ادوارد سعيد : افلاس تفسير الامبريالية بأدوات ثقافية


محمود محمد ياسين
2024 / 9 / 21 - 11:14     

توطئة
لا شك ان هذا المقال، الذى يتناول قضايا نظرية جافة تتعلق بالإمبريالية، يمتحن صبر القاري في الدول الافريقية والعربية الذى يركز جل اهتمامه لمتابعة الصراعات السياسية والحروب الدامية المستعرة من حوله في المنطقة؛ الا ان تناولها مسالة في غاية الأهمية. فهذه الصراعات ترتبط ارتباطا عضويا بحركة التمدد الحالي العنيف للدول الاستعمارية في المنطقة بغرض تكريس الهيمنة عليها بشكل غير مسبوق. فالحروب المنتشرة في افريقيا والمنطقة العربية والأسباب والاهداف من ورائها لا يمكن فهمها بنظرة محلية ضيقة لأنها تتعلق، في التحليل النهائي، بمواجهة الإمبريالية العالمية ومراميها الخبيثة؛ ان موضوع الامبريالية يتصل اتصالا مباشرا بالأحداث الجارية.

المقال
في كتاب " الثقافة والامبريالية “، الصادر في 1993، قدم بروفيسور ادوارد سعيد، دراسة مستفيضة للفكر الغربي المنتج خلال القرنيين الماضيين وقراءته بطريقة وضعها هو بنفسه. كما شملت قراءته اعمال أدبية وفكرية ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، اضطلع بها كتاب ينتمون للعالم الثالث قدموا فيها نقدا لأفكار المستعمرين السابقين. وهذا المقال يتناول نقدا للمنهج الذى يدعو له الكاتب لدراسة الامبريالية في اطار فكرة أن الإمبريالية هي في الأساس نتاج سيرورة ثقافية؛ والنقد يشمل الافكار التي توصل اليها سعيد عبر المنهج المذكور. ولإنجاز هذه المهمة فان المقال لا يتناول أراء سعيد من خلال نقد النقد الأدبي للأفكار الواردة في " الثقافة والإمبريالية "، بل يقتصر فقط على نقد أفكاره حول طبيعة وعمل الامبريالية من منظور ماركسي- لينيني كحركة سياسية ترتبط بالاقتصاد وعلم الاجتماع.

في مُؤَلَّفه ”الثقافة والامبريالية“، يواصل ادوارد سعيد دراسة العلاقة بين الثقافة والامبريالية بصورة أشمل مما قدمه في كتاب ”الاستشراق- 1978“ الذى تناول فيه حركة الاستشراق كمادة ثقافية استخدمها الغرب لإعادة انتاج الشرق في المجالات السياسية والعسكرية-الخ. أما في ”الثقافة والامبريالية“ فقد نظر للإمبريالية كامتداد طبيعي للتوسع الاستعماري الغربي وامتدادها على الرقعة الواسعة من الأرض خلال الفترة الممتدة من القرن الثامن عشر حتى القرن العشرين، وعلاقتها بالآخر الذى يعتبره الغرب الانسان الدوني مقارنة بغرب متعالٍ ومتفوق.

وسيكون التركيز في هذا المقال، من خلال تناول كتاب ”الثقافة والامبريالية“، على ثلاثة مواضيع وهى: أولا، نقد منهج ابتدعه المؤلف لدراسة الإمبريالية يتعارض جذريا مع المنهج الديالكتيكى المادي؛ ثانيا، غياب تعريف واضح للإمبريالية احدثه عدم الوعى بطبيعتها كنتاج لظهور لاحتكارات الرأسمالية محل المزاحمة الحرة الرأسمالية في أواخر القرن التاسع عشر؛ ثالثا، تجاهل الفكر الماركسي المتعلق بقضايا التحرر الوطني الذى غير وجه العالم عند ترجمته لحركات سياسية تحررية كبرى في القرن العشرين.

وسنعتمد في التعليق على المواضيع المشار اليها على العديد من الاقتباسات من "الثقافة والإمبريالية" وبشيء من التفصيل الذى تمليه ضرورة جعل سعيد يعرض طريقته في التحليل بنفسه توخيا للوضوح باعتبار ان الطريقة هي منهجا جديدا يقدمه الكاتب لتحليل الموضوعات المتعلقة بالإمبريالية. ومن خلال التمعن الدقيق، فان المنهج المتبع في "الثقافة والامبريالية"، اقل وضوحا من كثير من المناهج ( حتى الليبرالية منها) التي تبحث في تحليل الامبريالية انطلاقا من الثقافة، وان الأفكار الواردة في مُؤَلَّف "الثقافة والامبريالية"، عبارة عن ترديد، بصورة أو بأخرى، لأفكار رائجة منذ وقت طويل في التاريخ والادب والأنثروبولوجيا -الخ، تناولت علاقة الهيمنة الامبريالية الثقافية بالغزو الاستعماري والنهب الإمبريالي. –
Aijaz Ahmad, “Between Orientalism and Historicism”, Studies in History, 7, 1, n.s., 1991, sections 2-5

ان طريقة سعيد لا جديد فيها، ولكن الجديد هو تقديمها في " الثقافة والامبريالية" في قوالب لغوية تعبيرية جديدة وأسلوب آسر اعتمادا على التمكن القوى للكاتب من مناهج النقد الأدبي السائدة وامتلاكه لمهارة لغوية تعبيرية لا تُضاهى وثقافه موسوعية. وجدير بالذكر فان سعيد عمل كأستاذ جامعي للغة الإنجليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا لمدة 40 عامًا، وكأستاذ زائر في كثير من نخبة الجامعات الامريكية (Ivy league) وغيرها من المؤسسات الاكاديمية العالمية. وسعيد مثقف صاحب كتابات متعددة في ميادين متنوعة تشمل النقد والأدب المقارن والدراسات الثقافية والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية والدراسات الإثنية، وهو ناقد ومؤلف موسيقى بارع” accomplished“.

استخدم سعيد في ”الثقافة والامبريالية“ ما أسماه الطريقة الطباقية (contrapuntal) لقراءة النصوص التي أراد تحليلها؛ وهو مصطلح استعاره الكاتب من الموسيقى التي يجيدها عزفا وتأليفا. والطباق في الموسيقى له علاقة بمزج الألحان ( counterpoint)، وهو نوع من الموسيقى يحتوي على خطين لحنيين يتم تشغيلهما في نفس الوقت. والمقصود منه الجمع بين شيئين متنافرين. واصطلاح الطباق يستخدمه سعيد في إطار مفاهيمي ناقد للهويات الثابتة ومن ثم منادياً بتعايش الهويات المتباينة مثل الممازجة بين الالحان الموسيقية المتنوعة.

قدم سعيد ما اسماه ”القراءة الطباقية“ كبديل، اخترعه، للاعتماد على الديالكتيك المادي في دراسة ظاهرة الامبريالية؛ فان أحد الاهداف الرئيسة لسعيد في ”الثقافة والامبريالية“ هو دحض الماركسية التي يعتبرها جزءا لا يتجزأ من الثقافة الغربية الممقوتة التي وضعت إنتاجها في خدمة الهيمنة الإمبريالية؛ فهو يقول :

”ان معظم الماركسية الغربية، في أقسامها الجمالية والثقافية، أعمت نفسها عن مسألة الإمبريالية ...... إذا لم تثبت النظرية الأوروبية والماركسية الغربية نفسها، كمُعامِلين ( coefficients) ثقافيين للتحرر وأنهما حليفان موثوقان في مقاومة الإمبريالية بشكل رئيسي- على العكس من ذلك، قد يشك المرء في أنهما جزء من نفس "العالمية" الخبيثة التي ربطت الثقافة بالإمبريالية لعدة قرون - فكيف حاولت التحررية المناهضة للإمبريالية ان تكسر هذه الوحدة المُقيِّدة؟ .....من خلال توجه تكاملي أو طباقى (contrapuntal) جديد في التاريخ يرى التجارب الغربية وغير الغربية على أنها تنتمي لبعضهما البعض لأنها مرتبطة بالإمبريالية.“-سعيد، 1994، ص ص 278-279.

ان سعيد يبدى شكوكا في أن الماركسية كانت أحد الأدوات الثقافية الغربية التي أسهمت في حدوث الامبريالية؛ كما انه لا يولى اهتماما لتوجه الماركسية الغربية ومدى اتباعها للأسس الماركسية الصحيحة، فهو يريد القول بان لا جدوى من الديالكتيك المادي نفسه غض النظر عن الماركسية التي تتباه، وان الحل يكمن في استبداله بالطريقة الطباقية.

يقول سعيد بانه يريد فحص ودراسة كيف حدثت عمليات الإمبريالية خارج مستوى القوانين الاقتصادية والقرارات السياسية، وكيف انها تجلت في الثقافة القومية بفضل سلطة التشكيلات الثقافية التي تعتبر نقية وشريفة وخالية من الانتماءات الدنيوية، وبتعزيز الثقافة الامبريالية كشيء متميز ومطهر في التعليم والآداب والفنون البصرية والموسيقية. ان سعيد يريد القيام يهذا استرشادا بمقولة وليام بليك (William Blake):

" انه الفن والعلم. قم بإزالتهما أو الحط من شأنهما والإمبراطورية لم تعد موجودة. الإمبراطورية تتبع الفن وليس العكس كما يفترض الإنجليز." سعيد 1994، ص ص13-14

ويقترح سعيد، بدلا من التحليل الجزئي الذي تقدمه مختلف المدارس الوطنية، الخطوط المتعلقة بالقراءة الطباقية لتقديم تحليل كلى، حيث تتم رؤية النصوص والمؤسسات الدنيوية على أساس انها تعمل معا، حيث يقرأ ديكنز (Dickens) وثاكيراي (Thackeray) كمؤلفين لندنيان وأيضا ككتاب تسترشد تجربتهم التاريخية الطويلة بالمؤسسات الاستعمارية في الهند وأستراليا التي يشارك فيها أدب أحد بلدان الكومنولث في آداب البلدان الاخرى (بلدان الكومنولث). فسعيد يرى ان مشاريع الحركات الانفصالية والاصلانية أصبحت مستنفدة؛ فلا يمكن ربط” إيكولوجيا“ المعنى الجديد والموسع للأدب بجوهر واحد فقط أو بفكرة مميزه لشيء واحد؛ يقول سعيد:

” لكن هذا التحليل الطباقى الكلى لا ينبغي أن يُصمم (كما كانت تفعل المفاهيم السابقة للأدب المقارن) على سيمفونية بل على ( تأليف موسيقى يعتمد على الموسيقى اللامقامية - atonal music). يجب أن نأخذ في الاعتبار جميع أنواع الممارسات المكانية أو الجغرافية والبلاغية - التصريفات والحدود والقيود والتدخلات والاحتواءات والمحظورات - وكلها تميل إلى توضيح تضاريس معقدة وغير متساوية. لا يزال التوليف البديهي للناقد الموهوب، من النوع الذي تطوع به التفسير التأويلي أو اللغوي .... ذو قيمة.“ – سعيد 1994، ص 318.

ان منهج سعيد الجديد، ”القراءة الطباقية“، يقوم الى حد ما، كما فعل في كتابه، ”الاستشراق“، على أفكار ميشيل فوكو (Foucault). فما أخذه من فوكو هو استخدام مفهوم فوكو الخاص بالخطاب (discourse)، أي انه أراد دراسة العلاقة بين المستع࣯مر والمُستعٙمر كخطاب، أي اتخاذ "الخطاب" كأداة تحليلية تلقى ضوءاً على الظاهرة التي يدرسها؛ وهذا في النهاية لا يمكن وصفه بغير انه منهج فلسفي مثالي. فان فوكو يرى أن التحليل المنطقي يفتقر إلى خلق للخيال الفكري؛ وأن ما يمكن للتحليل أن يفسره موجود ضمنا في المفهوم الذي نبدأ به، أي أنه لا يضيف شيئا. - عبد الو ّهاب شيباني - ”الاسباب التي زادت من أهمية اللغة في الفلسفة “:
https://fac.umc.edu.dz/fll/images/cours-arabe/L2/D9

كما تتجلى مثالية فوكو في انه يبحث في مسالة هيمنة "السلطة" عن طريق علاقتها بالمعرفة (knowledge)، فقوة المعرفة تبنى السلطة، ومؤسسات السلطة بدورها تبنى المعرفة. وبالرغم من صحة هذه العلاقة ديالكتيكيا، الا انها تعطى الأولية للمعرفة على السلطة وكذلك تضع التاريخ وتنظر له بشكل مجرد. ومثالية فوكو تكمن في اعتقاده ان مراحل التاريخ المختلفة يحركها شيء واحد : المعرفة. وهكذا فان طريقته في التحليل تتعارض مع المادية الجدلية التي تعتبر محرك التاريخ هو الصراع الطبقي القائم اجتماعيا على أساس اقتصادي ملموس "concrete".

ويقول سعيد انه يجد في كتابات فوكو الإفصاح عن خيبة الأمل في سياسة التحرر. فقد حول فوكو انتباهه بعيدا عن القوى المعارضة في المجتمع الحديث التي درسها لمقاومتها الثابتة للإقصاء .... وقرر أنه بما أن السلطة كانت في كل مكان، فمن الأفضل التركيز على الطبيعة المحلية المصغرة للسلطة التي تحيط بالفرد. لذلك كان يجب دراسة الذات وتنميتها، وإذا لزم الأمر، إعادة تشكيلها .....ان السرد الذى يفترض نقطة بداية "تمكينية" وهدفا مبررا، لم يعد مناسبا لرسم المسار البشري في المجتمع، ثم يقول :

”لا يوجد شيء نتطلع إليه: نحن عالقون داخل دائرتنا. والآن الخط محاط بدائرة. بعد سنوات من الدعم للنضالات المناهضة للاستعمار في الجزائر وكوبا وفيتنام وفلسطين وإيران، والتي أصبحت تمثل بالنسبة للعديد من المثقفين الغربيين انخراطهم العميق في سياسة وفلسفة إنهاء الاستعمار المناهض للإمبريالية، تم الوصول إلى لحظة من الإرهاق وخيبة الأمل. بدأ المرء يسمع ويقرأ كم كان من غير المجدي دعم الثورات، وكم كانت الأنظمة الجديدة التي وصلت إلى السلطة بربرية، وكيف – وهى حالة متطرفة - استفادت من إنهاء الاستعمار "الشيوعية العالمية“. – سعيد1994، ص 26-27.

وهكذا، فان سعيد يقلل من انطلاق التحرر الوطني من العمل النظري (البداية التمكينية) الذى ينير درب التحرر الوطني ولكنه يسعى للاعتماد على براغماتية (pragmatism) كنزعة تجريبية (empiricism) تعتمد على تصورات أيديولوجية وتخيلات مأخوذة من الاعمال الأدبية ومقدمة للناس بما يسمى الطريقة الطباقية؛ وهكذا، فان هذه البرغماتية لا تنطلق من موقف مادى في تحليل الظواهر، وتنتهى الى التجمد عند المعطيات الظاهرية للتجربة ونتائجها وتحولها لتعاليم خالدة.

فبدون العمل النظري تُفتقد القدرة على التحرر والانتصار على الهيمنة الأجنبية؛ فالعمل النظري يعتبر دليلا لتوجيه عملية التحليل الملموس للواقع الملموس التي تمثل جوهر الطريقة المادية الجدلية. ان العمل النظري يحدد الفئات الاجتماعية الملقى على عاتقها موضوعيا الاضطلاع بالتغيير الذى يستهدف دراسة الواقع الموضوعي بغرض كشف تناقضاته الطبقية وعلاقاته الحقيقية وهذه هي الطريقة العلمية التي من شانها اكساب الجماهير وعيا رفيعا يقود الجماهير الى التخلص من الافكار البالية التي تكبل تحركها وتنظيم نفسها في حركة ثورية تحقق هزيمة الهيمنة الاجنبية.

ولما كانت نظرة سعيد هي ان الثقافة المحرك الأساس للإمبريالية، فيقول في وصف توجهات الكتاب والمفكرين في اطار علاقتهم بالمستعمرين:

” ان طريقتي هي التركيز قدر الإمكان على الأعمال الفردية، وقراءتها أولا كمنتجات رائعة للخيال الإبداعي أو التفسيري ، ثم إظهارها كجزء من العلاقة بين الثقافة والإمبراطورية. لا أعتقد أن المؤلفين يُحَدَّدون بصورة آلية، بالأيديولوجية أو الطبقة أو التاريخ الاقتصادي؛ لكن الكتاب، كما أعتقد، يشكلون ويتشكلون بتاريخ مجتمعاتهم وبتجربتهم الاجتماعية بدرجات مختلفة. ان الثقافة والأشكال الجمالية التي تحتويها ] مادة الكتاب[ مستمدة من التجربة التاريخية، والتي هي في الواقع واحدة من الموضوعات الرئيسية لهذا الكتاب.“ سعيد 1994، ص xxii

وهكذا، يتضح ان سعيد لم تسعفه طريقته "الطباقية" عندما يدلف في الكتاب لشرح علاقة الثقافة بالإمبراطورية والإمبريالية حيث لا يقول شيئا محددا في هذا الشأن ويلجأ فقط للتعميم؛ ففي تعريف الامبريالية يقول سعيد:

” إن ´الإمبريالية´ تعني ممارسة ونظرية ومواقف مركز حضري مهيمن يحكم منطقة بعيدة. ´الاستعمار´ ،الذي هو دائما تقريبا نتيجة للإمبريالية ، هو زرع المستوطنات على الأراضي البعيدة ....... الإمبريالية هي ببساطة عملية أو سياسة إنشاء أو الحفاظ على إمبراطورية ما .......... لقد انتهى الاستعمار المباشر إلى حد كبير. الإمبريالية ، كما سنرى، باقية حيث كانت دائما تتواجد في شكل ثقافي عام وكذلك في ممارسات سياسية وأيديولوجية واقتصادية واجتماعية محددة. لا الإمبريالية ولا الاستعمار مجرد فعل بسيط من أفعال التراكم والاكتساب. فكل منهمه مدعم ومعزز، بل وربما أيضا مفروضا، من قبل تشكيلات عقائدية مهيبة تشمل مفاهيم فحواها ان بعض البقاع والشعوب تطلب وتتضرع ان تخضع للسيطرة. كلاهما مدعوم وربما مدفوع بتشكيلات أيديولوجية مثيرة للإعجاب تتضمن مفاهيم مفادها أن بعض المناطق والشعوب تتطلب الهيمنة وتتوسل إليها، فضلا عن أشكال المعرفة المرتبطة بالهيمنة: مفردات الثقافة الإمبراطورية الكلاسيكية في القرن التاسع عشر وفيرة بكلمات ومفاهيم مثل ´أجناس الدونية´ أو ´الخاضعة للأعراق´ و ´الشعوب التابعة´ و ´التبعية´ و´التوسع´ و ´السلطة´..“ ص 9 ، وأن هذا الصراع " معقد ومثير للاهتمام لأنه لا يتعلق فقط بالجنود والمدافع ولكن أيضا بالأفكار والأشكال والصور والتخيلات". -سعيد1994، ص 7.

وهكذا، فان سعيد ينظر للإمبريالية على انها باقية حيث كانت دائما تتواجد في شكل ثقافي عام وكذلك في ممارسات سياسية وأيديولوجية واقتصادية واجتماعية محددة؛ وعندما يقول “ لا الامبريالية ولا الاستعمار“، فهو لا يفرق بين الدوافع للاستعمار القديم والامبريالية ، فكلاهما هيمنة وتوسع جغرافي!! ويقول ان الإمبريالية لا تسعى " للتراكم والاستحواذ"، بل مدفوعة " بتشكيلات أيديولوجية" تتضمن فيما تعتقد أن بعض الشعوب تطلب ان تُستعمر، وهو يريد كشف انخراط الثقافة في مسألة توسع الإمبراطوريات حيث يقول :

” كل شيء عن تاريخ البشرية متجذر في الأرض ، مما يعني أنه يجب علينا التفكير في السكن ، ولكنه يعني أيضا أن الناس قد خططوا للحصول على المزيد من الأراضي وبالتالي يجب أن يفعلوا شيئا حيال سكانها الأصليين. على مستوى أساسي للغاية ، تعني الإمبريالية التفكير في أرض بعيدة لا تملكها، ويعيش عليها ويملكها آخرون. لجميع أنواع الأسباب، فإنه تجذب اليها بعض الناس الشيء الذى غالبا ما ينطوي على بؤس لا يوصف للآخرين. ومع ذلك ، فمن الصحيح عموما أن المؤرخين الأدبيين الذين يدرسون شاعر القرن السادس عشر العظيم إدموند سبنسر(Edmund Spenser)، على سبيل المثال ، لا يربطون خططه المتعطشة للدماء الخاصة بأيرلندا، حيث تخيل جيشا بريطانيا يبيد السكان الأصليين فعليا، بإنجازه الشعري أو بتاريخ الحكم البريطاني على أيرلندا، والذي لا يزال مستمرا حتى اليوم...... لأغراض هذا الكتاب، حافظت على التركيز على النزاعات الفعلية حول الأرض وشعبها. ما حاولت القيام به هو نوع من التحقيق الجغرافي في التجربة التاريخية، وقد وضعت في اعتباري فكرة أن الأرض هي في الواقع عالم واحد، حيث لا توجد مساحات فارغة وغير مأهولة تقريبا.“-سعيد 1994، ص 7

وتجدر ملاحظة ميل سعيد الى عدم التفريق بين الدوافع المختلفة لتمدد الرأسمالية كاستعمار في العالم، فبالنسبة له أن الدافع ل (سيطرة بريطانيا على ايرلندا في القرن الخامس عشر) هو حيازة الأرض تماما مثل ما تفعل الامبريالية كمرحلة متقدمة لتطور الرأسمالية في نهاية القرن التاسع عشر.

ان سعيد في تعريفه للإمبريالية يتجاوز فكرة ان الثقافة هي التعبير الشكلي (formal) للمحتوى، أي العامل الاقتصادي؛ فالبعد الثقافي هو الشكل والاقتصاد يمثل المضمون. فسعيد يرى ان الكُتاب هم نتاج التاريخ المحدد قَبْلِياا بشيء واحد: المعرفة. ان الماركسية تقر وتنادى بدراسة كيف ان الثقافة التي تتشكل نتيجة لمعطيات الواقع قد تكون بدورها مؤثرة في تحديد توجه تطورات الواقع (المحتوى). لكن، أطروحة سعيد بمثاليتها الذاتية التي أعطت الأولوية للثقافة، تقف على رأسها، والمطلوب قلبها رأساً على عقب (upside-down) لكى تمشى على رجليها!!

ان الطريقة "الطباقية" تهزمها الطريقة الديالكتيكية المادية التي حاول سعيد التقليل من جدواها في دراسة الظاهرات، كما مر ذكره. فإدراك وفهم العلاقة بين الدول الامبريالية والبلدان المتخلفة لا يحدث الا على أساس إعمال قانون "التناقض" وهو قانون وحدة الضدين الذى يمثل القانون الأساسي في الديالكتيك المادي مقابل المنطق الصوري المطلق. فبدلا من المنطق الصوري الشكلي القائم على التفكير الميتافيزيقي الثابت والغير تاريخي (ahistorical) الذى لا يعكس حركة الواقع، فان المنطق الديالكتيكى المادي يُبيِّن ان التناقض قائم في باطن أي شيء محددا لحركته وتطوره؛ فالعناصر المتضادة الموجودة في الشيء تمنحه وجوده، الا ان هذه العناصر تنمو لتحيل الشيء الى عكسه تماما بتناقضات جديدة. وهكذا، فان الشيء عملية، وليس شيئا ثابتا لا يتحرك وجامد بصورة مطلقة؛ فان أي شيء كان شيئا آخر وسوف يتحول لشيء مختلف وجديد اذ لا يوجد شيء ثابت وليس في حالة حركة.

وهكذا، فان الإمبريالية حركة (سياسية) تناقضية تشتمل على تناقض رئيس تتفرع منه تناقضات ثانوية. والتناقض الرئيسي في الامبريالية يتحقق في الاقتصاد. فالإمبريالية دافعها للهيمنة على البلدان الأخرى تصدير رؤوس الأموال لها لاستغلال مواردها وتحقيق الارباح الباهظة، وبالتالي يتشكل التناقض (الرئيس) بين المستعمِر (الرأسمالية) والمستعٙمر (أساسا الدول الفقيرة)، أي بين دول تتسم بنظم انتاج سلعي متقدم وبين مجتمعات ما قبل-رأسمالية ذات اقتصادات متخلفة. ومن ناحية أخرى تنجم من الامبريالية تناقضات ثانوية بين القوى الاجتماعية داخل كلا الكيانين الحضري الاستعماري والدول المستعمرة، وهى تناقضات يشكلها الموقف من الامبريالية سواء كان تأييدا ام معارضة.

إن "الطريقة الطباقية" تمثل منهج او أكثر دقة (مجرد تمرين) ينتهى دوره بمنح الإنسانية المقدرة على ادراك ان التعايش، الذى يتجاوز التناقضات العدائية الدائرة في العالم بين الامبريالية وشعوب الدول المناضلة من أجل الانعتاق من الهيمنة الاستعمارية، يمثل الحل لإنهاء الصراعات العالمية الدموية. وبالتالي، فان "الطريقة الطباقية" تنتهى بإعطاء فكرة التعايش واقعا مستقلا يُسيِّر حركة العالم وتطوره. وتصبح "الطريقة الطباقية" فكرة عقائدية ودوغما تجريدية لا فائد من ورائها.

وعن فكرة تحقيق التعايش، يذكر سعيد بانها مباينة لبعض تجارب "ما بعد الإمبريالية" على أساس انها تنبع من محدودية محاولات التعامل مع العلاقات المستقطبة وغير المتكافئة جذريا، التي يتم تذكرها والتعبير عنها بشكل مختلف، فالمجالات ومواقع الاحتقانات والأجندات والدوائر الاجتماعية في العالمين الحضري والمُستَعمر السابق تتداخل جزئيا فقط. وحتى عندما توجد مساحة صغيرة مشتركة، فإنها لا توفر أكثر مما يمكن تسميته بخطاب اللوم. وهو يريد النظر في حقائق التضاريس الفكرية الشائعة والمتناقضة في الخطاب العام ال " ما بعد إمبريالي"، وخاصة التركيز على ما يؤدي في هذا الخطاب إلى ظهور وتشجيع خطاب وسياسات اللوم. وعليه، فقد قام باستخدام الأساليب والآراء ما يمكن تسميته بالأدب المقارن للإمبريالية، والنظر في الطرق التي يمكن ان يعاد بها النظر في الفكر "ما بعد الإمبريالي " بما يمكنه من توسيع التداخل بين المجتمعات الحضرية والمجتمعات المُستَعمرة سابقا، ويعبر سعيد عن فكرته الجديدة قائلا :

” أود ان اناقش اولا الوقائع الفعلية الماثلة في المجال الفكري للإنشاء العمومي لما بعد الاستعمار ، المشتركة منها والمتباينة، مُركزا بصورة خاصة على ما يؤدى في هذا الانشاء الى انبثاق بلاغيات اللوم وسياساتها والى تشجيعها. ثم اناقش - مستخدما منظور ما يمكن ان يسمى الادب المقارن للإمبريالية وطرائقه المنهجية – السبل التي تتيح لمفهوم منقح ومُقيّم تقويما جديدا لموقف فكرى ما بعد إمبريالي ان يوسع الفضاء المشترك والمتقاطع بين المجتمعات الحواضرية وتلك التي كانت خاضعة للاستعمار. وسأحاول ان اصوغ بديلا لبلاغيات اللوم ولما هو أكثر تدميرا منها، أي بلاغيات المواجهة العدائية“ -سعيد1994، ص 18.

وهكذا فان سعيد يقترح مراجعة أفكار " ما بعد الامبريالية" لإنهاء هذا الصراع بخلق نموذج غير متجانس حيث يقول :

"مطلوب منظور مقارن، أو أفضل، منظور طباقى .... أي أنه يجب أن نكون قادرين معا على التفكير وتفسير التجارب المتباينة، التي لكل منها جدول أعمالها الخاص ووتيرة تطورها، وتشكيلاتها الداخلية الخاصة، وتماسكها الداخلي ونظام علاقاتها الخارجية، وكلها تتعايش وتتفاعل مع الآخرين". ص 18

ويقول سعيد بما أن هذا المنظور "الطباقى" -البديل للصراعات- يسعى إلى التفكير في التجارب المتباينة وتفسيرها واكتشاف المجالات المشتركة، فانه يمكن للموقف الفكري "ما بعد الإمبريالي" أن يوسع تلك المجالات بين المجتمعات الحضرية والمجتمعات المستعمرة من خلال :

” النظر إلى التجارب المختلفة بالطريفة الطباقية، باعتبارها تشكل مجموعة ما أسميه التواريخ المتشابكة والمتداخلة. سأحاول صياغة بديل لسياسة اللوم ولسياسات المواجهة والعداء الأكثر تدميرا. ان نوعا من التفسير العلماني اكثر اثارة للاهتمام قد يظهر. وهو أكثر فائدة من إدانات الماضي ......“ – سعيد 1994، ص 18.

وهكذا فان سعد يعتقد ان العلاقة التناقضية في الامبريالية، وتحديدا إصرار البعض على اوليتهم بحجة النقاء العرقي والتفوق، تحلها بوتقة (النموذج غير المتجانس) من التعايش وعدم الاستقطاب بين الأطراف المتناقضة تماما مثل امتزاج لحنين موسيقيين في لحن واحد خالد. يقول سعيد :

ان ”العالم مكان مزدحم .......وإذا أصر الجميع على النقاء الجذري أو أن الأولوية لصوت المرء، فكل ما سيكون لدينا هو الضجيج الفظيع للصراع الذي لا ينتهي، والفوضى السياسية الدموية“ ص 20. وأن العالم يشهد "قبلية جديدة ومروعة تتسم ب ” تفتيت المجتمعات، وفصل الشعوب، وتعزيز الجشع، والصراع الدموي، والتأكيدات غير المثيرة للاهتمام للخصوصية العرقية أو الجماعية الثانوية “- ص 20. وأنه يوجد تاريخيان ” أحدهما خطي (linear)، والآخر طباقى ....... حجتي هي أن المنظور الثاني فقط حساس تماما لواقع التجربة التاريخية. وجزئيا بسبب الإمبراطورية ، تشارك جميع الثقافات في بعضها البعض. لا شيء مفرد ونقي، وكلها هجينة (الثقافة) ،وغير متجانسة، ومتباينة بشكل غير عادي “ -سعيد 1994،صxxv.

ان فكرة سعيد لتحقيق التعايش عبر نموذج ( البوتقة غير متجانسة) مبعثها فشل الاستعمار في اخضاع الشعوب من ناحية، ومن ناحية أخرى عجز حركات التحرر الوطني في إقامة مجتمعات تنعم بالعدالة بعد جلاء الاستعمار المباشر.

ففي حالة الامبريالية، فان الأسياد البيض كانوا في يوم من الأيام مسيطرين من دون منازع ولكنهم طردوا في نهاية الأمر، كما انه :

” لا توجد اليوم مساحات فارغة كبيرة، ولا حدود موسعة ، ولا مستوطنات جديدة مثيرة لإنشائها........أي شخص لديه وعي غامض بهذا..... ينزعج من كيف يمكن لمثل هذه المصالح الأنانية والضيقة بلا رحمة - الوطنية والشوفينية والكراهية العرقية والدينية والعرقية - أن تؤدي في الواقع إلى تدمير جماعي. لا يستطيع العالم ببساطة تحمل هذا مرات عديدة.“ – سعيد 1994، ص 20.

وهكذا، فان اعتقاد سعيد في ان العقبات التي واجهتها الامبريالية في اخضاع الشعوب سوف تجعلها قابلة لقبول التعايش معها لأن العالم لا يستطيع تحمل دورات جديدة من الصراع، ينطوي على فكرة بريئة تستخف بمسألة خطيرة يتحدد مصير العالم على مسار حركتها. ففي واقع الامر، فان التناقضات بين القوى الاستعمارية تزداد في عالم اليوم عدائية وتقريبا غير قابلة للحل (irreconcilable) ، فاحتمال الحرب العالمية الثالثة تمهد له بشكل حثيث الصراعات السياسية الحادة الحالية بين القوى الاستعمارية الكبرى لإعادة اقتسام مناطق العالم مرة ثالثة (بعد 1914 و1939)؛ وبالتالي فان فكرة عولمة رأس المال وخلق "ترست" عالمي واحد ليست واقعية في عالم اليوم، والاساس النظري لاستحالة تحقق هذا التصور حدده لينين عندما ذكر أن:

”الإمبريالية هي رأسمالية محتضرة، رأسمالية تموت ولكنها لم تمت. إن السمة الأساسية للإمبريالية، إلى حد كبير، ليست لاحتكارات البحتة والبسيطة، بل الاحتكارات المرتبطة بالتبادل والأسواق والمنافسة والأزمات. لذلك من الخطأ نظريا حذف تحليل التبادل والإنتاج السلعي والأزمات، الخ، بشكل عام و "استبداله" بتحليل للإمبريالية ككل. لا يوجد مثل هذا الكل. هناك انتقال من المنافسة الى الاحتكار “ –
https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1917/reviprog/index.htm

ان الحذف (omission) الذى وقع فيه سعيد هو انه اختار ان لا ينظر للإمبريالية كمرحلة في تطور الرأسمالية وليست مجرد فعل سياسي منفرد، وبالتالي فإن مهمة إزالتها تتمثل في تغيير سياسات الحكام ونواياهم الانفعالية، وليس معارضتها كنظام اقتصادي متكامل. لكن الصحيح هو ان التصدي للإمبريالية يعنى مواجهة الرأسمالية.

كما، ان سعيد لم يفرق بين الاستعمار كظاهرة متأصلة في الرأسمالية دفعت بها قديما، في مرحلة المنافسة الحرة ( laissez-faire)، للتوسع خارج حدود بلدانها فقط بهدف تنمية وتوسيع رأس المال، وبين الامبريالية التي تمثل نزوع الرأسمالية لتصدير فوائض رؤوس الأموال للدول الفقيرة في مرحلة غلبة رأس المال المالي الاحتكاري. فقبل ظهور الامبريالية اكتفت الدول الرأسمالية بتصدير السلع وممارسة التجارة عموما (مثال شركة الهند الشرقية البريطانية "1600" التي كانت تتاجر في الحرير والقطن والشاي)، بينما أن الإمبريالية تعنى الرأسمالية التي تنزع للسيطرة الاقتصادية الكاملة على البلدان المُصَدر اليها رؤوس الاموال.

وجدير انه رغم فرط التفسيرات والتصورات البلاغية (rhetorical perceptions) التي لجا لها سعيد في ”الثقافة والامبريالية“ لتعريف الامبريالية، فان مُؤَلَّفه خلو من التطرق المتكامل لنظريات الإمبريالية ومنها نظرية الإمبريالية الخاصة بالماركسية التي يكتفى سعيد بإيراد إشارات إليها بشكل مقتضب لا يخلو من التهكم الهزء والازدراء، والمرور مرور الكرام على ذكر لينين من دون الإشارة الى اضافته النظرية العظيمة في التعريف بطبيعة الإمبريالية. إن حذف نظرية الإمبريالية الخاصة بالماركسية-اللينينية في كتاب يتناول الإمبريالية أشبه بإهمال ذكر أعمال فولتير أو جان جاك روسو عند التحدث عن أفكار منظري وفلاسفة عصر الأنوار. وهكذا، بدلا من التعمق في مسالة تحليل الامبريالية، فان سعيد يكتفى بوعظ المستعمرين، فهو يقول :

” إذا أخبرت العرب أو الأفارقة أثناء جلوسك في أكسفورد أو باريس أو نيويورك أنهم ينتمون إلى ثقافة مريضة أو غير متجددة بشكل أساسي، فمن غير المرجح أن تقنعهم. حتى لو انتصرت عليهم، فلن يتنازلوا لك عن تفوقك الأساسي أو حقك في حكمهم على الرغم من ثروتك وقوتك الواضحة.“-سعيد1994، ص 19.

والآن، من ناحية شعوب مناطق التحرر الوطنية يقول سعيد:

”فإن إلقاء اللوم على الأوروبيين بشكل كاسح في مصائب الحاضر ليس بديلا كبيرا. ما نحتاج إلى القيام به هو النظر إلى هذه الأمور كشبكة من التواريخ المترابطة التي سيكون من غير الدقيق والعبثي قمعها، ففهما مثير للاهتمام ومفيد.“ – سعيد 1994، ص 19.

ان سعيد يصف الشعوب بانها وقعت فريسة اليأس بعد فشل عملية انهاء الاستعمار (decolonization) في تغيير حياتها للأفضل، وبالتالي اعتقاده أن الطريق امامها هو اكتشاف ما يزيل الاختلاف بينها والمعتديين الاستعماريين، وانه يجب قبول الأصوات داخل حركات التحرر المنادية بالتعايش والاندماج؛ فهو يقول ان التعددية الثقافية لا تؤدى بالضرورة دائما الى السيطرة، بل تؤدى الى المشاركة وتجاوز الحدود والى التواريخ المشتركة والمتقاطعة؛ وأن فكفكة الاستعمار تظل، الى حد مأساوي، غير منجزة حين يضع قادة الاستقلال الوطني أهدافا قائمة بذاتها، وان التاريخ الحديث للعالم الذى كان خاضعا في مضى للاستعمار يخضع لحكومات ديكتاتورية معادية للديمقراطية في مجتمعات يسودها القحط الثقافي. ويقول سعيد انه حاول ان يظهر انه ضمن المقاومة الوطنية للإمبريالية، في كل مكان تقريبا، كان ثمة تيار نقدى أبصر المخاطر الكامنة في أحادية النضال المقتصر على التحرر القومي. – سعيد، 1994، ص 27.

وهكذا، فان السكان الأصليين عقب جلاء السيطرة الاستعمارية المباشرة سرعان ما وجدوا أنهم بحاجة إلى الغرب، وان:

” فكرة الاستقلال التام كانت خيالا قوميا مصمما بشكل أساسي لما يسميه فانون ´Fanon´ ´البرجوازية القومية´، التي غالبا ما كانت تدير البلدان الجديدة بقسوة وطغيان استغلالي يذكرنا بالسادة الراحلين.“ -سعيد 1994 ص 10-20.

ويدعو سعيد حركات التحرر الوطني قبول الأصوات الميّالة للتعايش حيث يقول:

”ما يجب تذكره هو أن روايات التحرر والتنوير في أقوى أشكالها كانت أيضا روايات للاندماج وليس الانفصال، قصص الأشخاص الذين تم استبعادهم من المجموعة الرئيسية ولكنهم يقاتلون الآن من أجل احراز مكان فيها. وإذا لم تكن الأفكار القديمة والمعتادة للمجموعة الرئيسية مرنة أو سخية بما يكفي لقبول مجموعات جديدة، فإن هذه الأفكار تحتاج إلى تغيير، وهو أمر أفضل بكثير من رفض المجموعات الناشئة .“ -سعيد 1994، ص ص xxvi.

كذلك يذكر سعيد انه على المنادين بالتحرر مواجهة المشاعر الجماعية المُسَخَّرة في الغالب لحركات الهيمنة الوطنية والإكراه القومي، حتى في الدراسات والتخصصات التي تدعي أنها إنسانية، وانه يحب تحدى قوتهم، فعلينا :

” أن نحاول تجنيد ما يمكننا فهمه حقا من الثقافات والفترات الأخرى. بالنسبة للباحث المدرب في الأدب المقارن ، وهو مجال يتمثل أصله وهدفه في تجاوز الانعزالية والمقاطعة ورؤية العديد من الثقافات والآداب معا ، بشكل طباقى (contrapuntally)، هناك استثمار كبير بالفعل في هذا النوع من الترياق للقومية الاختزالية والعقيدة غير النقدية: بعد كل شيء ، كان الدستور والأهداف المبكرة للأدب المقارن هي الحصول على منظور يتجاوز أمة المرء، لرؤية بعض أبناء الكل بدلا من الرقعة الدفاعية الصغيرة التي تقدمها ثقافة المرء وأدبه وتاريخه. أقترح أن ننظر أولا إلى ما كان عليه الأدب المقارن في الأصل ، كرؤية وممارسة. ومن المفارقات، كما سنرى ، أن دراسة ´الأدب المقارن´ نشأت في فترة الإمبريالية الأوروبية العليا وترتبط بها بشكل لا رجعة فيه. ثم يمكننا أن نستخلص من المسار اللاحق للأدب المقارن إحساسا أفضل بما يمكن أن يفعله في الثقافة والسياسة الحديثة ، والتي تستمر الإمبريالية في التأثير عليها.“ -سعيد 1994، ص ص 42-43.

لكن مثل هذا التناول لا يعكس حقيقة تاريخ وحاضر حركات التحرر الوطني. وسعيد مال في مُؤَلَّفه الى تجاوز
الإضافات النظرية والدروس التي قدمتها حركات التحرر العظيمة التي حدثت في القرن العشرين في آسيا وافريقيا وامريكا الجنوبية. وكيف ان التحرر الوطني، الذى قادته الأحزاب الماركسية-اللينينية بيّن ان النضال الوطني مكتوب عليه الفشل لسبب رئيس وهو انه لم يتم في اطار نضال (شامل) ضد الرأسمالية المولِّدة للإمبريالية. كتبت بنيتا بارى (Benita Parry) قائلة :

” كتب سعيد بعاطفة مشبوبه عن العدوان الإمبريالي دون الإشارة إلى تحليلات لينين أو لوكسمبورغ، أو العديد من عبارات الغضب من شخصيات بارزة أخرى في اليسار الماركسي. لقد ميز بين القومية المناهضة للاستعمار وحركات التحرر دون الإشارة إلى التوجه الشيوعي للأخيرة أو المصالح الطبقية لأي منهما، ووضع الآلية الاقتصادية والسياسية والتوسع الإقليمي في مركز الإمبراطورية الحديثة دون تحديد هذا المركز على أنه النظام العالمي للرأسمالية ". بينيتا باري“ -
Benita Parry, “Edward Said and Third-World Marxism”- From: College Literature -Volume 40, Number 4, Fall 2013- pp. 105-126

وختاما، فان نقد سعيد للإمبريالية هو نقد الاستعمار بشكل عام، وليس كونها مرحلة لتطور الرأسمالية . وان الهيمنة الامبريالية على العالم خلقت عالمين: عالم متقدم فرض عليه نظام انتاجه الرأسمالي ضرورة حبس عالم آخر في وهدة اقتصاد ما قبل رأسمالي لكى يتقوى بمقدراته من المواد الخام ووسائل الإنتاج الرخيصة من خلال النهب غصبا وعلاقات تجارية غير متكافئة. ولهذا، فالعالمان يدخلان في مواجه عنيفة من غير المعقول تهدئة عنفها بالتفاوض والتعايش؛ فرأس المال العالمي لا يمكنه (موضوعيا) الاستقرار والاستدامة من دون التمدد خارج بلدانه. كما ان العالمان ليس كتلتان تشتملان على فئات اجتماعية متآلفة في جسم متوحد (monolithic)، ففي العالم الرأسمالي يتزايد التناقض العدائي بين البرجوازية المتسيدة سياسيا والقاعدة العريضة من العاملين المستغلين من أجل فائض القيمة الضروري لمراكمة وتوسيع رؤوس الأموال. بينما تشهد مجتمعات الدول الفقيرة، التي تهيمن عليها الدول الاستعمارية، صراعا تزيد وتيرة عنفه فئات كمبرادورية حاكمة تمارس أقصى أنواع العنف ضد شعوبها في اطار خدمتها لتكريس الهيمنة الاجنبية.

ان سعيد أراد ابتكار طريقة جديدة لمعالجة قضايا الامبريالية من خلال استخلاص ما اسماه الطريقة الطباقية من عالم الموسيقى في تحليل موضوع الإمبريالية الذى يزداد تعقيدا باعتبار ازدياد التناقضات بين الدول الاستعمارية في تحركها الحالي المحموم لإعادة اقتسام دول العالم او تكريس الحفاظ على مناطق النفوذ القائمة، وبين الدول الاستعمارية والبلدان الفقيرة المستهدفة. لكن طريقة سعيد، المستخلصة من الموسيقى بدمج عدة الحان موسيقية لخلق لحن موسيقى واحد يتكون من الحان مستقلة، انتهت الى ان يكون التحليل ذاتيا لا ينطلق من تناقضات الواقع الحقيقية (real) واستخلاص التصورات السياسية منها. فتناقضات الامبريالية، ممثلة في نزعة متأصلة فيها لإقصاء الاخر تقابلها مقاومة عنيدة من قبل ضحاياها، لا يمكن التوفيق بينها وقد تأكد هذا امبريقيا من تجارب حركات التحرر الوطنية.

ان طريقة سعيد تتلخص في محاولة تصميم أداة لتحليل الامبريالية في اطار فكرة اولوية الثقافة في حدوث التمدد الإمبريالي، ومن ثم فإنها، من ناحية منهجية، نفس الطريقة القديمة القائمة على أساس اكتشاف (طريق ثالث)، وهى لا تقود الا للحفاظ على نظرة للإمبريالية محافظة مشبعة بالأوهام وعدم الوعى بطبيعتها كسياسة املتها الضرورة الاقتصادية؛ فالبحث عن علامات "التطابق" في علاقة الامبريالية مصيرها التحطم عند الاصطدام بالواقع ذو التضاريس الوعرة.

ملحوظة: كل الاقتباسات من كتاب " الثقافة والامبريالية" مأخوذة من النسخة الإنجليزية (اصدار 1994) بترجمة كاتب المقال:
Edward W. Said, “Culture and Imperialism”, Vintage Re-print- edition (May 31 1994).