة مدهشة. وفي معظم الحالات كان العتاد معدوما تقريبا والاستعداد معدوما تماما. لقد توجهوا إلى الحرب كفلاحين تركوا المحراث لتوهم، دون أن يأخذوا معهم غير هراوة. حلقة طلاب لا تربطها أي صلة بمناضلي الحركة القدماء، لا تربطها أي صلة بالحلقات القائمة في المناطق الأخرى، وحتى في الأحياء الأخرى من المدينة (أو في المعاهد الأخرى)، دون أي تنظيم لمختلف أجزاء العمل الثوري، دون أي منهاج عمل منتظم لفترة طويلة لحد ما، حلقة تقيم صلات مع العمال وتبدأ العمل.
وتوسع الحلقة الدعاية والتحريض شيئا فشيئا وتكتسب بمجرد عملها تحبيذ فئات من العمال واسعة لحد لا بأس به، وتحبيذ قسم من المجتمع المثقف يقدم لها النقود ويضع تحت تصرف "اللجنة" جماعة من الشبيبة بعد أخرى.
وتزداد جاذبية اللجنة (أو اتحاد النضال)، ويتسع ميدان نشاطها، وهي توسع هذا النشاط بصورة عفوية تماما: فنفس الأشخاص الذين اشتركوا منذ سنة أو عدة أشهر في حلقات الطلاب وانكبوا على حل مسألة: "إلى أين نتجه؟" والذين أقاموا الصلات بالعمال وحافظوا عليها وحضروا المناشير وأصدروها، يقيمون الصلات مع فرق من الثوريين ويحصلون على المطبوعات ويشرعون بإصدار جريدة محلية ويأخذون بالحديث عن تنظيم مظاهرة وينتقلون في النهاية إلى الأعمال الحربية المكشوفة (علما بأن هذه الأعمال الحربية المكشوفة قد تكون حسب الظروف أول نشرة من نشرات التحريض أو أول عدد من أعداد الجريدة أو أول مظاهرة). وفي المعتاد تفضي بداية هذه الأعمال بالذات إلى الإنهيار التام على الفور، تفضي على الفور إلى الإنهيار التام لأن هذه الأعمال الحربية لم تأت على وجه الدقة نتيجة لمنهاج منتظم، وضع سلفا بعد تبصر وإعمال فكر، لنضال مديد عنيد، بل مجرد تطور عفوي لعمل الحلقات الجاري حسب المعتاد؛ لأن الشرطة كانت بطبيعة الحال تعرف دائما تقريبا جميع مناضلي الحركة المحلية الرئيسيين، الذين "اشتهر أمرهم" مذ كانوا طلابا على مقاعد الدراسة، ولم تكن تنتظر غير الظرف المناسب للقبض عليهم تاركة للحلقة عن عمد إمكانية النمو وتوسيع نشاطها إلى حد يكفي لكي تحصل على corpus delicti، تاركة دائما عن عمد بعض الأشخاص الذين تعرفهم لاستخدامهم "طعما" (حسب التعبير الفني الذي يستعمله، كما أعلم، رفاقنا والدرك على السواء). ومثل هذه الحرب لا يمكن أن يقارن إلا بحملة زمر من الفلاحين مسلحين بالهراوى ضد جيش حديث. ولا يسع المرء إلا أن يدهش لحيوية هذه الحركة التي كانت تتسع وتنمو وتحرز الإنتصارات بالرغم من انعدام التدريب انعداما تاما لدى المقاتلين. صحيح أن بدائية العتاد لم تكن في البدء أمرا محتوما وحسب، بل كانت أيضا أمرا مشروعا من وجهة النظر التاريخية باعتبارها شرطا من شروط جذب المقاتلين على نطاق واسع. ولكن مذ بدأت المعارك الحربية الخطيرة (وقد بدأت، في الأساس، بإضرابات صيف سنة 1896) أخذت نواقص تنظيمنا الحربي تزداد وضوحا أكثر فأكثر. فبعد صدمة المفاجأة في البداية واقتراف عدد من الأخطاء (من نوع التوجه إلى الرأي العام بوصف آثام الاشتراكيين ونفي العمال من العاصمتين إلى المراكز الصناعية في الأقاليم) تكيفت الحكومة بسرعة حسب ظروف النضال الجديدة واستطاعت أن تحشد في الأماكن المناسبة ما لديها من فصائل المخبرين والجواسيس والدرك المجهزين بجميع العتاد الحديث. وأخذت الضربات تنهال بتواتر وتشمل جمهورا كبيرا جدا من الأشخاص وتكنس الحلقات المحلية إلى درجة أن كانت جماهير العمال تفقد، بالمعنى الحرفي للكلمة، جميع قادتها، وتغدو الحركة في بلبلة شديدة ولا يعود بإمكانها أن تبقي على أية استمرارية أو أي تناسق في العمل. وقد كانت النتيجة المحتومة لهذه الظروف التي وصفناها أن انقسم المناضلون المحليون انقساما مذهلا، وأصبح تركيب الحلقات عرضيا، وانعدم الاستعداد، وضاق أفق النظر في ميادين المسائل النظرية والسياسية والتنظيمية. وقد بلغ الأمر أن أصبح العمال في بعض المناطق، بسبب النقص في رباطة جأشنا وفي سرية عملنا، يفقدون ثقتهم بالمثقفين ويتهربون منهم؛ ويقولون أن المثقفين يسببون الإخفاقات من جراء طيشهم المفرط! إن كل مطلع على الحركة ولو أقل اطلاع يعلم أن جميع الإشتراكيين-الديموقراطيين المفكرين أخذوا في النهاية يرون في طريقة العمل الحرفي هذه مرضا حقيقيا. ولكيلا يحسب القارئ غير المطلع على الحركة أننا "ننشئ" بصورة مصطنعة مرحلة خاصة أو مرضا خاصا في الحركة، نستشهد بشاهد سبق لنا أن استشهدنا به. ونرجوا أن لا نلام لاقتباسنا هذه الفقرة الكبيرة. كتب ب- ف في العدد 6 من "رابوتشييه ديلو": "إذا كان الانتقال التدريجي إلى نشاط عملي أوسع - هذا الانتقال المتعلق تعلقا مباشرا بمرحلة الانتقال العامة التي تجتازها حركة العمال الروسية- سمة مميزة… فهناك سمة أخرى لا تقل إثارة للإهتمام في مجموع آلية الثورة العمالية الروسية. نعني النقص العام في القوى الثورية القادرة على العمل، النقص الذي يشعر بوجوده في جميع أنحاء روسيا، لا في بطرسبورغ وحدها. وبمقدار ما تشتد حركة العمال بوجه عام، وتنمو جماهير العمال بوجه عام، وتتزايد الإضرابات، ويصبح نضال العمال الجماهيري أكثر صراحة، هذا النضال الذي يقوي الملاحقات الحكومية وحوادث الاعتقال والإبعاد والنفي، - يصبح هذا النقص في القوى الثورية ذات الكفاءات العالية أشد بروزا، ويترك دونما شك أثره في عمق الحركة وطابعها العام. إن الكثير من الإضرابات يجري دون أن تؤثر فيه المنظمات الثورية تأثيرا قويا ومباشرا… إننا نشعر بالنقص في منشورات التحريض والمطبوعات السرية… إن حلقات العمال تبقى دون محرضين… وإلى جانب ذلك نشعر بالحاجة الدائمة إلى النقود. وباختصار نقول أن نمو حركة العمال يسبق نمو المنظمات الثورية وتطورها. إن الثوريين العاملين هم من القلة بحيث لا يستطيعون أن يجمعوا في أيديهم التأثير في جميع جماهير العمال المضطربة وأن يضفوا على جميع الإضطرابات ولو ظلا من الانسجام والتنظيم… فالحلقات المنفردة، والثوريون المنفردون غير مجموعين، غير موحدين، لا يؤلفون منظمة موحدة قوية تخضع لنظام معين وتتطور أجزاؤها حسب منهاج"… وبعد أن يتحفظ الكاتب قائلا أن ظهور الحلقات الجديدة فورا في مكان المنهارة "يبرهن على حيوية الحركة فقط… ولكنه لا يدل على وجود عدد كاف من القادة الثوريين الصالحين تماما"، يخلص إلى هذا الاستنتاج: "إن عدم الاستعداد العملي لدى ثوريي بطرسبورغ يؤثر أيضا في نتائج عملهم. فالمحاكمات الأخيرة ولا سيما محاكمتا جماعتي "التحرير الذاتي" و"نضال العمل ضد رأس المال"(85)، قد أظهرت بوضوح أن المحرض الشاب غير المطلع على تفاصيل ظروف العمل وبالتالي على ظروف التحريض في هذا العمل أو ذاك والذي يجهل مبادئ العمل السري والذي تعلم" (وهل تعلم؟) "الآراء الاشتراكية-الديموقراطية العامة فقط، قد يعمل أربعة أشهر أو خمسة أو ستة. وبعد ذلك تحل ساعة الاعتقال الذي يستتبع في الكثير من الحالات انهيار المنظمة كلها أو قسم منها على الأقل. إذن، هل تستطيع جماعة أن تعمل بصورة مثمرة وبنجاح إذا كانت حياتها لا تزيد على أشهر؟ واضح أن من غير الجائز أن تنسب جميع نواقص المنظمات الموجودة إلى مرحلة الإنتقال… واضح أن عدد أعضاء المنظمات العاملة، وخصوصا صفاتهم، يلعبان في ذلك دورا هاما، وأن مهمة اشتراكيينا-الديموقراطيين الأولى… ينبغي أن تكون توحيد المنظمات توحيدا فعليا مع اختيار أعضائها اختيارا دقيقا".
يتبع