من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - فريدريك أنجلز-أصل العائلة و الملكية الخاصة والدولة 14
عبدالرحيم قروي
2024 / 11 / 3 - 16:14
الحلقة 14
وصلنا الآن إلى عتبة الحضارة. و هي تنفتح بخطوة جديدة إلى الأمام في تقسيم العمل. ففي الطور الأدنى، كان الناس لا ينتجون إلا من أجل تلبية حاجاتهم الشخصية مباشرة. و كانت عمليات التبادل نادرة جداً، و لم تكن تشمل غير الفوائض المتبقية صدفة. و في الطور الأوسط من البربرية، نجد أن الماشية صارت، عند شعوب الرعاة، ملكية تعطي بانتظام فائضاً على الحاجات الشخصية إذا ما كبر القطيع نوعاً، و في الوقت نفسه نجد كذلك تقسيم العمل بين شعوب الرعاة و القبائل المتخلفة التي لا تملك قطيعاً، و نجد بالتالي طورين مختلفين من الإنتاج جنباً إلى جنب، و هذا يعني توفر الظروف و الشروط لأجل التبادل المنتظم. و في الطور الأعلى من البربرية، يجري تقسيم جديد للعمل بين الزراعة و الحرفة، و يجري بالتالي إنتاج قسم متزايد أبداً من منتوجات العمل لأجل التبادل مباشرة، و يحدث بالتالي أيضاً تحويل التبادل بين مختلف المنتجين إلى ضرورة حيوية بالنسبة للمجتمع. و توطد الحضارة و تعزز جميع أشكال تقسيم العمل هذه التي نشأت قبلها، و لا سيما بتشديد حدة التضاد بين المدينة و القرية (مع العلم أن من الممكن أن تسود المدينة اقتصادياً على القرية، كما كان الحال في الأزمنة القديمة، أو أن تسود القرية على المدنية، كما كان الحال في القرون الوسطى)، و تضيف عليها تقسيماً ثالثاً للعمل تختص به وحدها و يتسم بأهمية حاسمة: فهي تخلق طبقة لا تتعاطى الإنتاج، بل مبادلة البضائع فقط، هي طبقة التجار. حتى ذاك، كانت أسباب نشوء الطبقات ترتبط بوجه الحصر بالإنتاج، و قد أدت إلى تقسيم الناس المشتركين في الإنتاج إلى قادة و منفذين، أو أيضاً إلى منتجين على نطاق كبير و صغير. و هنا تبرز للمرة الأولى طبقة لا تشترك بأي قسط في الإنتاج و لكنها تأخذ في يدها كلياً أمر قيادته و تخضع لنفسها اقتصادياً المنتجين، و تصبح وسيطاً لا غنى عنه بين كل اثنين من المنتجين و تستثمر الاثنين معاً. و بذريعة تجنيب المنتجين ما يلازم التبادل من جهد و مجازفة، و بذريعة توسيع تصريف منتوجاتهم في أبعد الأسواق، و إنشاء طبقة بالتالي يزعم أنها أنفع طبقات السكان، تتكون طبقة من الطفيليين، طبقة من الكسالى الاجتماعيين الحقيقيين تأخذ القشطة من الإنتاج الوطني و الأجنبي على السواء، مكافأة على خدماتها التافهة جداً في الواقع، و تجني بسرعة الثروات الطائلة و ما يرافقها من نفوذ في المجتمع، و لهذا على وجه الضبط تحتل في عصر الحضارة مركزاً مشرفاً يتعاظم شأنه باستمرار و تخضع لنفسها أكثر فأكثر الإنتاج، إلى أن تصنع بنفسها في آخر المطاف منتوجاً خاصاً بها، و نعني به الأزمات التجارية الدورية.
صحيح أن طبقة التجار الناشئة في درجة التطور التي نتناولها بالبحث لا تخطر في بالها بعد أي فكرة عن القضايا الكبيرة التي ستقوم بها. و لكنها تتكون و تغدو ضرورية، و هذا يكفي. و معها تظهر النقود المعدنية، النقود المسكوكة، و مع النقود المعدنية وسيلة جديدة لسيطرة غير المنتجين على المنتجين و إنتاجهم. لقد اكتشفت بضاعة البائع، البضاعة التي تنطوي سراً و خفية على جميع البضائع الأخرى، الطلسم الذي يستطيع حسب الطلب أن يتحول إلى أي شيء كان، مرغوب بيه و تمكن الرغبة فيه. و من يملكه، ساد على عالم الإنتاج. و من ذا الذي كان يملكه أكثر من أي آخر؟ التاجر. و في يده، كانت عبادة النقود في حرز حريز. و قد أخذ على عاتقه أن يبين أمام الملأ أنه ينبغي على جميع البضائع و كذلك على جميع منتجيها أن تخر ساجدة في التراب أمام النقود. و قدم البرهان في الواقع على أن جميع الأشكال الأخرى للثروة ليست غير ظلال تجاه هذا التجسيد للثروة بوصفها ثروة. إن سلطان النقود لم يتجل يوماً فيما بعد بمثل هذا الشكل البدائي من الخشونة و الفظاظة و القساوة الذي تجلى به في عهد شبابها. و بعد شراء البضائع مقابل النقود، ظهر قرض النقود و ظهرت معه الفائدة المئوية و الربا. و ما من تشريع من العهود اللاحقة قذف بالمدين أمام أقدام الدائن المرابي بمثل القساوة و الفظاعة اللتين نص عليهما التشريع في أثينا القديمة و روما القديمة، و الحال، نشأ هذا التشريع في أثينا و في روما بصورة عفوية، من باب العرف و العادة، و بحكم الضرورة الاقتصادية بوجه الحصر.
و إلى جانب الثروة من البضائع و العبيد، و إلى جانب الثروة النقدية، ظهرت كذلك الثروة العقارية. فإن حق الأفراد في امتلاك قطع الأرض التي وضعتها العشيرة أو القبيلة في البدء تحت تصرفهم قد ترسخ الآن إلى حد أن هذه القطع أخذت تخصهم كملك وراثي. ذلك أنهم في الآونة الأخيرة بذلوا قصارى جهدهم لأجل تحرير قطع الأرض من الحقوق التي كانت للمشاعة العشيرية عليها و التي أمست عوائق بالنسبة لهم. و قد تحرروا من هذه العوائق و لكنهم سرعان ما تحرروا أيضاً من ملكيتهم العقارية الجديدة. فإن الملكية الكاملة و الحرة للأرض لا تعني إمكانية امتلاكها بلا عائق و بلا قيد و حسب، بل تعني أيضاً إمكانية التنازل عنها. و عندما كانت الأرض ملك العشيرة، فإن هذه الإمكانية لم تكن متوفرة. و لكن عندما خلع مالك الأرض الجديد نهائياً عوائق الملكية العليا للعشيرة و القبيلة، فإنه فصم أيضاً العرى التي كانت تربطه بالأرض ربطاً محكماً. أما ما كان يعنيه ذلك، فقد أوضحته له النقود التي تم اختراعها في آن واحد مع الملكية الخاصة للأرض. فمن الآن و صاعداً، صار من الممكن أن تغدو الأرض بضاعة تباع و ترهن. و ما كادت تقوم ملكية الأرض حتى تم اختراع الرهن العقاري أيضاً (انظروا إلى أثينا). و كما أن الهيتيرية و البغاء يقتفيان أثر أحادية الزواج، كذلك يقتفي الرهن العقاري من الآن و صاعداً أثر الملكية العقارية بدأب و مثابرة. لقد أردتم ملكية الأرض حرة كاملة، يمكن التنازل عنها، فخذوها إذن، إنها أمامكم و لكم: tu l`as voulu, George Dandin!* .
و هكذا إذن، مع توسع التجارة، و مع النقود و الربا، و مع الملكية العقارية و الرهن العقاري، حدث بسرعة انحصار و تمركز الثروات في أيدي طبقة فليلة العدد، كما اشتد في الوقت نفسه إملاق الجماهير و تزايد عدد الفقراء. و لقد أزاحت الأريستقراطية الجديدة، أريستقراطية الثروة، إلى المؤخرة نهائاً الأريستقراطية العشيرية القديمة (في أثينا، و في روما، و عند الجرمان)، هذا إذا كان لم توافقها منذ البدء. و إلى جانب تقسيم الأحرار هذا إلى طبقات وفقاً للثروة، ازداد عدد العبيد زيادة هائلة* ، و لا سيما في اليونان، إذ كان عملهم القسري يشكل الأساس الذي انتصب عليه البناء الفوقي للمجتمع بأسره.
لنر الآن ما حدث للنظام العشائري في سياق هذا الانقلاب الاجتماعي. فقد كان عاجزاً تجاه العناصر الجديدة التي نشأت و تطورت بدون مشاركته. فقد كان الشرط الأولي لوجوده، أن يعيش أعضاء عشيرة واحدة أو حتى قبيلة واحدة معاً في ارض واحدة، أن يسكنوها وحدهم بوجه الحصر. و قد زال هذا الوضع من زمان بعيد. ففي كل مكان تخالطت العشائر و القبائل، و في كل مكان كان العبيد و الموالي و الأجانب يعيشون بين الأحرار. إن ثبات الإقامة الذي لم يتحقق إلا في أواخر الطور الأوسط من البربرية، كانت تنتهكه أحياناً كثيرة التغيرات التي تطرأ في تركيب السكان و في محلات السكن بسبب النشاط التجاري، و تغيير وجوه العمل، و التنازل عن ملكية الأرض. و لم يعد بمقدور أعضاء العشيرة أن يجتمعوا لبحث شؤونهم المشتركة بالذات، إلا بعض الشؤون التافهة، مثل الطقوس الدينية، ظلت تُدبَّر بصورة مشتركة، كيفما اتفق. و إلى جانب الحاجات و المصالح التي كانت الوحدات العشيرية مدعوة إلى تأمينها و مكيفة لهذا الغرض، أدى الانقلاب في شروط الإنتاج و التغييرات التي استتبعها في التركيب الاجتماعي إلى نشوء حاجات و مصالح جديدة ليست غريبة عن النظام العشائري القديم و حسب، بل أيضاً مضادة له ف٪ جميع الميادين. إن مصالح الجماعات الحرفية التي نشأت بفضل تقسيم العمل، و الحاجات الخاصة بالمدينة على نقيض القرية، كانت تقتضي هيئات جديدة، و لكن كلاً من هذه الجماعات كانت تتألف من أعضاء من مختلف العشائر و الفراتريات و القبائل، بل أنها كانت تضم أجانب أيضاً. و لهذا كان لا بدّ لهذه الهيئات أن تنبثق خارج النظام العشائري، إلى جانبه، و كذلك ضده.- وفي كل وحدة عشيرية، كان هذا الاصطدام بين المصالح يبرز بدوره، و قد بلغ ذروة حدته حيث كان ينبغي أن يكون الأغنياء و الفقراء، الدائنون و المدينون متحدين في العشيرة نفسها و في القبيلة نفسها.-أضف إلى ذلك جمهرة السكان الجدد، الغرباء عن الوحدات العشيرية، و قد كان بوسع هذه الجمهرة أن تصبح قوة في البلد كما كان الحل في روما، ناهيك بأنها كانت كثيرة العدد بحيث أنه لم يكن بمقدورها أن تندمج شيئاً فشيئاً في العشائر و القبائل القائمة على أساس قرابة الدم. و تجاه هذه الجمهرة، انتصبت الوحدات العشيرية كهيئات مغلقة ذات امتيازات. فإن الديموقراطية البدائية و العفوية كانت قد تحولت إلى أريستقراطية مكروهة.- و أخيراً كان النظام العشائري قد انبثق من مجتمع لا يعرف أي متضادات داخلية، و كان مكيفاً، لهذا المجتمع وحده. و لم يكن لديه أي وسيلة للقسر غير الرأي العام. أما هنا، فقد انبثق مجتمع كان لا بدّ له ، بحكم جميع ظروف حياته الاقتصادية، أن ينقسم إلى أحرار و عبيد، إلى مستثمِرين أغنياء و مستثمَرين فقراء،-مجتمع لم يكن بوسعه أن يوفق من جديد بين هذه المتضادات، و ليس هذا و حسب، بل كان لا بدّ له أيضاً أن يؤزمها أكثر فأكثر. و هذا المجتمع لم يكن من الممكن أن يعيش إلا في غمرة صراع سافر لا انقطاع فيه بين هذه الطبقات، أو تحت سيطرة قوة ثالثة تقف في الظاهر فوق الطبقات المتصارعة و تقمع اصطداماتها السافرة و تجيز الصراع الطبقي، إذا جازته في الميدان الاقتصادي وحده، و بصورة يقال بأنها شرعية. لقد عاش النظام العشيري دهره. فقد حطمه تقسيم العمل و نتيجته، انقسام المجتمع إلى طبقات. و محله حلت الدولة.
يتبع