الندوة الأخيرة ل باسم شيت

باسم شيت
2024 / 9 / 20 - 10:00     



باسم بريشة الرسام شربل فارس
تحويل إلكتروني وترجمة للندوة الأخيرة لـ باسم شيت- الطائفية في الشرق الأوسط- في مؤتمر الماركسية الذي نظمه حزب العمال الاشتراكي في بريطانيا في تموز/يوليو عام 2014. .



ما نقرأه في أغلب الأحوال عن “الإرهاب” في الشرق الأوسط هو أن ما يحصل هو عبارة عن ألف سنة من الصراع في شبه الجزيرة العربية والانقسام حول من يجب أن يحكم الدولة الإسلامية طوال هذه المرحلة. ولكن من الأمور الرئيسة التي نتجت عن ذلك، هو إخبار الناس، خاصة عبر وسائل الإعلام الغربية، هو أن الطائفية تشبه شيئا مطبوعا في الحمض النووي للشعوب في الشرق الأوسط. وأن الناس لا يستطيعون التملص من هذا الوصم لأن [هذا] التاريخ هو واقع الحال في العالم العربي.

هذا ما يكتبونه، ولكن للرد عليه، هناك إجابة بسيطة؛ قال ماركس عام 1852، إن البرجوازية في ظل الأزمة الثورية على نحو خاص، تستحضر، في الحقيقة، الماضي المكون من شعارات ولغة آفلة وتحاول وضعها في الحاضر، حتى تفسر الأخير وتناقضاته. هذا ليس ما قاله ماركس حرفيا، أنا فقط أقول الفكرة العامة.

اليوم هذا هو الحال بالضبط، نسمع لغة لتفسير الأزمة عندما لا توجد بدائل ثورية أخرى لفهم الأزمة الفعلية. وذلك يعود إلى عدم وجود تيار ثوري فعلي يهيمن على اللغة السياسية ضمن الأزمة القائمة التي يعيشها الشرق الأوسط.

لذا السؤال الأساسي هو كيف تطور الإرهاب، ولماذا يلعب الدين دورا مهما في السياسة وفي الشرق الأوسط؟

لفهم ذلك، علينا العودة إلى بداية الكولونيالية في الشرق الأوسط. بات الدين في حد ذاته موطئ قدم للكولونيالية في الشرق الأوسط. عندما جاء الديبلوماسيون الكولونياليون الأوائل، وخاصة الأوروبيون والفرنسيون، إلى المنطقة، وأوضحوا أنهم يفهمون السلطنة العثمانية وتكوين الشرق الأوسط كما لو أنه فسيفساء لكيانات منفصلة ومختلفة تعيش إلى جانب بعضها البعض. وبالتالي، صاغوا مشكلة تلك المنطقة بأنها تكمن في الاستبداد الإسلامي والحل هو العلمانية المسيحية العقلانية بهذا المعنى.

وإذا عدنا إلى الكتابات الكولونيالية المبكرة عن لبنان وسوريا، سنفهم كيف كانت هذه اللغة تفهم بشكل أساسي المجتمعات في تلك المرحلة داخل البلد. وإذا نظرنا كذلك إلى التطورات المبكرة للرأسمالية الأوروبية وتدفق رأس المال إلى السلطنة العثمانية، سنرى أن الروابط الأساسية كانت تبنى مع المؤسسات الدينية كوسيلة لخلق مصداقية معينة لحماية الأقليات ضد “المشكلة” الإسلامية الكبرى أو الدولة في تلك المرحلة.

على الرغم من أن الفارق الأساسي في تلك النقطة كان بين ما نراه على سبيل المثال، في تطور الرأسمالية في أوروبا وتطور الرأسمالية في الشرق الأوسط، على سبيل المثال، عندما كانت الرأسمالية تتطور في أوروبا وتولت البرجوازية الوطنية الجديدة النضال ضد الدولة القائمة، كانت المؤسسات الدينية الأوروبية في تلك المرحلة في ذروة قوتها.

حصل اندماج كامل، أو بدرجات متفاوتة، بين المؤسسات الدينية والدولة الإقطاعية في تلك المرحلة. في حين في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، كان لدينا بنى متعايشة في ظل القانون المدني في السلطنة العثمانية، في نفس الوقت، لدينا المؤسسات الدينية إلى جانبها. في العديد من النقاط كانت تحت القانون. وكان القانون المدني بالتالي يتمتع بسلطة أعلى من القانون الديني. وقد شهدنا الكثير من التغيرات في الشريعة والمحاكم الدينية وفقا للتغيرات التي طرأت على سياسات الحكم العثماني وقتها.

لذلك، عندما بدأت الكولونيالية في التوجه نحو الشرق الأوسط، حاولت فرض المزيد من الهيمنة في ظل تراجع السلطنة العثمانية، كانت الطريقة التي شكلت بها سياستها هي عبر حماية الأقليات ضد هيمنة الأغلبية.

بالتالي، في جبل لبنان، على سبيل المثال، كانت الصفقة بين المستثمرين الفرنسيين والكنيسة المارونية هي بالسماح لهم بالحصول على وصول أفضل [إلى “المناطق المسيحية”] وبناء مصانع الحرير بشكل أساسي واستيراد إنتاجها إلى السوق الفرنسية. فما حصل هو حصول تدفقات رأسمالية اتجهت نحو مجتمعات معينة، في حين كانت مجتمعات أخرى تعيش من العمل الزراعي.

لذا، تطورت طبقة عاملة جديدة، على سبيل المثال، في جبل لبنان داخل المجتمعات المسيحية، في حين كانت المجتمعات المسلمة تعيش من الزراعة المعيشية، بالتالي هذه التحولات هي التي شكلت المجتمع.

لذلك في مرحلة الستينيات من القرن التاسع عشر، سجل ارتفاع في هجرة الفلاحين المسيحيين إلى خارج البلاد، وتحولت نسبة كبيرة من الفلاحين إلى العمل الصناعي. وفي المجتمعات المسلمة كانت الطبيعة المهيمنة للاقتصاد قائمة على الإقطاعية.

هنا يتضح لنا أن ما حصل (ويحصل) هو التطور المتفاوت والمركب، الذي تكلم عنه تروتسكي [وسواه]، وهو مسألة بالغة الأهمية لفهم كيفية تشكل هذه التناقضات، وكيف شكَّلت بنية الرأسمالية في المنطقة السياق والأرضية المناسبة للغة الطائفية والخطاب الطائفي، وكذلك الأيديولوجية المخيفة الكامنة وراءها. وإذا نظرنا عن كثب إلى هذه التطورات في وقت لاحق، فسنجد أن هذه هي الطريقة التي تشكلت بها الدولة والبرجوازية الوطنية في هذا السياق من التطور المتفاوت والمركب.

لذلك، عندما ننظر إلى المرحلة الأولى من التطور، خاصة بعد التحرير الذي حصل على يد حركات التحرير الوطنية، هناك فكرة عامة مفادها أن هذه الدول هي دول علمانية عربية تواجه بالأساس الكولونيالية وتحاول إقامة نظام علماني. ولكن إذا نظرنا عن قرب إلى هذه الدول، فسنرى ما هو عكس ذلك.

لقد استعمل جمال عبد الناصر سلطة الأزهر، كمؤسسة رئيسة لمواجهة جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تتزايد قوتها، والتي كانت تكتسب زخما متزايدا في مصر. وكيف استعمل الأسد المؤسسة الدينية كذلك لمواجهة الإخوان المسلمين، في ذات الوقت، دفع الكثير من المال لبناء المساجد والجمعيات الخيرية الدينية لمواجهة المنظمات العلمانية أو المدنية داخل المجتمع. والأمر عينه فعله صدام حسين مع المؤسسات الدينية في العراق لصد أي انتفاضة. وبالتالي، هذه السياسات القومية استعملت السياسة الطائفية في عدة مراحل من حكمها. وفي الوقت عينه، تشكلت المقاومة ضدها. وكانت هذه المقاومة تأتي من اليسار في بعض الأحوال، أو حتى من التيارات الدينية والإسلامية.

ونستطيع أن نرى هذه الأمور في مراحل عديدة من تاريخ الشرق الأوسط وخاصة مع صعود حركات التحرر الوطني في السبعينيات وتطور ما نعرفه عن الخريطة الحالية للشرق الأوسط. على سبيل المثال، عندما ننظر إلى هذه الخريطة، نرى أن الدولة الإيرانية تشكلت وفقا لنموذج القومية الشيعية. إضافة إلى تشكل دول أخرى استنادا إلى نموذج القومية السنية. وفي لبنان، مثلا، نجد مزيجا من الطوائف المتعددة أو الهويات الطائفية المختلفة المجتمعة معا في دولة واحدة. فنشهد تعايشا سطحيا للغاية.

تتبنى مصر مثلا الخطاب السني المهيمن، الخطاب السني باعتباره القاعدة الأساسية للقومية العربية. الأمر نفسه في العراق خلال حكم صدام. في نهاية المطاف، نجد أن المقاومة الفلسطينية التي حافظت على مستوى كبير من الخطاب العلماني، على سبيل المثال، عندما دخلت في الحرب الأهلية اللبنانية تبنت خطابات طائفية على نحو متزايد.

من هنا، طرح يسار الحركة الوطنية خلال الحرب الأهلية نظرية تقوم على محاربة دين الظالمين بدين المظلومين. وهذا يعني عمليا أن الحكام المسيحيين هم الظالمون، وبالتالي إن المعركة في الأساس هي معركة بين المسلمين والمسيحيين.

وقد أدى هذا إلى تحول الكثير من المقاومة اليسارية والعلمانية نحو خطاب أكثر طائفية. حتى الآن على سبيل المثال، إذا نظرنا إلى الأحزاب الشيوعية واليسار القومي، سنجد أن هذا الخطاب ما زال يتردد صداه فيها حيث تعتبر أن المناطق المسيحية مرتبطة مباشرة بالبرجوازية، في حين ترتبط المناطق الإسلامية بالطبقة العاملة.

هذا الجزء من الخطاب والسياسة اليسارية فيه الكثير من الضرر لأنه يعني تحويل الطائفية من لغة البرجوازية إلى لغة عضوية بين أقسام الطبقة العاملة. وبالتالي، يبدأ الناس في التعرف على الصراع الطبقي من منظور طائفي.

هذا ما يشكل تهديدا كبيرا أو تدميرا محتملا لنسيج حركات الطبقة العاملة، وتنامي التيارات الثورية وكل ما شابه، لأنها تسمح بتفسير الأزمة والمشاكل والتناقضات التي كانت موجودة بلغة طائفية بدلا من لغة طبقية. وهناك فخ في هذا لأن الفكرة السائدة هي كيف يمكن هزيمة الطائفية من خلال تبني هوية وطنية والسعي إلى مشروع وطني أو قومية. كما ذكرت من قبل، وإذا نظرنا بشكل أعمق، فإن مشكلة العلمانية ترجع بشكل جزئي إلى فشل الفكرة، وفشل أسطورة القومية العربية. عندما أنشئت فكرة القومية العربية، كان المشروع الكولونيالي قد قسم المنطقة إلى مناطق مختلفة، ولكن فيما بعد تبنت الدول القومية هذه التقسيمات.

فرفض حافظ الأسد دعم المقاومة الفلسطينية في الأردن، عندما هاجمها الجيش الأردني قائلا إن هذا قد يجر سوريا إلى حرب مع الاحتلال. تماما كما حصل في لبنان حيث طردت المقاومة الفلسطينية من لبنان للحفاظ على وحدة كيان لبنان نفسه.

وفي الأردن، نفس الأمر، دمجت الهوية الفلسطينية داخل الكيان الأردني تحت شعار الأردن أولا. وهكذا إذاً، حيث منسوب القومية مرتفع جدا في السعودية التي تضع تصنيفات للعمال فيها، بحيث لا يُسمح لك بنيل جنسية البلد على سبيل المثال. في إيران، هناك تطور للقومية الإيرانية التي هي قوية بالفعل. إنها مندمجة مع القومية الشيعية في نفس الوقت. وحتى بعض المعارضة الإيرانية، تتبنى سياسات قومية إيرانية عنصرية تجاه العرب، تشبه في بعض منها الصهيونية.

وإذا نظرنا مثلا إلى مصر فسنجد الكثير من الخطاب القومي كذلك، على الرغم من اختلاف منظوره مقارنة بالمناطق الشرقية من العالم العربي، ولكن ما زال هناك هذا الارتباط بين القومية والهويات السنية أو الطائفية.

هذا هو السياق الأساسي لكيفية حصول الانقسام انطلاقا من اللغة والسياسة الطائفية. ولكن كيف تتطور هذه الأمور بالتفصيل؟ كيف يتبنى الناس أيديولوجية طائفية أو خطاب طائفي؟ علينا النظر عن كثب إلى التناقضات التي تحدث داخل المجتمعات العربية.

في الستينيات، كان معظم سكان المنطقة يعيشون في الريف، وكانت نسبتهم مرتفعة، وسجلت في الوقت عينه هجرة كبيرة في نفس الفترة وحتى الثمانينات. في التسعينيات، سجل اندفاع كبير للسكان نحو المدن.

أعتقد أن كريس هارمان قد شرح هذا الأمر بشكل جيد عندما تحدث عن التيارات الإسلامية، حيث ترك الفلاحون العمل الزراعي وأدواته التي اعتادوا على العمل بواسطتها لمئات السنوات، ثم ذهبوا مباشرة للعمل في المصانع أو باتوا يعملون كسائقي سيارات أجرة أو أصحاب متاجر، وما شابه. أي دون المرور بنفس المراحل التي مر بها العمال في أوروبا على سبيل المثال عبر عقود ومئات السنوات من التحول الفعلي، حتى من ناحية الأفكار، والآليات والانضباط تجاه المدينة والمراكز المُدنية. لذلك ما حصل هو جزء مما سأسميه صدمة ثقافية.

فعلى سبيل المثال، لقد حصلت مثل تلك الصدمة في التاريخ على المستوى الآسيوي بشكل عام، والسوري على نحو خاص، فعندما غادر العديد من الفلاحين جبل لبنان في ستينيات القرن التاسع عشر وحتى بداية الحرب العالمية الأولى، فعلوا ذلك لأنهم لا يريدون أن يكونوا عمالا لا يملكون أي أرض. كانت فكرة فقدان الملكية، ملكية الأرض، والتحول إلى عمال داخل المصانع بمثابة هجوم على كرامتهم. لذلك سافر العديد منهم، إذ هاجر ثلثا السكان من جبل لبنان في تلك المرحلة، وتلك كانت الموجة الأولى من الهجرة. الأمر عينه حصل في سوريا وفي أماكن أخرى عديدة، وعندما لم تنجح هذه الخطة عاد الكثيرون.

لقد عادوا محملين بصدمة أخرى وهي رأس المال الأوروبي والأميركي في نفس الوقت. لذلك عادوا إلى المدن حيث ظهرت تناقضات كبيرة وجديدة لأن المدن نفسها قد تطورت في المنطقة [خلال غيابهم]. على الرغم من أنهم الآن باتوا في دولة رأسمالية، لكن لم يكن لديهم أي خدمات اجتماعية أو دولة رفاهية، كل هذه الأمور التي كانت هدفا طبقيا في بلدان أخرى في أوروبا مثلا، حيث كانت الطبقة العاملة تناضل من أجل تحقيقها، بهذا المعنى هذه الدولة [دولة الرفاه] لم تكن موجودة وقتها.

فبذلك تكون قد بنيت دولة رأسمالية المتضمنة لطبقة عاملة ضعيفة جدا، خلال تلك العملية، التي سمحت ببروز برجوازية وطنية، والتي، وعلى الرغم من تبنيها خطابا مناهضا للكولونيالية، كانت تعمل في نفس الوقت مع الأخيرة والإمبريالية وهذا ما سمح لها في الواقع بإضعاف الطبقة العاملة بشكل أفعل وخلق المزيد والمزيد من التناقضات داخل المجتمع.

توسعت الضواحي في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وفي الوقت عينه لدينا برجوازية صغيرة كبيرة جدا موجودة بسبب نقص الاستثمارات من جانب الدولة أو من رأس المال في القطاعات الضرورية.

على سبيل المثال، هناك المواصلات، حيث قطاع السيارات كبير جدا والقائم على الاستيراد، ولكن استثمارات الدولة في مجال النقل العام قليلة جدا [فضلا عن خصخصته أو رفع أسعاره]. كما تسجل المنطقة نقصا في الاستثمار بالتعليم بالمقابل، ترتفع نسبة المدارس الخاصة.

هذه المراكز المُدنية تعاني من الكثير من هذه التناقضات، ويحاول الناس إيجاد معنى للأخيرة، خاصة وأنهم يعيشون في مدينة واسعة، وهذا أمر جديد بالنسبة لهم.

إننا نتحدث عن ستين أو سبعين سنة من العيش في المدينة، في حين الارتباط بالقرى والمراكز الريفية والقرى والتقاليد انقطع بسرعة كبيرة، وهذا الأمر تسارع بشكل متزايد بسبب الحروب الأهلية والاحتلال والأزمة الاقتصادية، وقد حصل كل ذلك في الـ 30 أو الـ 40 سنة الماضية. إن هذه التناقضات التي حصلت هي لأن الناس حاولوا البحث عن مركز ثقل، يمكنه أن يمنحهم إحساسا حقيقيا بهذه الأشياء.

وهنا يأتي دور المؤسسات الدينية ومنظمات العمل الخيري التي توجه الأموال الآتية من البرجوازية الكبرى نحو بناء المساجد والمراكز الدينية في لبنان أو سوريا في مناطق مختلفة. وبالتالي تصبح المنافسة بين رأس المال الإقليمي منافسة بين المجتمعات على الأرض.

وهذا أمر بالغ الأهمية النظر فيه لأن الشعور العام الذي نتعامل به مع الامبريالية هو أنه لدينا الولايات المتحدة، وكل ما عداها هو مضطهد. إن نظرنا إلى المسألة عن كثب، سنرى أن رأس المال الإقليمي يصدر رأس ماله ويحاول الاستفادة من هذه التناقضات لتطوير سياسات وثقافات عدوانية أو يمينية داخل هذه المنطقة. إن المنافسة على قمة المجتمع، المنافسة بين البرجوازية الرأسمالية، باتت أكثر شبها بالمنافسة العضوية بين الناس على الأرض.

وإذا نظرنا عن كثب كذلك إلى الخطابات الطائفية، فنجد أنها لا علاقة لها بالإنجيل أو بالقرآن. فإذا تحدثنا عن الخطابات الشعبية حول الطائفية، فهي تتعلق غالبا بالطبقة. عندما نتحدث عن كرامة السنة، ونتحدث عن اضطهاد المسيحيين وعن إقصاء الشيعة. كل هذه الأشياء إذا تأملنا مصطلحات مثل الإقصاء والكرامة والاضطهاد، فهي تدل على معنى واحد. وهي ليست مقتصرة على جماعة دون أخرى.

ولكن ما يحصل هو أن البرجوازية الوطنية والطبقة الحاكمة تضع بشكل مباشر التعبير الطبقي إلى جانب الهوية الطائفية. بالتالي يصبح هذا التعبير يقتصر على هذه الجماعة المحددة، ولا يحق للآخرين الحديث عن الاضطهاد، إنما عليهم الحديث عن الإقصاء، والآخرون عليهم الحديث عن الكرامة وسوى ذلك. بهذه الطريقة تؤطر السياسة الطبقية بسردية طائفية. وهذا ما يسمح بالانتقال من مساحة توحيدية في التعبير عن حال طبقة في وجه الدولة والبرجوازية نحو المنافسة داخل الطبقة العاملة وبين المضطهدين.

إنها في الواقع تشبه إلى حد كبير فكرة ما بات شائعا اليوم باسم التقاطعية. بحيث يتحول النضال بعيدا عن بنية القمع، ويتحول الأمر إلى نزاعات بين الناشطين حول من يحظى بامتيازات أو من يتعرض للقمع أكثر.

إن تطوير فكرة أو أسطورة حول القمع باعتبار يمكن قياسه في جدول إحصائي، دون النظر فعليا إلى التجربة الإنسانية لمجتمع بأكمله يعيش هذه العلاقات والتناقضات من القمع، الأمر الذي يؤدي إلى تطوير المزيد من الاستياء من هذا الواقع.

بالتزامن مع ذلك، دون تدخل قوة ثورية داخل المجتمع، فإن ذلك يترك المجال لتفسير هذه التناقضات ضمن مصطلحات طائفية.

وهذا بالضبط ما حصل بين التحول من المقاومة العربية القومية ضد الكولونيالية إلى المقاومة الإسلامية ضد الكولونيالية. إن هزيمة المشروع القومي العربي في تحقيق الاستقلال الحقيقي داخل الدول العربية والتحرر بشكل خاص جعلنا نحتاج إلى طريقة مختلفة لتقديم الأشياء ومواجهتها وخلق انضباط أفضل في مواجهتها. وهذا بالضبط ما حصل في لبنان مع بروز حزب الله، صعود حماس في فلسطين، أو جماعة الإخوان المسلمين في مصر التي استعملت قضية فلسطين، بحيث تكون هذه العناصر المعارضة الحجة المهيمنة ضد الدولة، وهذا ما تحتاجه الطبقة الحاكمة بالضبط.

ولكن الآن بعد ثورات عام 2011، هذا الأمر لا يشكل أزمة للمشروع القومي المهيمن في الدول العربية بشكل رئيس، إنما يشكل أيضا أزمة لهذه الحركات الإسلامية وهذه الحركات الطائفية في الوقت عينه.

وقد رأينا كمية التناقضات الموجودة داخل المجتمع، فجماعة الإخوان المسلمين على سبيل المثال في مصر واجهت الكثير من الاستياء والهجوم من الناس ضد حكم محمد مرسي. حماس في غزة والطريقة التي تحكم بها أدت كذلك إلى الكثير من الاستياء ضدها. وكذلك مع تدخل حزب الله في سوريا.

وفي الوقت عينه أعلن تنظيم الدولة الإسلامية عن الخليفة الجديد- أنتم تعلمون أنه بات لدينا خليفة جديد الآن (ضحك). فكانت ردة الفعل الأولى من معظم الناس إذا استطعنا أن نرى ذلك هو السخرية. هذه درجة شدتها، وهذه هي درجة اغترابها عن الواقع.

ولكن في الوقت عينه، إذا نظرنا إلى الكيفية التي قد يتمكن فيها تنظيم الدولة الإسلامية من تجنيد هذا العدد من الناس، فهناك الكثير من التقارير حول رفع أجور المقاتلين من 200 إلى 400، الأمر الذي جذب الكثير من المقاتلين من المجموعات المسلحة الأخرى.

هكذا يوفر الفقر والبطالة غياب الدخل والتفاوتات الاجتماعية الكبيرة أرضية لتطور مثل هذه المجموعات. وردود فعل اليسار من جانب واحد تصبح في الأساس طائفية كذلك، لأنها ترفض كل التناقضات أو المشاكل أو السياقات التي أدت فعليا إلى ولادة هذه التنظيمات، كما أنه يضعها في سياق مؤامرة امبريالية، كما لو أن تنظيم الدولة الإسلامية جاء من فراغ وأسقط على سياقنا. من الجانب الآخر، لدينا الأنظمة دون أن يلحظ [اليسار] أن الأزمة التي تعيشها [الأنظمة] هي في الواقع الأرضية التي طورت مثل هذه الأشياء [داعش]. ولكن ليس فقط داعش هو المشكلة، يمكن أن تتطور مجموعات أخرى أو ثقافات أخرى أو لغات أخرى أو سياسات مماثلة في هذا المعنى وتتحول إلى صراعات مجتمعية. وهذا فعلا ما حصل، على سبيل المثال، في بداية السبعينيات لبنان كانت [ما باتت تسمى] الأسطورة الوطنية في لبنان هي أنه قبل الحرب الأهلية كان الجميع يعيش بسلام. وهو سلام وهمي لأنه تحت رداء صارم من الدولة، الذي يسمح ويمنع كما يشاء، ويفرض حظر التجول وكل هذه الأمور. ولكن الفكرة هي أنه عندما واجه اليسار هذه الأمور بدأت الدولة في استعمال الخطاب الديني والطائفي. المشكلة التي وقع فيها اليسار هي إعادة توظيف هذا المسار (مسار خطاب الدولة) كحجة مضادة، أي، كما قلت سابقا، مواجهة دين الظالمين بدين المظلومين.

من ناحية أخرى، إذا نظرنا إلى الوراء، في ستينيات القرن التاسع عشر، حصلت انتفاضة فلاحية في جبل لبنان وأخرى في سوريا وأماكن مختلفة. والانتفاضة كان زعيمها الفلاح طانيوس شاهين، وكانت تضم فلاحين من مختلف الطوائف. وكانت الرغبة أن يكون المطلب الرئيس أن تكون الدولة علمانية- لم يستعملوا كلمة علمانية ولكن لم يستعملوا الدين كمحرك لتلك الانتفاضة. وبالفعل، يمكن قراءة وثائق تاريخية موقعة من شخصيات دينية، وفعاليات محلية، أعلنت فيها عدم مواجهة بعضها البعض، إنما الاتحاد ضد الإقطاعيين.

ولكن ما حصل، هو أن الكنيسة والإقطاعيين قالوا [للفلاحين] أنتم ستهزمون المسيحيين في الشرق الأوسط لأننا نواجه غالبية من المسلمين. مع الوقت، ومع تدخل والسلطنة العثمانية والكولونيالية، تحول خطاب انتفاضة الفلاحين إلى القول، نحن في الواقع نحمي المسيحيين ضد طغيان الإقطاعيين. وفي نهاية المطاف، تطيفت الانتفاضة، وباتت انتفاضة مسيحية. لأنه في الوقت عينه، لديك المجتمعات الأخرى، التي كانت خائفة من انتقام أسيادها الإقطاعيين الذين كان ولاءهم للعثمانيين أو للفرنسيين. وهذا إذا ما قارناه الآن بما يقوله بشار الأسد، على سبيل المثال، في سوريا أو ما يقوله المالكي في العراق، أو ما يقوله السيسي في مصر، وفي كل مكان، لديك هذا التهديد الشديد من صعود الإسلام السياسي والإخوان المسلمين. وهو ما يسمح بتبرير التدخل ضدها بأي وسيلة ممكنة. حتى لو كان هذا يعني استعمال الطائفية فعليا، لأنه عندما يقول المالكي لإيران، تعالي للتدخل للدفاع عنا ضد داعش، فهذا يعني أن تأتي بميليشيات شيعية لمحاربة تلك السنية.

وهذا ما قاله بشار الأسد، حين أعلن أن “الإرهاب” ينتج عن الجماعات السنية ودعا حزب الله للدفاع عنه. وهذا ما خلق تأثيرا شديدا وحوّل الصراع الذي هو صراع جذري ضد الدولة والنظام القائم إلى صراع طائفي داخل المجتمع لحماية الطبقة الحاكمة.

وهنا أود أن أشير إلى أن ما يعيشه الشرق الأوسط هو أزمة، ليس أزمة في الإسلام السياسي فقط، لكنها أزمة في الدولة العربية، ونموذجها، ولكن كذلك أزمة في المشروع القومي.

وهذا مهم جدا، لأن المحاولات السابقة من خلال إدماج الجميع في هوية وطنية واحدة أدت في الحقيقة إلى ردة فعل داخلية ضد الاندماج من خلال استعمال الطائفية على نحو متزايد كوسيلة لرفض ذلك.

ولأن الفكرة في الأساس أوروبية بمعنى أن الطريقة الوحيدة لمتابعة التقدم هي الاندماج في هوية واحدة، بذلك يحلون التناقضات داخل المجتمع. لكن المشكلة ليست في مسألة الهوية التي على الناس تبنيها، إنما أي نظام يمكنه حل هذه التناقضات التي هي في أساسها تناقضات طبقية.

وهذا ما يغيب عن بال ونشاط اليسار القومي واليسار الكلاسيكي في المنطقة، فهُم يهربون دوما من التعامل مع التناقضات الطبقية والتحولات الاقتصادية الكبيرة التي تحصل عند قاعدة المجتمع، من خلال المسارعة إلى تبني أيديولوجية جديدة تغطي (تخفي) الأزمة عوضا عن حل الأزمة فعليا ومتابعة النضال حتى النهاية، أي ما يمثل ثورة دائمة نحو الاشتراكية. هذا هو الحل الوحيد الذي يمكنه معالجة مسألة الطائفية والعنصرية في المجتمع. شكرا لكم.