حول بعض المفاهيم التنظيمية الماركسية - اللينينية * المركزية الديموقراطية ومفهوم الخلية * العدد السادس كراسة البروليتاري


الشرارة
2024 / 10 / 5 - 01:41     

يقدم موقع الشرارة الماركسي ــــ اللينيني العدد السادس من "كراسة البروليتاري"، وهو بعنوان: "حول بعض المفاهيم التنظيمية الماركسية - اللينينية * المركزية الديموقراطية ومفهوم الخلية"، من إعداد وليد الزرقطوني
ــــ ـــــــ ــــــ
تقديم
يضم العدد السادس من كراسة "البروليتاري" نصين تم نشرهما في أوقات مختلفة وفي أماكن مختلفة، الأول منهما "المفهوم اللينيني للمركزية الديموقراطية" تم نشره على صفحات مجلة "الحرية" التي كانت تصدرها بشكل مشترك "الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين" و"منظمة العمل الشيوعي" اللبنانية.
("الحرية" مجلة الجبهة الديموقراطية الشعبية، نشر في العددين الصادرين في شهر مارس 1971، رقم العددين: 558 و559).
أما النص الثاني "الخلية" فقد كتب سنة 2006 بالمغرب، وذلك في سياق نقاشات كانت تدور بين مجموعة من المناضلين الماركسيين – اللينينيين المغاربة.
لقد وجدنا أنه من المفيد تضمين العدد السادس من "البروليتاري" لهاتين الوثيقتين لكونهما يتوافقان مع نهج الكراسة في تبسيط المفاهيم الماركسية وجعلها في متناول الجميع. وغني عن التعريف أن المركزية الديموقراطية (آلية الاشتغال الداخلي للمنظمات والأحزاب الماركسية – اللينينية في علاقتها كذلك بالحركة الجماهيرية"، أما الخلية (البنية التنظيمية القاعدية في المنظمة والحزب الماركسي – اللينيني) فهي تلعب دورا أساسيا في حياة الحزب الثوري الماركسي – اللينيني سواء على المستوى السياسي أو التنظيمي أو التحريضي والدعائي والتكوين النظري، ولذلك فهي ذات أهمية قصوى في العمل الثوري.

المفهوم اللينيني للمركزية الديموقراطية
المفهوم اللينيني لدور الحزب
يقوم المفهوم اللينيني لدور الحزب على المركزين التاليين:
أولا: التمايز والعلاقة التي تحكم انبثاق الوعي العمالي العفوي وتلك التي تحكم نشوء وتطور النظرية الاشتراكية.
ثانيا: التمايز والعلاقة بين حزب الطبقة العاملة وطبقته.
النظرية الاشتراكية والطبقة العاملة:
ينبثق الوعي العمالي العفوي على أساس العلاقة للرأسمال، أي أنه ينتمي إلى حيز الصراع الطبقي داخل مجتمع تسوده علاقات الإنتاج الرأسمالية. أما النظرية الاشتراكية، فتنشأ وتتطور ضمن الظروف و وفق الشروط التي تحكم نشوء وتطور الإيديولوجيات بشكل عام (أي أنها تنتمي إلى الحيز الإيديولوجي من البنية الاجتماعية):
" ... إن الاشتراكية بصفتها إيديولوجية صراع البروليتاريا الطبقي، تخضع للظروف العامة التي تحكم نشوء و تطور و تدعيم الإيديولوجيات ... إنها تقوم على مجموعة المعارف البشرية، وتفرض مستوى رفيعا من التطور العلمي، كما تتطلب البحث العلمي الخ ... إن المنظرين هم اللذين يدخلون الاشتراكية إلى صراع البروليتاريا الطبقي، هذا الصراع الذي يتطور عفويا على أساس العلاقات الرأسمالية" (لينين، المؤلفات الكاملة، جزء 26، ص 62).
إذا كانت قوانين الحيز الإيديولوجي من البنية الاجتماعية هي التي تحكم نشأة الاشتراكية وتطورها (وينبغي التذكير هنا بأن الماركسية، حصيلة عملية إنتاج نظري، كانت مواده الأولية، الاقتصاد السياسي البريطاني، والفلسفة الألمانية والاشتراكية الفرنسية)، فما هو الوعي المتولد من التطور العفوي لصراع البروليتاريا الطبقي على أساس العلاقات الرأسمالية؟ إنه وعي ينشأ ويتطور ضمن ظروف، و وفق شروط تحكمها ظروف وشروط هيمنة الإيديولوجيا البورجوازية بوصفها إيديولوجية الطبقات المسيطرة في مجتمع تسوده العلاقات الرأسمالية. وما حدود هذا الوعي إلا حدود الإيديولوجيا البورجوازية نفسها، ونسمي هذا الوعي بالوعي النقابي:
"... إن تاريخ جميع البلدان يبين أن الطبقة العاملة بمجهودها الخاص وحده، لا تبلغ سوى الوعي النقابي، أي الاقتناع بضرورة الانتظام في اتحادات، والنضال ضد أرباب العمل، والسعي لإجبار الحكومة على إصدار التشريعات اللازمة" (لينين، "ما العمل؟" المؤلفات المختارة، ج 10، ص 48).
لنعرف بإيجاز الإيديولوجيا البورجوازية، لا من حيث العناصر المكونة لها، وإنما من حيث دورها الاجتماعي:
"إن الإيديولوجيا البورجوازية هي نظام من التمثلات، تعيشها البورجوازية من خلال علاقتها بظروف حياتها، بما في ذلك علاقاتها بالطبقات الأخرى. إنها نظرة إلى الواقع تشمل هذا الواقع وتحجبه عن نفسها وعن الآخرين معا. ولها وظيفة اجتماعية ....... تسمح للبورجوازية نفسها بأن تتحول إلى طبقة مسيطرة (إذ تبين لها أن العلاقة التي تقيمها هذه البورجوازية مع سائر الطبقات هي علاقات طبيعية ومشروعة، فتبرر لها بذلك استغلالها وسيطرتها على سائر الطبقات) كما توفر من جهة أخرى استمرار استغلال البورجوازية وسيطرتها على الطبقات الأخرى، إذ تفرض على هذه الطبقات الخاضعة لهذه السيطرة وهذا الاستغلال نظرة إلى ظروف حياتها وإلى علاقاتها بالطبقة المسيطرة، ليست كما هي هذه الظروف والعلاقات في الواقع، ولكن كما تبدو من منظار الطبقة المسيطرة نفسها.
وبعبارة أخرى فإن الايديولوجيا البورجوازية هي "الإسمنت" الذي يلحم طبقات المجتمع الرأسمالي بعضها ببعض تحت هيمنة الطبقة البورجوازية، ذلك هو موضوعة "البيان الشيوعي" الشهيرة التي تقول:
"إن الإيديولوجيا المسيطرة هي إيديولوجية الطبقة المسيطرة"، ولذا لا يسعنا إلا القول مع لينين أن "الوعي النقابي" هو الشكل الإيديولوجي، هو الوجه الإيديولوجي لعملية الاستعباد الشاملة التي تمارسها البورجوازية على الطبقة العاملة، ذلك أنه وعي لا يتجاوز حدود العلاقة بين العمال وأرباب العمل، أي أنه وعي يقصر عن رؤية شمولية للعلاقات المتبادلة بين الطبقات كلها:
" ما دام لا يسعنا التحدث عن بلورة الجماهير العاملة نفسها لإيديولوجيا مستقلة خلال سياق حركتها، فالخيار الوحيد هو التالي: إما الإيديولوجيا البورجوازية، وإما الإيديولوجيا الاشتراكية، فلا طريق وسط بينهما (ذلك أن البشرية لم تخلق إيديولوجيا "ثالثة"، فضلا على أنه يستحيل أن توجد في مجتمع تتنازعه التناقضات الطبقية، إيديولوجيا لا طبقية أو إيديولوجيا فوق الطبقات). لذا فالاستخفاف بالإيديولوجيا الاشتراكية بأي شكل من الأشكال والانحراف عنها ولو قيد شعرة يؤديان إلى تعزيز الإيديولوجيا البورجوازية. لقد كثر الحديث عن الإيديولوجيات، لكن التطور العفوي لحركة الطبقة العاملة يؤدي إلى خضوعها للإيديولوجيا البورجوازية ... ذلك أن التطور العفوي لحركة الطبقة العاملة هو النقابة ... و ما النقابوية سوى استعباد البورجوازية للعمال على الصعيد الإيديولوجي" (المصدر ذاته، ص156 – 157).
تنشأ النظرية الاشتراكية وتتطور ضمن حيز مستقل نسبيا داخل البنية المجتمعية التي يحكمها في نهاية المطاف الحيز الاقتصادي، والطبقة العاملة، في حركتها العفوية لا تبلغ إلا الوعي النقابي (وهو كما أسلفنا منوع من منوعات الإيديولوجيا البورجوازية في أوساط الطبقة العاملة)، لذا ينبغي إدخال النظرية الاشتراكية إلى صراع البروليتاريا الطبقي. ينبغي تحقيق وحدة النظرية الاشتراكية مع الممارسة العملية للطبقة العاملة. ذلك أن الاشتراكية ليست مطابقة لمصالح الطبقة العاملة بقدر ما أن مصالح الطبقة العاملة تؤهلها لأن تتبنى الاشتراكية، لكن ذلك لا يعدو كونه أعم مستوى من مستويات التمايز والعلاقة بين النظرية الاشتراكية وحركة الطبقة العاملة، فالاشتراكية هي نظرية صراع البروليتاريا الطبقي، أي أنها تعبير عن مستوى الحيز الإيديولوجي، من هنا يكتسب القول بأن الماركسية هي "نظرية ممارسة" و "دليل عمل" كل معناه.
والواقع أن كونها نظرية لممارسة ما، هو بالتحديد الأمر الذي يؤهلها لأن تكون دليلا لعمل البروليتاريا، أي لنضالها، وكونها نظرية ممارسة الطبقة العاملة ضمن سياق الصراع الطبقي، الذي يشمل كل الطبقات، هو بالذات الأمر الذي يؤهلها لأن تدخل صراع البروليتاريا الطبقي، وتتحد مع ممارسة الجماهير الكادحة. لذا فإن الاشتراكية، وبتحديد أكثر الماركسية – اللينينية، وإن كانت تنمو بشكل مستقل نسبيا عن نمو صراع البروليتاريا الطبقي، فإنها لا تلبث أن تتحدد بهذا الصراع، بوصفه عقيدة الطبقة العاملة وسائر المستغلين. هذا، في حين أن وجود الإيديولوجيا البورجوازية في صفوف الطبقة العاملة ما هو إلا الوجه الإيديولوجي لسيطرة البورجوازية على الطبقة العاملة واستغلالها لها.
وليس أدل على كون الماركسية – اللينينية نظرية ممارسة، من المثالين التاليين:
1- ان مفهوم دكتاتورية البروليتاريا – وهو حجر الزاوية في نظرية الصراع الطبقي الماركسي – ما هو إلا تنظير ماركس و انجلز لتجربة ثورات 1848 في أوروبا، وكذلك، فإن مفهوم تلاشي الدولة تنظير لتجربة كومونة باريس 1871.
2- ليس مفهوم ازدواجية السلطة – وهو حجر الزاوية في نظرية الثورة عند لينين – إلا تنظيرا للثورة الروسية الأولى سنة 1905.
يقول لينين أن النظرية الاشتراكية قد انبثقت من النظريات الفلسفية التاريخية والاقتصادية التي صاغها المثقفون، أي الممثلون الثقافيون للطبقات المالكة، لكنه يستطرد قائلا، أن النظرية الماركسية في روسيا قد نشأت بشكل مستقل عن النمو العفوي لحركة الطبقة العاملة، كنتيجة طبيعية حتمية للتطور الفكري في أوساط المثقفين الاشتراكيين الثوريين، ولما كان قد قال قبلا أن المنظرين هم اللذين يدخلون الاشتراكية إلى صراع البروليتاريا الطبقي، يبرز السؤال التالي:
أي نوع من المثقفين يتولون عملية الإدخال هذه؟ وتسارع إلى الجواب:
إنهم مثقفون تخلوا عن مواقعهم الطبقية، وانتقلوا إلى مواقع الطبقة العاملة، أو هم عمال تحرروا من الإيديولوجيا البورجوازية، عند ذلك فقط يستحق هؤلاء أو أولئك تسمية المثقفين الاشتراكين، وهذا يسري بدون استثناء على معظم قادة ومنظري الحركة العمالية والثورية، من ماركس و انجلز و ببليخانوف و لينين و روزا لوكسمبورغ و كارل ليبنيخت و ماو تسي تونغ و هوشي منه و غرامشي.
ينبغي تحقيق وحدة النظرية الاشتراكية مع ممارسة الجماهير الكادحة، ولكن لكي تتحقق هذه الوحدة ينبغي أن تكون ثمة نظرية، فممارسة الجماهير معطاة سلفا، لكن النظرية إذا كانت موجودة (كالماركسية بالنسبة لروسيا عام 1902، أو الماركسية - اللينينية بالنسبة للعالم الثالث في النصف الأخير من القرن 20)، فهي موجودة ب "قوانينها العامة" التي لا تصلح إلا كنقطة انطلاق لفهم واقع معين. لذا يجب بحقيق وحدة مسبقة، على الصعيد النظري نفسه، هي وحدة المفاهيم والقوانين العامة، مع الواقع المحدد للمجتمع المعني بالأمر، أي أنه ينبغي العمل على المستوى النظري نفسه لبلورة نظرية تطور نمط الإنتاج الخاص بالمجتمع المعني بالأمر، وهذا ما أرسى لينين قواعده في السنوات الأولى من حياته السياسية، وبلورة هذه النظرية المحددة هي الشرط المسبق لتحقيق وحدة النظرية العامة مع ممارسة الجماهير الكادحة. فالنظرية الماركسية – اللينينية المجلوبة من الخارج، إما أن تتأقلم مع الواقع المحدد للمجتمع المحلي، إما أن تستوعب المرحلة الراهنة من تطور العلاقات الرأسمالية على الصعيد العالمي، وإما ألا تتحقق الوحدة المطلوبة، وهذا يعني عمليا أن تظل فئات واسعة من الطبقة العاملة وسائر الكادحين فريسة لمنوعات الإيديولوجيا البورجوازية، أي أن تظل فريسة الاستغلال. وذلك هو المعنى العميق لما يقوله لينين:
"نعتقد أن فقدان النظرية يحرم التيار الثوري من حقه في الوجود، ويقضي عليه حتما بالإفلاس السياسي عاجلا أو آجلا". (المؤلفات الكاملة ج 6 ص 188).
من يحقق وحدة النظرية الاشتراكية مع ممارسة الجماهير الكادحة؟ وكيف؟
في الإجابة على هذا السؤال، تتحدد هوية حزب الطبقة العاملة و دوره وعلاقته المحددة بطبقته.
الطبقة العاملة وحزبها
حزب الطبقة العاملة هو ممثلها السياسي.
"إن الاشتراكيين الديموقراطيين (أي الماركسيين) يمثلون الطبقة العاملة، ليس في علاقاتها بمجموعة معينة من أرباب العمل، بل في علاقاتها بجميع طبقات المجتمع الحديث، وبالدولة بوصفها قوة سياسية منظمة" (لينين "ما العمل؟" المؤلفات المختارة، ج 1، ص 171).
"حزب طبقة بمقدار ما نقود فعلا الطبقة العاملة كلها أو معظمها بطريقة اشتراكية ديموقراطية (أي ماركسية) ..." (لينين "خطوة إلى الأمام ..."المؤلفات الكاملة، ج 7، ص 264).
في هذين النصين تلخيص للدور الثنائي المتناقض الذي يلعبه الحزب في علاقاته بطبقته. إنه يقود الطبقة بطريقة اشتراكية. لكن لكي يقودها على هذا النحو، ينبغي أن تكون أوسع فئات الطبقة قد بلغت – ولو على درجات متفاوتة – الوعي السياسي (أي وعي ضرورة الثورة على علاقات الإنتاج الرأسمالية واستبدالها بعلاقات اشتراكية، عن طريق تسلم الطبقة العاملة وحلفائها للسلطة السياسية)، وتنتظم ضمن هذه الوحدة المتناقضة الأدوار الثلاثة التي يعينها لينين للحزب:
أولا: التوعية بتبيان التناقض بين مصالح العمال والرأسماليين، وتفسير المعنى التاريخي لدور العمال، أي انهم، بحكم موقعهم في الإنتاج الرأسمالي، وبحكم كونهم الطبقة التي تنتج كل شيء ولا تملك أي شيء، لا يستطيعون التحرر إلا إذا نسفوا علاقات الإنتاج الرأسمالية، وأقاموا مجتمعا جديدا هو المجتمع الاشتراكي فالشيوعي.
ثانيا: تنظيم الطبقة العاملة بصفتها أكثر الطبقات ثورية في المجتمع.
ثالثا: قيادة نضال الطبقة العاملة بمختلف أشكاله، وتأمين قيادتها لتحالف سائر الفئات الكادحة. (لينين، المؤلفات الكاملة، ج 6، ص 29).
يمكن القول بأن الحزب وطبقته يشكلان وحدة متناقضة، وما الديموقراطية المركزية بمعناها الأعم سوى مفهوم هذه الوحدة المتناقضة بين الحزب وطبقته. ولنبدأ بتحديدها سلبيا:
أولا: ليس الحزب والطبقة شيئا واحدا.
لقد نمت وترعرعت الديموقراطية المركزية اللينينية خلال النضال ضد "التمثلية" (الحزب والطبقة شيء واحد) وضد نقيضها: الاستبدالية (الحزب بديل للطبقة).
إن "التمثلية" هي تعبير على صعيد العلاقة بين الحزب والطبقة عن تقديس العفوية، إنها عاجزة عن إدراك الاستقلال النسبي، الذي يتمتع به الحزب بوصفه ينتمي إلى الحيز السياسي من البنية الاجتماعية، والواقع أن منطلق الخلاف بين الحزب وطبقته، ويكاد يتلخص بالتحذير الذي وجهه لينين (قائد البلاشفة) إلى مارتوف (زعيم المناشفة) إذ قال:
"لا يجوز الخلط بين الحزب، بوصفه طليعة الطبقة العاملة، وبين الطبقة العاملة بأسرها" (لينين "خطوة إلى الأمام ..." المؤلفات الكاملة، ج 7، ص 260).
إن الخلط بين الحزب والطبقة العاملة يعني – عمليا – النزول بمستوى الحزب إلى أكثر قطاعات الطبقة العاملة تخلفا، أي أكثرها تبعية إلى الإيديولوجيا البورجوازية.
ثانيا: ليس الحزب بديلا عن الطبقة.
تقوم النزعة الاستبدالية (اعتبار الحزب بديلا عن الطبقة) على الاعتقاد الخاطئ التالي: الجماهير جاهلة، إذن ينبغي على فئة واعية ما، أن تحقق أهدافها بالنيابة عنها. إنها نزعة احتقار الجماهير. وهي بالتالي نقيض النزعة التمثلية القائمة على تقديس الجماهير بكل ما لهذه العبارة من دلالة غير عملية، أي بكل ما تحتويه من عجز عن فهم فعالية الإيديولوجيا المهيمنة في أوساط الجماهير، والتفاوت الموجود داخل الطبقة العاملة نفسها، بين عمال متقدمين بحكم موقعهم من الإنتاج، وعمال متخلفين. من هنا، فالنزعة الاستبدالية لا تلبث أن تأخذ بالتعبير عن مصالح ليست مصالح الطبقة العاملة.
ليس من "فراغ"، في مجتمع تتصارع فيه الطبقات، أن الحزب الذي لا يعبر عن تطلعات الطبقة التي يدعي تمثيلها لا يلبث أن ينزلق، بوعي منه أو بدون وعي، إلى تمثيل تطلعات طبقات أخرى، ففي معارك صراع الطبقات لا توجد طليعة تقاتل بمفردها وبمعزل عن طبقتها (جيشها). فالاختيار حاسم: إما أن يكون الحزب طليعة للطبقة العاملة، وإما أن يكون مؤخرة (ذيل) لطبقة أخرى، أي البورجوازية أو للبورجوازية الصغيرة في أحسن الأحوال. هنا يلتقي الضدان: التمثلية و الاستبدالية. فالأولى، في تقديسها للعفوية، لشتى منوعات الفكر البورجوازي في أوساط الطبقة العاملة، هي ذنب البورجوازية المتدلي في أوساط الطبقة العاملة. أما الثانية، في ادعائها تحقيق أهداف الجماهير "الجاهلة" بالنيابة عنها (أي بدون مشاركتها) سرعان ما تتحول إلى فصيلة من الفصائل السائرة في مؤخرة الجيش البورجوازي.
من هنا، فإن هذا التحديد السلبي، يعين المجال الذي ينبغي أن يظل حزب الطبقة العاملة ضمنه لكي يظل مستحقا تسمية حزب الطبقة العاملة. وحدود هذا المجال، الاستبدالية من جهة و التمثلية من جهة أخرى، وهذا التحديد السلبي يسمح لنا بالانتقال إلى التحديد الإيجابي لمفهومنا.
الديموقراطية، هي مفهوم ممارسة العلاقة القائمة بين الحزب ضمن وحدة متنافضة، وصفة هذه العلاقة هي سلطة الحزب على طبقته (المركزية) من جهة، ورقابة الطبقة على حزبها (الديموقراطية) من جهة أخرى، وكلاهما شرط للأخر. فإذا كانت العلاقة مجرد علاقة تسلط الحزب على طبقته، أو علاقة طغيان الطبقة على حزبها تنفجر هذه الوحدة المتناقضة التي تجمع بينهما فتقع في الحالة الأولى في الاستبدالية، وفي الحالة الثانية في التمثيلية، وهذا ما سيظهر بمزيد من الوضوح عندما نحلل الأدوار الأربعة التي يحللها لينين.
إذا كان النمو العفوي لحركة الطبقة العاملة لا يولد إلا الوعي النقابي (وهو أحد منوعات الوعي البورجوازي) فإن إدخال الحزب الاشتراكية إلى الطبقة العاملة، وتحقيق وحدة النظرية مع الممارسة الجماهيرية لا يمكن أن يتم إلا إذا حافظ الحزب على استقلاله النسبي إزاء الطبقة، بحيث تتسم العلاقات بفعل الحزب على الطبقة. إذن ينبغي على الحزب أن يقيم حوله "حملة حصار"، ليست موجهة ضد دخول أعداد متزايدة من الطبقة إلى الحزب، بل هي حالة حصار ضد شتى منوعات الوعي البورجوازي السائدة في أوساط الطبقة العاملة. وهكذا، فإن عملية التوعية السياسية التي يمارسها الحزب لا يمكن أن تتم بدون تأمين مستوى محدد من الوعي، ورفع قطاعات متزايدة من العمال إلى مصاف هذا الوعي المتقدم، مع تصعيد مستواه باطراد، ومن هنا هذا المبدأ التالي:
"بقدر ما يكون الحزب متمتعا بهذا الاستقلال النسبي عن الانحرافات الإيديولوجية والسياسية في الطبقة العاملة، وبقدر ما يكون أعضاؤه مسلحين فعلا بالنظرية الماركسية، بقدر ما تكون أسلحته فعالة في القضاء على شتى منوعات الفكر البورجوازي في أوساط العمال" (لينين "خطوة إلى الأمام ..." ص 260 – )
- ضرورة النضال ضد شتى منوعات العفوية والفوضوية والفردية في بعض أوساطها (الطبقة العاملة)، علما بأن التنظيم جزء من الخبرة التي يكتسبها العمال ضمن الإنتاج الرأسمالي نفسه، وهذه الخبرة مكسب من المكاسب الإيجابية التي تحرزها الطبقة العاملة في المجتمع الرأسمالي.
"ذلك أن المصنع يمثل أرقى شكل من أشكال التعاون الرأسمالي، الذي وحد البروليتاريا وضبطها ولقنها التنظيم، و وضعها على رأس قطاعات السكان الكادحة والمستغلة. إن الماركسية، عقيدة البروليتاريا المدربة في ظل الرأسمالية، كانت و ما تزال تعلم المثقفين ... التمييز بين المصنع بوصفه أداة استغلال (الانضباط القائم على الخوف من الجماعة) و بين المصنع بوصفه أداة تنظيم الانضباط المرتكز إلى العمل الجماعي، الذي توحده ظروف شكل من أشكال الإنتاج ذي مستوى رفيع من التطور تقنيا" (لينين "خطوة إلى الأمام ... ص 391).
هكذا يمكننا القول أن الحزب الذي يطمح إلى اكتشاف "أضعف حلقة" في النظام الاجتماعي، وإلى تجميع أكبر عدد ممكن من القوى لضرب السلسلة عند أضعف حلقة فيها، هذا الحزب ينبغي أن يكون "أقوى حلقة" في السلسلة التي تربط المجتمع بعضه ببعض، وهذا عند لينين هو الشرط الذي لابد منه لكي تتمكن الطبقة العاملة من أن تكون قيادة تحالف سائر الكادحين، ولكن مثلما ينبغي على الحزب الطليعي أن يوضح حدوده إلى أبعد حد ممكن، وأن يفرض "حالة حصار ضد الغموض السياسي" (لينين، المؤلفات الكاملة، ج 6، ص 508).
كذلك، فإن شرط هيمنة الطبقة العاملة على سائر الكادحين وقيادتها لنضالهم، هو رسمها للحدود الفاضلة بينها وبين سائر الطبقات، ذلك أن قيادتها لهذا التحالف يعني حث الآخرين على الانتقال إلى مواقع الطبقة العاملة نفسها، ولا معنى لعملية الحث هذه إذا لم تكن المواقع محددة المعالم أصلا:
" ... إننا نحث الجميع (بل نجبرهم) على التخلي عن مواقعهم والانتقال إلى مواقعنا لا العكس (...) وبهذا الشكل فقط، يستطيع حزب الطبقة العاملة الثورية أن يعبر عن الثورية المشروطة عند الطبقات الأخرى، فيضع أمامها فهمه لبؤسها وطريقة معالجة هذا البؤس، حيث أنه، في إعلانه الحرب على الرأسمالية، لا يتحدث باسمه وحده، بل باسم جميع الجماهير البائسة والمفقرة. من هنا، فإن كل من يقبل بهذه العقيدة، ينبغي عليه الانضمام إلينا" (لينين، المؤلفات الكاملة، ج 6، ص 53).
" ... من الضروري، أولا بأول، أن نرسم الحدود الفاصلة بيننا وبين الآخرين، وأن نبرز البروليتاريا وحدها وحسب، وفقط بعدما نقوم بذلك نستطيع أن نعلن أن البروليتاريا سوف تحرر الجميع" (المصدر نفسه، ص 75 و76).
أضف إلى ذلك كله، أن الحزب هو قيادة الطبقة العاملة، وما تقتضيه هذه القيادة من علاقات متناقضة. ولكن، ها أننا قد بدأنا نغادر المجال الذي ينتظم الوجه المركزي من التناقض (سلطة الحزب على الطبقة) لندخل المجال الذي ينتظم الوجه الديموقراطي. ولكي يتمكن الحزب من:
أولا: أن تعترف به الطبقة أو معظمها، ممثلها وقائدا لها.
ثانيا: أن تتمتع الطبقة في علاقتها به، بحد من الرقابة عليه، بحيث لا يتحول التمثيل إلى تفرد، ولا تتحول القيادة إلى تسلط ودكتاتورية، أي بحيث لا تنعدم القيادة والتمثيل.
ثالثا: أن يتمكن الحزب من إطلاق مبادرات الجماهير الكادحة إلى أقصى حد ممكن، وهنا تبرز الوحدة المتناقضة، ونسميها وحدة متناقضة لأنها تحصر التناقض ضمن نطاق معين، وتتفجر هذه الوحدة، عندما يتحول الحزب مثلا، من فريق من القادة لا أتباع لهم، من جهة، وإلى فصيلة تلتحق بمؤخرة طبقة عاملة تبادر عفويا، أي ضمن منطق هيمنة الإيديولوجيا البورجوازية من جهة أخرى.
ولننظر إلى الموضوع من زاوية أخرى:
دور الحزب هو توعية الطبقة العاملة بأوضاعها (تبيان التناقض بين مصالحها ومصالح الرأسماليين، وتفسير أن حل هذا التناقض رهين بتحطيم علاقات الإنتاج الرأسمالية وبناء المجتمع الاشتراكي) ودليل هذه التوعية هو الماركسية – اللينينية بوصفها النظرية الممارسة. ولكي تكون الماركسية – اللينينية نظرية ممارسة ينبغي أن يكون الحزب فعلا في خضم الطبقة العاملة، أن يصل فعلا إلى أوسع فئاتها وأن يشاركها حياتها.
وها أن الوحدة بدأت تتكون على هذا المستوى أيضا: النظرية، الممارسة، النظرية. الحزب ينظر الجماهير وممارستها على ضوء الاسترشاد بمبادئ الماركسية – اللينينية، التي نشأت وتطورت كعملية إنتاج على الصعيد النظري، اعتمدت أرقى المستويات، التي بلغها التطور الفكري والحضاري موادا أولية لها (الفلسفة الألمانية، الاقتصاد السياسي البريطاني والاشتراكية الفرنسية). فبما أنه لا توجد ممارسة صافية، أي بما أن البشر يمارسون على أساس نظرية ما، تصورا ما لعلاقاتهم بظروف حياتهم (أي انهم يمارسون حكما على ضوء إيديولوجية ما)، يجب أن تتحول ممارسة العمال، من ممارسة على هدى الإيديولوجيا البورجوازية إلى ممارسة تستدل وتسترشد بالماركسية – اللينينية، إيديولوجيا صراع البروليتاريا الطبقي.
تلخيصا، يمكننا القول أن الوحدة المتناقضة التي تجمع الحزب بطبقته، والتي نفهمها على ضوء مفهوم الديموقراطية المركزية، ليست معطاة سلفا كوحدة، بل هي عملية بناء وانقراض وحدات متناقضة، بحيث أنه كلما انفرطت وحدة تكونت على أنقاضها وحدة أخرى، تنقل الوعي السياسي للطبقة العاملة إلى مستوى أرفع، فتتقدم عملية تحقيق وحدة النظرية الاشتراكية مع ممارسة الطبقة العاملة و حلفائها.
وبسبب كون هذه الوحدة وحدة متناقضة، فإن وجهها الديموقراطي قد يبرز في حين، و وجهها المركزي في حين آخر، حسب مراحل الصراع الطبقي نفسه، فنقول مثلا، أن الفترة الممتدة بين 1906 وعام 1912 في روسيا قد تميزت بغلبة الوجه المركزي من التناقض في العلاقة بين حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي وبين الطبقة العاملة، إذ غلب على نشاط البلاشفة آنذاك (و هم جناح من الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي) النضال ضد شتى النزعات الانهزامية المثالية المتولدة عن إخفاق 1906، والتي عبرت عن نفسها على مستوى الطبقة العاملة وحزبها الاشتراكي الديموقراطي وجناحه البلشفي: النضال ضد نزعة الإرهاب الفردي غير الهادف، وضد النزعة الهروبية المثالية المتمثلة في جماعة "الباحثين عن الله"، التي حاولت التوفيق بين الماركسية وبين نزعة مسيحية صوفية) انظر كتاب لينين "المادية والمذهب النقدي التجريبي)، أي أن هذه الفترة تميزت بانحسار المد الجماهيري من جهة، وانتكاسته من جهة أخرى، كما تميزت هذه الفترة ببذل القسط الأوفر من نشاط البلاشفة في النضال ضد شتى الانحرافات المتولدة ضمن الطبقة والحزب والجناح، كردود فعل انفعالية لهزيمة الثورة الروسية الأولى. هذا في حين يمكن القول، بأن الفترة الممتدة ما بين غشت 1917 وانتصار ثورة أكتوبر (وإلى ما بعد ذلك بكثير) فترة غلب على البلاشفة والطبقة العاملة الروسية الوجه الديموقراطي من التناقض.
في بداية هذه الفترة، قامت التظاهرات الجماهيرية العارمة في غشت ضد الحكومة المؤقتة، و أجبرت الحزب البلشفي على إلغاء قرار كانت قد اتخذته اللجنة المركزية بعدم الاشتراك في التظاهرات، وعلى النزول إلى الشارع لتسلم قيادة الجماهير، وتوجت هذه الفترة بمبايعة جماهير العمال والجنود للبلاشفة كقادة، عبر منحهم الأغلبية في السوفيات في عملية ديموقراطية انتخابية مباشرة لم يعرف لها التاريخ مثيلا، ولم تكن المبايعة سوى إعلان موافقة الجماهير على شعارات البلاشفة: "كل السلطات للسوفييت، الخبز، السلم، الحرية"، أي أنها بمثابة تأكيد لصحة تحليل نظري معقد ومثمر ولدته اللينينية، بوصفها الماركسية في حقبة الاستعمار والثورة الاجتماعية، وهنا تكمن كل عبارة لينين الشهيرة "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية".
قبل الانتقال إلى معالجة صيغة التنظيم اللينينية، أي الديموقراطية المركزية بمعناها الأضيق، لابد من إيراد الملاحظة التالية:
أن تحديد مفهوم الديموقراطية المركزية وبلورته هو الشرط الذي لابد منه لعدم السقوط في مهاوي التجريبية والانتقائية من جهة، والتزمت المذهبي من جهة أخرى، وهذا المفهوم هو الإطار الوحيد القادر على استيعاب كل تعقيد وتناقض في العلاقة بين حزب الطبقة العاملة وطبقته، وهو بالتالي يسمح بأن تكون الماركسية – اللينينية، حقا دليل عمل، والواقع أن كلا الانحرافين، التزمت المذهبي والتجريبية يفترض أحدهما الآخر. فالنظرة إلى التراث اللينيني (وإلى مجموع التراث الماركسي عموما) على أنه مجموعة من النصوص المنزلة (أي نزعة التزمت المذهبي) تؤدي عمليا إلى انتقاء هذا النص على حساب ذاك، مع تضخيم الأول وطمس الثاني، حسب الحاجة الذاتية التي تبرر هذه العملية أو تلك التي أملتها اعتبارات لا تمت بصلة إلى النظرية بوصفها دليل للعمل (أي التجريبية الانتقائية).
(...) من هنا، فإن تحديد وبلورة مفهوم الديموقراطية المركزية وحده هو السبيل لتبيان الوحدة العضوية المعقدة للتراث الماركسي – اللينيني على مستوى معالجته بين الحزب وطبقته، وإلا، فإما أن نرفض الماركسية – اللينينية جملة وتفصيلا بحجة عدم استيعابها للأوضاع الخاصة "لكل قطر أو منطقة"، وإما أن نلغي خصوصية نمط الإنتاج الذي نحن في غرض معالجته باسم "نقاوة" مزعومة، أو باسم الإخلاص لمبادئ عامة لا جدوى منها إذا هي لم تؤد إلى تحليلات محددة لأوضاع محددة.
صيغة التنظيم الحزبي
كيف ينبغي أن تكون العلاقة داخل حزب الطبقة العاملة لكي يتمكن من ممارسة دوره المثلث الأوجه: التوعية، التنظيم والقيادة؟
للإجابة على هذا السؤال لابد من تحديد مفهوم الديموقراطية المركزية (المركزية الديموقراطية) بمعناها الأضيق، أي بوصفها صيغة التنظيم الحزبي اللينينية:
1 - وحدة الحزب
2- التقرير والتنفيذ (العلاقة بين القيادة والقاعدة)
1 ـــ وحدة الحزب، أي وحدة؟
لنمسك الخيط من طرف. لقد رأينا سابقا ضرورة أن يضرب الحزب "حصارا" حوله ضد شتى منوعات الفكر البورجوازي، التي تتسرب إلى أوساط الطبقة العاملة، مع التشديد بأن هذه المهمة تسير في آن واحد مع مهمة أخرى هي رفع قطاعات واسعة ومتزايدة من الطبقة العاملة إلى مستوى الوعي المتقدم للحزب مع تعميق هذا الوعي (تصعيده) باستمرار. وقد اعتبرنا أن ذلك هو إحدى موجبات التناقض في دور الحزب. لننظر الآن إلى هذه الموضوعة في وضعها المتحرك. ليس يكفي القول أن ثمة أفكار بورجوازية في أوساط الطبقة العاملة بسبب هيمنة الإيديولوجيا البورجوازية عليها، أي أنه ليس يكفي القول أن ثمة معركة في أوساط الطبقة العاملة بين النظرية الاشتراكية والإيديولوجيا البورجوازية، بحيث أن انتصار النظرية الاشتراكية هو خسارة مطلقة للإيديولوجيا البورجوازية، فالواقع أنه في هذه المعركة (كما في العديد من المعارك الأخرى) تملك الإيديولوجيا البورجوازية "طابورها الخامس" – إذا جاز التعبير- في أوساط الطبقة العاملة نفسها، كما تتلقى إمدادات مستمرة من الخارج. وهذ يعني – عمليا - أنه ليس هناك معركة حاسمة فاصلة تنتصر فيها النظرية الاشتراكية، طليعة طبقة عاملة مسلحة بالوعي الاشتراكي وحسب، فالحرب بين النظرية الاشتراكية والإيديولوجيا البورجوازية أشبه ما تكون بحرب طويلة الأمد.
فما هو هذا الطابور الخامس، وما هي هذه الإمدادات؟
إننا نلقى تفسيرا لكلا الظاهرتين في التطور المتفاوت للرأسمالية:
أولا: عندما يميز لينين بين عمال متقدمين وعمال متخلفين، لا يميز بينهم على أساس تقدم الوعي وتخلفه فحسب، بل على أساس موقع كل منهما في الإنتاج الرأسمالي، الذي يحدد إلى حد بعيد، تخلف أو تقدم الوعي.
بحكم تطور الرأسمالية المتفاوت، تظل بعض الفروع الصناعية أقرب ما تكون إلى الإنتاج الحرفي (وحدات إنتاجية صغيرة ومبعثرة تضم الواحدة منها عددا قليلا من العمال). إن عمال هذه الفروع أقرب ما يكون وعيهم إلى وعي البورجوازي الصغير، إلى وعي الحرفي، أي أنهم أقل استيعابا واستقبالا للدعاية الاشتراكية، ولذا فهم يكونون "الطابور الخامس" للإيديولوجيا البورجوازية في أوساط الطبقة العاملة المتقدمة وشعاراتها. ويضاف إلى هذه الفئة أيضا الفئات العمالية المتبرجزة (أي الأرستقراطية العمالية) أي تلك الفئات التي تشتريها البورجوازية بواسطة الأموال التي جنتها من المستعمرات.
ثانيا: أما الإمدادات فتأتي على شكل دفعات من البورجوازيين المتوسطين أو الصغار، اللذين يتساقطون – بفعل نزعة النظام الرأسمالي إلى الاحتكار) إلى أوساط الطبقة العاملة، أي أنهم يضطرون إلى التخلي عن ملكيتهم لوسائل الإنتاج، ويبيعون قوة عمليهم لقاء أجر، لكن هذه الفئات، وإن كانت قد انتقلت إلى مواقع الطبقة العاملة، فإن وعيها يبقى بورجوازيا وبورجوازيا صغيرا.
إن الإسكافي الصغير الذي يضطر بفعل منافسة مصانع الأحذية الكبيرة له، إلى بيع محترفه والعمل كأجير في أحد المصانع الكبيرة، يحن أبدا إلى اليوم الذي يراكم فيه مبلغا من المال لإعادة فتح محترفه واستعادة ملكيته لأدوات الإنتاج التي خسرها، ومن هنا الانشقاق عند هؤلاء بين واقعهم الطبقي (البروليتاري)، وبين وعيهم الطبقي (الذي لا يزال بورجوازيا صغيرا)، ومن هنا فإنهم يشكلون الإمدادات التي تتغذى منها البورجوازية في أوساط الطبقة العاملة.
لكن ماذا بشأن الحزب؟ هل بإمكانه الحيلولة دون تسلل هذه الأفكار إلى صفوفه؟
في الواقع الجواب بالنفي. فالطريقة الوحيدة لكي يحول قطعيا دون تسللها، هي أن يتحول فعلا إلى حصن مغلق، لكن تحوله إلى حصن مغلق يعني بتر العلاقة التي تشده إلى طبقته، يعني الاستبدالية، و الاستبدالية هي التبعية لطبقة أخرى. وهنا بيت القصيد: ينبغي على الحزب أن يناضل داخل صفوفه نفسها ضد شتى منوعات الفكر البورجوازي التي تتسلل داخله، ينبغي أن تتصارع الآراء والاتجاهات، ينبغي أن يتغلب رأي على رأي آخر. ولكي تستكمل الصورة، لابد من إضافة ما يلي:
يسير الحزب حسب خطة، هي حصيلة تقييم لمرحلة من مراحل الصراع الطبقي. مثلا، خلال الفترة بين سنة 1905 وأبريل 1917، كان شعار الحزب البلشفي حول الثورة القائمة في روسيا هو "دكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية"، لكن ثورة فبراير 1917 عدلت هذا الشعار، إذ أنها حققته جزئيا، وبتحقيقها إياه جزئيا خلقت علاقات جديدة بين القوى الطبقية، إذ ذاك برز اتجاهان داخل الحزب: أغلبية يمثلها زينوفييف ومن سموا "البلاشفة القدامى" من اللذين لم يستوعبوا الانعطاف الذي طرأ على مجرى الصراع الطبقي فظلوا متمسكين بالشعار القديم، وأقلية يمثلها لينين استوعبت خصوصية المرحلة الجديدة، ورفعت بالتالي شعارا جديدا هو "دكتاتورية البروليتاريا". أي أن في مرحلة من مراحل صراع البروليتاريا لابد أن ينقسم الحزب إلى اتجاهين أو أكثر، فإذا بنا أمام المعضلة التالية:
إما أن نعترف بهذا الواقع ونحاول إيجاد أفضل صيغة للسيطرة عليه، وإما أن نمحيه ونحول الانقسامات الحتمية إلى انشقاقات، إلى تشرذم لا نهاية له، والحل الأول هو الحل اللينيني القائم على تحليل جدلي لوحدة الحزب، والحل الثاني هو الحل "الستاليني"، ويرتكز على فرض وحدانية على الحزب وانسجاما قسريا مثاليا، مؤداهما الوحيد نقيض الوحدة: التبعثر، التشرذم والانشقاق.
هنا يتبدى لنا المفهوم اللينيني لوحدة الحزب. بفعل العوامل التي عددناها (1) الطابور الخامس" للإيديولوجيا البورجوازية في أوساط الطبقة العاملة (2)، الإمدادات التي تصلها على شكل بورجوازيين صغار يتساقطون إلى مصاف الطبقة العاملة محتفظين بتطلعاتهم البورجوازية الصغيرة (3)، تخلف عناصر حزبية، حكما، عن استيعاب خصوصية المرحلة الجديدة من العلاقات الطبقية. فإن الوحدة الحزبية هي دائما وحدة متحركة، أي وحدة عبر الجدلية التالية: وحدة تقوم على سيطرة أغلبية معينة داخل الحزب (تدافع عن خط معين) على الأقلية المعارضة – تحول الأقلية إلى أغلبية وبروز وحدة جديدة (انظر مثلا لينين "خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء" حيث يلخص جدلية الصراع داخل الحزب ...
وإذا نحن عدنا إلى المثال التاريخي الذي انطلقنا منه نستطيع القول أن انتصار ثورة أكتوبر كان رهنا بتحول الأقلية الداعية إلى "دكتاتورية البروليتاريا" إلى أغلبية وانتقالها من الطور الدفاعي إلى الطور الهجومي. ونحن نعلم أن هذا التحول، وذلك الانتقال، لم يتحققا إلا نتيجة صراع أفكار عنيف جدا، استقال لينين خلاله من اللجنة المركزية، وراح يتصل مباشرة بالقيادات الوسطى والقواعد لإقناعها بموقفه.
هكذا يمكننا ا تعريف وحدة الحزب بمفهومها اللينيني على الشكل التالي:
إن وحدة الحزب في لحظة معينة من لحظات تاريخه، هي وحدة اتجاهات متناقضة يسيطر عليها اتجاه يمثل الأغلبية، يخضع اتجاهات الأقلية لخطه السياسي وشعاراته، وهذه الوحدة ممكنة شرط قبول جميع الفرق بالمبدأ التالي:
رغم "الانشقاق" في الداخل، ما أن يحسم الأمر، أي ما أن يتخذ القرار، حتى ينبغي للأقلية الخضوع للأكثرية في تنفيذ قراراتها والسير بمقتضى خطتها. ويحق للأقلية بالمقابل الاستمرار بدعايتها لموقفها داخل الحزب، أي الاستمرار في السعي لأن تتحول هي إلى أكثرية، وهذا هو الشرط الذي يسمح للتيارات المتناقضة من أن تظل تتصارع ضمن وحدة معينة هي الحزب، أي أنه هو الذي يحول دون أن يؤدي الصراع إلى تكوين وحدتين أو أكثر. وإذا كان من مثال على ذلك من التاريخ، فلنتذكر أن من المناسبات الناذرة التي طالب فيها لينين بفصل بلاشفة حزبيين، كان إبان النقاش الذي دار في الحزب بعد يوليوز 1917 حول اعتماد شعار الانتفاضة المسلحة، آنذاك، نقل زينوفييف و كامينيف معارضتهما لشعار الانتفاضة المسلحة من داخل الحزب إلى خارجه، إذ هاجما موقف أغلبية أعضاء اللجنة المركزية ، وفضحا خطتها على صفحات جريدة مكسيم غوركي "الحياة الجديدة" ( وكان غوركي آنذاك يقف في صف واحد مع بعض البلاشفة والاشتراكيين الثوريين ضد إسقاط الحكومة المؤقتة) أي أن الحرمان من العضوية، ليس راجعا إلى رفض هذين القائدين لموقف الأغلبية، بل هو عقاب على رفضهما التقيد بمبدأ انصياع الأقلية للأغلبية.
في هذه الممارسة للعلاقات الحزبية تكمن قوة الحزب. و هنا "سر" تفوق التنظيم اللينيني، تنظيم حزب الطبقة العاملة وحلفائها الكادحين. فالنقاش وتصارع الآراء في الداخل يضمنان تكيف الحزب بسرعة ودقة مع أدنى تغير في ممارسة النضال الطبقي وتوازن القوى، و وحدة الحزب في مواقفه وتنفيذه (بغض النظر عما إذا كان من ينفذ معارضا للموقف أو موافقا عليه) هي شرط وضوح خطته وممارسته، أي قدرته على الاستقطاب والتأثير على أوسع قطاعات الطبقة العاملة. وهكذا تتم الحيلولة باستمرار دون أن ينقل العدو الطبقي المعركة داخل الحزب، فيؤدي إلى تفتته، أي إلى تحول كل تيار من التيارات المتناقضة في داخله إلى وحدة قائمة بذاتها، فتظل المعارك الحاسمة تخاض على أرض العدو، أي يظل حزب الطبقة العاملة في طور الهجوم في اللحظات الحاسمة.
لكن ضمن أي نمط تمارس وحدة الحزب هذه؟ هذا السؤال ينقلنا إلى موضوعنا الثاني:
1 التقرير والتنفيذ – القيادة والقاعدة
إن الديموقراطية المركزية بوصفها صيغة التنظيم اللينينية هي وحدة متناقضة من العلاقات الديموقراطية والمركزية معا، يغلب عليها الوجه المركزي من التناقض حسب الطبيعة المميزة للواقع المحدد، علما بأن الحزب المركزي فقط، والديموقراطي فقط، ليس حزبا بلشفيا، ـأي ليس حزبا على الطراز اللينيني. وتعبر هذه الديموقراطية المركزية عن نفسها على صعيد العلاقة بين القيادة والقواعد على شكل سلطة القيادة على القواعد و رقابة القواعد على القيادة، كما تعبر عن نفسها على صعيد العلاقة بين التقرير والتنفيذ، على شكل مركزية في التنفيذ، لكن قبل أن نتناول هذين المبدأين، لننظر في مسألة غاية أحد أوجه التناقض حسب الطبيعة المميزة للواقع المحدد.
خلال فترة بناء الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي بين 1898 و 1922،كان لينين يشدد على البدء بالتنظيم من فوق إلى تحت، ويرفض مبدأ الانتخاب، وهو يشدد على الأول بسبب الحاجة إلى مركز يستقطب حوله الحلقات الاشتراكية الديموقراطية، ويرفض الثاني بسبب تناقضه مع مبدأ السرية الذي كانت تفرضه أوضاع روسيا آنذاك، ولكن، ما أن تبدو بعض البوادر "التحررية" من النظام القيصري عام 1904 و 1905 حتى يدعو لينين إلى إعادة تنظيم الحزب، وإلى تبني المبدأ الانتخابي للمؤتمر الرابع للحزب، كما يدعو إلى ممارسة النضال العلني وشبه العلني. لماذا؟ لأن الحزب "يستنقع" خلال النضال السري، فينبغي إدخال عناصر جديدة إليه تحمل معها "الروح الثورية الجديدة في روسيا" (حول إعادة تنظيم الحزب، المؤلفات الكاملة، ج 10). هل هذا "تناقضا" في موقف لينين؟ بالطبع لا. إنه التعبير العلمي على ما قلناه أعلاه من غلبة الوجه الديموقراطي أو المركزي من التناقض ضمن وحدة العلاقات الديموقراطية المركزية حسب خصوصية الواقع المحدد. ولكن، لنتذكر أن التخلي عن المبدأ الانتخابي في المرحلة التكوينية هي الشاد الذي تفرضه الضرورة: وجود مركز يستقطب الأعداد الكبيرة من الحلقات الاشتراكية الديموقراطية المبعثرة، ولكن ما أن ينشأ الحزب حتى يتغير المعنى الذي يعطيه لينين للمبدأ من فوق نزولا، إذ يصبح مؤتمر الحزب هو أعلى سلطة فيه، ولكن مؤتمر الحزب يتكون ابتداء من 1905 من تحت فصاعدا، أي عبر الانتخاب من القواعد.
تتجلى العلاقة المتبادلة بين القيادة والقاعدة، وبين التقرير والتنفيذ من خلال وضع الخطة وتنفيذها، فلنتتبع هذه العملية بشيء من التفصيل.
أ- وضع الخطة:
إن القيادة هي التي تضع الخطة بناء على التقارير الواردة إليها من القواعد، واسترشادا بالبرنامج الحزبي، والقيادة هنا هم الرفاق الأنضج والأكثر وعيا وخبرة ومراسا، وعملية وضعها للخطة هي عملية استخراج مجموعة من الأهداف والوسائل من مجموع التقارير والاقتراحات الواردة إليها من القواعد، استرشادا بالبرنامج بوصفه الخط الموجه لعمل الحزب لمرحلة تاريخية بأكملها.
ب – نقاش الخطة وتقريرها:
بعد أن تضع القيادة خطة، تعيدها إلى القواعد للنقاش، ويحسم المؤتمر النقاش عبر جدلية تحول الأقلية إلى أغلبية (أو العكس بالعكس) فيقر الخطة (وعملية الإقرار هذه تشتمل على التعديل، التغيير وحتى استبدال خطة بأخرى طبعا). وهنا، فالمؤتمر مركز التقرير، وأعلى سلطة تمثيلية، إنه الهيئة الأكثر تمثيلا للقواعد، أي أنه يلعب الأدوار التالية:
أنه مركز التقرير ومصدر السلطة (يمنح القيادة سلطة على القاعدة خلال الفترة بين انعقاد مؤتمرين، وبعبارة أخرى: القواعد تمنح القيادة سلطة عليها) ومجال مراقبة القاعدة على نشاط القيادة، وبعدما أن يقر المؤتمر الخطة ويحاسب القيادة على إشرافها على تنفيذ الخطة السابقة، ينتخب قيادة جديدة، وينقل إليها سلطة التقرير (أي اتخاذ القرارات المتعلقة بتنفيذ الخطة) إلى حين موعد انعقاده الجديد.
ج – تنفيذ الخطة:
تتولى منظمات القواعد (الفرق) تنفيذ الخطة تحت إشراف القيادة، أي أنها تتمتع باللامركزية (هذا الاستقلال النسبي) مشروط: بموافقة الهيئة القيادية الأعلى منها على قراراتها، وإذا ما نشب خلاف بين هيئة دنيا وهيئة عليا حول موقف ما، ينبغي على الهيئة الدنيا الخضوع للهيئة العليا، علما بأن الهيئة القيادية مسؤولة عن قرارها هذا، أي أنها تحاسب عليه أمام المؤتمر.
خلال هذه العملية تبتدئ ممارسة الديموقراطية المركزية بوجهيها. المؤتمر هو أعلى سلطة في منظمة حزبية ما، لأنه الهيئة الأكثر تمثيلا للقاعدة، وليست القيادة المنبثقة عن أعلى سلطة حزبية بين مؤتمرين إلا لأنها تعبر عن إرادة أغلبية أعضائه، أي أغلبية ممثلي القواعد. وبهذا الشرط فقط، أي بشرط رقابة القواعد على قيادتها، يحق للقيادة ممارسة سلطتها على القواعد، أي إخضاع الهيئات الدنيا لقرارات الهيئات العليا. هذا من حيث الوجه المتعلق بالسلطة مع الرقابة الديموقراطية أي بالعلاقة بين القاعدة والقيادة.
أما بالنسبة للوجه المتعلق بمركزية التقرير ولا مركزية التنفيذ فينبغي التشديد على ما يلي:
إذا كانت القيادة هي التي تضع الخطة فهي إنما تضعها وفق تقارير ترد من القواعد (أي وفق تقارير من أقرب المنظمات الحزبية إلى الجماهير وأكثرها التصاقا بحياتها) واسترشادا بالبرنامج الحزبي الذي يحظى بموافقة جميع الحزبيين ما دام الانتماء إلى الحزب رهن بالموافقة عليه. وإذا كان المؤتمر هو مركز التقرير، فهو كذلك الهيئة الأكثر تمثيلا للقاعدة. وإذا كان يخول القيادة حق ممارسة التقرير (أي تقرير الخطوة العملية لتنفيذ الخطة) فإنما يفعل ذلك لأن هذه القيادة منبثقة عنه وملزمة بقراراته) حسب الخطوات العملية لذلك بقصد واحد، وهو أن يأتي التنفيذ شاملا لشتى الخصوصيات، التي لا يدرك أهميتها إلا القواعد، وتسمى عملية التنفيذ هذه لا مركزية بسبب نسبية الاستقلال في التنفيذ، أي خضوع لقرارات الهيئات العليا.
أما القول بأن القيادة هي التي تقرر والقواعد هي التي تنفذ، فهو لا يمت بصلة ما إلى المفهوم اللينيني للمركزية الديموقراطية، وقد بينا بوضوح كاف أن القواعد تساهم في التقرير (عن طريق توفيرها المواد الأولية لوضع الخطة، وعن طريق تمثيلها في المؤتمر، وانتخابها للقيادة)، كما تشارك في التنفيذ، بمعنى أنها تنفذ متمتعة باستقلال نسبي، وتراقب أعمال القيادة – الممسكة بزمام السلطة، وحق التقرير بين مؤتمرين – في معرض إشراف هذه القيادة على عملية التنفيذ. وبهذا يمكن القول أن المفهوم اللينيني للمركزية الديموقراطية ينزع إلى تقريب مراكز التقرير والتنفيذ بعضها من بعض قدر الإمكان، أي ضمن حدود سلطة القيادة على قواعدها ورقابة القواعد على قيادتها، و المركز الذي يصدر عنه التقرير والتنفيذ هو المؤتمر، فهو في آن واحد مصدر السلطات والقرارات، كما هو مجال محاسبة القيادة على إشرافها على التنفيذ ومحاسبة القواعد على تنفيذها لأحكام الخطة.
نقل عن "الحرية" مجلة الجبهة الديموقراطية الشعبية، نشر في العددين الصادرين في شهر مارس 1971، رقم العددين: 558 و559

النص الثاني

مقترح للنقاش والنقد والإغناء
مساهمة في تحديد المفهوم الشيوعي للخلية
ولمبادئ وقوانين التنظيم الثوري

شكلت الخلية حجر الزاوية في بناء الأحزاب الشيوعية العالمية منذ بداية بروزها، فلقد كانت الخلية البوتقة التي ينصهر فيها أعضاء الحزب ويحققون من خلالها وحدتهم في الإرادة والفكر والممارسة، كما اعتبرت الإطار القاعدي الديموقراطي الذي يبلور خط وأهداف الحزب في انسجام وثيق ما بين القيادة والقاعدة، ما بين الحزب والطبقة العاملة والجماهير الكادحة.
ولقد تبلورت داخل هذه الأحزاب، عبر تجارب كفاحية خلاقة، شاقة وطويلة مبادئ تنظيمية وقوانين عمل داخلية كرست العمق الثوري لمفهوم الخلية، وثبتت دورها الحيوي الهائل في سيرورة بناء وتصليب الحزب كأداة للتغيير والثورة، وجعلت منها أرقى شكل تنظيمي يشرك جميع أعضاء الحزب في تحديد وتطوير الخط السياسي وتسطير وإنجاز البرامج النضالية وتحمل المسؤوليات.
يمكن تحديد هذه المبادئ التي تجسد وتترجم الهوية الطبقية وخط وأهداف الحزب بشكل مكثف دقيق في خمسة مبادئ أساسية:
القيادة الجماعية
المركزية الديموقراطية
النقد والنقد الذاتي
المحاسبة
الانضباط الثوري

القيادة الجماعية
يتحدد الفكر الماركسي أساسا كفكر البروليتاريا وسلاحها في تحطيم النظام الرأسمالي والقضاء عل الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج واستغلال الإنسان للإنسان بهدف بناء النظام الاشتراكي بإقرار الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج وللعلم والمعرفة، و وضع كل السلطة بين أيدي الطبقة العاملة و الكادحين.
لقد وضع هذا المبدأ التنظيمي الثوري لينسجم مع هذا الهدف، وليكون بمثابة لبنة أساسية سيتم الارتكاز عليها في إنجاز هذا المشروع الإنساني العظيم. وعلى عكس تصور وممارسة البورجوازية (ليبرالية بيروقراطية أو دكتاتورية) التي تسيطر على سلطة التسيير والقرار وتمركزها بين يدي فرد أو هيئة عليا، يسعى هذا المبدأ لوضع هذه السلطة بيد مجموع أعضاء وهيئات الحزب، وبطريقة تضمن ديموقراطية القرار والتسيير وتحمي التنظيم من خطر التسلط والبيروقراطية، على طريق وضعها (أي السلطة) بين أيدي الطبقة العاملة ومجموع الكادحين.
المركزية الديموقراطية
صادقت الأممية الشيوعية (الثانية) لأول مرة على هذا المبدأ في مؤتمرها الثاني سنة 1889، وتقرر تطبيقه من طرف كافة الأحزاب الشيوعية كمبدأ ديموقراطي في التنظيم والعمل، وفي تسيير الحزب. ولقد طور البلاشفة هذا المبدأ ما بين 1903 – 1906، وكان هاجسهم في ذلك هو وضع صيغة تنظيمية للحزب تراوح ما بين الصرامة الثورية وما بين الفعالية والانسجام نظرا لصعوبة العمل السري والضعف التنظيمي والقمع وهجرة المناضلين. سيرتكز هذا المفهوم على مبدأ مزدوج:
- انتخاب الهيئات العليا من طرف الهيئات التنظيمية الدنيا، وتوفير الحرية في النقاش والتعبير على الآراء.
- انضباط الهيئات الدنيا للهيئات العليا والتطبيق الجماعي للقرارات مع التزام الهيئات العليا بالتعبير عن إرادة أغلبية القواعد. وقد يحصل في حالات استثنائية أن تتغلب المركزية، غير أن تغليب الديموقراطية على المركزية هو الذي ينبغي أن يسود بشكل عام حتى يضمن التنظيم عقلنة الفعل السياسي المتخلص في آن واحد من تجاوزات القيادة ومن تشتت إرادة القواعد، وتضمن فيه الديموقراطية كمنهج وحيد للبحث عن الحقيقة السياسية، وبهذا يؤمن هذا المبدأ إضافة إلى الحرية وتحمل المسؤوليات من طرف كل أعضاء الحزب فعالية ونجاعة في الصراع السياسي وفي العمل والممارسة.
لقد لخص لينين هذا المبدأ في مقولاته التالية:
حرية تامة في النقاش، وحدة تامة في التطبيق.
الديموقراطية هي عنصر الحرية، والمركزية هي عنصر الفعالية.
الديموقراطية هي دم الحزب الثوري، والمركزية هي هيكله العظمي، وجسد الحزب الثوري لا يمكن أن يعيش إلا بهما معا.
النقد والنقد الذاتي
كان لينين يدعو دائما إلى نقد الأفكار والممارسات الخاطئة بطريقة صريحة، و واضحة وصادقة، كما كان يعتبر النقد و النقد الذاتي أداة ضرورية في تربية أعضاء الحزب و الجماهير. ولأن الفكر الماركسي لا يؤمن بالمطلق ولا بالثابت، سواء في المادة أو الأفكار أو السياسة، أو في الصراع الطبقي، فإنه سيستعمل النقد لاختبار وتمحيص الفكر والممارسة وتخليصهما من الجوانب الخاطئة، الذاتية وغير الموضوعية، وفي علاقة جدلية مع الواقع الحي، المتحرك والمتغير. إن النقد منهج لإبراز الحقيقة وتطوير الفعل الثوري، يسمح بتصحيح الأفكار والممارسة، ويتجاوز نقط الضعف في جو من الحرية و وحدة العمل. ويمكن اعتبار موقف حزب من أخطائه، وقدرته على الكشف عن أسبابها وشروط وقوعها لإصلاحها وتجاوزها مقياسا للحكم على ثورية هذا الحزب وانسجامه مع أهدافه واحترامه لواجباته والتزاماته إزاء طبقته، وإزاء الجماهير الكادحة التي يمثلها ويعبر عن إرادتها وطموحاتها.
وإذا كان النقد سلاحا لتصحيح وإغناء الفكر وتطوير الممارسة، فإنه يمكن اعتبار النقد الذاتي أداة لشحذ هذا السلاح، وقوة محركة لتطوير المعرفة والممارسة والتجارب عن طريق الاعتراف بالأخطاء وتبيان أسباب وشروط وقوعها ماديا ومعرفيا لتصحيحها والاستفادة الجماعية منها و وضع شروط تجاوزها وعدم تكرارها في المستقبل.
وتجدر الإشارة إلى أن ممارسة النقد الذاتي هي ممارسة حرة وطوعية تتأسس على قناعة بارتكاب الخطأ وبضرورة تصحيحه وتجاوزه، فهي إذن تتجاوز الذات أو الشخص لترتقي إلى الموضوع ... وموضوع النقد والنقد الذاتي هو، بكل بساطة: الحقيقة الموضوعية وتطوير عمل المناضلين والمناضلات.
الانضباط الثوري
هذا المبدأ طوعي، بمعنى أنه لا علاقة له بالانضباط العسكري ولا بالطاعة الدينية لأنه لا يرتكز على القسر والخضوع بقدر ما هو اختيار حر و واع نابع من قناعة المناضل أو المناضلة بضرورة تنظيم متماسك ومنسجم، صلب وموحد يوفر الحرية في التعبير وإمكانية التقدم والتطور وبضرورة خضوع الأقلية للأغلبية، والهيئات الدنيا للهيئات العليا مع ضمان حق الأولى في إعادة النظر والنقاش في القضايا، التي يتبين من خلاله الممارسة والتطبيق، خطأ الثانية في اتخاذها.
إن هذا المبدأ ضروري وحيوي لحماية التنظيم من الفوضى والتضارب والتسيب، ولتقوية وحدته وفعاليته.
المحاسبة
وهي مجموعة من الإجراءات التنظيمية – القانونية تطبق في حالة عدم احترام وتطبيق المبادئ التنظيمية والإخلال بالالتزامات التنظيمية والنضالية، ويجسد القانون الداخلي مجموع هذه الإجراءات، التي تتراوح ما بين التنبيه والتحذير والتوقيف والطرد. إن الهدف من هذه الإجراءات القانونية هو حفز المناضلين والمناضلات للدفع بالتنظيم إلى الأمام واحترام التزاماتهم إزاء حزبهم وإزاء الثورة والطبقة العاملة ومجموع الكادحين والمستغلين.
إعداد وليد الزرقطوني
ــــ ـــــ
يوجد هذا النص بصيغة بدف على موقع الشرارة / كراسة البروليتاري
http://acharara.hautetfort.com