من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى للقايدية 5


عبدالرحيم قروي
2024 / 8 / 1 - 16:50     

وبعد أن قوى المدني سيطرته على الجنوب وأنشأ في كل مكان حصونا في أسفل المخزن المهدمة أو المنهوبة، أدار بصره نحو الحوز حيث كان يتنافس الكوندافي والمتوكي.
وإثر وفاة بامحمد أعطى المولى عبد لعزيز المدني قيادة مسفيوة المتمردة والتي ظلت يجب الاستيلاء عليها. وقد كان من ضمن الإستراتيجية الجغرافية السياسية لكلاوة مسألة فتح باب على الحوز ذات يوم من خلال شعبة زات. ذلك أن الباب التي فتحوها بإنشاء قلعة تازرت قبالة زمران لم تكن تتجه نحو قلب الحوز وعاصمته مراكش. فتحالف المدني مع القايد عبد الحميد للرحامنة لكي ينهب مسفيوة. وقد كان يوجد في الجيشين الذين سيتحدان فيما بعد فارسان متواضعان يساعدان الرئيسين: أحدهما يسمى العيادي الذي سيصبح قايد الرحامنة، والتهامي المزواري الذي سيصبح باشا مراكش. وقد أتاح انهزام مسفيوة حصول كلاوة على غنيمة عظيمة سرعان ما ستنقلها قوافل البغال إلى تلوات. ومنذ ذلك الحين أصبح المسفيون يدفعون الضرائب لكلاوة، وأقام مدني قلعته بالسهل في آيت ورير.
وقد أدى فشل الحملة العزيزية ضد بوحمارة تلك الحملة التي شارك فيها المدني والتهامي وخسرا فيها أمولا طائلة وتكبدا مشاق صعبة دون فائدة تذكر لا من حيث الغنيمة أو من حيث الاستيلاء على أراضي جديدة لفرض الضرائب عليها، إلى أن ينفصل فريق الكلاوي عن المولى عبد العزيز. وقد جعلتهما عودتهما غير المظفرة عن طريق الجزائر التي تحتلها فرنسا وعن طريق البحر إلى أن وصلا إلى طنجة، يشكان في قدرة السلطان على القضاء على الفوضى التي عمت تدريجيا كل البلاد. فعاد الأخوان إلى بلدهما وحاولا أن يمدا سلطتيهما على جزء من الأراضي على حساب الكوندافي .
فمع الاحتلال الفرنسي لوجدة ونزول الفرق الفرنسية بالدار البيضاء أصبح عجز المولى عبد العزيز عن إعادة السلطة للدولة المغربية أمرا واضحا للعيان. لذلك اجتمع القياد الكبار في مراكش: المتوكي، والعيادي والكلاوي... ليتشاورا لدفع مولاي حفيظ إلى السلطة. وقد ظل الكوندافي وحده بعيدا عن تلك الحركة لما كان مولاي عبد العزيز يغمره به.
غير أن المتوكي غير بعد ذلك موقفه إذ انهزم أمام تحالف الكلاوي والعيادي ضده فاضطر إلى أن ينسحب إلى منطقته الجبلية الصغيرة وسينتقم لنفسه بعد ذلك.
إن تحليل التتابع البالغ التعقيد للتحالفات الدائرة بين كبار القياد، طيلة هذه الفترة يجعلنا نعتقد أن الحوز والمناطق الأطلسية حيث توجد قواعدهم للانطلاق كانت بالنسبة لهم رقعة شطرنج يلعبون فيها لعبة التوازن الحساس.
وفي هذا الغموض الشديد التي كان سائدا حينئذ يجب أن نشير إلى الأطروحة التي حللها لنوكس Lennox وحسبها يعتقد أن المتوكي والكلاوي لم يذهبا إلى خلق شخصية مولاي حفيظ إلا بقصد قطع الطريق على صعود الكوندافي المقلق .
إنها أطروحة جد متحيزة، فمن كان يدفع الآخرين؟ وقد استطعنا بفضل أرشيفات القنصلية وضع خريطة للتحالفات المعقودة والمفسوخة في الحوز في الفترة 1905 إلى 2192 بين كبار القياد والقبائل وذلك بترتيبها حسب المعسكرات الموجودة (العزيزي، الحفيظي ثم الحفيظي-الهبي). وخلال رقعة شطرنج من التعارضات البنيوية المزدوجة فإن الحركة التي تتجلى منها هي أنه في كل مرتين يحدث الانضمام إلى بطل الكفاح ضد الأجنبي إلى أن ينتهي كل المتعارضين إلى إدراك أن التدخل الفرنسي هو أمر لا رجعة فيه. والتأخرات عن هذه الانضمامات هي وحدها المشيرات للنسق الجغرافي السياسي للتنافسات داخل الحوز. كما أن العديد من تلك الانضمامات يكشف عن حيوية وقوة إدراك التغير وذلك على غرار ما يحدث في الانضمامات الانتخابية، إذ هناك دينامية للفوز ما أن تتضح حتى يسرع الأفراد إلى نجدة الفائز، ولكن بعد أن يتحرروا من الالتزامات السابقة التي كانت تثقل كاهلهم. وفي فترة صاخبة مثل هذه الفترة، ما يجب علينا أن نحتفظ به عنها، في رأينا، هو انه في غياب منظور لمدى طويل لنسق مجتمع ما يتفاهم فيه الأسياد حول اقتسام دائم «للوعاء الضريبي» assiette fiscale فإن التنافس لمدى قصير هو الذي يبرز شبكات الأسياد.
فكل استيلاء على الأرض يعني كم رجلا وكم ضريبة يجب اقتطاعها، وتحت وطأة المزاحمة بين القياد الذين يتنازعون هكذا على مجموع الفائض القابل للتصريف، تنسحق تاقبيلت، وتتشتت، وتواصل الإنتاج لتحافظ على البقاء وتبحث عن إخفاء ذلك الإنتاج تحت الأرض أو في الجدران أو في الكهوف. وتتوقف العمليات المسلحة طيلة فترة جني الزيتون وحصاد الحبوب ولكن تستأنف بقوة حالما يعصر الزيتون وتدرس الحبوب.
وقد كان من نتيجة هذه القايدية الحربية القضاء على المؤسسات القبلية وتدمير وسائلها ومنجزاتها المادية. وبلا شك أنه على مستوى القرى وعلى الأكثر على مستوى قطاعات السواقي، ستظل الممارسات والقواعد والأعراف المنحدرة من العصر القبلي القديم، قائمة فترة أطول، لكن دون أن يستطيع هذا النظام أبدا الظهور من جديد في الحوز على مستوى أوسع. فخلال ثلاثة أرباع قرن استطاع أسياد الحرب أن لا يتركوا من نظام اجتماعي كان في طريقه إلى الانحلال منذ ثمانية قرون سوى المظاهر فحسب. ولا جدال أن التسليح الحديث الذي حصل عليه القياد هو المسؤول عن هذا الانهيار السريع. فطالما كانت المجابهات تتم بين أشخاص متساويين في القوة، فإن العدد والتكتل بين تلك الشخصيات هو وحده الحاسم في الانتصار. كما أن البنيات القبلية التجزئية والمتدرجة هرميا، بفعل تحالفات الأجنحة، وضد الأجنحة، كل ذلك كان يعيد التوازن بين المتنافسين بدون انقطاع. غير أن الأمور لم تسر على نفس المنوال حين استولت عصابة صغيرة ولكنها مجهزة بنادق سريعة تملأ من مؤخرتها ومدافع تستطيع في بضع ساعات القضاء على المدافعين عن مخازن الحبوب، وتحطم الحصون وتقضي على كل الدخائر والثروات الدائمة لتاقبيلت.
يمكن أن لا نجد في هذه المعارك سوى صراعات بين أسياد ستولون على أقنان ولكنهم هم أيضا أدوات بقدر ما هم ذوات لتدخل استعماري واسع غاشم، يقيم لهم أسس قوتهم أو يترك الميدان لهم ليفعلوا ذلك أو حتى بدون علمهم يتيح لهم الفرصة لصعود عجيب. كل ذلك مقابل نهب البلد وانهياره الاقتصادي وتوقف الإنتاج في البوادي التي تمول صندوق المخزن في مدى قصير بالتأكيد ولكن ليكون في خدمة ضريبة حرب لمعاهدة جائرة، ولخدمة السيطرة الاقتصادية الاستعمارية ولشراء أسلحة ومنتوجات مصنوعة. وبعبارة أخرى أن أسياد الحرب هؤلاء هم أدوات هدم البنيات السياسية والاجتماعية للبلد. وسيكونون هم المستفيدين المتحمسين مؤقتا إذ سرعان ما ستبعدهم الإدارة الاستعمارية باستثناء واحد منهم هو التهامي الكلاوي .
يتبع