من الهولوكوست والاستعمار إلى الممانعة و«الربيع العربي»: في نقد ذاكرات أحادية الوجهة


ياسين الحاج صالح
2024 / 7 / 29 - 00:02     

في العلاقة بين «الربيع العربي» والتأويل المُمانع للقضية الفلسطينية ما يُناظر العلاقة بين تاريخ الاستعمار والهولوكوست من فصلٍ أو استبعاد. مرة يجري فصلُ الهولوكوست عن تاريخ الاستعمار (والعبودية والعنصرية)، ومرة تُفصَل قضية فلسطين عن تطلُّعات الديمقراطية والتغيير السياسي في البلدان العربية، وبخاصة سورية. في هذا ما يدعو إلى نظر نقدي، مُركَّب ومُتعدِّد الاتجاهات.

-1-

التأويل السائد للهولوكوست، في ألمانيا وإسرائيل بخاصة، وعموم الدوائر الداعمة لإسرائيل في الغرب، يُضفي عليه فرادة جوهرية، ويرفض مقارنته بأي شيء آخر. هذا لأن من شأن المقارنة أن تُنسبِنَ (تضفي النسبية على) تلك الإبادة المهولة لنحو ست ملايين يهودي، أو حتى تُتفِّهها. الهولوكوست هو الإبادة المطلقة، ومقارنة المطلق بالنسبيات تنالُ من إطلاقه، تُلوِّثه، فكأننا نقارن اللانهاية بأي مقدار معلوم، أو الباري القدير العليم بأي من مخلوقاته.

يتحول الهولوكوست بهذا الإطلاق من حدث في التاريخ، عارض ونسبي وعلائقي ومتعدد مثل كل ما هو تاريخي، إلى حدث أصلي مُنشِئ للتاريخ، مثل ظهور الأديان وقيام الممالك والإمبراطوريات. ويُفكَّر في هذا الحدث الأصلي في ألمانيا كـ«انقطاعة حضارية» عمّا هو، لولا ذلك، تاريخٌ من الأنسنة والعقلنة والتحضُّر. لا يجري فصل الهولوكوست بهذه الصورة عن تاريخ الاستعمار أو النظر إليه في إطار الإمبريالية الحديثة فقط، وإنما يُفصَل حتى عن إبادات سابقة كانت ألمانيا بطلتها، مثل إبادة شعبي الهيريرو والناما في ناميبيا في العقد الأول من القرن العشرين، أو داعمة لها مثل الإبادة الأرمنية على يد الأتراك في خضمّ الحرب العالمية الأولى. ومن باب أَولى يجري فصله عن الإبادة الجارية في فلسطين، وبدعم ألماني بالسلاح والسياسة والمعلومات. بذريعة عدم نَسبنة الهولوكوست وتتفيهه، يجري تتفيه ونَسبنة ضروب لا حصر لها من المُعاناة الإنسانية.

وقد يمكن التفكير في رفض إدراج الهولوكوست في علاقة أو مقارنة، وما يُحتمَل أن تنطوي عليه من مخاطر التلوث بالتاريخ، بوصفه مسعىً نقائياً أو تطهرياً، يُحاكي النقاء أو الطُهر العرقي للنظرية العرقية النازية، وما أَسَّست له من حكم عنصري إبادي. الحرص على النقاء التاريخي للهولوكوست يستعيد بصورة غير واعية بُنيَة النقاء العرقي، والمزيد من الدفاع عن فرادة الهولوكوست يحمل مخاطر إبادية لا تختلف في شيء عمّا حملته «العنصرية العلمية» للنازيين. عقائد الفرادة، والخصوصية بعامة، هي من عدد فكر تيارات اليمين القومي والديني ونظراتها إلى العالم.

ولعلَّ أبرز ممثلي نقاء الهولوكوست بنيامين نتنياهو الذي يجمع، كانتهازي سياسي محترف، بين دائمية الهولوكوست وصِفته المستمرة كحدث تأسيسي، وبين زَجِّهِ في كل وقت مع ذلك في مقارنات مع أحداث يُفترَض أنها أصغر بما لا يقاس، مثل طوفان الأقصى. كان نتنياهو قد صرَّحَ قبل سنوات أن المفتي أمين الحسيني هو من حرَّضَ هتلر على إبادة اليهود، وهذا تتفيه ما بعده تتفيه لتلك الجريمة الكبيرة، تحفزه اعتبارات إثنية سياسية معلومة، تتمثل في النزع الكامل لملكية الفلسطينيين لوطنهم بإلصاق جريمة كبيرة بهم، سابقة لإنشاء الكيان الإسرائيلي على حسابهم.

ليس على هذا النحو جرى التفكير في الهولوكوست دوماً. فخلال نحو عقدين بعد الإبادة اليهودية، جرى التفكير فيه في صلة بالاستعمار والإمبريالية مثلما فعل إيميه سيزار في خطاب بشأن الاستعمار، وحنة آرنت في أصول التوتاليتارية، و و. أي. بي. دو بويس في مقالته عن الزنجي وغيتو وارسو. تكلم سيزير على الهولوكوست كـ«ضربة مرتدة»، عادت إلى أوروبا من سجلها الاستعماري، وقال إن ما يجعل هتلر مختلفاً في نظر الأوروبيين يتمثّل في أنه طبَّقَ في أوروبا الإجراءات الاستعمارية التي كانت حتى ذلك الوقت مقصورة على عرب الجزائر وفقراء الهند وزنوج أفريقيا. ورأت حنه آرنت أن النازية والإبادة هي بمثابة مفعول بومرانغ (راجع أو مرتد) للإمبريالية الأوروبية إلى أوروبا ذاتها. آرنت خصّت الإمبريالية بأحد الأبواب الثلاثة من كتابها عن التوتاليتارية إلى جانب كل من معاداة السامية والتوتاليتارية ذاتها. أما دي بويس فربط بين مصير اليهود على يد النازيين وما عاناه ويعانيه السود من عنصرية، وعمل على إظهار ما يُقرِّبُ بين القضيتين وما يُفرِّق بينهما.

جرى التحوّلُ الذي يفصل الهولوكوست عن غيره ويرفعه فوق غيره على طورين فيما يبدو. طور أول أعقبَ محاكمة آيخمان عام 1961 بحسب مايكل روثبرغ مؤلف ذاكرة متعددة الاتجاهات: تَذكُّر الهولوكوست في حقبة نزع الاستعمار، وبعد حرب 1967 وظهور إسرائيل كقوة استعمارية توسعية بحسب نورمان فنكلستين مؤلف صناعة الهولوكوست؛ ثم طورٌ ثانٍ في التسعينيات بعد انتصار القوى الغربية في الحرب الباردة، حيث جرت عولمة الهولوكوست في إطار عولمة الغرب المنتصر لنموذجه، وإدراج الإبادة اليهودية كحدث أصلي مؤسس لهذا الغرب المنتصر، «دين مدني» على ما يتواتر قوله. هذا بينما تواجه دراسات ما بعد الاستعمار بممانعة فعالة في أوروبا، بخاصة في فرنسا. وفي ألمانيا ينظر إليها بعين الريبة، وفي مطلع هذا الشهر دعا حزب البديل القومي اليميني إلى حظرها في الجامعات الألمانية.

ما يجري رفضه عبر رفع الهولوكوست فوق غيره من أحداث التاريخ إلى مرتبة الحدث الأصلي هو الذاكرة متعددة الاتجاهات، التي لا تنحصر في ضرب واحد من ضروب حوادث التاريخ، لا تكف عن استحضاره طوال الوقت وإبقائه معاصراً أبدياً لنا على ما يفعل وكلاء الهولوكوست الدائمون (أو في مجالنا، التلبّثُ الأبدي عند تاريخ الاستعمار). وبالعكس، يجري العمل وفق منطق الذاكرة التنافسية، التي لا تستذكر شيئاً إلا كي تنسى غيره، وتُنسِي غيره، على طريقة الذكريات الساترة التي تَكلَّمَ عليها فرويد، حيث يرتبط فعل التذكُّر بالكبت، نتذكر شيئاً حميداً لا أهمية له، لكنه يكبت شيئاً مهماً وغير حميد في عملية غير واعية. يفكر روثبرغ في الذاكرة متعددة الاتجاهات بالتقابل مع الفرادة المُسبَغة على الهولوكوست، أي ضد ما يمكن تسميته مبدأ الذاكرة النقية.

ويندرج ضمن الذاكرة متعددة الاتجاهات، أو في هذا السياق المحدد ثنائية الاتجاه، كتاب كل من بشير بشير وعاموس غولدبرغ (محرران) الهولوكوست والنكبة، الذي يفكر في هذين الحدثين الكبيرين في ترابط وثيق ومستمر.

-2-

هذه الحاجة إلى تَذكُّر، وتَفكُّر، مُتعدّدِ الاتجاهات، مهمةٌ في كل وقت في عالم مترابط لا تنفصل صراعاته ومشكلاته عن بعضها، لا من حيث الجذور والبنى الكامنة خلفها، ولا من حيث دواعي التضامن والعمل التغييري المشترك. وهي أشدُّ إلحاحاً اليوم، بعد ما يقترب من عشرة أشهر من حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، حيث تُستحضَر إبادة ماضية (ضد اليهود) لتسويغ إبادة جارية ضد الفلسطينيين الذين لا ذنب لهم في ما جرى لليهود قبل ثلاثة أجيال، وتغيب أي إحالة إلى تاريخ الاستعمار والإمبريالية عند من يفعلون ذلك، هذا بينما يُسجِّلُ الإرهاب والحرب ضد الإرهاب حضوراً كلياً. وفي واقع الأمر زامنَ هذا الحضورَ الكلي رفعُ الهولوكوست إلى مرتبة حدث مؤسس للغرب في التسعينيات الماضية، وسارت عولمة الإرهاب بوصفه الشر السياسي الأساسي يداً بيد مع عولمة الهولوكوست كدين مدني للعالم. إثرَ عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، تذكر كثيرون هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية، وأُنكِرَ بالمقابل أي سياق للحدث. حرب إسرائيل طوال تسعة أشهر ونيف لها سياق يشرحها ويبررُها هو عملية طوفان الأقصى. لا بأس، لكن لماذا لا يكون 76 عاماً من نزع الملكية والاضطهاد والاعتقال والتعذيب سياقاً كافياً لعملية 7 أكتوبر؟ ليس هناك غير إجابة تعسفية سلطوية: نحن من يقرر ما له سياق وما ليس له سياق! كذلك من له حق في الدفاع عن النفس ومن لا حق له! لكن ذلك تعريف مناسب للسيادة، وللإمبريالية كسيادة عالمية، وليس للنقاش العقلاني، ولا لمفهوم المساواة، ولا للديمقراطية والقيم العالمية.

ذاكرة الأسياد هي سيدة الذاكرات، يتعين على الجميع رعايتها، بمن فيهم الفلسطينيون في ألمانيا، فيما يصح أن يوصف بأنه إبادةٌ للذاكرة الفلسطينية Memoricide. أما ذاكرة الأتباع فذاكرة تابعة، أو غير ذات شأن.

-3-

يعترض كثيرون من جهتنا، بحق، على التأويل السائد للهولوكوست، وتُستحضر أفكار سيزير أحياناً، وبقدر أقل أفكار آرنت ودي بويس، ولكن يجري الأمر في إطار توظيفي وتعبوي، وليس كمبدأ منهجي وقيمي في النظر في التاريخ وبناء الموقع التحرري الأعدل.

بعد طوفان الأقصى صعد، أو عاود الصعود، تأويلٌ ممانعٌ للقضية الفلسطينية، يفصلها عن الصراع مع الطغيان الدولتي ومطالب الديمقراطية، عن ضروب التمييز شبه العنصري التي يتراكب فيها الطائفي بالطبقي، وعن سجلّ إبادي مُحتمَل في بعض بلداننا، وسورية من أولها. هذا بينما يربط ذلك التأويلُ نفسه حصرياً بالصراع مع إسرائيل والقوى الغربية الداعمة لها، ويجعل منها معركة «الأمة». والأمة هذه كائن هوياتي، قومي ديني، وليست إطار سياسة وحقوق ومواطنة، ليس شعباً ولا مجتمعاً. في «الأمة»، نحن في ما دون الحرية، ودون السياسة، لسنا طبقات وشرائح وفئات، ولا أحزاب وتيارات، ولا أديان ومذاهب وفلسفات، بل قبيلة متجانسة، موحدة الموقف في كل ما هو مهم، لا يشذُّ عن ذلك غير بعض الخونة والمارقين. وهذا لا يُتيح فقط إدراج إيران والميليشيات التابعة لها في الأمة، وإنما يجعل من «محور المقاومة» الذي تقوده إيران وليَ الأمر في القضية الفلسطينية والمالكَ الرمزي لها، مثلما خامنئي هو «ولي أمر المسلمين» في بلاغة الجمهورية الإسلامية. وبما أن الحكم الأسدي هو في آن بطل العرب في الإبادة والتدمير الاجتماعي، وحلقة من حلقات المحور المذكور، أي لأن سورية المحكومة به مساحة تقاطع بين «الربيع العربي» والكفاح الفلسطيني، فإن التأويل المُمانع للقضية الفلسطينية يتعامل بعدوانية خاصة مع القضية السورية. هنا يجري التركيز على حلقات النكبة الفلسطينية المستمرة كي تُنسى المأساة السورية المستمرة بدورها من قبل المنابر التي لا تذكر القضية السورية إلا بالسوء، وهو ما ينعكس على تصور غير تحرري للقضيتين معاً. من جهة تظهر قضية فلسطين قضية أمة كما قلنا للتو، لا قضية حرية وعدالة ومساواة حقوقية (أمام القانون) وسياسية (وراء القانون أو في صنع القوانين) وسيادية (وراء السياسة أو في صنع السياسات) للشعب الفلسطيني، هذا بينما تظهر القضية السورية تعكيراً لصفو قضية الأمة هذه أو حسماً من حسابها، أو حتى خيانة لها. سورية تبدو تلويثاً لنقاء الذاكرة المُمانِعة وطُهر القضية المركزية، على نحو يتجاوز نَسبنة وتتفيه معاناة السوريين إلى اعتبارها جزاءً مُستحَقَّاً وانتصاراً لقضية الأمة.

وبينما يجري في الغرب وإسرائيل التعامل مع الهولوكوست كحدث أصلي مُنشِئ للتاريخ، فإن الحدث الأصلي المُنشِئ لدينا هو الاستعمار ومؤامراته. ومن هذا الباب يرتاح النسق المُمانِع لدراسات ما بعد الاستعمار، وإن ارتدَّت لديه إلى اجترار الكلام على الأعداء ومؤامراتهم، ولا يرتاح بالمقابل للدراسات عن الطغيان والشمولية، أو الثورات الديمقراطية. وفي ذلك ما يُظهِرُ أن النظريات لا تحوز الطاقة التحررية ذاتها في كل مكان وبصرف النظر عن الذاكرات والتاريخ. ما هو نقدي وتحرري في الغرب، دراسات ما بعد الاستعمار في هذا السياق، لا يتعيّنُ أن يكون كذلك لدينا، بل يغلب أن يلعب دوراً تبريرياً لأنظمة طغيان قومية أو دينية. يُحاكي الأمر مسارَ مفهوم الإسلاموفوبيا. فهو نقدي في الغرب حيث الإسلاموفوبيا حقيقة مُختبَرة، ولكن يتواتر أن يكون قمعياً في مجتمعاتنا «المسلمة»، لأنه يغلب أن يُستخدَم لإخراس أي نقد للدين والمجموعات الدينية، على وحشية بعضها وتزمُّت جميعها. والمثال الأبرز والأكثر راهنية يتصل بمعاداة السامية. فالمفهوم يُسمّي ممارسة عنصرية عدائية لها تاريخ إبادي في الغرب، ويتحتم مواجهة الممارسات التي يمثلها، لكنه حين يجري نقله ميكانيكياً إلى مجالنا، تُدرَجُ ضمنه مقاومة الفلسطينيين والعرب للصهيونية والعداء للكيان الإسرائيلي التوسّعي، ما يجعل المفهوم قمعياً وإبادياً. ما قاله إدوارد سعيد عن تَرحُّلِ النظريات أو هجرتها يحتاج إلى تكميل: لا تلعب النظريات المُترحِّلة الدور الفكري والسياسي نفسه في محطات ترحالها المختلفة، بل يحدث أن تنقلب على نفسها تماماً على ما تظهر الأمثلة الثلاثة المذكورة للتو.

ولعلّه ليس خارج السياق تماماً أن الترحيب بدور إدوارد سعيد الريادي في دراسات ما بعد الاستعمار في البيئات الممانعة لا يجري قبل ردها إلى كلام قبلي تقليدي يقول إن المستعمرين أشرار ونحن أخيار، وهو في كل حال لا يشمل بعطفه سياسة سعيد الفعلية الخاصة بالدولة الواحدة، دولة مواطنين فلسطينيين وإسرائيليين، ولا إنسانيته العلمانية المضادة للعدمية.

-4-

على أن الأمر لا يقتصر على سورية، فالتأويل الممانع لا يرتاح للثورات العربية ككل، لأنها تعددية التكوين، تدور حول مسألة السلطة، وتعمل على إدارة عنق السياسة في بلداننا نحو دواخلها الاجتماعية. في منبر ممانع موالٍ لإيران والحكم الأسدي، استطاع أدونيس قبل شهور أن يصف الربيع العربي بـ… «الربيع الغربي». عدا عن سوقية التعبير وتوافقه مع المخيلة التآمرية لخطاب الممانعة، فإن نصيب وصف الربيع العربي بالغربي من الحقيقة الواقعة ما لا يتجاوز نصيب وصف بشار الأسد بالرئيس المنتخب على ما استطاع الشاعر الأمين نفسه القول قبل سنوات. في عبارة الربيع الغربي، إلى ذلك، من الإسفاف وقلة الاحترام للملايين الذين شاركوا في الثورات ما يشكل استئنافاً لقلة الاحترام وسوء المعاملة على يد الأنظمة التي جَرَتْ الثوراتُ عليها.

رغم مصائره الشِتائية في كل الحالات، في الربيع العربي ما يستعصي على هضم الممانعين ومنظوراتهم ذات التمركز الإيراني: حراكات شعبية مليونية، داخلية المنشأ، سياسية واجتماعية المُحرِّكات، تطرح عملياً مسألة مُلكية بلداننا، وتُقرّبُ السياسة من عموم الناس؛ أي بالضبط رُوحِه الديمقراطية. الثورات العربية خروجٌ للملايين من التغييب السياسي القسري، وأكبر جهد عرفه تاريخنا من أجل الحضور الفاعل والامتلاك النشط للفضاءات العامة في بلداننا. وفي الثورات من القُرب من النثر والتجربة الحية والفكرة والمعلومة والواقعة القابلة للمُعاينة ما يتحدى المنظورات الشعرية للممانعة، التي هي في صمود دائم وانتصارات دائمة، إلهية، لا تتقادم ولا تندرج في التاريخ هي الأخرى. والكتابة عن الربيع العربي عامرةٌ بالبشر وأصواتهم وقصصهم وتطلعاتهم ومآسيهم، ما يضعها في قطيعة مع تلك الكتابة الأنانية، الهائمة والخاوية، التي لا تقتبس ولا توثِّق ولا تصف خبرة حية ولا تَذكُر واقعات محددة، والتي تشكل بدورها استمراراً كتابياً لبُنى الطغيان الطاردة للبشر من السياسة، ومن الجغرافيا ما استطاعت.

-5-

لكن بينما يمكن فهمُ نسيان الربيع العربي أو حتى الانقلاب عليه بالنظر إلى ما أعقبه من كوارث، وميل أنفس الأفراد والجماعات إلى التنصّل مما تعثَّرَ وأخفق (أو إلى المرارة والثأرية)، فإن النسيان لا يقف هنا. يُنسى بالكامل أن النضال من أجل حياة سياسية ديمقراطية معركة طويلة مفتوحة، وأن له سلفاً تاريخٌ في بلداننا، يعود مشرقياً إلى سبعينات القرن العشرين على الأقل، وأنه سَوَّغَ نفسه في سنواته الباكرة بالعوائد المحتملة للتغيير الديمقراطي المأمول على تماسك مجتمعاتنا وصمودها في مواجهة العدوانية الإسرائيلية ومن أجل تحرير فلسطين. في سورية وفي مصر، البلدين اللّذين انخرطا في الصراع المسلّح مع الكيان الإسرائيلي واحتُّلت أراضٍ لهما، كان المناضلون من أجل الديمقراطية الذين تعرضوا للقمع في البلدين، هم الأنشط في التضامن مع القضية الفلسطينية وعموم القضايا العربية العامة، وهم المبادرون إلى الاحتجاج دعماً لها حيثما أمكن الاحتجاج. وهو احتجاج تعرَّضَ دوماً للقمع في سورية، لأنه وإن بدا متوافقاً مع الخطاب الرسمي، فإن في المبادرة إليه بحد ذاتها، وفي العمل على الظهور في الشارع، ما يثير خوف النظام من جموع تلتقي وتتكلم وتحتج.

تَذكُّرُ ارتباط النضال الديمقراطي في بداياته بقضية فلسطين مهم لأنه يشير إلى وحدة الأصل بين التحرر الفلسطيني والتحرر الديمقراطي العربي، على نحو يُشكِّكُ في صدقية الانحياز للنضال الوطني الفلسطيني عند من يشككون في النضال الديمقراطي في سورية وغيرها من البلدان العربية. الأرضية المشتركة للنضالين هي التحرُّر العربي، ليس بدلالة قومية حصرية للتعبير حتماً، ولكن بدلالة تجمَعُ بين التحرر الوطني والاجتماعي، أو بين تحرر الأرض والإنسان على ما كان يُقال في المنظمات الفلسطينية في النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين. وبالمناسبة، ليس بين المثقفين السوريين الذين انحازوا للثورة السورية من لم يكونوا على ارتباط عضوي بالنضال الفلسطيني. فاروق مردم بيك وبرهان غليون وصبحي حديدي، والراحل ميشيل كيلو، أمثلة محدودة بين كثيرين.

وأياً تَكُن دلالة وحدة النضالين الديمقراطي والمضاد للصهيونية، فإنها ليست ممّا يُوضَع في الجيب الإيراني الذي يجمع بين الإمبراطوري والميليشياوي الطائفي، والمعادي فوق ذلك للعرب إثنياً. آخر ما يتطلّعُ إليه كاتب هذه السطور وكثيرون لهم تكوين مقارب هو صراع عربي فارسي، أو أسوأ: سني شيعي، لكن ألا يجب أن يُقال ذلك أولاً وقبل كل شي لإيران وأتباعها؟ من يا تُرى هو المعتدي، ومن يحاول عبثاً الدفاع عن نفسه؟ يتجنب الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، كلَّ ما هو مهم في مقالة علاقات عامة مُوجَّهة للعرب نشرها في صحيفة العربي الجديد بُعيدَ انتخابه، وبالتحديد توافق سيطرة إيران في أربعة بلدان عربية مع الميليشياوية الطائفية والمسلحة، والمُزايَدة على العرب في قضاياهم.

والواقع أنه يمكن انتقادُ الربط المباشر، الميكانيكي، بين قضية الديمقراطية في بلداننا وبين مواجهة إسرائيل، ويمكن الدفاعُ عن استقلال المطلب الديمقراطي عن عوائده «القومية» المحتملة، وبالعكس وجوب القيام بتحويلة كبيرة في تصور «القومي» باتجاه مواطني وحقوقي ومساواتي. لكن هذا شيء ووضع القضيتين في مواجهة بعضهما شيء آخر. حين أخذ مثقفون ديمقراطيون سوريون يربطون بين مواجهة الطغاة والغزاة إثر الاحتلال الأميركي للعراق، كانوا يكثفون خبرة سورية وعربية متكررة: لا تستطيع أن تقاوم الغزاة بطغاة مثل صدام حسين وبشار الأسد وباقي الشلّة. أكثر من ذلك، ما هو المحتوى القيَمي والسياسي لنضالنا التحرري إن كان أمثال المذكورين من أبطاله؟ هذا التهافُت متواتر في تاريخنا السياسي الفكري طوال عقود، وهو يتكرر اليوم عبر الذاكرة التنافُسية للخطاب الممانع، توهي قيم علاقة تنافس واستبعاد بين خطاب الربيع العربي وبين تأويله هو لقضية فلسطين، تأويل ينزع مُلكية القضية من الفلسطينيين، ومن العرب الذين يشاركونهم الحال.

-6-

لكن هل هناك تأويل غير مُمانع للقضية الفلسطينية؟ بالتأكيد، وهو تأويل له تراثٌ اندرجت ضمنه منظمة التحرير الفلسطينية منذ سبعينيات القرن العشرين، فضلاً عن أبرز المثقفين الفلسطينيين مثل إدوارد سعيد ومحمود درويش. وهو كذلك تأويل للقضية كقضية تَحرُّر ومساواة، يدافع عن شعب فلسطين، اللاجئين في كل مكان، والمقيمين في الضفة والقطاع، كما في أرضي 1948، وجدارتهم بالمساواة الحقوقية والسياسية والسيادية، بما في ذلك الحق في الأرض. الفارق عن التأويل المُمانع بصيغة قومية عربية أو إسلامية هو أنه لا يجري التفكير في الصراع التحرري كصراع وجودي. الصراعاتُ الوجودية هي نفسها الصراعاتُ العدمية، التي تتسبب بالكوارث لنا قبل غيرنا، إن لم يكن دون غيرنا، بفعل فارق القوة الهائل، فوق أن انتصار القوى العدمية لا يقل سوءاً عن هزيمتها، من حيث أن عالمها السياسي ليس عالم الحقوق والمواطنة والتعددية واستقلال المنظمات الاجتماعية والسياسية، والضمائر، بل هو عالم «الأمة» المتجانسة النقية الفاشي، الأمة مُعلَّبةُ الذاكرة التي لا تريد أن تعرف شيئاً عن غيرها، ولا تقارنُ نفسها بغيرها. الذاكرة المُعلَّبة ليست حتى ذاكرة أُحادية الاتجاه، بل هي فوق ذلك تَذكُّرٌ مُؤسَطر وغير تاريخي. مثالها الأقرب في السنوات الأخيرة هو عالم السلفية الفكري والتذكُّري، عالم من تكرار لا نهائي وجهل مطبق بغنى العالم الحديث والمعاصر وتَعدُّده.

ولا يتحتم لتأويل القضية الفلسطينية كقضية تَحرُّر ومساواة وحقوق أن يأخذ شكلاً واحداً، شكل الدولة الواحدة ثنائية القومية مثلاً، مثلما تطلَّعَ إدوارد سعيد. إذ يندرج ضمنه كذلك من حيث المبدأ حلُّ الدولتين الذي يلبي حاجة الدولة عند الشعب الفلسطيني، وكذلك حلُّ اللَّادولة الذي يدعو إليه الأكاديمي الأناركي الفلسطيني محمد بامية. ما لا يقع ضمن هذا التأويل هو ما ينفتح عليه الصراع الوجودي من إفناء لنا (الفلسطينيين ومن يحاذيهم من العرب) أو للإسرائيليين واليهود منهم بخاصة، أي هو صورة الأمة الخاصة بنا أو أمة اليهود السيدة النقية.

ومن أي وجهة نظر عقلانية، الفلسطينيون والعرب هم من ينتفعون أكثر من مقاربة تَحرُّرية حقوقية للقضية الفلسطينية والمسألة الإسرائيلية، ومن يتضررون أكثر من فكرة الصراع الوجودي التي تقوم عليها إسرائيل بالمناسبة. كل صراع تخوضه إسرائيل وكل مقاومة تُواجهها هي «خطر وجودي» يُرَدُّ عليه ردّاً عدمياً مُدمِّراً كما نرى اليوم في غزة. رفضُ إسرائيل للحلول السياسية يمد جذوره في هذا المنظور الوجودي/ العدمي للصراع. نحن العرب نتضرر أقل من نقل الصراع من الوجودي إلى السياسي والحقوقي، ليس فقط لأننا أكثر سكان المنطقة، وإنما لأن ما نشكو منه، وما جعلنا أقليات في مجالنا قبل غيره، هو أن هياكلنا السياسية ليست قائمة على الحقوق، خلافاً لما هو حال أعدائنا في إسرائيل وأخصامنا في بلدان الغرب. وإنما لذلك السياسةُ الأكثرُ ثوريةً في مجالنا، في الشأن الفلسطيني وفي شؤون بلداننا كلها، هو هذا التحول من نظام الأمة إلى نظام الحقوق، وهذا ما تَطلَّعَ إليه الربيع العربي وفشلَ فيه. لا تلزم سياستان، واحدة من أجل فلسطين وواحدة من أجل سورية ومصر والسعودية والجزائر والعراق… إنها السياسة نفسها: أن نكون مواطنين ذوي حقوق في بلداننا، أن نمتلك بلداننا، ولا نكون جاليات أجنبية فيها. بدلاً من التفكير بحل قومي تصير بُلداننا فيه مُمانعةً أكثر، يلزم التفكير بحل ديمقراطي، في بلداننا وفي فلسطين.

-7-

قد يبدو أن هذه المناقشة تُصادِرُ على تأويلٍ مواطنيٍ ديمقراطيٍ حصراً للربيع العربي. نعم، وهذا لأن التأويل الديمقراطي هو ما يُعمَّى عليه ويُنكَر من الجهات المُمانِعة. لقد صعدت عقب الثورات العربية مسالكُ دينية، تجمع بين تحت وفوق الوطني دون أن تستقر على الوطني، وكانت لها سيرة كارثية في كل مكان، وفي سورية أكثر من غيرها. لكن الجذع الديمقراطي المضاد للطغيان والعامل على امتلاك السياسة تَقدَّمَ زمنياً وبنيوياً في جميع الحالات على المسالك الدينية اللاحقة. النسقُ المُمانِع لا يُضادُّ الربيع العربي بسبب الانعطافات الدينية، ولكنه يتذرّع بها بينما يُسلّم نفسه دون ممانعة للشيعية السياسية والعسكرية. ولا نجد في أي منبر ممانع انحيازاً إلى تطلعات الديمقراطية في سورية، أو إلى حق السوريين في الحقوق في بلدهم ونزع مُلكية البلد من العائلة الحاكمة لمصلحة العموم السوري. ولا هو يفعل بخصوص أي بلد عربي آخر. هذا هو اختبارُ عبّاد الشمس في شأن موقف الممانعة من الربيع العربي. فالاعتراضُ لا ينصبّ على مسالك ومآلات غير تحررية، بل على الجذع الأصلي، وإن جرى تلبيسُ هذا بذاك. شاعرُ «الرئيس المنتخب» و«الربيع الغربي» وضعَ نفسه بثبات في موقع مُضادّ للمعارضين الديمقراطيين السوريين طوال سنوات قبل الربيع العربي.

وفي كل حال، ليس الدور التحرري مسألةَ موقع ووضع، بل هو مسألةُ موقف واختيار. لدينا من التجربة بعد «الربيع العربي»، إن لم يكن قبله، ما يكفي للقول إن الموقع المضاد لقوى التسلط أو الاستعمار أو العدمية لا يكفي لتعريف القوى التحررية. في سورية شغلَ الإسلاميون على تَعدُّدهم وتنوعهم موقعاً مضاداً لحكم الإبادة الأسدي، لكنه لم يكن كافياً بحال كي يؤسِّسَ لموقف وسياسة تحررية. لا اجتماعياً ولا ثقافياً، ولا سياسياً ولا حقوقياً، كان أقلُّ الإسلاميين تطرفاً قوةَ تحرر وطني سوري. بل أظهروا أنهم فوق ذلك قوى تجزؤ وطني، وقوى تمييز لا عدالة، وقوى تبعية لا استقلال. وليس هناك ما يُسوِّغُ اعتقاداً مغايراً بخصوص القضية الفلسطينية. منازعة إسرائيل لا تُعَرِّفُ السياسة التحررية، إذ قد تصدر هذه المنازعة عن دوافع إمبراطورية أو دينية مضادة؛ ولا ينبغي أن نكون يائسين إلى الحد الذي نقبل فيه أي مُنازَعةٍ لأعدائنا، أياً يكن المُنازِعون. في هذا الشأن كذلك، لدينا من دروس التجربة السورية ما يكفي للنُصح بالعدول عن مَسلكٍ كهذا. ما يُعرِّفُ السياسية التحررية هو الدفاع المتّسق والشامل عن المساواة والحرية ضد قوى الاستباحة كلها. إذ لا يمكن لمن يقتلون السوريين أن يكونوا سنداً لفلسطين، ولا العكس، كما لا يمكن لمن لا يبالون بغزة والضفة أن يُبالوا بسورية. لإسرائيل وإيران معاييرُهما، ولفلسطين وسورية ذاكرتُهما وشعورُهما المشترك. الذاكرة سلاحُنا في وجه العدوَّّين المُتعاديين وقتياً.

-8-

على أن التذكُّر التنافسي لا يقتصر في واقع الأمر على المُمانعين ومحورهم الإيراني، إذ يحدث أن يشاركهم فيه مركزيون سوريون قصيرو الذاكرة، منفعلون كثيراً وبأفكار قليلة، ارتدَّتْ القضية السورية عندهم إلى ثأر بلا قِيمَ. هنا أيضاً يجري تَذكُّرُ تاريخ الوحشية الأسدية المدعومة من إيران وحزب الله وميليشيات مرتبطة بهما، أو يضفى عليه صفة مطلقة، أما تاريخ التوحش الإسرائيلي في فلسطين وفي سورية ذاتها فيُنسى أو تُضفى عليه النسبية. يُنسى أنه حين تستهدف إسرائيل مواقع إيرانية أو خاصة بميلشيات تابعة لها فإن هذا يصدر عن طبعها كإمبريالية فرعية، لا تقبل ندّيةً من أحد حولها، ولن تقبل من أي سوريين يوماً غير التبعية. هي لا تضرب المواقع الأسدية لأن الأسديين استبطنوا اللّاندية حيال إسرائيل وقبلوا بها قلباً وقالباً.

لكن أهم ما يُنسى هنا أيضاً هو المطلب الديمقراطي، والمناضلات والمناضلين الذين قضوا على هذا الدرب، أثناء الثورة السورية ذاتها، وقبل ذلك طوال نحو جيلين. وبينما نرى أن إهدار المطلب الديمقراطي يتوافق، عند الممانعين، مع مصادرة إمبراطورية ودينية للقضية الفلسطينية، يظهر عند المركزيين السوريين أن إهدار القضية الفلسطينية يتوافق مع إهدار التطلُّع الديمقراطي في سورية ذاتها.

أن نفكر في ما جرى للسوريين في سنوات ما بعد الثورة، وطوال جيلين من الحكم الأسدي، بلغة فَلسطنة السوريين وأَسرلة النظام وحُماته يبدو غير مقبول من دعاة الذاكرة أحادية الاتجاه، سواء كانوا مُمانعين أو مركزيين سوريين مُضادين للممانعة، لأنه ينطوي بنيوياً على تذكُّر ثنائي الاتجاه، مفتوح كذلك على ذاكرات متنوعة لشركاء لنا في كل مكان في الكفاح من أجل الحرية والمساواة والمواطنة. وهو فوق ذلك يعمل بوعي على إدراج الصراعَين في سياق صراعات تحررية عالمية في كل مكان، من الصراع ضد العنصرية إلى حماية الإطار الحي للوجود البشري.

القضية الفلسطينية أهم من أن تُترَكَ للمُمانعين. إنها منسوجة في تاريخ التفكير السياسي التحرّري العربي منذ بداياتها في النكبة وقبلها، قبل المُمانعة وقبل إيران وأتباعها. والقضية السورية بالمثل أهم من أن تُترَكَ لمركزين سوريين ناشئين، يُجرّدونها من محتواها الإيجابي كقضية امتلاك السوريين لبلدهم وتقرير مصيرهم فيه، ويَردُّونها إلى ثأر مع المحتلين الإيرانيين وأتباعهم، أو حتى إلى انتقام طائفي. ومثلما أن قضية التحرُّر الفلسطيني ليست بحال معاداة لليهود، فإن التحرُّر السوري لا يرتد إلى أي معاداة طائفية أو قومية، وليس ثأراً. جريمة الإيرانيين وأتباعهم تتمثل في تغذية نزعات الطائفية والثأر في مجتمعاتنا، وأقلُّ الواجب من طرف القيادات السياسية والثقافية عدم الانسياق وراء هذا المنطق.

-9-

والخلاصةُ أننا في حاجة إلى نقد متكرر للتذكُّر أحادي الاتجاه، الاختزالي حتماً في تمثيله للواقع، والذي يَؤول إلى هذا الضرب أو ذاك من تراتب القضايا وتراتب الدماء وتراتب الحيوات. فإذا كنا نرفض أن الحياة اليهودية أرفعُ شأناً أو أجدرُ بأن يُحَدَّ عليها من الحياة الفلسطينية، فليس لنا أن نُعيد إنتاج هذا التراتب في العلاقة بين حيوات السوريين والفلسطينيين، أو أي حيوات أخرى. وليس لنا بالمثل أن نُساهم في إنتاج غائبين لا يُرَوْنَ ولا يُشعَرُ بهم ولا ينالون الاحترام، بينما نتشاطر، فلسطينيين وسوريين وعرباً، ضروباً متنوعة من الغياب والتغييب وقلّة الاحترام. وفي مواجهة الانفعالات الثائرة، وغزو التجزؤ للأفكار والذاكرات والمُخيّلات، يلزم الإلحاح على مبادئ عادلة أساسية، منها أنه ليست هناك قضايا سيّدة وقضايا عبدة؛ ومنها أنه ليس لأحد منا، الشركاء في الكفاح من أجل الحرية والمساواة والأُخوّة، أن يكون ذمّياً يلتمِسُ الشرعية لنفسه من اتّباعِ طرف آخر؛ ومنها ما تَقدَّمَ ذكره عن أولوية المواقف على المواقع؛ ومنها فتحُ الذاكرات والتجارب على بعضها باحترام وأُخوّة. وكلها تُحيل إلى ضرورة التعامل مع قضايانا بعقول وقلوب مفتوحة، دون تراتب ودون تبعيات.