لماذا لا تزال أوروبا تدور في الفلك الأمريكي؟


فهد المضحكي
2024 / 10 / 5 - 14:27     

يمكننا أن نسمي الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ عام 2022 حربًا أمريكية ضد أوروبا، لأن الخاسرين الكبار ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبقية دول أوروبا.

أدركت الولايات المتحدة أن الحرب قادمة لا محالة، وقررت أنه إذا كان من المقرر أن تندلع حرب بين حلف الناتو وبقية دول العالم، فمن الأفضل لها أن تبدأ بتعزيز سيطرتها على أوروبا باعتبارها سوقًا مربحة ومدينًا لها، بدلًا من أن تتجه نحو آسيا، وتخسر الولايات المتحدة.

هذا ما تطرق إليه عالم الاقتصاد الأمريكي مايكل هدسون في حديثه عن الموقف الأمريكي من الحرب الدائرة في أوكرانيا.

وبحسب جريدة «قاسيون»، فإن الفكرة الأساسية التي ناقشها هدسون هي أنه في الأساس يعترف الاستراتيجيون الأمريكيون بأنهم يدركون أن أمريكا لم تعد قادرة على إنتاج فائض صناعي حقيقي. فقد أدت سياستها التجارية النيوليبرالية إلى نقل صناعتها إلى آسيا. إن السوق الجديدة الوحيدة التي يمكن تأمينها إذا انفصلت الأغلبية العالمية هي السوق الأوروبية.

كل ذلك يفسر لماذا رتبت الولايات المتحدة لتفجير أنابيب نورد ستريم، وأقنعت أوروبا طواعية بإرتكاب التدمير الذاتي اقتصاديًا، من خلال عدم شراء الغاز والمواد الخام الروسية منخفضة السعر. في حين دفع هذا روسيا والصين إلى التقارب مع جيرانهما الآسيويين، فإن الخاسرين كانوا أوروبيين.

لقد انتقلت الصناعة الألمانية إلى الولايات المتحدة وأماكن أخرى، بحثًا عن الطاقة الأقل تكلفة. وقد هاجرت الصناعة الألمانية إلى حد كبير إلى الولايات المتحدة، الأمر الذي جعلها المستفيد الأول.

ثمة سؤال يطرحه هدسون وهو، إذا كنت مكان شركة صناعية ألمانية، فماذا ستفعل إذا كان اقتصاد ألمانيا منكمشًا؟

وإذا كان، كما يقول، إن الطاقة هي المفتاح الحقيقي، فإن لهذا السبب كان الهدف الأساسي للسياسة الخارجية الأمريكية متذ عام 1945 هو السيطرة على البلدان الأخرى بطريقتين، بدءًا بالنفط. فقد سيطرت الولايات المتحدة إلى جانب بريطانيا وهولندا، على تجارة النفط العالمية، حتى يتسنى لها قطع الكهرباء وإطفاء الأنوار عن البلدان التي تحاول الانفصال عن أمريكا والعمل وفق مصالحها الذاتية.

وإلى جانب النفط، فإن التكتيك الثاني الذي استخدمته هو السيطرة على الحبوب والغذاء، لترك البلدان المستقلة تموت جوعًا في الظلام. ولكن هنا مرة أخرى، كانت العقوبات تهدف في المقام الأول إلى جعل أوروبا تعاني.

منذ 1958 كان الهدف الأهم بالنسبة للجماعة الاقتصادية الأوروبية من التكامل هو حماية المزارعين. مكّن دعم أسعار المنتجات الزراعية من زيادة الاستثمار الرأسمالي في المزارع.

عملت أوروبا على ترشيد زراعتها وزيادة الاستثمار الرأسمالي لجعلها أكثر إنتاجية. وكانت النتيجة أن أوروبا لم تستبدل اعتمادها على صادرات الأغذية الأمريكية فحسب، بل أصبحت أيضًا مصدرًا رئيسًا للمنتجات الزراعية.

ويخرج من كل ما سبق بأن الاتحاد الأوروبي يعاني الآن، ليس فقط بسبب العقوبات المفروضة على استيراد الغاز الروسي لصنع الأسمدة، فمن خلال دعم أوكرانيا، تسمح أوروبا لها بإغراق أسواقها الزراعية المنخفضة التكلفة بالحبوب في بولندا وغيرها من البلدان.

بالفعل قام المزارعون بتنظيم أعمال احتجاج على بيع الأوكرانيين لمنتجاتهم الزراعية بأسعار أقل من أسعارها الحقيقية، حيث يحاول المستثمرون الأمريكيون شراء هذه الأراضي. قد يؤدي هذا إلى تراجع الاستقلال الزراعي الأوروبي، وجعله يعتمد مرة أخرى على الولايات المتحدة، أو على البلدان التي يسيطر عليها المستثمرون الأمريكيون.

كان تأثير الحرب «الباردة الثالثة» حتى الآن هو دفع أوروبا إلى العودة إلى المدار الأمريكي. تصر ّ الولايات المتحدة على أنّه لا يوجد بديل لهذه الجغرافيا السياسية النيوليبرالية. الهدف هو السماح للرأسمالية بالتطور إلى رأسمالية احتكارية، وهي في الحقيقة رأسمالية مالية، لأن الاحتكارات ينظمها القطاع المالي باعتبارها «أم الصناديق».

ورغم أن الولايات المتحدة قالت: إنه لا يوجد بديل، فمن الواضح أن هناك بديل. لكن إذا لم تتبع الدول بديلًا، فسينتهي بها المطاف لتصبح مثل ألمانيا.

وبرأيه، أن ما حدث لأوروبا نتيجة للحرب في أوكرانيا والعقوبات الأمريكية يشكل درسًا مفيدًا للدول الأخرى لكي تدرك ما لا تريد أن يحدث لها.

انهار البرنامج النيوليبرالي في الغرب كما انهار منذ فترة طويلة بالنسبة للجنوب العالمي. وكان هدفه الأساسي هو خصخصة القطاع العام. مع ذلك، فقد تم تمويل انطلاق الرأسمالية الأوروبية لقرون ما قبل الرأسماليين الصناعيين انفسهم، الذين كانوا يهدفون إلى خفض تكلفة الإنتاج، حتى يتمكنوا من بيع منتجاتهم بأسعار أقل من البلدان الأخرى من خلال دعم الحكومة لتكوين رأس مال حقيقي.

كانت الإستراتيجية الأساسية للرأسمالية الصناعية تتلخص في أن توفر الحكومات التعليم والصحة العامة والبنية الأساسية التي كانت تحتكرها أيدي القطاع الخاص.

لولا ذلك، كانت الحكومات تثقف العمال وتدربهم وتساعدهم على رفع إنتاجيتهم من خلال حماية ودعم الاستثمارات الرأسمالية. كانت الحكومات توفر المياه والكهرباء بأسعار مدعومة، حتى لا يضطر العمال إلى إنفاق أجورهم لشراء الطاقة الباهظة الثمن ووسائل النقل والاحتياجات الأساسية المماثلة.

كانت النتيجة خفض تكاليف التعادل في العمالة، بحيث أصبح بوسع الصناعيين الأوروبيين والأمريكيين بيع منتجاتهم بأسعار أقل من البلدان الأخرى. أنهت النيوليبرالية هذه الإستراتيجية الاقتصادية الواضحة ظاهريًا. إن هذه الرسوم المفروضة على أصحاب الدخول تستنزف جزءًا كبيرًا من ميزانية العمال الأوربيين. يجعل هذا أصحاب العمل يدفعون أجورًا أعلى. بوسعنا أن نقول الشيء نفسه عن خدمات الهاتف وغيرها من مرافق البنية الأساسية التي أصبحت الآن مخصخصة وممولة.

إن أبرز ما خلص إليه تحليل هدسون هو، منذ عام 1980، انقلبت الصورة النمطية الأوروبية. أو بالأحرى صورة الرأسمالية الصناعية. رأسًا على عقب. فبدلًا من أن تحاول الرأسمالية الصناعية خفض تكاليف الإنتاج، وتقليص ما أسماه ماركس بالتكاليف الزائفة، أو ضرائب الإنتاج الزائفة، ارتفعت الأسعار التي تفرضها احتكارات البنية الأساسية المخصخصة إلى مستويات مرتفعة للغاية. وتعرضت مستويات معيشة العمال في مختلف أنحاء أوروبا للضغط، في الوقت نفسه الذي كان لزامًا فيه زيادة أجورهم حتى يتمكنوا من تحمل تكاليف الخدمات المخصخصة، التي كان في السابق خدمات عامة مدعومة. أدى اتباع النموذج النيوليبرالي إلى جعل أوروبا غير قادرة على المنافسة، تمامًا كما أدى إلى نزع الصناعة من الاقتصاد الأمريكي.

كان الدرس الذي تعلمته الصين من هذه التجربة هو ضرورة تبني الاشتراكية لاستعادة الأخلاق الصناعية التي سادت في القرن التاسع عشر، والتي اعتقد أغلب المراقبين الاقتصاديين أنها تقود إلى نوع آخر من الاشتراكية. لقد ارتفعت مستويات المعيشة في الصين، ولكن الأجور هناك أقل من الأجور في الاقتصادات النيوليبرالية، وذلك بفضل حقيقة مفاداها: أن الاشتراكية توفر وسائل نقل رخيصة، ورعاية صحية عامة، وما إلى ذلك، كما هو موضح أعلاه.

والأمر الأكثر أهمية من كل هذا، هو أن الصين تخلق أموالها الخاصة، وتتحكم في نظامها الائتماني. وبدلًا من قيام بنك الصين بإقراض الأموال للمفترسين الماليين لشراء الشركات وتحميلها بالديون ودفع أسعار أسهمها إلى الارتفاع قبل تركها في صورة شركات مفلسة، تنفق الحكومة الأموال مباشرة في الاقتصاد.

استثمرت الصين بشكل مفرط في الإسكان والعقارات، ولكنها استثمرت أيضًا في تحديث خطوط السكك الحديدية عاليةالسرعة، وتحديث نظام الاتصالات، وتحديث مُدنها، وفوق كل ذلك نظام الإنترنت الإلكتروني المستخدم للمدفوعات النقدية. لقد حررت الصين نفسها من اعتماد الديون على الغرب. وفي هذه العملية، جعلت الغرب معتمدًا عليها. إن هذا لم يتحقق إلا من خلال الاستثمار الحكومي والتنظيم في إطار خطة طويلة الأجل.