من أجل ثقافة جماهيلرية بديلة-غورباتشوف والغورباتشوفية -عن منتديات يساري - 10
عبدالرحيم قروي
2024 / 11 / 25 - 20:17
الحلقة العاشرة
الإصلاحية أحجبت نار التعصب القومي وغورباتشوف أعلنه
مع سيطرة السلطة الإصلاحية الخريتشوفية عام 1956 على الحزب الشيوعي السوفيتي تجلت السياسة اليمينية في كافة ميادين الحياة، وبدأت السياسة الشوفينية في استصغار القوميات المحلية.
كانت روسيا القيصرية(( سجناً شعوبياً )) أججت نار شوفينية روسيا الكبرى، واستهينت فيها القوميات الأخرى، وقمعت واستغلت. وفتحت ثورة أكتوبر العظيمة عام 1917 باب الحرية للشعوب المضطهدة في ظل النظام الأتوقراطي القيصري الذي استمر قروناً. وبهذا كانت الشعوب قدنالت حق تقرير المصير بما في ذلك تأسيس الدولة المستقلة.ومع ثورة أكتوبر أيضاً تحطم شعار(( كل السلطة للبورجوازية الوطنية )) تم التماشي مع ظروف العصر. لأن القضية القومية مع الوجود الإمبريالي لايمكن حلها إذا لم يتم تناولها مع قضية المستعمرات، هذا بسبب أن البورجوازية الوطنية لاتستطيع الصمود في وجه عمال وكادحي قوميتها دون تأسيس روابط قوية وكاملة مع الإمبريالية. لهذا السبب تزيد البورجوازية التبعية بدلاً من تحرير شعبها، لأنها مع الوجود الإمبريالي فقدت تماماً شخصيتها القومية واكتسبت شخصية مناهضة للثورة وتراجعت لعدم امتلاكها حيوية تمكنها من حل القضية القومية. ولايمكن التحرر من الاضطهاد القومي في المرحلة الإمبريالية إلا بتأمين حل ثوري حقيقي للقضية القومية، أي سيحقق بانتقال السلطة إلى الجماهير الكادحة للقومية المضهَدة. ومع ثورة أكتوبر اكتسى عظم مبدأ حق الشعوب بتقريره مصيرها اللينيني لحماً. وحتى لو كان كسب كادحي القومية المضطهدة للسلطة يعني خطوة كبيرة على صعيد تطبيق هذا المفهوم، ولكن الخطوة لاتعني كل شئ. من أجل حل حقيقي، يجب إزالة واقع القومية المضطهدة- المضطهدة، وتحقيق أخوية الشعوب والانطلاق إلى المجتمع اللاطبقي، أوبمعنى آخر: الأممية. معنى هذا كبير. ولكن كان ثمة الكثير من العوائق يجب تجاوزها. وفي مقدمة هذه العوائق شوفينيه روسيا الكبرى دون شك، وكردة فعل تطور التعصب القومي للقوميات المحلية الموروث من المجتمع السابق. ومع ثورة أكتوبر، وبعدها في أثناء تأسيس الاتحاد السوفيتي عام ( 1922 ) خُلق جو معين من الثقة بين القوميات. كانت مرحلة من خلق الثورة إبان قيامها. مع أنه من خلال وثيقة إعلان تأسيس اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، وضع الفرق بين الاشتراكية والرأسمالية من جهة، ولُفت النظر إلى عنصر الثقة من جهة أخرى :
(( هنا في المعسكر الاشتراكي ثمة ثقة متبادلة وسلام وحرية قومية ومساواة، وتعايش سلمي، وتعاون أخوي بين الشعوب )) ( ستالين- الماركسية والقضية القومية وقضية المستعمرات ص 163 )
ولكن ما يجب وضع خط تحته هو أن القوميات التي اضطهدت على يد شوفينية روسيا الكبرى لاينتطر منها نسيان الماضي إبان الثورة مباشرة، وستطرح هذه الشوفينية وإن بأشكال مختلفة. وهذه العادات والمخزونات موروثات من المجتمع السابق من غير الممكن إزالتها بلحظة واحدة. غير هذا . إن التطور غير المتساوي بين روسيا والقوميات الأخرى يسمح بعيش هذه المورثات، ولو تركت لتطورت. في هذه الحالة يجب أن يكون قد وضح أن حل القضية القومية في الاشتراكية لايتم (( بضربة سيف )) ولكنها أزالت العائق الذي يحول دون حلها .
عمل الحزب البلشفي في الاتحاد السوفيتي انطلاقاً من معرفته لهذه الحقيقة على إزالة الظروف التي خلقت التعصب القومي من جهة، ولم يهمل النضال ضد شوقينية روسيا الكبرى والتعصب القومي للقوميات الأخرى من جهة ثانية. لأن الجانب الأخطر للتعصب القومي هو نكرانه لأهمية مصالح الطبقة العاملة، وهذا يفتح الطريق أمام تعكير هدف الأممية الذي وضعه الحزب نصب عينيه.إن قضية التعصب القومي التي يواجهها الحزب في البداية ليست من النوع الذي يستخف به .
(( تطوّر تنظيمات حزبنا في أغلب الجمهوريات وتطويرها يتم في ظروف مساعدة. إن التخلف الاقتصادي لهذه الجمهوريات، والعدد القليل للبروليتاريا الوطنية، وعدم كفاية الكوادر والميليشيات القديمة وحتى عدم وجودها أحياناً، وعدم وجود أدبيات ماركسية جدية في اللغات القومية، وفي النهاية بقايا المتعصبين القوميين الراديكاليين الذين لم يجدوا فرصة تفرقهم بعد، أدى إلى الانحراف نحو المبالغة بأهمية الخصوصيات القومية، والاستصغار بأهمية مصالح الطبقة العاملة، والتوجه نحو التعصب القومي )) ( ستالين- المصدر السابق- ص 179)
لأن تطبيق( النيب ) ولّد التجارة الخاصة وتطور الرأسمال فغذى بشكل لامفر منه التعصب القومي. وهذا بقدر ما هونتيجة طبيعية ومباشرة للنيب بجانب من جوانبه، بقدر ما وضع الحزب في موضع اضطراري لاتخاذ احتياطات إزاء هذه الخطورة البارزة. وفي مقدمة هذه الاحتياطات: قيام منتسبي الحزب في الجمهوريات بتأسيس( روابط ) لنشر الماركسية في اللغات القومية. تقوية جامعة شعوب الشرق والمؤسسات التابعة لها، ورفع سوية التربية الحزبية في الجمهوريات، والعمل بين الأوساط الشبابية في الجمهوريات، وتكوين مجموعات طلابية من منتسبي الحزب إلى جانب أعضاء اللجان المركزية للأحزاب الشيوعية في الجمهوريات... ونضال الشيوعيون الروس ضد شوفينية روسيا الكبرى سيدفع شيوعيي الجمهوريات للنضال ضد التعصب القومي لهذه الجمهوريات. ولا يعتمد القمع والإجبار كآلية أساسية لهذا النضال، بل تتكون من أساليب الإقناع والتربية الطبقية البروليتارية. البورجوازية تنهج سياسة الدمج الإجباري، وتحمل هذه السياسة في داخلها القمع والإجبار بشكل غير مباشر. أما البروليتاريا فتنهج سياسة الدمج الطوعية للشعوب باتجاه هدف الأممية المعتمدة على حرية الشعوب والمساواة والأخوة. ولكن في بعض الأحيان، وفي ظل وجود السلطة الاشتراكية تتناقض مصالح البروليتاريا مع المصالح المتشكلة عبر عوالم القوميين الصغيرة. عندئذ :
(( إلى جانب حق الشعوب بتقرير مصيرها، من الأفضل تذكر حق تقوية سلطة البروليتاريا لذاتها، وارتباط حق تقرير مصيرها بهذا الحق(...) والأول يجب أن يحني رأسه للثاني.)) ( المصدر السابق- ص 2.7 )
عدم فهم هذا، وجعل التناقض بين حق الشعوب بتقرير مصيرها، والمصالح العامة للاشتراكية نوع من أنواع الهوس، هو نفسه فتح الطريق أمام التعصب القومي، ونشره وتطويره، حتى في ظروف إزالة بقايا التعصب القومي الموروث من المجتمع السابق، وإزالة الملكية الخاصة بنسبة كبيرة.
إن أصغر انحراف في الأممية يؤدي إلى السقوط في خطر التعصب القومي.بأية أشكال يُعاش الانحراف عن الأممية في الاتحاد السوفيتي؟ إذا فهمت هذه النقطة على ضوء المنظور المبين أعلاه سيسهل فهم المجريات .
بدلاً من خوض النضال ضد شوفينية روسيا الكبرى، والتعصب للقوميات الصغيرة، استصغار صراع إحداهما مع الأخرى ورؤية هذا النضال غير ضروري كان مصدر إلهام بوخارين، والأسماء الإصلاحية الأخرى فيما بعد. ويبرز ستالين خطأ بوخارين على النحو التالي :
((.. مع وجود شوفينية روسيا الكبرى( غولياتا ) فمن غير الضروري الاهتمام بالشوفينيات المحلية. بشكل عام، إن الرفيق بوخارين يشعر بالأسف إزاء الأخطاء التي ارتكبها. وليس من الصعب فهم هذا، منذ سنوات وهو ينكر لحق الشعوب بتقرير مصيره، وارتكب أخطاء بحق القوميات والآن هو الوقت المناسب لشعوره بالندم. ولكن مع شعوره بالندم هذه المرة سقط بتطرف آخر(...) في الحقيقة لم يستوعب الرفيق بوخارين القضية القومية )) ( المصدر السابق- ص 28- 29 ).
نعم، مثل بوخارين الإصلاحيين الذين تعاقبوا بعده: خريتشوف، بريجنيف، غورباتشوف. لأنهم لم يفهموا جوهر القضية القومية فكانوا سبباً لذبول الكثير من القيم المكتسبة على جبهة الأممية، وزوالها بشكل تدريجي.
يمكن للأخطاء التي ارتكبت في أثناء خلق الظروف المادية لتحقيق التطور المتساوي الحر لكافة الشعوب السوفيتية أن تكون سبباً لتطور التعصب القومي.. كان التخطيط المركزي لديكتاتورية البرويتاريا مضطراً للأخذ بعين الاعتبار التطور الاقتصادي غير المتساوي بين روسيا القيصرية وبقية القوميات، وحتى بين تلك القوميات مع بعضها بعضاً. وقد لوحظ هذا في فترة ستالين وصُرف جهد خاص لتطوير الجمهوريات الضعيفة اقتصادياً. ولكن في إطار نظرية القوى المنتجة التي برزت مع خريتشوف، حُرَّف هذا المفهوم، وكانت التوازنات المخروبة سبباً لتغذية القومية.وقد فرضت نظرية القوى المنتجة منطق سياسة الواقع في الاتحاد السوفيتي. ولأن هذا سوف يولد أولوية الاستثمار في الساحات التي تمتلك حيويات التطور الأسرع في عملية التصنيع، دخلت روسيا أولاً كما كانت عليه في السابق عملية التمييز. من جهة أخرى فرضت نفسها اللامساواه بين بقية الجمهوريات، وتزعزت روابط الأخوة التي عمل على تكوينها خلال سنوات طويلة. في هذه النقطة كان من الممكن رؤية شكلي التعصب القومي المحلي. أولهما: التحول من موقعيه الدفاع في مواجهة شوفينية روسيا الكبرى( وهذا كان يغذى ) إلى الهجومية، وهذا الشكل من التعصب القومي يأخذ حالة خطيرة. يغذى بداية انطلاقاً من طرح ظلم جمهورياتهم، ويعبرون عن مطالبهم بحقوقهم، ومن ثم تولد الهجومية وطلب الانفصال. ثانيهما: الفصل بين الجمهوريات من ناحية الأراضي الخصبة، أو التطور الصناعي، وانطلاقاً من وجود اللامساواة( أو المعطيات التي خلقت هذه اللامساواة ) بُعثت الصراعات التي كانت سابقاً( وهي صراعات ذات أبعاد لايستهان بها ).
(( الانحراف نحو التعصب القومي يبلور تدخل بورجوازيتها الوطنية لهدم النظام السوفيتي وتأسيس الرأسمالية مرة أخرى. ومنبع هذان الانحرافان( قومية روسيا الكبرى، والقوميات المحلية ) نقطة مشتركة كما رأينا هي ترك الأممية اللينينية )) ( ستالين- المصدر السابق- ص 345 ).
عندما ندرك أن نظرية القوى المنتجة. بجانب من جوانبها حضّرت قاعدة التعصب القومي، نجد أنها كونت قاعدة الرأسمالية أيضاً.
عندماتتكامل السياسة المؤججة لنار التعصب القومي، والمنبثقة عن نظرية القوى المنتجة الإصلاحية مع تراخي النضال الزدوج ضد التعصب القومي وتأسيس قاعدة الأممية، تتحول القوميات المحلية قبل كل شئ إلى مراجل تغلي. ولكن لم يتوفر في عهد بريجنيف الوسط المناسب لإعلان التعصب القومي. وبشكل عام لم يتجاوز التطور الداخلي التطور على الصعيد المحلي. ولكن بواسطة الغلاسنوست الغورباتشوفية حصل القوميون المحليون على إمكانية إيصال منشوراتهم إلى الجماهير، وعمل الدعاية، والتطور العلني. لم يكتف غورباتشوف بهذا. وفي إطار مفهومه الاشتراكي الديمقراطي فسح المجال عام 1987 لجبهات التحرير الوطني بالتنظيم. وهكذا نتيجة نظرية القوى المنتجة على الصعيد الاقتصادي فقد دفع الاتحاد السوفيتي إلى صراعات محلية، وقضايا ذات منشأ قومي لايعرف لها نهاية. وفي النقطة التي تم الوصول إليها أصبحت مسألة قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي فيها نظر. وبدأت تتوالى طلبات الانفصال وتعممت وانتشرت حالة عدم الاعتراف بقرارات الحزب الشيوعي السوفيتي، وبدأت تتوالى تباعاً الصراعات ثم نزف الدماء من الاشتراكية، والصراعات الحدودية المتبقية من عهد روسيا القيصرية حتى اليوم .
وأصبحت الأممية كلمة منسية تماشياً مع هذا التطور. استبيحت المفاهيم اللينينية مثل أخوة القوميات، وارتباط المصالح الوطنية بالمصالح البروليتارية ولم تعد تجد مؤسسة تتبناها. ومما لاشك فيه أن كل هذه الأمور تفرح الإمبريالية، وتجعلها تعد حساباتها للمستقبل القريب، ولمصالحها في اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية التي تظهر أعراض التجزئة. وكذلك اتخاذ ليتوانيا وأستونيا قرار الانفصال عن الاتحاد السوفيتي، والتقلبات التي خلقها هذا القرار يحمل خصوصية أخذ العبرة. إن عين ليتوانيا اليوم على الإمبريالية، وعين الإمبريالية على ليتوانيا. ثمة حقيقة واضحة هي أنه إذا كانت الإمبريالية تحسب حسابات توازنات القوة ولا تتدخل بشكل زائد، فهي ستنتظر تسرع التطورات ، وستبحث عن طرق الاستفادة بالحد الأعظم من هذه التطورات .
يتبع