المفكر العربي الكبير عبد الحسين شعبان: -أمراء الطوائف- يسيطرون على مقدّرات الدولة العراقية
عبد الحسين شعبان
2024 / 9 / 28 - 18:31
حوار أجراه
شريف عبد الحميد - القاهرة
لمجلة شؤون إيرانية
• الجواهري والمتنبي والبحتري والسياب والبياتي ونازك الملائكة وماركس كانوا "يعيشون" في بيتنا
• العراق بات مُقسّمًا منذ الاحتلال الأمريكي إلى نصفيّن... نصفه لأمريكا ونصفه الآخر لإيران
• انهيار مؤسسات الدولة العراقية على أيدي المحتل الأمريكي كان يتوافق مع الرغبة الإيرانية والتركية
• أدعو منذ أول الثمانينيات إلى إلغاء ظاهرة "الطائفية السياسية" في المعترك العراقي
• "فرقاء لبنان" مختلفون وكلٌ متشبث بموقفه... لذلك لا وجود لرئيس جمهورية من عام ونصف
• "المحاصصة الإثنية - الطائفية" عطلت دولاب الدولة العراقية وكرّست التقاسم الوظيفي من "المشير إلى الخفير"
• لا ولاء للمصلحة الوطنية في العراق... والولاء الأول للسياسيين هو لـ "أمراء الطوائف"
• وضعت قانونًا ﻟ "تحريم الطائفية وتعزيز المواطنة" يصلح للتطبيق في جميع البلاد العربية
• أشعر بحزن شديد إزاء عجز العرب عن دعم قطاع غزة في مواجهة "حرب الإبادة" الإسرائيلية
قال المفكر العراقي العربي الكبير د. عبد الحسين شعبان، إن "أمراء الطوائف" يتحكّمون بالقرار السياسي العراقي، ويسيطرون على مُقدرات الدولة. وذلك بسبب "الطائفية السياسية" التي كرسها الاحتلال الأمريكي للبلاد منذ عام 2003، حتى هذه اللحظة، مؤكدًا - في الوقت نفسه- أن انهيار مؤسسات الدولة العراقية على أيدي المحتل الأمريكي كان يتوافق مع الرغبة الإيرانية والتركية.
وأضاف د. شعبان، في حوار شامل لـ "شؤون إيرانية"، أن نظام "المحاصصة الإثنية - الطائفية" عطّل دولاب الدولة العراقية، وكرّس صيغة التقاسم الوظيفي من "المشير إلى الخفير"، لافتًا النظر إلى أنه يدعو منذ أول الثمانينيات من القرن الماضي حتى الآن، إلى إلغاء ظاهرة الطائفية السياسية في المعترك العراقي.
وأكدّ شعبان، أنه يشعر بحزن شديد إزاء عجز العرب عن دعم قطاع غزة، في مواجهة "حرب الإبادة" التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد القطاع منذ عملية طوفان الأقصى (7 أكتوبر / تشرين الأول 2023) معتبرًا أن ما تقوم به إسرائيل هو جزء من فرض "ثقافة الإذعان" التي تريد بواسطتها السيطرة على العقل الجمعي العربي في الوقت الراهن، حسب تعبيره، وإلى نص الحوار:
• جمعتم خلال مسيرتكم الفكرية الحافلة بين العمل الفكري والأكاديمي ومزجتم السياسة بالثقافة... فما هي العوامل الحاسمة في تشكيل هذه المسيرة؟
أظن أن هناك عوامل عديدة لعبت مثل هذا الدور، أولًا - العائلة، أي أن البيئة العائلية، حيث كانت بيئة دينية وثقافية بامتياز، وفي الوقت نفسه بيئة سياسية علمية أكاديمية. وثانيًا - كان الوسط الذي عشت فيه وهو المدينة أيضًا (النجف)، أقرب إلى معهد دراسي مفتوح، فيه فقه وأدب ولغة وشعر وتراث وتاريخ، وفي الوقت نفسه تطلّع إلى المدنية والحداثة والتغيير والتجديد، على الرغم من أن الطابع العام للمدينة هو طابع ديني.
وثالثًا - البيئة الخصوصية التي تمثّل المحلّة (الحي) والمدرسة والأصدقاء، وكانت تميل إلى التغيير وتتلقّف الجديد، وهي بيئة منفتحة على الرغم من الطابع العام المحافظ. وهذه العوامل الثلاثة العائلية والمدينية والاجتماعية ، كانت تتفاعل مع بعضها وتتلاقح لدرجة أنها "انعجنت" في بوتقة، أنتجت هذا التنوّع والتشعّب والفضاء المنفتح، في هارموني يجمع ما هو ثقافي وما هو فكري وما هو إنساني.
قلت وأقول إن ثلاث روافد أساسية أثرت فيّ، الرافد الأول هو القرآن الكريم، وكنت دائمًا ما أستمع إلى القرآن في منزلنا، حيث كان صوت والدي، عزيز شعبان، يعلو في الصباح لتلاوة القرآن، وهو صوت محبّب بالنسبة لي مازال يشنّف أسماعي إلى اليوم.
والرافد الثاني، هو الشعر بخاصة والأدب بعامة، فقد كان يعيش في منزلنا كل من الجواهري والمتنبي والبحتري وأبو نؤاس وأبو العلاء المعرّي وعدد من الشعراء الأقدمين والأحدثين، إذا جاز ليّ التعبير أن أقول بينهم بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ونازك الملائكة، وما لحقهم من جيلي أو الجيل الذي سبقني قليلًا. وكانت مكتبات الأعمام والأخوال تزدحم بكلّ ما له علاقة بالثقافة والأدب والأفكار السياسية.
أما الرافد الثالث، فهو اليسار، فقد كنت أشعر أن ماركس أيضًا يعيش في منزلنا، إضافة إلى أسماء كنّا نردّدها على حذر، مثل لينين وستالين وماو تسي تونغ، هذه المتناقضات هي متقاربات أيضًا توحّدت لكي تنتج شخصية بسيطة متواضعة محبة، تتعامل بتسامح وألفة وسلام وانسجام وتصالح مع محيطها الديني وغير الديني، وهذا الذي تراه أمامك هو حصيلة كلّ ذلك، لكنه يبقى طفلًا يحبو ويجرّب ويجتهد ويخطئ ويصيب، وهو الذي اسمه عبد الحسين شعبان.
• قلتم في حوار معكم إن "القرآن الكريم الذي كان يفتتح والدك عزيز شعبان يفتتح يومه به والفكر اليساري والماركسي كانا ضمن الروافد التي شكّلت تكوينكم الثقافي"... كيف جمعتم بين هذه النقيضين إن صح التعبير؟
لا أرى أن هناك تناقضًا، فالفكر الديني والأديان عمومًا تدعو إلى العدالة وإلى المساواة وإلى الحرية وإلى الكرامة الإنسانية وإلى احترام الحقوق. الأفكار اليسارية والفلسفية أيضًا تدعو إلى الحرية والكرامة والعدالة، لا سيما العدالة الاجتماعية، وهناك صلة روحية بين الفكر الديني من جهة والأفكار الإنسانية من جهة أخرى.
وأتذكّر أن حوارًا دار بين القس بيتو وبين الزعيم الكوبي كاسترو، وهو ما جئت عليه في كتابي "كوبا - الحلم الغامض". وسأتوقّف هنا قليلًا عند هذا الحوار، الذي يعبّر عن الكثير من الدوافع التي عشتها وأعيشها، ولاسيّما علاقتي بالدين والوسط الديني والفكر الديني والخطاب الديني، وبقدر ما كان موقفي يقدّر تلك القناعات ويحترم توجّهاتها، إلّا أنه كان ناقدًا لها، وفي الآن ذاته فهو يتقبّل النقد أيضًا لبعض توجّهاتنا وآرائنا، وخصوصًا تلك التي اتّسمت بالجمود من جهة، والاستخفاف بما لدى الآخرين من جهة أخرى.
حين تقابل القس بيتو مع كاسترو أهدى له "الكتاب المقدس"، ثمّ نظر إليه وكأنه ينتظر تعليقًا، فما كان من كاسترو إلّا أن شكره بحرارة على هذا الإهداء الثمين، فبادر القس مخاطبًا الزعيم الكوبي: أراك لم تنزعج من الهدية؟ قال له كاسترو: لا ، ولماذا أنزعج؟ فقد درست هذا في صباي. والمسيحية والماركسية منشغلان بنشر قيم المساواة والعدل والسلام، ولا أجد تعارضًا في ذلك، بل يمكن للماركسيين والمتدينين أن يلتقوا عند هذه القيم الجامعة.
وأنا دائمًا ما أعود إلى القرآن لأستمدّ منه دروسًا وعبرًا وحكمًا، يمكن أن تنفع حياتنا اليومية. لقد قرأت القرآن مرتين في السبعينيات والثمانينيات قراءة تفحصيّة تدقيقية تفسيرية، وذلك في العام 1978 و1982 ، ثم عدتُ مجددًا إلى تفاسير جديدة في قراءتي للقرآن. وأجد في القرآن مادة دسمة وخصبة سردية وحكمية وفلسفية وروحية أو روحانية وإيمانية وإنسانية كبيرة لا يمكنني الاستغناء عنها في ثقافتي، بل هي جزء لا يتجزأ منها.
وأقول مجددًا أن القرآن مكون أساسي من مكونات شخصيتي، التي يطلق عليها البعض "الخلطة الشعبانية" المنسجمة مع الدين، ولا أجد تعارضًا بينه وبين الروافد الأخرى، إذْ أن كلًا منها يصبّ في ذات المصب، وإن كانت المنابع مختلفة ومتعددة. وشخصيًا أنظر إلى الإسلام كحضارة أساسية من الحضارات التي أغنت البشرية، وأعتزّ أيّما اعتزاز بانتمائي إلى هذه الحضارة الإنسانية، وسبق لي أن قلت أن النبي محمد (ص) هو أعظم رجل في التاريخ، لما مثّله من قيم ومُثل وقدرة على نقل مجتمع من واقع إلى آخر، ناشرًا فكرة التسامح بدلًا من الثأر، والعدالة عوضًا عن التمييز، والمساواة بالضدّ من العبودية، والعودة إلى القرآن الكريم وصحيفة المدينة، ناهيك عن سيرة الرسول المعطّرة التي تعطي الدليل على ذلك.
أعود إلى الروافد الروحية التي تعاشقت مع بعضها البعض وتلاقحت، لتنتج فكرًا إنسانيًا متصالحًا مع الدين، ومتفاهمًا مع نفسه في الآن، أي منسجمًا مع ذاته ومحيطه ومع الفكر الإنساني.
قانون "تحريم الطائفية"
• يشهد كل من العراق ولبنان منذ عقديّّن أزمات متتابعة تكاد تكون متطابقة... كمفكر ومثقف عربي عراقي مقيم في بيروت كيف تقيّم الوضع السياسي والاجتماعي في البلدين؟
لبنان والعراق يعانيان من الطائفية السياسية، وأنا منذ مطلع الثمانينيات دعوت وأدعو وما زلت لإلغاء الطائفية السياسية، وإن كان هناك فوارق كبيرة بين لبنان والعراق، حتى وإنْ كرّست بعض الأعراف المتشابهة حالة الطائفية في البلدين، في إطار دستورين يشجعان عليها، فالتقسيم الثلاثي العراقي للنظام الحكم، "الرئيس كردي ورئيس البرلمان سنّي ورئيس مجلس الوزراء شيعي"، الذي أصبح عرفًا سائدا استمدّ رؤيته من التجربة اللبنانية الشديدة الفشل، لكن تبقى ثمة اختلافات غير قليلة، بل أساسية بين المجتمعين والبلدين، وإن عانى كليهما من حالة عجز وانسداد أفق وتعطّل.
ولعلّ تلك التجربة المشوّهة هي التي أراد المحتلّ الأمريكي فرضها على العراق في دستور (قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية)، الذي صاغه الأمريكي المتعاطف مع الصهيونية، نوح فيلدمان، ووضع الألغام فيه بيتر غالبرايت، وهو ما أخذ به الدستور الدائم (2005)
فالعراق منذ قانون الجنسية الأول (1924)، أي قبل الدستور الأول (1925)، تضمّن نصوصًا تميّز بين المواطنين، على أساس التبعية العثمانية والتبعية غير العثمانية، ولكن المجتمع العراقي لا علاقة له بالطائفية. وهناك بعض الإجراءات التي اتخذتها الحكومات التي تميّزت بالممارسة الطائفية لأغراض سياسية، في حين أن المجتمع اللبناني مقسّم إلى "بلوكات" طائفية مذهبية ودينية لاعتبارات مختلفة، وهو أمر يكاد أن يكون مفتعلًا في العراق.
لذلك دعوت منذ الثمانينيات إلى إلغاء الطائفية السياسية، وكتبت مشروعًا لاحقًا تحت عنوان "تحريم الطائفية وتعزيز المواطنة"، نشر في كتابي بعنوان "جدل الهويات في العراق.. الدولة والمواطنة". قلت وأقول دائمًا من أيام المعارضة في الثمانينيات أن "رذيلتين لا تُنجبان فضيلة"، فإذا أنت تريد أن تحارب الطائفية بالطائفية فستمارس رذيلةً أخرى. "وجريمتان لا تنتجان عدلًا"، فإذا أنت تريد أن تحارب الجريمة بالجريمة فستكون العدالة هي الضحية الأولى والأخيرة. "وحربان لا يصنعان سلامًا"، الأمر يحتاج إلى نوع من التوازن، وهذا التوازن يستدعي ويتطلب إلغاء الطائفية وتحريمها قانونًا.
والأمر يمكن أن ينطبق على عدد من البلدان العربية، التي يمكن الاستفادة من مشروع القانون الذي أعدت نشره في أكثر من بحث ودراسة، لأنه يمثّل صيغةً عامةً، تصلح للمجتمعات التي تعاني من التمايزات الطائفية، وهو يتكون من عدد من المواد التي تحرم الطائفية وتنبذها وتجرم عليها بأحكام، يقابلها تعزيز المواطنة ومبادئ المساواة والعدالة والشراكة والمشاركة.
وعندما نقول مواطنة، فإننا نعني أربع قضايا رئيسية أولها- الحرية، فلا مواطنة دون حريات، تبتدئ من حرية التعبير ومن حق التنظيم الحزبي والنقابي والاجتماعي، ومن حق الاعتقاد ومن حق المشاركة والشراكة. هذه تكوّن لبنات مواطنة فاعلة، وثانيها- المساواة، فلا مواطنة دون مبدأ المساواة، فستكون مواطنة ناقصة، إن لم تحقق المساواة بين المواطنين، لا سيّما المساواة بين الرجل والمرأة، وهذا مبدأ رئيسي بالنسبة لي على الأقل. ورابعها - الشراكة والمشاركة، أي نحن شركاء في هذا الوطن، وينبغي أن نكون مشاركين باتخاذ القرار.
وثالثها- العدالة، فلا مواطنة دون عدالة، خصوصًا العدالة الاجتماعية، ولو بحدها الأدنى. فإذا كان قد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: "وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" (سورة الزمر - الآية 9)، أقول: لا يستوي الذين يملكون والذين لا يملكون، فكيف نساوي بين المتخمين وبين المحرومين، بين الأغنياء الذين يكدّسون الأموال والفقراء الذين لا يستطيعون الحصول على قوت يومهم وبين الكادح والطفيلي المستغل.
• ما هو شكل "العدالة الاجتماعية" التي تدعون إليها؟
لابد أن يكون هناك شكل من أشكال العدالة الاجتماعية يضمن الحد الأدنى للعيش الكريم. البلدان النامية ومنها بلداننا العربية تحتاج إلى دور أساسي للدولة، وعلى الرغم من بعض النواقص والثغرات والعيوب التي يعاني منها القطاع العام، فأنا ضدّ الخصخصة، لاسيّما في مجالات التعليم والصحة والخدمات العامة الكبرى والطرق والجسور والمواصلات، إذْ لا يستطيع الأفراد النهوض بها بما فيها بعض الشركات، لأن رأس المال لا يتراكم بما فيه الكفاية، وهذا يحتاج إلى وجود فاعل للدولة، لذلك انتقدت الإجراءات التي هرولت نحو الخصخصة بحجة فشل القطاع العام.
صحيح أن القطاع العام عانى من مشكلات، فضلًا عن أخطاء الإدارة البيروقراطية والتداخلات الحزبية، الأمر الذي يحتاج إلى تطويره وتخليصه من المثالب التي عانى منها وإلى شراكة بينه وبين القطاع الخاص، بحيث يكون ثمة تكامل وتوافق ورقابة متبادلة ويمكن أن يحفّز ذلك المجتمع المدني ومؤسساته للمشاركة في عملية التنمية، كمتمم وراصد ومشارك فيها، ولعلّ مصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن الديمقراطية وغيرها، عاشت تجربة تنموية في الستينيات وما بعدها، إلّا أنها لم تحقق التنمية المطلوبة بقدر ما حققت نموًا اقتصاديًا، والأمر يحتاج إلى تنمية إنسانية شاملة ومستدامة سياسية وقانونية واجتماعية واقتصادية، وفي جميع المجالات التربوية والصحية والنفسية وغيرها، بحيث يتم فيها توسيع خيارات الناس وسُبل عيشهم بكرامة.
حكم "أمراء الطوائف"
• ماذا عن الأضرار التي ألحقها نظام "المحاصصة السياسية" الطائفية بالتركيبة السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمعيّن العراقي واللبناني؟
أشرت غلى أن المجتمع اللبناني يختلف عن المجتمع العراقي، فهو مقسم طائفيًا، ولذلك الآن يستعصي على القيادات اللبنانية اتخاذ القرار إلا بالتوافق. وهذا التوافق يكاد يكون مستحيلًا، ومثلًا لم يتفّق الفرقاء لانتخاب رئيس الجمهورية، على الرغم من مرور عام ونيّف، لأن الكل متشبث بموقفه، لذلك ظلّ منصب رئيس الجمهورية شاغرًا.
وشهدت تجربة سابقة بقاء منصب الرئاسة شاغرًا لأكثر من سنتين، وأحيانًا يتأخر تشكيل الحكومة ويتأخر اتخاذ أي قرار سيادي، فعلى الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود من الزمن لم يعاد بناء شبكات كهرباء في لبنان بسبب التقاسم المحصصاتي الطائفي. وهكذا تتعطّل القرارات الرئيسية في الدولة بسبب ما سمي بالتوافق، والتوافق هي صيغة للديموقراطية تستخدم في المرحلة الانتقالية، وليس صيغة دائمة، بل مؤقّتة.
أما في العراق فهذه الصيغة عطلت الدولة، فصار التقاسم الوظيفي الطائفي والإثني من المشير إلى الخفير، فحتى تعيين فرّاش ينبغي تعيين كرديًا وشيعيًا وسنيًا، أحيانًا هكذا. والوزارات مقسمة، لا يمكن التوصل لاختيار رئيس البرلمان منذ أكثر من سبعة أشهر، وأصبح عرفًا أن هذه المواقع حصرًا على المتنفذين السياسيين باسم الطوائف، بغض النظر عن الكفاءة، ولكن المهم هو الولاء، أولًا لأمراء الطوائف. وهذه الطائفية هي "تجلٍ سياسي" للتعبير عن مصالح أنانية ضيقة، للحصول على امتيازات، في نظام يقوم على الغنائمية الطائفية والإثنية والزبائنية السياسية. وبالمناسبة فثمة فروق جوهرية بين الطائفة التي تكون هي تكوين تاريخي واجتماعي، لا يختار فيها الأفراد انتماءاتهم، مثلما لا يختارون دينهم، وبين الطائفية التي تتمترس خلف جماعات حزبية لها مصالح خاصة.
هناك رغبة في إعادة بناء الدولة العراقية، لكن لا تزال مجرد إرهاصات محدودة جدًا، لأن هناك كوابح كثيرة، وتعاني الدولة أيضًا من تدخلات مباشرة وغير مباشرة، ويتم تسخير الشعارات الدينية على حساب مصلحة الدولة، وعلى حساب التنمية، حيث يتم فرض الإرادة بطرق الاستقواء على الآخر.
خمس تحديات
ثمة مشكلات أو تحديات، ما تزال تواجه الدولة العراقية، وهي نظام المحاصصة، والفساد المالي والإداري، والإرهاب والعنف، وانتشار السلاح خارج سلطة الدولة والقانون، والولاءات الخارجية. ما يحتاجه العراق ولبنان التخلّص من نظام المحاصصة الطائفي، والشروع ببناء دولة تضع مسافة واحدة من جميع الأديان والطوائف والقوميات، ولا أقول هنا بفصل الدين عن الدولة، أو بفصل الدين عن السياسة، وإنما ما أدعو إليه هو الدولة القانونية التي تقوم على "حكم القانون" وتكتسب "شرعيتها السياسية" من رضا الناس ومن تقديم منجز لهم، وذلك يعني جعل مرجعية الدولة فوق جميع المرجعيات الدينية والطائفية والمذهبية والإثنية والحزبية والمناطقية وغيرها. الدين والعاملون بالحقل الديني وبالمؤسسات الدينية يستحقون الاحترام والتقدير، ولكن عليهم ألا يتدخلوا بالسياسة. أمّا إذا حصل وأن تدخلوا بالسياسة، فإنهم سيفقدون رمزيتهم الوعظية الإرشادية.
السياسي قد يضطر أن يناور أو يقول نصف الحقيقة أو يروّج لسياسة حزبه أو جماعته ، فيبالغ في شأنها ويقلل من شأن الآخرين أو يكذب أحيانا. أما العامل بالحقل الديني فيُفترض فيه الصدق والنزاهة والاستقامة الأخلاقية، لذلك فإن تسييس الدين سيفقده رمزيته ويضبّب قيمه، كما أن تديين السياسة سيجعلها غير واقعية، الأمر الذي يقتضي احترام الاختصاصات، في إطار مرجعية الدولة العليا.
• هل يمكن أن يأتي يوم نشهد فيه نهاية لنظام "المحاصصة السياسية" الطائفية في هذين البلدين؟ وما هو السبيل إلى ذلك؟
الحديث عنها الآن سابق لأوانه، وهناك كوابح وعثرات كثيرة أولها الدستور، وهو دستور جامد لا يمكن تغييره بسهولة، إلّا بالتوافق، والتوافق معدوم، لأنه سيضر بمصالح الفرقاء أو بمصالح فريق على حساب فريق آخر. بالنسبة للكرد، إذا صوتت ثلاث محافظات سيبطل أي قرار، سواء بتغيير الدستور أو بغيره في القضايا الأساسية، وكذلك الحال بالنسبة للآخرين أيضًا. وثانيها عدم رغبة القوى الأساسية في إجراء أي تغيير، لأن ذلك قد يقلّق من نفوذها؛ وثالثها الاختلافات بين الإقليم والسلطات الاتحادية فيما يتعلق بالنفط والصلاحيات والمناطق المتنازع عليها، بما فيها محافظة كركوك، إضافة إلى تنازع القوانين بين الدستور الاتحادي والدستور الإقليمي، وهناك ألغام كثيرة لا مجال لذكرها الآن، وكلّ هذه تشكّل كوابح عديدة تحول دون إحداث تعديلات دستورية جوهرية. وليس في وارد وقناعات القوى السياسية المسيطرة إجراء تعديل دستوري.
كما أن درجة الوعي لدى الناس لا تزال محدودة، على الرغم من أنهم ينتقدون النظام القائم، حتى أن حركة تشرين الأول / أكتوبر 2019 لم تتمكّن من تحقيق أهدافها وأغرقت بالدم، وهي وإن كانت تجربة مهمّة وغنيّة وشجاعة، إلّا أن عدم وجود قيادة لها معترف بها، وعدم قدرتها على حسم الأمور لصالحها، ثمّ أن استمرارها لفترة طويلة، أدّى إلى تبعثرها وتشتّتها، ولعبت قوى عديدة داخلية وخارجية لتفتيتها، خصوصًا حين قامت باختراقها وحرفها عن مسارها لمصالح أنانية خاصة داخلية وإقليمية ودولية.
يُضاف إلى ذلك أن العامل الإقليمي والدولي، ليس من مصلحته إحداث التغيير واستعادة العراق لدوره المحوري كأحد اللاعبين في الشرق الأوسط، فمثل هذا الأمر لا تريده واشنطن ولا تريده طهران كذلك، فالعراق بات مُقسّما منذ الاحتلال الأمريكي إلى نصفيّن نصفه لأمريكا ونصفه الآخر لإيران، وأمريكا لديها خمس قواعد عسكرية لا أحد يستطيع الوصول إليها أو معرفة ما يجري داخلها، وغالبًا ما تتعرّض لبعض الاستهدافات تقوم بالردّ عليها بشدّة، علمًا بأنها تقول أن وجودها هو للتدريب والاستشارات، وهو ما تؤكّده الحكومة العراقية، لكن الواقع يذهب عكس ذلك، وإيران لديها أذرع سياسية وعسكرية، متنفذة ومؤثرة وأحيانًا تقوم باختراقات عسكرية لقصف مناطق في كردستان تعتبرها معاديةً لها. أما الشعب فهو هائم على وجهه، ينتظر مخلصًا بعد سنوات عجاف من حكم الديكتاتورية والاستبداد الذ1ي دام 35 عامًا ومن حكم أمراء الطوائف الذي يستمر منذ الاحتلال عام 2003 وإلى اليوم، وخلالها عاش حروبًا دموية وحصارًا واحترابات طائفية وإثنية.
العراق "حديقة خلفية"
• رأيتم في مقال لكم أنه "إذا كانت عوامل التنافس التاريخية بين إيران وتركيا قائمة ومستمرة، فإن العراق الساحة التي ظلّ الفريقان يلعبان بها وينفّذان خططهما الواحد إزاء الآخر"... لماذا أصبح العراق ساحة لمثل هذا الصراع؟
لأنه ضعيف، وبصراحة لأن الدولة العراقية انهارت، أو فُككت وحُلّت مؤسساتها من جانب الاحتلال الأمريكي، وهذا ما كان يتوافق مع الرغبة الإيرانية ومع الرغبة التركية، واليوم فإن النفوذ التركي في شمال العراق قويّ جدًا، كما توجد بعض القواعد العسكرية دون موافقة الحكومة العراقية، وذلك تارةً بحجة "حماية التركمان"، وتارة أخرى بزعم ملاحقة حزب العمال الكردستاني PKK، وثالثة لمجابهة الإرهاب، الذي ينبعث من جبال قنديل في كردستان (العراق)، وغيرها من مبررات الحكومة التركية.
وإيران، وإن ليس لها وجودًا عسكريًا، إلّا أن وجودها السياسي قوي جدًا، بوجود الفصائل المسلحة المدعومة من جانبها، والتي هي ذراع ضارب قوي جدًا، ولا تتشكّل حكومة عراقية، إلّا بعد موافقة إيران أو الحصول على رضاها، وهذه حقيقة يعرفها القاصي والداني ، حتى أن الوزارات مقسّمة ، فما هو لأمريكا معروف، وما هو لإيران معروف أيضًا، والبعض يريد إخراج القوات الأمريكية، في حين يتشبّث بها البعض الآخر بحجّة أن داعش والتنظيمات الإرهابية ما تزال تشكّل خطرًا على العراق.
كل هذا جعل العراق مُعوّمًا وسيادته مجروحة وأمواله مرتهنة وإدارته معطّلة، وحين يكون العراق ضعيفًا، فإن القوى الإقليمية تلعب في ساحته وتعتبره فناءً خلفيًا أو حديقة خلفية، تمارس فيها ألعابها بما فيه الاستقواء كل على الآخر والحصول على امتيازات في هذا البلد الذي ظل يتراجع ويتقهقر بسبب أولًا المغامرات العسكرية التي قام بها النظام السابق، بما فيه الحرب العراقية - الإيرانية أو غزو الكويت، وبالتالي حرب قوات التحالف ضده في العام 1991، وفرض حصار جائر دولي عليهم لمدة 12 عامًا، ثم احتلاله وتفكيك مؤسسات الدولة العراقية، وحل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية، بمن فيها شرطة الحدود وشرطة النجدة وشرطة محاربة الجريمة إلى الأجهزة الأخرى.
هكذا وجد العراق نفسه، ووجد العراقيون أنفسهم بلا مؤسسات وبلا دولة، حيث صعدت المؤسسات الدينية والطائفية والمرجعيات العشائرية والجهوية لتملأ الفراغ، خصوصًا وأن إعادة بناء مؤسسات الدولة تم على أساس التقاسم الوظيفي الطائفي، وهذه مؤسسات أيضًا ظلت معطّلة وهشّة ويتغلغل الفساد داخلها بسبب نظام المحاصصة.
• هل يمكن اعتبار ما حدث للكرد والإيزيديين في العراق نوعًا من التطهير العرقي؟
نعم إنه شكل من أشكال التطهير العرقي، وهو يرتقي إلى شكل من أشكال الإبادة الجماعية، خصوصًا بالنسبة للإيزيديين، وحصل كذلك للمسيحيين، وكان هناك عمليات إجلاء جماعية، وإرهاب مستمر ومنظم.
• المفكر عبد الله أوجلان... كيف تراه؟
هو قائد لشعبه من أجل الحرية ومن أجل حقوق الكرد العادلة والمشروعة، وقد طرح مشروعًا تحت عنوان "الأمة الديمقراطية" لحل القضية الكردية، وهو مشروع يستحق النقاش والتوقف عنده ودراسته من جانب الحكومة التركية والقوى والأحزاب التركية، وذلك عبر الحوار والتفاهم والحلول السلمية.
كيف يمكن استخلاص واستنباط حلول ومعالجات للقضية الكردية بعد أن أكّدت التجارب أن الحلول العسكرية والعنفية لن تفضي إلى ما هو منشود بما فيه استنزاف طاقات الجميع؟ وشخصيًا كنت قد أطلعت على ما كتبه أوجلان، خصوصًا مجلده الواسع "مانفستو الحضارة الديمقراطية"، لاسيّما بشأن الموقف من القضية الكردية، الذي أجده أقرب إلى الواقعية، لاسيّما بتعبيره عن الحل السلمي الرضائي، إلّا إذا أصبح العيش المشترك مستحيلًا.
وكما تعلم فأنا عربي وأعتز بعروبتي، فمنذ ما يزيد عن خمسة عقود من الزمن، وأنا أدعو إلى احترام حق تقرير المصير للشعب الكردي، وأعتبر مثل تلك الدعوة هي إقرار بواقع أليم عانى منه الكرد منذ اتفاقية سايكس - بيكو الاستعمارية وما لحقها من اتفاقيات مجحفة، وهذا الموقف ليس منّةً أو هديةً أو هبةً، وإنما يعبّر عن جوهر الإيمان بحق الأمة العربية في الوجود والتقدّم والتنمية، وهو حق يشمل الكرد أيضًا، طالما نعترف بوجودهم كأمة من حقّها التعبير عن نفسها وكينونتها على نحو حر.
"ثقافة الإذعان"
• كيف ترى الوضع المأساوي الراهن في غزة بعد 11 شهرًا من العدوان الإسرائيلي مع غياب أي دعم عربي، سواء رسميًا أو شعبيًا، للضحايا الفلسطينيين؟
هذا شيء مؤسف ومؤلم وأشعر بغصّة في صدري، بل قلبي يعتصر. والأمر انعكاس للواقع العربي المتردّي، فقد تدهور أداء الجميع، حكومات وقوى وأحزاب سياسية، وإن كانت الأولى تتحمّل المسؤولية الأكبر، لاسيّما إزاء الموقف من عدوانات إسرائيل المتكرّرة، فالثانية اليسارية والقومية العربية والإسلامية، ازدادت نكوصًا وتراجع لدرجة العجز أحيانًا، خصوصًا في ظلّ تراجع حجم الحريّات في العالم العربي.
أنا أعتقد أن الوضع ما بعد الحرب على غزّة والحرب في أوكرانيا، سيكون ليس مثل قبلهما، فالنظام الدولي الجديد الذي هو في مرحلة التشكّل والانتقال سيكون تعدّديًا وليس أحاديًا، وقد يستغرق ذلك وقتًا لنحو 10 أو 15 سنة أخرى، فلم يعد القطب الواحد أو القطب الرئيس واقعيًا، كما حصل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وهيمنة الولايات المتحدة بفعل معافاة الدب الروسي وصعود التنين الصيني.
ويؤسفني أن أقول أني كمثقف عربي أشعر بحزن شديد إزاء عدم القدرة على تقديم ما تحتاجه غزّة ، سواءً من دعم لمواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي، أو تقديم الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية، وهي أبسط متطلبات الحياة من ماء وكهرباء وغذاء ودواء.
وأتذكر أنني كنت فتى عندما اندلعت حرب السويس بفعل العدوان الإسرائيلي الأنجلو - فرنسي على مصر في العام 1956، كيف هبت الشعوب العربية من أقصاها إلى أقصاها للوقوف إلى جانب مصر الشقيقة وشعبها، وإلى جانب المقاومة في بورسعيد وفي مناطق أخرى، وهكذا كيف توقفت البواخر من تحميل البضائع، وكيف أضرب عمال الميناء، وكيف امتنع عمّال النفط من الالتحاق بالعمل لأسباب تتعلق بالخشية من وصول النفط إلى إسرائيل.
وفي حرب أكتوبر 1973 كيف توقف ضخ النفط العربي إلى الغرب بقرارات عراقية وسعودية وبدعم عربي منقطع النظير، الأمر الذي أثار أزمة كبيرة في الغرب استمرّت لبضعة أشهر.
نحن الآن في حالة من النكوص، وفي حالة من التراجع، نحتاج أولًا إلى أن نقدم نقدًا ذاتيًا ونعيد قراءة الواقع، ونعترف أننا في أزمة، ونبحث في سبل معالجة هذه الأزمة، وأن نعرف عناصر هذه الأزمة، والسبيل إلى مواجهة التحدّيات، ثم ما هي القوى المحركة والفواعل الاجتماعية لكي ندعمها في إطار موحد ومشترك للتصدّي لعوامل الهزيمة، وأول أنواع هذه الهزيمة هي مواجهة ثقافة الإذعان، التي يراد فرضها على العرب.
ولكي نتخلص من الهزيمة، فعلينا إشاعة "ثقافة المقاومة"، وهذه تحتاج إلى إرادة ووعي وحامل اجتماعي قادر على المواجهة، لأن التيارات السياسية التقليدية، سواء كانت الماركسية - اليسارية أو القومية العربية بمدارسها المختلفة الناصرية والبعثية أو الإسلامية بتمذهباتها المختلفة، لم تستطع أن تواكب التطورات الحاصلة في العالم، فإما تجمّدت لدرجة الانكماش أو أنها نقلت رحيلها من ضفة إلى أخرى، فلم تعد الإمبريالية عدوًا، أمّا التطبيع مع إسرائيل فأصبح وجهة نظر.
والأمر يحتاج إلى إرادة شجاعة أولًا، وقراءة واقعية للمستجدات الكونية ثانيًا لاستخلاص رؤية جديدة تتجاوز التجارب الشمولية السابقة بعقل منفتح بعيدًا عن ادّعاء الأفضليات أو الزعم بامتلاك الحقيقة،