حول نشأة الاقطاع على الصعيد العالمي في الشرق والغرب، ومفهوم -العصور الوُسطى-


مالك ابوعليا
2024 / 11 / 11 - 17:04     

مؤلف المقال: نيكولاي يوسيفوفيتش كونراد*

ترجمة: مالك أبوعليا

ظَهَرَ مُصطلح "العصور الوسطى" لأول مرة في أوروبا في القرن الخامس عشر. وقد استخدمه العُلماء للاشارة الى مرحلة تاريخية في حياة الشعوب الأوروبية بين "العالَم القديم" الذي ولّى عهده في القرن الخامس بسقوط الامبراطورية الرومانية الغربية، و"العصر الحديث" الذي اعتَبرَه الانسانيون عصرهم ابتداءاً من القرن الخامس عشر. وقد استخدَمَ الفيلولوجيون والمؤرخون هذا المُصطلح بالمعنى نفسه بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر، وحذا حذوهم جميع المؤرخين الأوروبيين اللاحقين، الذين قَبِلوا هذا المُصطلح كجُزءٍ من المفهوم الثلاثي: العصر القديم، العصر الوسيط، العصر الحديث. وهكذا، ظَهَرَ فرعٌ خاص في مبحث العلوم التاريخية يُسمّى بعلم تاريخ العصور الوسطى. إن أصل هذا المفهوم نفسه، هو المسؤول عن تحوّل التاريخ الوسيط الى تاريخٍ لبُلدان أوروبا وشعوبها، وكان هذا الفرع لا يتناول الشعوب غير الأوروبية سوى بقدر اتصالها بشعوب أوروبا. ومن خلال هذا الفرع العلمي، لا نعرف سوى القليل حول شعوب الهند أو الصين في الفترة نفسها التي تتطابق مع العصور الوسطى الأوروبية، ولا نعلم شيئاً على الإطلاق عن تاريخ اليابان. لا يُذكَرُ شعب الهون Huns الا فيما يتعلق بغزوهم قلب أوروبا. أما بلاد فارس، فلا تُذكر سوى بعلاقتها بتاريخ بيزنطة، ولا ذكر للعرب الا بعد أن صارت غزواتهم تؤثر على الوجود الأوروبي. ولا ذكر للمنغول سوى من خلال قوات سوبوتاي Subutai التي وَصَلَت هنغاريا. ولم يكَد المنغول ينسحبون من هُناك وينهار الحُكم القَبَلي الذهبي في أوروبا الشرقية، حتى اختفى المنغول من صفحات تاريخ العصور الوسطى. ويُذكَرُ الأتراك في هذا التاريخ في سياق الحروب الصليبية والفترة اللاحقة، لأنهم هزموا بيزنطة ووصلوا الى الأراضي الأوروبية. صحيح أن بعض كُتُب التاريخ العامة المُختصة بالعصور الوسطى، أو على الأقل أفضلها، تُعطي لنا لمحة موجزة عن تاريخ هذه الشعوب غير الأوروبية، ولكن هذا يقتصر عادةً على البيانات التي ذكرناها آنفاً. ولا يحتل تاريخ الهون أو فارس أو العرب أو المنغول أو الأتراك، ناهيك عن شعوب الهند والصين وكوريا واليابان وفييتنام واندونيسيا أي مكانٍ مُستقلٍّ في التأريخ العام الأوروبي للعصور الوسطى. لقد اعتُبِرَت جميع هذه الشعوب وكأنها تنتمي الى عالمٍ آخر، خارج "الكُرة الأرضية" التي تقطنها الشعوب الأوروبية. إن هذا العالَم الآخر، وفقاً لتقاليد قديمة تعود الى أيام العصور الأوروبية القديمة، يُطلَقُ عليه مُصطلح "الشرق". إن تاريخ هذا "الشرق"، يشمل تاريخ تلك الشعوب التي يُمكن اعادة بناءها نظرياً، وبالتالي فهو يشمل تاريخها القديم بقدر ما نعرفه عنها.
أدَّت الدراسة العميقة للشرق الى ظهور "التاريخ العام للشرق" الى جانب بروز فروع مبحثية، مثل "تاريخ الشرق القديم" و"تاريخ العصور الوسطى الشرقية"، حتى و"تاريخ الشرق الحديث". ولكن هذا لم يؤثر على النظرة العامة للمسألة: إذ واصَلَ مؤرخو العصور الوسطى الأوروبية الحديث عن موضوع بحثهم دون أن يُكلّفوا أنفسهم عناء بحث تاريخ العصور الوسطى خارج أوروبا.
هل هؤلاء المؤرخين على حق لأن مفهوم "العصور الوسطى" نفسه نشأ تاريخياً في أوروبا؟ يُمكننا أن نتسائل ما اذا كان لمؤرخي الشرق الحق في تطبيق هذا المٌصطلح ذو النشأة الأوروبية، على مرحلةٍ ما من تاريخ الشعوب الشرقية. في رأينا فإن لديهم ذلك الحق في استخدامه، حتى على نفس الأُسس التي يستخدم بها العُلماء الأوروبيون هذا المُصطلح.
ولنلفت الانتباه الى حقيقة تاريخية معروفة: عندما طَرَحَ الانسانيون مفهوم "العصور الوسطى"، فإنهم لم يُشيروا الى أنه مرحلة بين العالمين القديم والحديث وحسب، بل تضمَّنَ كذلك سمةً تُميّز العصور الوسطى بشكلٍ حاد عن العصور القديمة. ونحن على علمٍ كيف فُهِمَت هذه السمة التمييزية في ذلك الزمن: فقد اعتَبَر انسانيو أوروبا الغربية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، العصور الوسطى، بمثابة انحراف عن العلم والتنوير وعن مبادئ الحياة الاجتماعية التي كانت سائدةً في العصور القديمة، كما فهمها الانسانيون. لقد اعتبروها فترةً غرِقَت فيها الشعوب الأوروبية في الظلام، ومن ثم أتى "عصر النهضة" الذي أعادَ الأمور الى حالها كما كانت في العصور القديمة. إن هذه الكيفية التي يضع فيها الانسانيون العصور الوسطى في التعارض مع العصور القديمة والعصور الحديثة، باعتبارها عصوراً تختلف في مُحتواها التاريخي، هو الذي شكَّلَ العنصر الرئيسي في مفهوم "العصور الوسطى" بالنسبة للانسانيين.
كان هذا هو الحال في أوروبا. فهل كان هُناك شيء مُماثل في الشرق؟
إن الشرق شاسِع، وقد سارَ تطور العلوم التاريخية في بُلدان مُختلفة بُطُرُق متنوعة ومُعقدة. وفي أوروبا يُمكننا أن نتحدث عن العصور الوسطى مع الأخذ بالاعتبار اوروبا كُلها، أو البُلدان الأكثر تطوراً في تلك الأيام. من الصعب للغاية أن نتحدث بمثل هذه المصطلحات العامة حول الشرق. ولكن لا يزال بالامكان القيام بذلك في عددٍ من الحالات.
لننتقل الآن الى البُلدان الشرقية الأبعد عن العالَم الغربي، مثل امبراطورية التانغ في الصين، وهي الامبراطورية الأكبر والأقوى في العالم، من القرن السابع الى التاسع. في النصف الثاني من القرن الثامن، نشأ اتجاه فكري اجتماعي في امبراطورية التانغ، منذ ذلك الوقت وحتى الغزو المنغولي، أي حتى القرن الثالث عشر. وقد مثَّلَ هذا الحراك الفكري شخصيات بارزة مثل هان يو Han Yu ولو سونغ يوان Liu tsung yuan واويانغ شيو Ouyang Xiu وسو تشي Su Shi، وكان (الحراك) حاملاً للأفكار الفلسفية والجمالية والأدبية والفنية وعلمها، والتي اختلَفَت جذرياً عن التطورات السابقة في هذا الصدد. وكان شعار هذا الحراك، هو العودة الى "التعليم القديم" Ku-wen او Gǔwén.-
ما هو العصر القديم (كو) بالنسبة لأنصار هذا الحراك؟ الاجابة المُباشرة على هذا السؤال يطرحه الرجل الذي دعا الى العودة الى "التعليم القديم"، وهو الشاعر والفيلسوف هان يو (768-824). في أحد أعماله المُعنون (التقدم في التعليم) 師說, Shishuo، يُعدد المؤلفات التي يعتبرها "تعليماً قديماً"، والتي تتضمن أعمالاً لفلاسفة ومؤرخين وشعراء صينيين منذ اقدم العصور حتى نهاية امبراطورية الهان، أي حتى القرن الثالث الميلادي.
إن هذا التعداد، يُشير الى أن هان يو كان لديه فكرة دقيقة مُحددة زمنياً حول العصور القديمة. وبما أنه طَرَحَ مسألة "التعليم القديم" بالتعارض مع "التعليم الحديث" فمن الواضح أن مفهوم الحديث كان موجوداً بالنسبة له، وهو بطبيعة الحال، العصر الذي كان يعيش فيه. بمعنىً آخر، كان العصر الحديث بالنسبة لمُعاصريه، هي فترة امبراطورية التانغ، بعد قيام سلالة تانغ في بداية القرن السابع.
تصوّرَ هان يو وغيره من المفكرين، الى جانب وجود هاتين الفترتين التاريخيتين القديمة والحديثة، فترةً وسيطةً بينهما. لم يُطلَق على هذه الفترة تسمية "العصور الوسطى". ولكن وجود فكرة تُطابق هذه الفترة في تصوراتهم، هو أمرٌ لا شكّ فيه.
كان هذا المفهوم تحقيبي، ومُرتبط بالفترة بين القرنين الثالث والسابع. ولكن المُحتوى الزمني لمفهوم "العصور الوسطى" لم يكن بأي حال هو الشيء الرئيسي بالنسبة لمُفكري عصر النهضة الصيني. فقد اعتَبَرَ هان يو وغيره أن هذه الفترة الوسيطة هي أدنى مرتبةً من العصور القديمة. ولو كان الأمر على خلاف ذلك، لما حثّوا الى العودة الى "التعليم القديم"، وكانوا يُشيرون بذلك الى الفلسفة والعلوم. وقد تجلّى الموقف السلبي لمُفكري عصر النهضة في امبراطورية التانغ تجاه الماضي، بشكلٍ واضحٍ في حالة الدين.
ولنتذكّر أن "العصور الوسطى" التي كان يُشير اليها هان يو، أي الفترة من القرن الثالث وحتى القرن السادس، تميَّزَت بانتشار وترسّخ دينٍ جديدٍ في الصين، وهو البوذية. وقد بدأ هذا الدين يتغلغل في الصين انطلاقاً من امبراطورية كوشان Kushan Empire في تركستان الغربية في بداية القرن الأول الميلادي. قام نُبلاء وأباطرة التانغ انفسهم بالحفاظ على تأثير هذا الدين، وترسيخه. ويُستَدل على قوة هذا التأثير في أيام هان يو، عملية نقل عظام بوذا bone of Buddha الى الصين، وتم جلب جُزء منها الى تشانغان Chang an عاصمة الامبراطورية ووضعها في معبد القصر.
كان ردّ فعل هان يو على هذه المراسم هو نشره لدفتره الشهير (حول عظم بوذا). لقد احتجَّ على تشجيع ما اعتبره خرافاتٍ جامحة. وكتَبَ يقول: في النهاية، بوذا ماتَ منذ زمنٍ طويل. وهذه ليست سوى قطعةٌ من عظمٍ مُتحلل! انها مُجرد قذارةٍ وأوساخ. لماذا علينا أن نضعها في القصر؟"
كان هان يو يتبنّى موقفاً سلبياً جداً تجاه البوذية، وتجاه أشكال الدين السائدة في الصين في عصره. وبما أنه كان كونفوشيوسياً فقد استشهَدَ في دفتره آنف الذكر، بكلمات كونفوشيوس الواردة في كتاب لون يو The Lun Yu التي تقول: "أنا أُقدّس الآلهة والشياطين، ولكني اتجنبها قدر الامكان".
إن هذا ليس سبباً كافياً بطبيعة الحال لاعتبار هان يو مُلحداً. ولكن احتقاره للدين باعتباره مجموعةٌ من الخرافات، هو أمرٌ لا شك فيه.
لقد تعامَلَ أغلب أنصار حركة "التعليم القديم" مع الدين بنفس الطريقة. ويجب أن نتذكر أن الديانتين الشائعتين في الصين، البوذية والطاوية، كانتا في أوج ازدهارهما.
إن ما كان يُسمّى في الصين القروسطية تعاليماً "كونفوشيوسية"، كانت في الواقع تعاليماً علمانية. كانت عقيدة تهتم بالطبيعة وادراكها. وفي امبراطورية التانغ، كان النظام التعليمي الذي يُسيطر عليه الكونفوشيوسيين ذو طبيعةٍ علمانيةٍ تماماً. وكان أنصار حركة "التعليم القديم" مُمثلين لهذا الاتجاه.
لقد صاغَ هان يو أيضاً المبدأ الأساسي لهذه الحركة. فقد أطلَقَ عليها كلمة "الانسان" fen، أو "الطريق الانساني" fen tao. يميل المرء الى أن يُترجم هذا المُصطلح بكلمة "الانسانية" Humanism، وأنا أرى أن أن هذا جائزٌ حقاً، ليس فقط من الناحية اللغوية، بل ومن الناحية الجوهرية كذلك: فقد ظلَّ أنصار عصر النهضة في عهد التانغ يطرحون باصرار فكرة قيمة الانسان العُليا باعتبارها أساساً للحياة الاجتماعية والتعليم والثقافية. وقد كَتَبَ هان يو أُطروحةً خاصةً حول هذا الموضوع، أطلَقَ عليها اسم (حول الانسان) Yuan Jen.
هذا يسمح لنا بالقول، أن "مفهوم العصور الوسطى" في الشرق نشأ في فترةٍ تاريخية مُحددة، نابعة من مسارٍ تطوّرٍ تاريخيٍّ مُحدد (مثلما حصل في اوروبا). فضلاً عن ذلك، لم يكن لهذا المفهوم مضمونٌ زمنيٌّ وحسب، بل كان ذو مضمونٍ ثقافيٍّ تاريخيٍّ كذلك. على الأقل كان هذا هو الحال في تاريخ الشعب الصيني.
فهل كان هناك شيءٌ مماثل في تاريخ شعوبٍ شرقيةٍ أُخرى؟
لننتقل الآن الى العالَم الاسلامي، وقبل كُل شيء، العالَم الاسلامي في تركستان الغربية بين القرنين التاسع والحادي عشر. نحن نعلم أن هذه الفترة شهدت تقدماً عظيماً في العلوم والفلسفة والتعليم. إن القارئ على دارية بأن الفارابي وابن سينا والخوارزمي والبيروني وغيرهم من مُفكري ذلك العصر كانوا يُشكّلون الاتجاهات الجديدة في العلوم والفلسفة، بعد ان استوعبوا تُراث العالَم القديم. ولقد استقوا المعارف من جميع مصادر الحضارات القديمة العظيمة التي كانت شعوبهم على اتصالٍ معها فيما يتعلق بمصائرها التاريخية. كان المصدر الرئيسي الذي استقوا منه، هو العصور القديمة الأوروبية، وخاصةً من الفترة الهيلنستية، كما استعانوا بالمصادر الهندية القديمة. قد تؤدي الدراسات المُستقبلية الى الكشف أنهم على الأرجح مدينون للصين القديمة أيضاً ببعض المعارف-حتى وان لم يكن بشكلٍ مُباشر-من خلال تراث الشعوب القديمة في تركستان الغربية التي حافَظَت على علاقاتٍ وثيقة مع الصين القديمة. فحتى في العصور القديمة، كانت تركستان الغربية تُمثّل مُفترق طُرقٍ الى مراكز الحضارة الرئيسية، وكانت هي بحد ذاتها أحد مراكز تلك الحضارات. ولهذا السبب، فإن العلماء والفلاسفة المُتقدمين في العالَم الآسيوي الغربي-الذين كانوا انسانيين اصيلين من حيث نظراتهم الفكرية- بخلقهم التنوير والتعليم الجديدين بين القرنين التاسع والحادي عشر- تماماً مثل نظرائهم في الصين من قبلهم، والأوروبيين من بعدهم، قد تجاوزوا فترةً تاريخية تقع بين عصرهم والعالَم القديم، أو بعبارةٍ أُخرى، "العصور الوُسطى".
إن هذه الرحلة القصيرة التي قُمنا بها الى الماضي، تُمكننا من القول بأن المؤرخين الشرقيين المُعاصرين، لهم الحق الكامل في استخدام مُصطلح "العصور الوسطى"، على نفس الأساس الذي طَرَحه الانسانيون الأوروبيون بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر. وفي نفس الوقت، يبدو لنا أن هذه الحقائق تسمح لنا بطرح مسألة ما اذا كان ينبغي علينا أن نعتبر تلك المرحلة من تاريخ الشعوب الأوروبية المعروفة باسم عصر النهضة، باعتبارها تمظهراً لقانونية عامة للعملية التاريخية، والتي تظهر في لحظةٍ مُعينةٍ من تطور الحضارات العظيمة. إن هذه الفكرة تدعمها أيضاً حقيقة أن التحرك نحو "التعليم القديم"، كما تجلّى الأمر عند الصينيين والأوروبيين، نشأ في جوٍّ ثقافيٍّ حضاريٍّ سريع التطور، مع وجود فئة كبيرة من الكُتّاب والدُعاة والمؤرخين والفلاسفة، الذين كانوا مُرتبطين ارتباطاً وثيقاً بهذه الثقافة الحضارية وحياة الأوساط المدينية الأكثر تأثيراً، وقد كان تطور الطباعة عاملاً هاماً في هذا الصدد.
لا يجب علينا بأي حال، أن نُضع تعريفاً نهائياً لهذه الظواهر. واذا اتفقنا على تسميتها بعصر "النهضة"، فإن نهضة التانغ الصينية، ونهضة غرب آسيا، تتمعان بسماتٍ خاصةٍ عميقة، تُميّزهما عن بعضهما، وتميز كُلٌّ منهما عن "النهضة الأوروبية". فهل من المُبرر لنا أن نكتفي بالنظر الى الاختلافات بينها دون الانتباه الى أوجه التشابه، خاصةً وأن أوجه التشابه هذه مُتجذّرة في الجوهر التاريخي لهذه الظواهر؟
فلنقارن الآن، بين التسلسل الزمني للعصور في مراكز التطور التاريخي العالمية هذه.
بالنسبة الى الانسانيين الصينيين في امبراطورية التانغ، بدأت العصور الوسطى بعد تفكك امبراطورية هان القديمة، أي في القرن الثالث. وبالنسبة الى المُفكرين والعُلماء العِظام في تركستان الغربية وايران، فقد بدأت بعد سقوط بارثيا القديمة Parthia في القرن الثالث أيضاً. وبالنسبة الى الأوروبيين، فقد بدأت العصور الوسطى بعد سقوط الامبراطورية الرومانية الغربية، في القرن الخامس. وبالنسبة الى الانسانيين في عهد التانغ، تنتهي العصور الوسطى بعد "عودة العصور القديمة"، أي عصر نهضة التانغ. بالنسبة الى الانسانيين في غرب آسيا،، تميّزَت نهاية العصور الوسطى بظهورعصر النهضة الغزنوي Ghaznavid، والذي بدأ في القرن التاسع، وبَلَغَ ذروته في القرنين العاشر والحادي عشر. بالنسبة الى العالَم الأوروبي، انتهت العصور الوسطى مع بداية "عصر النهضة الأوروبي" الذي انطلَقَ في ايطاليا في القرن الرابع عشر وأدّى بعد ذلك الى تقدمٍ حضاريٍّ كبير في جميع أنحاء أوروبا.
فور أن نُحدد بداية العصور الوسطى في هذه المراكز التاريخية الثلاثة، يُمكننا أن نُدرِك بوضوح، انطلاقاً من المُستوى الحالي لتطور المعرفة التاريخية، المُحتوى التاريخي الحقيقي لهذه العصور الوسطى. إن العصور الوسطى، هي الفترة التي نشأت فيها الاقطاعية وترسَّخَت وتطورت.
تتباين الآراء حول نهاية العصور القديمة في الصين. فالمؤرخون الصينيون المُعاصرون يعتبرون العصور القديمة مُجتمع عبودي، ويميلون الى تأريخ سقوطه عند بداية العصر الإقطاعي، أي ليس ما قبل القرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد. إن عناصر الاقطاع بدأت تتطور في الصين قبل غيرها من الشعوب. ورُغم أن هذا أمرٌ لاجدال فيه، الا أنه ينبغي لنا أن نضع في اعتبارنا أن تفكك النظام العبودي وظهور النظام الاقطاعي الناشئ استغرَقَا زمناً طويلاً، وأنه كان بوسع عناصر النظام العبودي المُنحَل والنظام الاقطاعي الناشئ أن يتعايشا جنباً الى جنب لعدة قرون. ولهذا السبب، من وجهة نظر تاريخ المُجتمع العبودي، يُمكن اعتبار هذه القرون بمثابة المرحلة الأخيرة من العصر العبودي في تاريخ الشعب المعني، واذا نظرنا اليها بطريقة مُختلفة، يُمكن اعتبارها المرحلة الأولية من الاقطاعية. يُمكن تقييم القرون الأخيرة من عُمر الامبراطورية الرومانية بشكلٍ مُختلف. وينطبق الشيء نفسه على عصر امبراطورية الهان، أي القرنين الأخيرين قبل الميلاد وأول قرنين بعد الميلاد. إن موقف انسانيي عهد التانغ، الذين رأوا حداً فاصلاً بين العصور القديمة والعصور الوسطى في نهاية فترة امبراطورية الهان، يمنحنا المُبرر لاعتبار هذه الحُقبة بمثابة المرحلة الأضعف من زمن المُجتمع العبودي في تاريخ الصين، على الرُغم من وجود عناصر مُتطورة من الاقتصاد الاقطاعي فيها. وإن كان الحال كذلك، فإن العصور الوسطى في هذه الحُدود الزمنية المُشار اليها، تقريباً نفسها في الصين وروما-في وقتٍ أسبقَ قليلاً في الأولى، ووقتٍ لاحقٍ بقليل بالنسبة الى الأخيرة- هي زمن ترسّخ الاقطاعية وتطورها.
كانت فترة مملكة البارثيين في ايران، وهي دولة عبودية، تُمثّل العصور القديمة. وبعد سقوط مملكة البارثيين، وحلول الامبراطورية الساسانية مكانها، بدأت العلاقات الاقطاعية تترسخ تدريجياً هُنا. وكانت مملكة كوشانا Kushana في تركستان الغربية وشمال غرب الهند دولةً عبودية، وهي تُمثّل العصور القديمة بالنسبة الى هذه الشعوب. وبعد سقوط مملكة كوشانا في القرن الخامس، بدأت العلاقات الاقطاعية تنشأ تدريجياً في هذه المنطقة أيضاً.
إن العصور الوسطى في الشرق والغرب، تحمل نفس المُحتوى التاريخي: إنها فترة رسوخ وتطور الاقطاع.
إن العلم التاريخي الماركسي يُثبت أن الانتقال من التشكيلة العبودية الى الاقطاعية في ذلك الزمن كان ذو أهميةٍ تقدميةٍ عالمية. وهذا يقودنا الى النظر الى العصور الوسطى بشكلٍ مُختلفٍ عن نظرة الانسانيين. إن موقفهم، كما نعلم، كان سلبياً. لقد نَظَرَ الانسانيون الى العصور الوسطى باعتبارها عصور ظلامٍ وجهل، والتي تبدّى لهم أن الانسانية لا يُمكنها أن تخرج منها الا بالتوجه الى العصور القديمة المُضيئة.ومع ذلك، لا يُمكننا الا أن نرى في ظهور العصور الوسطى سوى خُطوةً تاريخيةً الى الأمام، وليس تقهقراً الى الخلف. إن معبد البارثينون The Parthenon اليوناني، ومعبد كيلاسا ايلورا الهندي The Kailasha Ellora ومعابد آجانتا في الهند Ajantaهي ابداعات عظيمة للعبقرية الانسانية، ولكن كاتدرائية ميلانو Milan Cathedral وقصر الحمراء Alhambra في اسبانيا ومعبد هوريوجي horyuji temple في اليابان، ليست أقل عظمة.
ما هي الأسباب التي تدفعنا اذاً، الى دراسة تاريخ العصور الوسطى على النطاق الذي طرحناه آنفاً، أي على نطاقٍ لا يشمل تاريخ الشعوب الأوروبية وحسب، بل وأيضاً تاريخ الشعوب الآسيوية وشمال وافريقيا، والعالَم المُتقدم تاريخياً في ذلك الزمن؟ بعبارةٍ أُخرى، ما هي الأسباب التي تدفعنا الى بناء تصور نظري حول تاريخ العصور الوسطى على نطاق تاريخي عالمي؟
إن لدينا لفعل ذلك أهم شيء: وجود خلفية مُشتركة واحدة لجميع تلك الظواهر. هذه الخلفية، هي نشوء الاقطاعية كشكل مُهيمن على نطاق تاريخ العالَم بأسره. ومن الناحية الزمنية، القرن الثالث هو نُقطة الانطلاق.
في ذلك الوقت، كان العالَم القديم يتمثّل على المستوى التاريخي العالمي بخمسة دُول، اذا حسبنا فقط "القُوى العُظمى" في تلك الأيام. كانت تلك الدول: امبراطورية الهان في شرق آسيا، وامبراطورية جوبتا Gupta في الهند، ومملكنة كوشانا في تركستان الغربية، والمملكة البارثية في بلاد ما بين النهرين وايران، والامبراطورية الرومانية في غرب آسيا وشمال افريقيا وأوروبا الغربية. بدأ تفكك امبراطورية الهان في نهاية القرن الثاني، وسَقَطَت بارثيا في بداية القرن الثالث. وهكذا انهارت اثنتان من أكبر قُوى العالَم العبودي القديم في الشرق في نفس الفترة الزمنية. أما القُوى الأُخرى فقد استمرَّت لزمنٍ أطول، فلم تنحَل الا في القرن الخامس.
ولكن من المعروف أن المؤرخين حين يتحدثون عن سقوط الامبراطورية الغربية في القرن السادس، فإنهم يُشيرون الى حقيقة لم تكن لها أي أهمية تاريخية: وهي خلع آخر امبراطور لروما الغربية رومولوس اوغسطوس Romulus Augustus على يد زعيم الجرمان اودواكِر Odoacer عام 476 م. وفي الواقع، أن الامبراطورية زالت عن الوجود قبل ذلك الوقت. ففي القرن الرابع انقسمت الى قسمين، شرقي وغربي، ثم بدأ الغُزاة "البرابرة" في السيطرة على القسم الغربي. وظَهَرَت علامات واضحة على تفكك الامبراطورية الرومانية حتى قبل ذلك، أي في القرن الثالث، كما تجلّى ضعفها في أنها لم تنجُ من هجمات الشعوب المُجاورة في ذلك الوقت الا بصعوبةٍ بالغة.
وعلى هذا، فلا بُدَّ من الاعتراف بأن انهيار المُجتمع العبودي القديم في القرن الثالث، كان واضحاً ليس في مركزين، بل ثلاثة من مراكزه: في الصين وايران والامبراطورية الرومانية. إن درجة وحجم هذا الانحلال، وبالتالي درجة نشوء العلاقات الاقطاعية في كُلٍّ من هذه البُلدان الثلاثة، كانت مُختلفةً الى حدٍّ كبير. كانت هذه العملية أقوى في الصين، وأضعف في ايران. وبالتالي، فإن التسلسل الزمني للانتقال الى الاقطاع في تاريخ الشعوب والدُول الفردية، وحتى في المناطق الاقليمية الأوسع، سوف يكون مُختلفاً في كُل حالة. ولكن اذا أخذنا هذه العملية ككُل، على نطاق التاريخ العالمي، فإن هذه السمات المحلية لتجذّر الاقطاع ورسوخه، لا يُمكن أن تُغيّر التسلسل الزمني العام بشكلٍ كبير.
لقد بدأ الانتقال الى الاقطاع في المركزين التاريخيين العالميين في زمنٍ لاحقٍ. سَقَطَت مملكة كوشانا في نهاية القرن الخامس، كما هُزِمَت امبراطورية جوبتا في نهاية القرن الخامس وزالَت تماماً في أوائل القرن السادس.
ولكن من الخطأ أن نتوقّع أن تتم عملية نشوء الاقطاع في مُختلف أنحاء العالَم القديم في نفس الإطار الزمني. بل أننا لا بُدَّ وأن نُدهَش من القُرب الزمني لتطور هذه العملية في ثلاثة بُلدان كُبرى في العالم القديم: شرق آسيا، والشرق الأوسط وغرب أوروبا. يُمكننا أن نحكُم على الأهمية التاريخية للتطورات التي شهدتها هذه البُلدان، من خلال حقيقة أن علامات الانهيار كانت واضحة المعالِم في القرن الرابع في كُلٍّ من مملكة كوشانا، أي الدولة التي كانت تحُدُّ بارثيا من جهة، والتي كانت مهزومةً آنذاك، وامبراطورية هان المُتفككة من جهةٍ أُخرى. وفي نفس الوقت الذي سَقَطَت فيه مملكة كوشانا في القرن الخامس، سَقَطَت امبراطورية جوبتا المُجاورة. لذلك، اذا استخدمنا المقياس التاريخي العالمي، فإن القرن الثالث ينبغي اعتباره بداية العملية التي أدّت الى نشوء الاقطاعية باعتبارها التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية السائدة.
يُمكننا أن نتتبع تاريخ العصور الوسطى على نطاقٍ تاريخيٍّ عالمي انطلاقاً من العديد من الوقائع التاريخية التي رافقَت نشوء الاقطاع، والتي كانت مُشتَرَكَةً بين الشرق والغرب. ومن بين هذه الحقائق، ظهور عدد من الشعوب الجديدة "الشابة" على الساحة التاريخية العالمية خلال هذه الفترة، أي بين القرنين الثالث والخامس. إن سكان الامبراطوريتين القويتين في العالَم القديم، الهان والرومان، بحضارتهما القديمة، والتي عانَت من غارات تلك الشعوب (الشابة)، قد أطلقَ الصينيون عليهم تسمية هو جين hu-jen، وأطلَقَ عليهم الرومان إسم البرابرة. هذين الاسمين يعنيان "الأجانب"، وفي نفس الوقت يعنيان "غير المُتحضرين". كانت هذه الشعوب، بالنسبة للصينيين بين القرنين الثالث والخامس، هم الهون Hun، والتيبتيين، والخيانبي Xianbei البدو، وشعب الجوان Juan-juan، والشعوب التُركية لاحقاً. بالنسبة للرومان في تلك القرون، كان هؤلاء هم القوطيين والفاندال والآلان Alans الرعويين واللانغوبارد Langobards والفرانكيين والهون، ولاحقاً السلافيين.
لقد تسببت بعض الشعوب التي حاصرَت الصين القديمة في القرن الرابع، الى انقسامها الى قسمين، جنوبي وشمال، حيث أقاموا "ممالكهم البربرية" في القسم الشمالي (الهون والتيبتيون وخيانبي). وساهَمَت شعوبٌ أُخرى، الفاندال والقوطيين الشرقيين والقوطيين الغربيين والفرانكيين الذين حاصروا روما القديمة في القرن الرابع أيضاً، في تفكك الامبراطورية الرومانية الى نصفين، شرقي وغربي، ثم استقروا في أراضي النصف الغربي. كان الوضع مُشابهاً في مناطق أُخرى من العالَم. ففي وقتٍ مُبكرٍ من القرن الثالث، سَقَطَت بارثيا في أيدي مجموعةٍ من القبائل الايرانية، التي أسست دولةً جديدة يحكمها الساسانيون Sassanids. أما مملكة كوشانا وامبراطورية جوبتا، فقد سَقَطَتا في القرن الخامس تحت ضربات الهيفاثالايت Hephthalite أو الهون البيض، والذين أقاموا دولتهم على الأراضي المُحتلَّة لفترةٍ مُعينة.
ولكن، لا ينبغي للسمات المُشترَكَة أن تحجب عنا الاختلافات الجوهرية في الصراعات بين الشعوب القديمة و"الشابة". ولنتذكر أن الامبراطورية الرومانية الغربية اندثرت نتيجةً للغزوات "البربرية"، ونشأت مكانها "الممالك البربرية" التي بدأت تُغيِّر الصورة كاملةً في أوروبا. وأن التاريخ اللاحق في هذه المنطقة هو تاريخ هذه الشعوب "الشابة".
كانت العملية مُختلفة في الصين: فالغزوات البربرية، لم تُدمّر الدولة الصينية، ولم تقطع وجودها. لقد ظلَّ القسم الجنوبي من البلاد خارج نطاق الغزوات. بالاضافة الى أنها لم تتحوّل الى نمطٍ بيزنطي، بل ظلَّت الصين بحد ذاتها. وحتى في القسم الشمالي، حيث تشكَّلَت "الممالك البربرية"، سُرعان ما توقفت عن كونها "بربرية"، وتحوّلَت الى ممالك صينية. استوعَبَ السُكّان الأصليون في هذا القسم من البلاد الوافدون الجُدد، ونقلوا حضارتهم اليهم. كان هذا هو الأساس الذي قامت عليه عملية استعادة الوحدة السياسية للبلاد في وقتٍ لاحق.
وعلى هذا، فقد أثّرَت "الغزوات البربرية" على عملية تطور الاقطاع بطُرُقٍ مُتنوعة. فقط كانت الشعوب "الشابة" في ذلك الزمن، في مرحلةٍ أدنى من التطور الاجتماعي التاريخي، مُقارنةً بشعوب الحضارات القديمة: فبعضها كان في أواخر مرحلة المشاعية البدائية، وبعضها كان عنده عناصرٌ اقطاعية. ولهذا السبب، انخرطَت هذه الشعوب، التي كانت على اتصالٍ وثيقٍ بشعوب الحضارات القديمة، التي كان الاقطاع عندها في طور النشوء، في هذه العملية. ولكن لعِبَت هذه الشعوب "الشابة" في بعض الحالات دوراً كبيراً، وفي حالاتٍ أُخرى لعبِت دوراً أقل.
لقد تطوَّرَت العديد من هذه القبائل، سواءاً في الشرق أو الغرب، خارج إطار الحضارات القديمة. ففي آسيا، كانت قبائل مانشو تونغوس Manchu-Tungus تقطُنُ منذ زمنٍ بعيد، المنطقة المُسمّاة الآن منشوريا، وعلى مقربةٍ منهم كان يعيش أسلاف الكوريين المُعاصرين، الذين أسسوا في القرن الأول قبل الميلاد دولتهم الخاصة في شبه الجزيرة الكورية. وفي شمال الصين عاشَ الجوجان، الذين بلغوا أوجَ قوتهم فقي القرن الخامس. وفي القرن السادس شكَّلَ الشعب التركي دولةً قويةً على مساحاتٍ شاسعةٍ من غرب الصين، خاضعةً للجوجان. وفي أوروبا كان السويبيون Suebi يقطنون الجُزء الشمالي، والسلاف في الأجزاء الشرقية والجنوبية الشرقية.
لقد تواصلَت هذه العملية فيما بعد، فجَذّبَت شعوباً عديدةً الى التيار التاريخي العام. ففي شرق آسيا، كانت هذه الشعوب التي انجذبَت الى هذا التيار، هُم اليابانيون والتانغوت Tangut وشعب الخيتان Khitan والمنغول. وفي غرب آسيا كانت هُناك قبائل تُركية مُختلفة، وفي الشرق الأوسط العرَب. وقد استقرَّت بعض هذه الشعوب على أراضي البُلدان القديمة، فأسسوا دُولهم الخاصة هُناك، واندمجوا مع السكّان المحليين أو أبادوهم، كما أسست شعوبٌ أُخرى دولاً خاصةً بهم على أراضٍ جديدة، فضمّوا بذلك مناطق شاسعةً من العالَم القديم الى التيار التاريخي العام.
كانت السمة المُشترَكَة في تاريخ شعوب العصور الوسطى، سواءاً في الشرق والغرب، هي أنها كانت تبني حضاراتها مُتأثرةً بحضارات العالَم القديم وكان بعضها وَرَثَةً مُباشرين لهذا الإرث، لأنهم كانوا يعيشون على أراضي هذه الحضارات القديمة. وبالنسبة لشعوبٍ أُخرى، كانت هذه الحضارة القديمة خارجيةً بالنسبة لهم. ولكن قوةً تلك الحضارات القديمة، كانت شديدةً، بحيث أنها جَذَبَت تلك الشعوب الى مدار تأثيرها الهائل. ولهذا، لَعِبَت الحضارات القديمة دوراً خاصاً في تاريخ العصور الوسطى.
في بداية العصور الوسطى، كان العالَم يضم خمسة مراكز تاريخية عالمية: الصين والهند ومملكة كوشانا وبارثيا والعالم اليوناني-الروماني. وكانت جميع شعوب شرق وجنوب شرق آسيا تحت تأثير الحضارة الصينية القديمة، وتأثّرَت شعوبٌ مُختلفة في الهند وتركستان الغربية بحضارة الهند، وبدورها، امتد نفوذ حضارة تركستان الغربية الى شمال الهند والى شعوب آسيا الوسطى وحتى الهند، وسادَت الحضارة اليونانية –الرومانية في أوروبا وآسيا الصُغرى وشمال افريقيا، وحتى أنها وَصَلت في الفترة الهيلنستية الى تركستان الغربية.
هذا الوضع المُعقَّد، لعبَ دوراً هاماً في تطور المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لشعوب العصور الوسطى. إن عدداً من هذه المؤسسات قد انبثقَت من المؤسسات الرديفة لها في العالَم القديم، أو نشأت تحت تأثيرها. ولهذا السبب بالذات، يصعُبُ أن نُلاحظ في هذا الاطار التاريخي أي أشكالٍ اجتماعيةٍ "نقية" ظَهَرَت في ظل تطورٍ تاريخيٍّ مُستقلٍّ عن أي تأثيرٍ خارجيّ (بالمناسبة، هذه حالة لم توجد في كُل التاريخي تقريباً). ومع ذلك، تختلف حُقبة العصور الوسطى اختلافاً جذرياً عن العصور القديمة. إن هذه الثُنائية، تَعاقُب الحضارات من جهة، وحلول الجديد محل القديم من جهةٍ أُخرى، كانت سمةً من سمات التطور الثقافي الأساسية في العصور الوسطى، وهي السمة التي أدّت الى تعقَّد الظواهر التاريخية، بل وتناقضها في كثيرٍ من الأحيان.
يَبرُزُ الدور الذي لعبته العصور القديمة في تطور العصور الوسطى، بوضوحٍ شديد، من خلال النظر في مرحلتين تاريخيتين: عندما تَبلوَرَ المُجتمع الاقطاعي في العصور الوسطى، وعندما انتَقَلَ الى مرحلةٍ جديدة لاحقة نسبياً. وقد جَرى تبلوُر النظام الاقطاعي وَسَطَ صدامٍ حاد بين القديم والجديد على كافة المُستويات، وهو الصِدام الذي أدى الى انهيار النظام العبودي الذي تُمثّله الدُول القديمة، وفي الوقت ذاته، نشوء النظام الاقطاعي الجديد، الذي ضمَّ عدداً من عناصر ثقافة الدُوَل العبودية.
لقد انكشَفَ دور الحضارة القديمة بشكلٍ واضحٍ أثناء انتقال المُجتمع الاقطاعي في العصور الوسطى الى مرحلةٍ جديدةٍ من تطوره، عندما بدأت عناصر العلاقات الجديدة في ذلك الزمن، أي العلاقات الرأسمالية الباكرة بالظهور. وكان ذلك العصر، هو الذي أُطلِقَ عليه في أوروبا "عصر النهضة". ويبدو لنا أن نفس هذه الظاهرة، بمُراعاة الظروف المحلية، يُمكن أن تنطبق على بعض البُلدان الآسيوية كذلك. لقد كان الانتقال الى الشكل الجديد، مصحوباً بنوعٍ من الابتعاد عن العصور الوسطى، واللجوء الى تلك العصور "القديمة". لقد نودِيَ بالعصور القديمة لتسهيل تطوّر النظام الجديد، الذي حَلِمَ به الانسانيون في أوروبا والصين وغرب آسيا. وكما نعلم، لم يكن هذا بطبيعة الحال، نفياً كاملاً للعصور الوُسطى، لأنه لم يكن بالامكان التخلص منها كُلياً: فقد استمرَّ الاقطاع، أي نظام العصور الوسطى في وجوده. ولم يكن بالامكان استعادة العصور القديمة كما هي: فهذا يعني العودة الى نظام العبودية.
لقد حُوفِظَ من العصور الوسطى على كُل ما يُمكن تطويره، وتمت استعارة عناصر مقبولة من العصور القديمة، بحيث يُمكنها أن تُسهَّلَ تطور الجديد. من ناحيةٍ أُخرى، نحن نعلم جيداً أيضاً، مدى عظمة هذا المظهر الجديد لتأثير العصور القديمة على عالم العصور الوسطى، وكم من الوقت استغرق، وما هي العواقب التي استتبعها في مجال الثقافة.
وهكذا، تجلّى الدور الخاص الذي لعبه تُراث العالم القديم في تاريخ العصور الوُسطى في كُلٍّ من الشرق والغرب. يُمكن لذلك التأثير، أن يُساعدنا في إقامة البناء النظري لتاريخ العصور الوسطى، بوصفها فترةً عالمية شاملة.
يُمكننا أن نُشير الى عددٍ من التطورات المُشتَرَكة. دعونا نتوقف عند واحدة من أهم تلك التطورات، وهو الدور الذي لعبه الدين والكنيسة في تاريخ المُجتمع في العصور الوُسطى.
إن ظهور الديانات العالمية في العصور الوسطى، هو تطوّرٌ لم يكن معروفاً في العصور القديمة. وكانت البوذية في شرق ووسط آسيا و تركستان الغربية من بين تلك الديانات. انتشَرَ الاسلام أيضاً في غرب وشمال افريقيا، وانتشرَت المسيحية في أوروبا وجُزئياً في غرب آسيا.
لا شكَّ أن البوذية والمسيحية نشأتا وتطورتا في العصور القديمة، ولكنهما لم تتحولا الى دياناتٍ عالمية الا في العصور الوسطى. أما الآسلام، فقد نشأَ في العصور الوسطى، ولكنه سُرعان ما صار ذو أهميةٍ عالمية. وكان الاقطاع، هو الذي أتاحَ للأديان إمكانية احتلال مثل هذه المكانة الاستثنائية، حيث كان المُجتمع الجديد، الاقطاعي، يحتاج في البداية، الى بناءٍ فوقيٍّ يُساعده على ترسيخ جذوره: وقد أمنَت البوذية والمسيحية والاسلام هذا البناء الفوقي المطلوب على نطاقٍ شامل.
إن البناء الفوقي يتألف من نظامٍ حقوقيٍّ وسياسيٍ وأخلاقيٍ ووجهات نظرٍ جمالية وفلسفة ودين. كان الدين، في العصور الوسطى، عبارةً عن منظومةٍ من الحقوق والعقائد السياسية والتعاليم الأخلاقية والمذاهب الفلسفية مُجتمعةً. لقد كان عبارة عن توليفة من بناءٍ فوقيٍّ على أساسٍ إقطاعي، على الأقل، حتى بدأت العوامل المؤدية الى ظهور الرأسمالية، بتقويض هذا الأساس. لقد ظَهرَت هذه الطبيعة العالمية الشاملة للدين في العصور الوسطى في كُل مكان.
إن البوذية ليست مُجرَّدَ عقيدةٍ دينيةٍ فحسب، بل هي فلسفة ذات نظرةٍ خاصة الى المعرفة والوجود، بالاضافة الى كونها تعاليمَ أخلاقية وعقيدةٍ حول المُجتمع والدولة، ومنظومة من وجهات النظر الجمالية التي حفَّزَت ازدهار الفن البوذي من عمارةٍ وفنٍّ ونحت وشعرٍ ونثرٍ ومسرحية.
الاسلام، ليس مُجرّدَ مجموعٍ من المُعتقدات الدينية السابقة له، بل هو كذلك عقيدةٌ سياسية، ونظامٌ من المبادئ القانونية والأخلاقية.
ويُمكن أن نقول الشيء نفسه عن المسيحية في العصور الوُسطى، فيكفي أن نقرأ كتاب (الخُلاصة اللاهوتية) the Summa theologiae لتوما الاكويني، لنقتنع بأنها تحوي على عناصرَ مُتنوعةً من البناء الفوقي، بل أنه يحتوي أيضاً على نظراتٍ اقتصادية.
ولذلك، فإن تفكك هذه التوليفة، وتحرير عناصرها الى مجالاتٍ فرديةٍ مُستقلة، كان بمثابة أحد أعراض التحرر من سُلطة الدين و وانحلال أهميته. ونحن نعلم أن العلوم الطبيعية، مثل الرياضيات والفَلَك، كان أول ما تحرَّرَ بهذه الطريقة. ولهذا السبب كان ترسخ مواقع العلوم الطبيعية وتطورها، ذو أهميةٍ ثوريةٍ حقيقية في ذلك الزمن، اذ كان ذلك بشيراً للنظام الاجتماعي الجديد.
ولكن، لا يقتصر الأمر على الجانب الايديولوجي المحض للدين. ذلك أن البناء الفوقي يخلق مؤسساتٍ نظيرةٍ يعمل من خلالها. وكانت الكنيسة، مؤسسةً دينيةً من البناء الفوقي، وبقدر ما كانت الكنيسة كذلك، فقد كانت تتسم بطابعٍ شامل. كان تطور الكنيسة بوصفها مؤسسة عامة ضخمة وقوية ومُتشعبة، سمةً جديدةً تُميِّزُ العصور الوسطى.
وهُنا، مرةً أُخرى، نستطيع أن نُلاحظ في كل حالة، تشابهاً في الظواهر بين الشرق والغرب، على الرغم من خصوصية كُلٌّ منهما. فلم تكن المسيحية هي الديانة الوحيدة التي أقامت كنيسة: فالاسلام والبوذية كانا نفس الشيء. فضلاً عن ذلك، كانت الأشكال التنظيمية لهذه الكنائس الثلاث مُتقاربة في جذورها. فقد جَمَعَت الكنيسة بين رجال الدين والموظفين الزمنيين، وكان رجال الدين مُنظمين في إطارٍ هرمي. وكان المبدأ الذي يستند اليه هذا التسلسل الهرمي، هو نفسه، أي مبدأ السُلطة.
تجلَّت سمةٌ أُخرى في ديانات العصور الوسطى. فقد كانت الكنائس الثلاث في المقام الأول، مُنظمات سياسية رئيسية، وأن تاريخ الكنائس المسيحية والاسلامية والبوذية، هو بالدرجة الأُولى تاريخ نشاطها السياسي. ولا يكاد من الضروري أن نذكر، أن هذه المُنظمات، كانت أدوات للطبقة الحاكمة، أي الاقطاعيين، يستخدمونها لاخضاع الناس الذين يستغلونهم.
إن خاصية الدين في العصور الوسطى هذه، ودوره الخاص كآيديولوجية ومنظمة كُنسية، يُمكن اضافته الى العوامل المُشتركة في حياة العصور الوسطى في تاريخ شعوب وبُلدان العالم القروسطي في جميع أنحاء العالَم تقريباً.
ولكن على الرُغم من جميع هذه السمات المُشترَكة، لا ينبغي علينا أن نُغفِلَ الفوارق الكبيرة في درجة النفوذ الذي مارسته الأديان على حياة مُختلف البُلدان الاجتماعية وايديولوجيتها خلال العصور الوسطى. ومن الأمثلة على تلك الفوارق، الدور الذي لعبته الكاثوليكية في حياة شعوب أوروبا الغربية، والبوذية في الصين. ففي الصين، لم تلعب البوذية، قط، حتى في أوج مجدها، دوراً في حياة المُجتمع، قريباً من دور الكاثوليكية في أوروبا الغربية. كان التعليم، وهو أحد أهم المجالات في الصين، بيد الكونفوشيوسيين، الذين كانوا من أنصار التعليم الزمني. كانت المدارس التعليمية والأكاديميات في أيدي الكونفوشيوسيين أيضاً، ولم تكن التعاليم البوذية توضع في الكُتب المدرسية في المدارس. وإن كان الكونفوشيوسيين، قد قرأوا تلك التعاليم، فقد كان ذلك فقط من أجل نقدها. كان الوضع في الصين في العصور الوسطى، بهذا الصدد، مُختلفاً عن الوضع في أوروبا الغربية المسسيحية وآسيا وافريقيا الاسلامية.
يُمكننا أن نُعدد ظواهر أُخرى، تؤلف دعائم أساسية موثوقة، يُمكننا من خلالها أن نبني تاريخاً عالمياً عاماً، ليس شرقي أو غربي، للعصور الوسطى. فلنذكر هُنا، ظاهرةً واحدة فقط، من أهم تلك الظواهر: تحركات الفلاحين.
لقد اكتسَبَت الحركات الفلاحية، خلال العصور الوسطى نطاقاً واسعاً لم يسبق له مثيل. وهذا أمرٌ طبيعي، لأن الفلاحين كانوا، يُشكّلون في الاقطاع، القسم الأكبر من السُكّان الكادحين، وكانوا الطبقة الرئيسية المُعادية للطبقة المُسيطرة، أي الاقطاعيين. أما الفئات المُضطهدة الأُخرى من المُجتمع، مثل الحرفيين والعمال المأجورين وعامة الناس، في المناطق المدينية، فقد بدأت في التحرك بشكلٍ مُستقل في فترة الاقطاع المُتأخر، وإن يكن نسبياً. لقد نَهَضَت هذه الفئات المُضطهدة طيلة العصور الوسطى للنضال ضد الاقطاعيين، بالاشتراك مع الفلاحين. ولهذا السبب، اتخذ الصراع الطبقي في العصور الوسطى، شكل صداماتٍ بين الطبقات الرئيسية المُتناحرة في المُجتمع الاقطاعي: الفلاحين والأسياد الاقطاعيين.
لقد دُرِسَت الحركات الفلاحية في أوروبا بشكلٍ شامل. أما في الشرق، فلم تُدرَس بشكلٍ كافٍ. الا أن نضال الفلاحين في العصور الوسطى في الشرق كان أوسَعَ نطاقاً وأكثر حدَّة، وهذا ينطبق على الصين بشكلٍ خاص.
كانت ثورات الفلاحين في العصور الوسطى، تنتهي عادةً بالفشل، إذ كان الاقطاعيون يسحقونها بوحشية. ولكن من الخطأ تماماً أن نرى هذا الجانب فقط. فبالرغم من كُل القمع الذي مُورِسَ على الفلاحين، الا أن تلك الثورات، هي التي دَفَعَت التاريخ الى الأمام في لحظاتٍ حاسمة. ويُمكننا، من خلال تاريخ الصين، أن نوضِّحَ هذه النقطة من خلال ثلاثة أمثلةٍ هامة.
اندَلَعَت ثورةٌ كاسحة، عُرِفَت بثورة العصائب الصُفُر Yellow Turban rebellion، في امبراطورية الهان عام 184 ميلادية. وشارَكَت فيها كُل قطاعات السُكّان المُضطهدة، وخاصةً العبيد، والفلاحين التابعين للاقطاعيين. لقد تم سحق الثورة، ولكنها، في ذات الوقت، قوَّضَت أُسس امبراطورية الهان وأرغَمَت الطبقة الحاكمة على التخلّي تماماً عن بقايا العبودية والتحوّل الكامل الى الاستغلال الاقطاعي. وكان هذا التحوُّل، في تلك الفترة، بمثابة خُطوة اجتماعية تقدمية الى الأمام.
وفي المثال الثاني، اندَلَعَت ثورةٌ فلاحية في امبراطورية التانغ عام 874 ميلادية، والمعروفة باسم ثورة هوانغ تشاو أو Huang Chao أو وانغ زيانجي Wang Xianzhi (ثورتين فلاحيتين في ذات الوقت التحمتا معاً). وكما هي العادة، كان الفلاحون يُشكلون أغلبية الثوار، وانضم اليهم قطاعات مُضطهدة أُخرى من السُكَّان. وتم سحق الثورة. ولكن تم الغاء شكل الاستغلال السائد آنذاك، وهو استغلال الدولة للفلاحين، وحل محله تبعية الفلاحين للوردات الاقطاعيين بشكلٍ مُباشر. كان ذلك في مصلحة الطبقة الاستغلالية بالتأكيد، ولكنه أدى الى حلول عصر ما سُمِّيَ بالاقطاع المُجزأ، أو المُبعثر، والذي تميَّزَ باستقلال اقتصادي كبير للمجالات الاقطاعية الفردية، مما سهَّلَ التطور الاقتصادي العام في البلاد. وبالتالي، كانت هذه، خُطوة الى الأمام في ذلك الزمن. فقد انتَقَلَت الطبقة الحاكمة، التي كانت تتشبث بشكل استغلالٍ اقطاعيٍّ شديد، الى شكلٍ آخر، تحت ضغط الثورة الفلاحية.
والمثال الثالث. عام 1644 اندَلَعَت ثورة فلاحية في امبراطورية مينغ، والمعروفة باسم ثورة لي زيتشينغ Li Zicheng. وقد تم سحق هذه الثورة أيضاً، بمساعدة القوات المنشورية الذين استداعهم الاقطاعيين الصينيين بعدما فشلوا في الاطاحة بها. ولكن فضلاً عن أن هذه الثورة قد أطاحت بالسُلالة الحاكمة، فقد كان لها نتيجة أكثر أهمية، الا وهي وصول الاقطاع الصيني الى مرحلته الأخيرة، وهي مرحلة الحُكم المُطلَق. أي أنها دَفَعت بالتاريخ الى الأمام.
إن هذه الأمثلة الثلاثة، على ما يبدو لنا، تؤكّد اطروحة النظرية الماركسية في العملية التاريخية: إن الشعب، أو الطبقات العاملة والمُنتجين المُباشرين، هم صانعي التاريخ الحقيقيين. ومن الطبيعي أن يتضح هذا الأمر من خلال نضال الفلاحين في الغرب أيضاً. يُمكن لهذه الأطروحة، والوقائع التاريخية التي تدعمها، أن تكون بمثابة بوصلةٍ في الكشف عن المسار المُشترك للعملية التاريخية الواحدة في الغرب والشرق.
ولكن هل كُل هذا يكفي؟ هل يكفي لبناء تاريخ العصور الوسطى؟ هل يكفي لإثبات أن الاقطاع كان سائداً في جميع أنحاء العالَم القروسطي خلال هذه الفترة، وأن الإقطاعية نشأت على أنقاض عالم العبودية القديم، وأنه خلال هذه الفترة، ظَهَرَت في آسيا وأوروبا شعوبٌ جديدةٌ على الساحة التاريخية، وأن العديد منها كان بدايةً لتبلور الأُمم الحديثة اللاحقة، وأن العملية التاريخية برمَّتها تميَّزَت بتشابك عناصر الحضارة الجديدة مع عناصر الحضارة القديمة، وأن الدين والكنيسة لعبا دوراً هائلاً في هذه العملية، وأن الجماهير ونضالها، قد أعطيا التاريخ زخماً كبيراً؟ إن وجود تاريخٍ عالميٍّ واحد، يعني وجود حياةٍ اجتماعيةٍ واحدة مُشتركة تقريباً. فهل هُناك ما هو مُشتَرَك في الحياة التاريخية لشعوب آسيا وأوروبا وشمال افريقيا في العصور الوسطى؟
لا أحد يستطيع أن يُنكر بأن شعوب أوروبا كانت على اتصالٍ وثيقٍ ببعضها البعض خلال مسارها التاريخي. ويشهد على ذلك، الوجود طويل الأمد لـ"علم تاريخ العصور الوسطى"، بالمعنى الأوروبي لهذا المُصطلح، كمبحثٍ خاص في علم التاريخ. ولا أحد يستطيع أن يُنكرَ أن المصائر التاريخية للشعوب في غرب آسيا في الهند كانت مُتشابكة بطريقة وثيقة، مما أدّى أنه ظهَرَ منذ أمدٍ بعيد فرع "علم تاريخ الشرق" أو "تاريخ الشرق في العصور الوسطى". كما كانت شعوب الشرق الأقصى وجنوب شرق آسيا مُترابطةً بشكلٍ وثيق. ولكن ماذا عن الحياة التاريخية المُشتركة للشرق والغرب ككُل، هل كانت هذه موجودة؟
لننتقل الآن الى المسائل التي نعرفها جيداً، الى العالم القديم. لم تكن اليونان القديمة دولةً أوروبيةً وحسب، بل أن مُستوطناتها في آسيا الصُغرى جعلتها دولةً آسيويةً كذلك. تشهد الحروب اليونانية الفارسية بوضوح، على القُرب الشديد بين تاريخ اليونان وتاريخ شعوب الشرق الأوسط. ولم يعُد تاريخ الغرب في عصر الاسكندر المقدوني تاريخاً للغرب وحده، بل تحوَّلَ أيضاً الى تاريخٍ للشرق. فضلاً عن ذلك، لم يكن هُناك، في العالم الهيلينستي الذي تشكَّلَ بعد حملات الاسكندر، انقسام بين الغرب والشرق. كانت اليونان الأوروبية، ومصر الافريقية، وسوريا في غرب آسيا، وباختريا في تركستان الغربية أقساماً مُتساويةً من هذا العالَم.
من الصعب أيضاً أن نفصل بين الشرق والغرب في العصر الروماني. فلم تكُن الامبراطورية الرومانية دولةً أوروبيةً بأي حالٍ كان، سواءاً جُغرافياً أو سياسياً أو ثقافياً. وحتى الدين، كان خليطاً شرقياً وغربياً في الامبراطورية الرومانية في القرون الأخيرة من وجودها، فقد كان هُناك عبادة ميثرا Mithraism (عبادة ايرانية قديمة ما قبل زرادشتية) والمسيحية. ومن المعروف أيضاً مدى ارتباط تاريخ روما بتاريخ الشعوب الآسيوية وشمال افريقيا المُحيطة بها.
كيف كانت امبراطورية كوشان Kushan؟ كانت هذه الامبراطورية 30 ق.م- 370 م، تقع في وسط آسيا بحيث أنها تنتمي الى الشرق. ولكنها كانت تشمل على أراضي باختيريا السابقة، وهي دولة ذات ثقافة هلنستية، وكانت تحكم أراضي أفغانستان الحالية وقسماً من شمال غرب الهند، وكانت على اتصالٍ دائمٍ بامبراطورية هان الصينية، وانتقلت البوذية من كوشان الى الهان. كانت امبراطورية كوشان في أوج ازدهارها بمثابة مُلتقىً للحضارات الايرانية والهندية واليونانية والصينية، مما ساهمَ في اثراء الثقافة المحلية. وكدليلٍ على ذلك، يكفينا أن نذكر فن غاندارا Gandhara والذي نستشف فيه ملامح الفن الهندي وعناصر الفن الهلنستي وأصداء الفن التصويري في الصين القديمة. وقد تجسَّدَ هذا المزج بين الثقافات المُختلفة في أن الامبراطور كانيشكا الأول Kanishka في أوج ازدهار امبراطوريته، كان يحوز على اربعة ألقاب: ابن السماء Devaputra (لقب هندي)، وملك الملوك Shaonan shao (لقب صيني) وقيصر (لقب روماني) وماهاراجا (لقب هندي). ولننتقل الآن الى امبراطورية هان 206 ق.م-220 م. ولنذكر أن تاريخها كان مُتشابكاً بشكلٍ وثيقٍ مع تاريخ الشعوب في شبه الجزيرة الكورية وجنوب شرق آسيا و"المنطقة الغربية"، وهي المنطقة التي كان الصينيون يُحددونها بتركمانستان الشرقية وغرب آسيا. ناهيك عن تاريخ القبائل "البربرية" العديدة التي كانت تقطن شمال وشمال غرب الحدود الصينية: فتاريخ هذه القبائل مُدرَج بشكلٍ مُباشرٍ فيما يُسمّى بسجلات السُلالات الصينية. على سبيل المثال،، يحتوي كتاب (تاريخ سلالة الهان اللاحقة) Ho Han-shu والذي نُشِرَ في القرن الخامس الميلادي، على أقسامٍ تصف تاريخ شعوب شبه الجزيرة الكورية و"المنطقة الغربية". ومن خلال تركستان الغربية، اتصل الشعب الصيني أيضاً بشعوب الهند وغرب آسيا. ولقَد عَرَفَ الصينيون حتى حول أرض تشين العظيمة Ta Ch in: هذا هو المُسمى الذي أطلقوه على الامبراطورية الرومانية. كما عَرَفَ الرومان القُدماء عن "أرض الصين" في مكانٍ ما في الشرق الأقصى، فقد عرفوا أن الأقمشة الحريرية التي جلبها التجار الشرقيون الى روما كانت تأتي من ذلك البلد. كما حاولت الدولتان، في بعض الأحيان، إقامة اتصالاتٍ مُباشرة. فقد أُرسِلَت بعثة الهان الى روما في القرن الأول الميلادي، ولكنها لم تصل الى روما، بل زارت سوريا الرومانية. وعندما هَزَمَ ماركوس اوريليوس البارثيين وَوَصَلَ الى شواطئ الخليج الفارسي، أرسَلَ بعثةً الى الصين، وذهَبَت البعثة الى هُناك عن طريق البحر-عبر المُحيط الهندي، ومن ثُم براً الى لويانغ Loyang، عاصمة امبراطورية الهان. وهكذا، كانت هناك علاقات تجارية بين الامبراطوريتين العظيمتين، وقد استمرت هذه العلاقات على طول "الطريق الشمالي القارّي"، عبر بُلدان غرب آسيا، وعلى طول "الطريق الجنوبي البحري"، من الخليج الفارسي الى فييتنام.
نحن نذكر هذه الحقائق المعروفة لنُذكّر القارئ بأنه كان يوجد حياة تاريخية مُشتركة بين الشرق والغرب في العالم القديم. وفي العصور الوسطى، لم يختفِ هذا المُجتمع التاريخي، بل ازداد حجمه وتنوَّعَ مُحتواه. ويُمكن اثبات ذلك بسهولة من خلال القيام بمُراجعة سريعة للأحداث الرئيسية في العصور الوسطى.
في بداية العصور الوسطى، نجد تمظهر الحياة التاريخية المُشتركة بين الشرق والغرب، في تاريخ الهون Huns.
لقد انتقل قسم من قبائل الهون من موطنه القديم في نهاية القرن الثاني نحو الغرب، وتوقفوا لفترةٍ من الزمن في آسيا الوسطى، ومن ثم تحركوا. وقد هاجمَت إحدى هذه المجموعات القَبَلية التي يُطلق عليها المؤرخون الاوروبيون الايفثاليت Ephthalites أو الهون البيض، هاجمَت امبراطورية كوشان في القرن الخامس، وبعد ذلك بفترةٍ وجيزة، أخضعت مملكة جوبتا الهندية أيضاً. وانتقلَت مجموعة أُخرى من الهون الى بحر قزوين، واحتلت ساحله الشمالي حتى سفوح جبال الأُورال الجنوبية، ثم اختلطت بالقبائل الخاضعة، وانتقلَت الى الغرب، وأقامت في النصف الثاني من القرن الرابع دولتها في سهول الفولغا السُفلى والدون وشمال القوقاز. وفي نهاية الرُبع الأخير من القرن الرابع، عَبَرَ هؤلاء الهون نهر الدون-حدود السُلطة القوطية، وهزموا القوطيين الشرقيين Ostrogoths، ثم انتقلوا الى نهر الدنيستر، وهزموا القوطيين الغربيين Visigoths، ووصلوا الى حدود الامبراطورية الرومانية. وبدأ هجوم الهون على روما في القرن الخامس، مما أدى الى انتقال مركز دولة الهون الى قلب أوروبا، الى بانونيا، التي كانت مُقاطعةً رومانية في الغال، والتي سلموها الى الهون.
اذاً، أين يُمكننا قراءة تاريخ الهون؟ في الشرق؟ في الغرب؟ في شرق آسيا؟ في تركستان الغربية وغرب آسيا؟ في الهند؟ في أوروبا الشرقية؟ في أوروبا الوسطى؟ لا يُمكن للاجابة سوى أن تكون واحدة: في جميع أنحاء العالم القديم، من المُقاطعات الشمالية للصين، الى المقاطعات الغربية لروما. هل يُمكن رسم حدود تاريخ الهون بطريقةٍ أُخرى، سوى تلك الحدود التاريخية لشعوب العالم القديم في العصور الوسطى؟
إن حالة الهون تُثبتُ بوضوح استحالة بناء هذا التاريخ ضمن حدود الشرق أو الغرب كُلٌّ على حدة. إن تاريخ بعض الشعوب الأُخرى التي ظَهَرَت على الساحة التاريخية في العصور الوسطى، مثل الأتراك والمغول والعرب، يتجاوز هذه الحدود أيضاً.
يبدأ تاريخ القبائل التركية، في آسيا، في منطقة ألتاي. ففي القرن السادس الميلادي، شكَّلَت ذه القبائل تحالفاً قَبَلياً، أطلَقَ عليه المؤرخون الغربيون اسم "الخانية التُركية" Turkic Khaganate. في هذه الفترة، كانت دولة الأتراك شاسعةً تمتد من جبال خينجان في الصين Khingan Mountains الى سوجديانا Sogdiana في تركستان الغربية، والتي انتزعها الأتراك من الهون الايفثاليتيين. كان مركز هذه الخانية، على ضفاف نهر أورخون Orhon River في شمال منغوليا المُعاصرة..وحتى في ذلك الزمن، كانت هذه الدولة، عبارة عن اتحاد غير مُستقر من القبائل البدوية، مُقسمةً قي الواقع الى قسمين ضعيفي الارتباط، شرقي وغربي، كان لكُلٍّ منهما خانيته الخاصة به. ولهذا السبب، سارَ التطور اللاحق لتاريخ الأتراك في طريقين. فقد استمر تاريخ الأتراك الشرقيين مُلاصقاً للتاريخ الصيني. لقد هاجَمَ الأتراك شمال الصين منذ بداية القرن السادس. واضطر الصينيون إما الى صدهم بقوة السلاح، أو تهدئتهم بالهدايا والعطايا. واستمرت الاشتباكات طوال القرنين السادس والسابع، وكانت اشتباكات حادة لدرجة أن "الخطر التُركي" كان يُشكّل تهديداً جدياً على الصين.
منذ بداية القرن السادس، أي اثناء وجود دولةٍ تُركيةٍ واحدة، أخضَعَ الأتراك الغربيون تُركستان الغربية، وحتى بلاد فارس، وأقاموا علاقاتٍ مع بيزنطة، وانخرطوا مع هذه البُلدان المُتحضرة القديمة، في تجارةٍ نشطةٍ ربطَت الشرق بالغرب.
لا داعي لاستعراض تاريخ القبائل التُركية الغربية، فهو تاريخٌ معروفٌ جيداً. في القرون اللاحقة، نجد دُولاً تُركيةً في غرب آسيا والهند وأوروبا. الى أي جُزءٍ من العالم القديم ينتمي تاريخ الأتراك؟ هل كانت امبراطورية تيمورلنك Tamerlane آسيويةً فقط؟ هل كانت الامبراطورية العُثمانية آسيويةً فقط؟ هل يُمكن بشكلٍ عام، طرح تاريخ الشعوب التركية خارج إطار تاريخ الشرق والغرب معاً؟
إن تاريخ العرب، هو تاريخٌ للشرق والغرب على حدٍّ سواء. ففي العصور الوسطى، كانت الدُول العربية تمتد كسلسلةٍ من شبه الجزيرة العربية وتركستان الغربية، على طول ساحل شمال افريقيا الى المُحيط الأطلسي، ومن هُناك، تطاولت الى شبه الجزيرة الأيبيرية. إن تاريخ هذه الدول، لم يكن تاريخاً للعرب وحدهم فحسب، بل كان تاريخاً لشعوب تركستان الغربية وحتى شمال الهند. كما أن تاريخ العرب مُرتبط أيضاً بتاريخ أثيوبيا. ويرتبط تاريخ العَرَب في غرب آسيا ارتباطاً وثيقاً بتاريخ بيزنطة وحتى بُلدان أوروبا الغربية. إن علم التاريخ الأوروبي يتناول تاريخ العرب في شبه الجزيرة الأيبيرية. وبنفس القدر، من المُستحيل أن نرسم حدود تاريخ الخلافة القُرطبية في اسبانيا، بمعزلٍ عن تاريخ اسبانيا والمغاربة.
وعلى نحوٍمُماثل، لا يُمكننا استعراض تاريخ المغول في حدود تاريخ الشرق وحده. ذلك أن الامبراطورية المغولية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، والتي امتدت من المُحيط الهادئ الى الحدود الغربية لأُوروبا الشرقية، تُشكّل تطوراً شرقياً وغربياً على حدٍّ سواء. من الصعب أن نتصور أن المغول في عهد جنكيز خان أو قوبلاي خان كان بوسعهم أن يتصوروا أن هُناك حدوداً تقسم مُمتلكاتهم الى "شرقية" و"غربية". وجديرٌ بالذكر، أن مفهوم "الشرق" تشكَّلَ في أوروبا، ولكن الشعوب الآسيوية لم تكن لديها فكرة "الغرب" في العصور الوُسطى. فمفهوم "الغرب"، بوصفه مفهوماً نقيضاً لـ"الشرق"، لم يظهر عند الصينيين واليابانيين الا في الفترة الأخيرة، ويرجع أصل ذلك، الى معرفتهم بالكلمة الأُوروبية "شرق" بمعناها الأوروبي تحديداً.
إن تاريخ بعض الشعوب لا يُمكن أن يُفهَم سوى في إطار التاريخ العالمي. وهذا لا ينطبق فقط على تلك الشعوب التي نشأت في آسيا، بل ينطبق أيضاً على بعض الشعوب الأُوروبية. فلنذكر تاريخ بيزنطة، أو تاريخ روسي الكييفية أو الموسكوفية. فهل يُمكن أن نستعرض تاريخ بيزنطة دون تاريخ بلاد فارس أو الخلافة العربية أو تُركيا؟ وهل نستطيع أن ندرس تاريخ كييف وموسكو دون أن نتطرق الى الامبراطورية المغولية أو دولة تيمورلنك؟
إن الحياة التاريخية لشعوب الشرق والغرب، كانت مُتشابكة في العصور الوُسطى، وهذا أمرٌ لا شك فيه. وقد اختَلَفَ مدى هذا التشابك في أزمنةٍ مُختلفة وشعوبٍ مُختلفة سواءاً من حيث الدرجة أو المُحتوى. وفي بعض الأحيان كان غائباً. ولكن اذا تناولنا تاريخ الشعوب الشرقية والغربية في العصور الوسطى ككُل، فإن هذا التشابك حاضر في كُل مكان.
إن تاريخ الشعوب، كُل شعبٍ على حدة، مُرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ العام، طالما أن العديد من العمليات التاريخية التي تجري في إطار تاريخ إحدى الشعوب أو مجموعاتٍ منها، لا تظهر في منظورها الحقيقي سوى في إطارٍ عامٍ كهذا.
كيف يُمكننا أن نبني هذا التاريخ العام للعصور الوُسطى؟ كيف يُمكننا أن نتجنب جعله مجموع تواريخ البُلدان أو الشعوب الفردية، أو في أفضل الأحوال، تحويله الى خُلاصةٍ عامةٍ لتلك التواريخ؟ كيف يُمكننا بناء هذا التاريخ، بحيث نحصل على تاريخٍ عامٍّ حقيقي لبُلدان وشعوب العصور الوُسطى؟
لا يُمكن لتاريخ العصور الوسطى العالمي أن يكتمل، الا إذا أخذنا بالاعتبار السمات الخاصة به، التي تُميّزه عن تاريخ الشعوب والبُلدان الفردية أو تاريخ مجموعات مُحددة من الشعوب. يبدو لنا أنه تَسهُلُ صياغة بعض مهام هذا التاريخ العالمي، بسهولة.
تتلخص إحدى هذه المهام، في الكشف عن مُحتوى وأهمية كُل حَدَث تاريخي يؤثر في عدة بُلدان أو شعوب، أو مجموعة من البُلدان والشعوب، أو حتى في تاريخ الشرق والغرب ككُل، ليس من منظور أحد المُشاركين في هذا الحَدَث، ولكن من منظور التاريخ العالمي.
لنأخذ حقيقةً تاريخيةً واحدةً كمثال.
إننا نعرف الحرب الصليبية وتاريخها. ولكن الطريقة التي نتبعها في وصف هذه الأحداث المُسماة "حروباً صليبية"، يُشير وكأنها تُطرَحُ من وجهة نظر أوروبا. ولن يُغير استبدال مُسمّى "الحروب الصليبية" بمُسمّىً آخر شيئاً في طريقتنا "الأُوروبية" في مُعالجة هذه الأحداث.
ومع ذلك، فإن الحروب الصليبية هي أحداثٌ تُشكل جُزءاً من تاريخ الشعوب الشرقية كذلك، ويُمكن طرحها من هذا الجانب أيضاً. ولنتصور أن مؤرخاً مُسلماً يصف هذه الأحداث. فسوف يتحدث عنها بطريقةٍ مُختلفةٍ عما يطرحه المؤرخين الأوروبيين. ورُبما يطرحها باعتبارها "دفاعاً ضد غزو الكُفَّار"، أو ربما باعتبارها "تاريخ تقدُّم الاسلام نحو الغرب"، وما الى ذلك. إن تناول هذه الأحداث من زاوية التاريخ الأُوروبي، أمرٌ مُبررٌ تماماً، ولكن فقط بالنسبة لتاريخ أوروبا. من المُبرر أيضاً تناولها من منظور تاريخ العرب والأتراك لاحقاً. ويتعيَّن على أي مؤرخ للعصور الوسطى، أن يتناول هذه الأحداث بطريقةٍ مُختلفة: فلا ينبغي أن ينظر اليها من زاوية هذه الوجهة أو تلك، بل من الأعلى، أي بالاستقلال عن كِلا الجانبين، بالطبع، من منظور مادي تاريخي. وفي هذه الحالة فقط، سوف تظهر هذه الأحداث أمام المؤرخ في ضوءها التاريخي العام، أي في سياقها الصحيح.
دعونا نأخذ مثالاً آخر، فنحن نعرف الأحداث المُتعلقة بالغزوات المنغولية في أوروبا الشرقية، ونعلم حول أحداث نضال الشعب الروسي ضد الغُزاة وسقوط دولتهم. يُمكننا أن نُصوِّرَ هذا السقوط باعتباره خلاصاً من نير المنغوليين، وهذا ما ينبغي فعله عند كتابة تاريخ الشعب الروسي. ويُمكننا أن نتحدث حول هذا السقوط، باعتباره انقاذاً لشعوب أوروبا الغربية من خطر المغول،وهذا ما يتم في تاريخ هذه الشعوب. ولكن مؤرخ العصور الوُسطى، سوف يرى في الوقت نفسه، النضال الدؤوب الذي خاضه الشعب الصيني ضد الغُزاة المغول، وهو النضال الذي أدى الى تحررهم، ونضال شعوب غرب آسيا ضدهم، وسقوط الحُكم المغولي في هذه المنطقة من العالَم القديم، والمُقاومة البطولية التي أبداها الشعب الروسي الذي نالَ حُريته في نضالٍ طويل الأمد. سوف يرى المؤرِّخ هذه الحقائق مُجتمعةً، وسوف يتكشف لديه المعنى الحقيقي لهذه الأحداث، وهي انهيار الامبراطورية المغولية العالمية، وبدايةً تطورٍ جديد للشعوب التي كانت مُقيَّدةً لفترةٍ من الزمن بحُكم الغُزاة.
هذه هي إحدى مهام تاريخ العصور الوُسطى: الكشف عن مُحتوى وأهمية جميع الأحداث، من وجهة نظر تاريخ عالمي واحد.
هُناكَ مهمة أُخرى، هي إبراز دور كُل شعبٍ في العملية التاريخية العامة في العصور الوسطى. ويُمكن تحقيق ذلك بطريقتين: الأولى، من خلال تتبع تاريخ كُل شعب باعتباره ظاهرةً مُستقلَّلة، وليس مُلحقاً بتاريخ شعبٍ آخر، والثانية، من خلال الكشف عن التشابك والتفاعل بين تاريخ كُل شعب بتاريخ الشعوب الأُخرى. إن هذين الجانبين، لا بُدَّ وأن يُرافق كُلاً منهما الآخر، ويكمل أحدهما الآخر. فلا ينبغي لنا مثلاً، أن نستعرض تاريخ العرب منذ اللحظة التي واجهتهم فيها الشعوب الأوروبية، بل لا بُدَّ وأن نستعرض تاريخ القبائل العربية في العصور الوسطى بأكملها. ولكي لا يتحول هذا التاريخ الى تاريخ العرب لوحدهم، فلا بُدَّ وأن نتناوله في سياق الدور الذي لعبه العرب في حياة العصور الوسطى التاريخية العامة.وعندئذٍ، سوف يظهر تاريخ العرب باعتباره عملية ظهور القبائل العربية المُتنوعة على المسرح التاريخي العالمي، وعملية انتشارها على قسمٍ كبيرٍ من العالَم القديم، أي من شبه الجزيرة العربية الى ساحل المُحيط الأطلسي الى اندونيسيا، وعملية تشكَّل العديد من القوميات العربية التي أقامَت دولها الخاصة، وعملية تداخلها مع تاريخ شعوب أوروبا وآسيا الأُخرى.
إن العصور الوُسطى في تاريخ الشعب الروسي، سوف تظهر أيضاً في ضوءٍ خاص أمام المؤرخ. وسوف يرى فيها تقارب واندماج عددٍ من القبائل السلافية الشرقية، وتحولها الى عاملٍ قويٍّ في تاريخ العالَم، وإقامة دولة سلافية شرقية، بوصفها مُفترق طُرقٍ بين تاريخي الشرق والغرب، والنتائج المُترتبة على ذلك: الحاجة الى خوض صراعٍ من أجل بقاءها، والتطور باتجاهين: شرقي وغربي. وسوف يرى المؤرخ إقامة دولةٍ لاحقةٍ أصبحت في القرن السادس عشر دولةً عُظمى تجاوزَت الأورال، وأرسَت أُسسَ دولةٍ مُتعددة القوميات، لا يُمكن تقسيمها الى شرقٍ وغرب، مُترافقةً مع كُل النتائج التي أحدثتها على مسار التاريخ العالمي في المُستقبل.
إذاً، يُمكن القول ان استعراض تاريخ كُل شعب على حِدة في ضوء مكانه ودوره في العملية التاريخية العامة، هي مهمة من مهام علم تاريخ العصور الوسطى.
ولكن هذه المهمة، بحد ذاتها، تُثير مُشكلةً أُخرى، وهي تتبع وكشف العملية التاريخية القروسطية العالمية ككُل. وهذه هي المُشكلة الأكثر صعوبةً وإلحاحاً على الإطلاق. وليس من المُبالغة في شيء، القول، بأنه لا يُمكن سَبر أغوار تاريخ العصور الوسطى ما لم يتم حلها.
إننا ننظر الى العصور الوسطى باعتبارها فترةً ظهور وتطور النظام الاقتصادي الاجتماعي الإقطاعي، الذي حلَّ محل التشكيلة العبودية. ولكن الدراسة الدقيقة لتاريخ الشعوب في العصور الوسطى تُبرز بوضوح عدة حقائق لا تقبل الجَدَل: إن نشوء الاقطاع في مُختلف بُلدان العالَم في العصور الوسطى، كان مُختلفاً من حيث الزمن، وكانت مُختلفةً أيضاً الظروف التي أدت الى نشوءه، وأخيراً، كانت أشكاله مُتنوعة، في حين كان جوهره الاقتصادي-الاجتماعي، بشكلٍ عام، واحداً.
إن التاريخ العام للعصور الوسطى، وحده، هو الذي يستطيع أن يكشف ويُفسر جميع هذه الظواهر، من خلال دراسة تاريخ الشعوب والبُلدان كُلٌ على حِدة، وفي الوقت نفسه، تاريخ هذه الشعوب والبُلدان مُجتمعةً. وبدون هذا التاريخ، يُصبح مُستحيلاً إيجاد السبب الذي جَعَلَ الاقطاعية تترسخ في بلدٍ ما قبل غيره، ولماذا ترسَّخَت في بعض البُلدان بهذه الطريقة وليس تلك، ولماذا كانت الاقطاعية أكثر استقراراً وتطوراً هُنا أكثر من هُناك. يستحيل، دون إجراء دراسة عامة، تحديد الأمر الأكثر جوهريةً: كيف اندَمَجَت جميع هذه الأشكال التاريخية المُتعددة، في عمليةٍ تطورٍ تاريخيٍ واحدة. بعبارةٍ أُخرى، ما الذي جَعَلَ النظام الاقطاعي ينشأ في العصور الوسطى، وما الذي كانَ دافعاً لتطوره الهائل، وما الذي أدَّى الى انحلاله، والى سقوطه في النهاية.
دعونا نستعرض المسار العام للعملية التاريخية العالمية خلال العصور الوُسطى. سوف نجد، على الفور، أن الشرق لَعِبَ دوراً تقدمياً لفترةٍ طويلةٍ في التاريخ المُشتَرَك للشرق والغرب. أما العمليات التي أصبَحَت فيما بعد، مُشتركةً بين الغرب والشرق، فقد بدأت في وقتٍ سابقٍ في الشرق.
على سبيل المثال، بدأ هجوم "البرابرة" على الدول المُتحضرة القديمة، في الشرق: فمنذ القرن الثالث قبل الميلاد، كان على الصينيين أن يُقيموا تحصيناتٍ مُختلفة لحماية أنفسهم من الغزوات من الشمال. وكانت تلك بداية ما أصبَحَ فيما بعد، سور الصين العظيم. أما سور تراجان Trajan الذي كان يقع على الحدود الشمالية الشرقية للامبراطورية الرومانية، لم يُبنى الا في القرن الثاني الميلادي.
إن تحركات القبائل، التي شَمِلَت آسيا وأوروبا وأدت في نهاية المطاف الى ظهور قوميات ودُول جديد، أو بعبارةٍ أُخرى، أعظم تطور تاريخي ميَّزَ الفترة الأُولى من العصور الوُسطى، قد بدأت في الشرق، قبل فترةٍ طويلة من بدئها في الغرب. فقد تم دفع قبائل الهون الى الوراء من الحدود الشمالية لامبراطورية الهان في نهاية القرن الأول الميلادي، ووصَلَ هذا التحرك الذي قام به الهون الى أوروبا، والذين دَفَعوا بدورهم، قوطيي البحر الأسود غرباً، نحو الامبراطورية الرابعة، في القرن الرابع.
لقد بدأت الممالك "البربرية" الجديدة في الظهور في الشرق قبل الغرب: فقد ظَهَرَت على أراضي شمال الصين في بداية القرن الرابع، في حين لم تظهر الا في القرن الخامس في أوروبا على أراضي الامبراطورية الرومانية الغربية. لقد بدأ الاقطاع في النشوء في الشرق قبل أوروبا. وعلى نحوٍ مُماثل، ظَهَرَت العناصر الأولية للرأسمالية في المُجتمع الاقطاعي في الشرق قبل ظهورها في الغرب. وهُناك مؤشر آخر على الدور القيادي للشرق، يتمثل في حقيقة أن أكبر الدول وأقواها في ذلك العصر، نشأت في الشرق، على ضوء التطور الباكر والواسع النطاق للاقطاعية هُناك.
وأخيراً، يُمكن الاشارة الى مؤشرٍ آخر، يدل على الدور القيادي الذي لعبه الشرق في العصور الوسطى: التفوق الثقافي للشرق على الغرب في تلك الفترة. لا جدالَ في أن الشعوب الصينية والهندية والعربية والايرانية وشعب تركستان الغربية في ذلك العصر كانت مُتقدمةً على الغرب في العديد من مجالات التكنيك والثقافة المادية، وخاصةً في الفنون والقانون والنظريات السياسية والفلسفة والتاريخ والعلوم والأدب، وكانت هذه الثقافات لزمنٍ طويل، أكثر ثراءاً في مُحتواها الثقافي من المجالات الثقافية النظيرة لها في الغرب.
والى جانب كُل هذا، نشأت في الشرق أيضاً ظروف بدأت تدريجياً في إعاقة العمليات التاريخية وإعاقة تطور العناصر الرأسمالية. وبما أن هذه الظروف لم تنشأ في الغرب، فقد تسارَعَت عملية تطورت الاقطاع، وبالتالي نشوء الرأسمالية، بوتيرةٍ أسرع. وكانت النتيجة، أنه بدأ مركز الحركة التقدمية للشرية في العالم القروسطي، في لحظةٍ مُحددة، بالانتقال من الشرق الى الغرب. وهكذا، بدأ ما يُسمّى "تأخر الشرق"، في البداية في المجال الاقتصادي، ثم في المجالين السياسي والثقافي. وفي العصر الحديث، أدَّى هذا التأخر الى نشوء وضع مُعاكس لما كان عليه الأمر في العصور الوُسطى: ففي حين كان الشرق يُواصل هجومه على الغرب في العصور الوُسطى، بدأ الغرب في العصر الحديث هُجومه على الشرق، الأمر الذي حوَّلَ مُعظم البُلدان الشرقية الى مُستعمرات وشبه مُستعمرات للغرب، في نهاية المطاف.
وعلى هذا، فإن الدراسة العلمية الحقيقية لتاريخ الشعوب في العصور الوُسطى على نطاق تاريخي عالمي، أي لتاريخ الشرق والغرب على حدٍّ سواء، تُمكننا من تفسير مسار العملية التاريخية على مشارف العصر الحديث أيضاً.

*نيكولاي يوسيفوفيتش كونراد 1891-1970، مُستشرق ماركسي سوفييتي، دكتور في الفيلولوجيا وأكاديمي في أكاديمية العلوم السوفييتية 1958. تخرّجَ من القسم الصيني الياباني لكلية اللغات الشرقية في جامعة سان بطرسبورغ عام 1912. دَرَسَ اللغتين اليابانية والصينية والثقافة اليابانية الكلاسيكية في جامعة طوكيو أعوام 1914-1917. كان استاذاً في معهد لينينغراد للغات الشرقية الحية منذ عام 1926-1938. في الوقت نفسه عمل أستاذاً في المعهد الجغرافي لجامعة لينينغراد. كان باحثاً في معهد الدراسات الاستشراقية التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية منذ عام 1931. وصارَ استاذاً في كلية موسكو للدراسات الاستشراقية في جامعة موسكو الحكومية منذ عام 1941-1950، وعضواً في قسم الأدب واللغة في أكاديمية العلوم السوفييتية منذ عام 1958.
كان مجال اهتمامه يشمل الأدب الياباني الكلاسيكي والحديث، والتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ليابان العصور الوسطى ونظام التعليم الياباني والفلسفتين اليابانية والصينية واللغويات. نَشَرَ ترجماتٍ لعددٍ من كُتُب الأدب الكلاسيكي الياباني باللغة الروسية. حَصَل على وساميّ لينين عامي 1945 و1954، ووسام الشمس المُشرقة الياباني عام 1969. من مقالاته: (حول اللغة الصينية) 1952، (مُختصر تاريخ الأدب الصيني) 1959، (أدب شعوب الشرق ومسائل حول المعرفة الأدبية العامة) 1961. (شكسبير وعصره) 1964.

ترجمة لمقال:
On the universal emergence of feudalism in the East and West, and the concept of the "Middle Ages", N. I. Konrad, 1967 this article is one of articles collection in book: West-East Inseparable Twain