فكرة تدخل الدولة في السوق عند (جون رولز) و(روبرت نوزيك) (دراسة مقارنة)


نجم الدين فارس
2024 / 7 / 4 - 17:57     

فكرة تدخل الدولة في السوق عند (جون رولز) و(روبرت نوزيك)
(دراسة مقارنة)
م.م.نجم الدين فارس حسن a.l. Najmalddin Faris Hassan
المستخلص
البحث يقدم فرضية رئيسية, إنَّ مدارس فكرية لها اتجاهات كثيرة والآراء والأفكار مختلفة حول العدالة الإجتماعية، وبصدد هذه المشكلة أو المسألة الحياتية المربوطة بحياة الأفراد داخل المجتمعات البشرية. تطور التنظير الفكري، بحسب تطور الواقع السياسي و ألإجتماعي و الإقتصادي للمجتمع الرأسمالي خاصة و المجتمع البشري في التأريخ عامة بعد قرون عدة من التطور في المجتمع الغربي، و حملت كل منها تصورات خاصة عن امور فكرية عدة. ولكن فرضية هذا البحث, التي تحاول الدراسة التثبت من صحتها من فكرة اساسية مفادها بيان الحقوق وتدخل الدولة في اتجاهين مختلفين في الليبرالية المعاصرة. إنَّ اتجاه الليبرالية المساواتية يؤكد تدخل الدولة بشكل عام في حياة الأفراد داخل المجتمعات الليبرالية والديمقراطية. أما الاتجاه الثاني وهي الليبرتارية الميناركية فتعتقد أنَّ الدولة تتدخل في مجال محدود وغير شامل والمطلق التي تؤثر في حياة الأفراد داخل مجتمعاتهم. وهل توجد فائدة من التدخل المطلق أو غير المطلق من الدولة على العلاقات وحياة الأفراد؟
الكلمات المفتاحية: اتجاهات الفكرية, الليبرالية, الليبرتارية, العدالة الإجتماعية, الدولة, حدود تدخلها.
Abstract
The research presents a main hypothesis. There are many schools of thought with different trends, opinions and ideas about social justice, and regarding this problem´-or-life issue related to the lives of individuals within human societies. Intellectual theorizing developed according to the development of the political, social and economic reality of capitalist society in particular and human society in history in general after several centuries of development in Western society, and each of them carried special perceptions about several intellectual matters. But the hypothesis of this research, which the study is trying to verify, is based on the basic idea of clarifying rights and state intervention in two different -dir-ections in contemporary liberalism. The trend of egalitarian liberalism emphasizes state intervention in general in the lives of individuals within liberal and democratic societies. The second trend, which is minarchist libertarianism, believes that the state intervenes in a-limit-ed, non-comprehensive and absolute field that affects the lives of individuals within their societies. Is there a benefit from absolute´-or-non-absolute state intervention in relationships and the lives of individuals?
Keywords: intellectual trends, liberalism, libertarianism, social justice, the state, the-limit-s of its intervention.
المقدمة:
توجد عدة مدارس فكرية لها اتجاهات كثيرة والآراء والأفكار مختلفة حول العدالة الإجتماعية، وبصدد هذه المشكلة أو المسألة الحياتية المربوطة بحياة الأفراد داخل المجتمعات البشرية. تطور التنظير الفكري، بحسب تطور الواقع السياسي و ألإجتماعي و الإقتصادي للمجتمع الرأسمالي خاصة و المجتمع البشري في التأريخ عامة بعد قرون عدة من التطور في المجتمع الغربي، و حملت كل منها تصورات خاصة عن امور فكرية عدة. والجدير بالذكر أنَّ الآراء و الأفكار مختلفة حول موضوع الدولة و حدود تدخلها في مجالات الحياة السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية المختلفة داخل مجتمعاته. علماً أنَّ القرن العشرين هو احد القرون التي ظهر فيها كثير من مسائل العدالة داخل المجتمعات الليبرالية المعاصرة.
وأهمية هذه الدراسة تأتي لكونها عرض لإشكالية تدخل الدولة بين إتجاهين مهيمنين على الفكر الليبرالي والسياسي المعاصر بشكل عام. وقد ورد جدل بينهما على المستوى النظري حول وظيفة الدولة و حدود تدخلها في مجال الحقوق و المساوات الإجتماعية.
أهمية البحث:
أهمية هذه الدراسة هي بيان حدود تدخل الدولة في اتجاه الليبرالية الجديدة و المساواتية. وبيان المقارنة بين الإتجاهين في عصرنا حول العدالة والحرية ودولة الحد الأدنى في اتجاه الفكر السياسي في عصرنا الحاضر.
إشكالية البحث:
من خلال اهمية البحث، ينطلق البحث من دراسة إشكالية رئيسية وهي إشكالية تتعلق بمعرفة حدود تدخل الدولة في الحياة السياسية والإجتماعية والإقتصادية في عصر الليبرالية المعاصرة. وذلك من خلال الإجابة على مجموعة من التساؤلات حول الدولة و تدخلها في الحياة الإقتصادية والإجتماعية. وكذلك من خلال حجج كل من الإتجاهين الإقتصادي والإجتماعي حول تدخل الدولة. ومن جانب آخر هناك تساؤلات حول النقاط المشتركة بين الليبرالية المساواتية والليبرتارية الميناركية. برغم خلافهما في أكثر من جانب - نظري وعملي – في الليبرالية الجديدة والمساواتية.
فرضية البحث:
للإجابة على هذه التساؤلات وغيرها، تنطلق الفرضية الاساسية التي تحاول الدراسة التثبت من صحتها من فكرة اساسية مفادها بيان الحقوق وتدخل الدولة في اتجاهين مختلفين في الليبرالية المعاصرة. إنَّ اتجاه الليبرالية المساواتية يؤكد تدخل الدولة بشكل عام في حياة الأفراد داخل المجتمعات الليبرالية والديمقراطية. أما الاتجاه الثاني وهي الليبرتارية الميناركية فتعتقد أنَّ الدولة تتدخل في مجال محدود وغير شامل والمطلق التي تؤثر في حياة الأفراد داخل مجتمعاتهم. وهل توجد فائدة من التدخل المطلق أو غير المطلق من الدولة على العلاقات وحياة الأفراد؟
منهجية البحث:
في سبيل الوصول الى النتائج المرتقبة ولغرض إثبات الفرضية، يعتمد البحث على منهجين رئيسيين، هما: اولا:- المنهج التحليلي، من خلال مناقشة النصوص وتحليلها وتقييمها لتحديد الأسس الفكرية وطبيعة المشكلة من اجل الوصول الى تقييم واستنتاج معين. ومن جانب آخر تعتمد مقارنة الإتجاهين في الليبرالية المعاصرة، حول تدخل الدولة بصورة مطلقة أو غير مطلقة، على المنهج المقارن.
صعوبات البحث:
واجه البحث العديد من الصعوبات لعل اهمها: أنَّ موضوع هذا البحث لم يتم التطرق إليه في الأدبيات العربية والكوردية بصورة مفصلة. ولم تتم دراسته بشكل أكاديمى، فالدراسات في اللغتين العربية والكوردية قليلة حتى نستطيع القول بانها غير موجودة. وهي إحدى الصعوبات التي تقف في طريق الباحث. وتداخل وتشابك الأفكار في الإتجاهات الليبرالية حول موضوع تدخل الدولة و عدم تدخل الدولة. وضع الباحث أمام صعوبة فك ارتباط هذا التداخل أو تمييزه من أجل معرفة توجهات كل اتجاه فكري بشأن تدخل الدولة. ومن جانب الدراسات السابقة، تأقل الدراسات كانت بالعربية ويمكن أن نحسبها دراسات غير قيمة ومجدية في هذا المجال من فكرة العدالة و الحرية في المجتمع العربي والكوردي.
تقسيمات الدراسة:
تتكون هذه الدراسة من مقدمة وخمسة مطالب، وخاتمة والإستنتاجات، إضافة الى قائمة في المراجع المستخدمة في البحث باللغة العربية و اللغة الإنكليزية.
المطلب الأول: تقديم المصادر المعرفية لـ(جون رولز) و(روبرت نوزيك). مصادر افكارهما وآرائهما التي استندت الى أفكار من سبقهم، واستندت ايضاً على بعض المقومات لحياة الإنسان في عصرنا الحاضر.
المطلب الثاني: توضيح على اساس الحقوق لدى المفكرين في انشاء افكارهم حول العدالة والمساواة والحرية داخل المجتمع الليبرالي المعاصر. ويتكون من مبحثين.
المطلب الثالث: تقديم وتوضيح رؤية (جون رولز) في تدخل الدولة في الحياة اليومية في تكوين العدالة داخل المجتمعات الديمقراطية.
المطلب الرابع: تقديم وتوضيح رؤية ( روبرت نوزيك ) في تدخل الدولة و الحد الأدنى من تدخل الدولة في تنظيم حياة المجتمع.
المطلب الخامس: توضيح الحجج والنقد المتبادل بين المفكرين بصدد تدخل الدولة في الشؤون الإجتماعية للفرد داخل المجتمع ودور الدولة في السوق وتنظيمها.
بعد كل ذلك تأتي الخاتمة والإستنتاجات، إضافة الى المراجع والمصادر المستخدمة في بحثنا.






المطلب الأول: المصادر المعرفية لـ(جون رولز) و(روبرت نوزيك)
المبحث الأول: المصادر المعرفية لـ (جون رولز):
إنَّ اساس ومصدر فكر(جون رولز) في كتاب(العدالة كإنصاف). يرجع منشؤه الى فكرة العقد الإجتماعي والتي تقع أطروحاتها ضمن نطاق الفلاسفة (توماس هوبس, وجون لوك, وجان جاك روسو, وامانويل كانط)، ولأنه يؤمن بأهمية إحياء هذا التراث ويختلف عنهم، لأنه يعمل في ظل الدولة على تبرير فكرة توزيع المنافع التي تتمثل في الموارد المادية والحرية الفردية والسلطة السياسية، تدخل آراؤه ضمن (الإتجاه الأخلاقي) في فكره السياسي والذي يركز فيه على العدالة التوزيعية والإجتماعية في الفكر اللبرالي. اساس يمكن طرحه بديلا لما قدمه مذهب المنفعة العامة.( ) ولكن مصدر بشكل عام لفلسفته هو التراث الديمقراطي الغربي حصراً. وفي حقل آخر نجد نظريته في العدالة ذات إنحياز ثقافي من حيث إن مصدرها لم يكن عالميا.( ) وهدف (جون رولز) "هو تقديم تصور للعدالة، يمكنه تعميم ورفع مستوى التجريد لنظرية العقد الإجتماعي الشهيرة ، كما وجد في اعمال "لوك" و"روسو" و"كانط". ومن اجل القيام بهذا علينا ألا نفكر بالعقد الأصلي على أنه عقد لدخول مجتمع معين أو إعداد شكل معين للحكومة. وبدلا من ذلك، إن الفكرة الموجهة هي ان مباديء عدالة البنية الأساسية لمجتمع ما هي هدف الإتفاقية الأصلية. أو موضوعها إنها المباديء التي سوف يقبلها أشخاص أحرار وعقلانيون يهتمون بتحقيق مصالحهم الذاتية في وضع مبدئي من المساواة على أنها تحدد الشروط الأساسية لرابطتهم." ( )
في تطبيق هذه النظرية لدى ( جون رولز ) في العلاقة داخل المجتمع ، يجب أن تنظم هذه المبادىء جميع الإتفاقيات الأخرى إنها تعين انماط الشراكة الإجتماعية وأشكال الحكومات التي يمكن تأسيسها. وهذه الطريقة في النظر الى مباديء العدالة سوف أدعوها العدالة إنصافا. فالمباديء التي سوف تخصص الحقوق والواجبات الأساسية وتحدد التقسيم للمنافع الإجتماعية يجب ان يقرر الأشخاص مقدما كيف عليهم تنظيم مطالبهم مقابل بعضهم البعض وما هو الدستور أو التشريع المؤسس لمجتمعهم. ويجب ان يقرر بالتفكير العقلاني، وذلك تقرره مجموعة من الأشخاص مرة واحدة ومن اجل الجميع، فيبين ما الذي يعد عادلا وما الذي يعد غير عادل. و الإختيار الذي يقوم به أشخاص عقلانيون في هذا الوضع الإفتراضي من الحرية المتساوية ، مع الإفتراض ان مشكلة اختيار هذا له حل حاليا، يحد مبادىء العدالة.( )
ويستفيد (جون رولز) من نظريات مفكري العقد الإجتماعي في صياغة الفكرة عن العدالة. وما يسميه البنية الأساسية العادلة. وتأثره بأفكار(هوبز) هو احد اسباب نشوء المجتمع السياسي وخلاص الأفراد من حالة البؤس التي كانوا يعيشونها في الحالة الطبيعية، و تحقيق المزيد من الرضا و ذلك باتباع جملة من القوانين الأخلاقية، ان يقتنع الفرد بقدر من الحرية إزاء الآخرين بالدرجة نفسها التي يسمح به لنفسه، ان يجرد نفسه من حقه في كل الأشياء عندما يكون لدى الآخرين الرغبة نفسها. يتحقق هذا الإرساء المتبادل للحقوق عن طريق العقد الإجتماعي كمحاولة منهم للتحويل من الحالة الطبيعية الى تأسيس مجتمع سياسي.( )
إن (جون رولز) في صياغة ما يسميه { البنية الأساسية العادلة}. يتأثر بفكر (لوك)، ويقول (جون لوك) "لكي ندرك طبيعة السلطة السياسية إدراكا صحيحا نستنبطها من مصدرها الأصلي ينبغي ان نفحص عن الوضع الطبيعي الذي نجد البشر عليه وهو إعطاء الحرية التامة في القيام بأعمالهم والتصرف باملاكهم وبذواتهم كما يرون، ضمن اطار سنة الطبيعة وحدها- ودون ان يحتاجوا الى إذن احد او يتقيدوا بمشيئة اي انسان ... فلا يكون حظ احد منهم اكثر من حظ الآخر. إنهم جميعا متساوون واحرار، فينبغي ان لا يوقع احد منهم ضررا بحياة صاحبه او صحته اوحريته او ممتلكاته."( )
اما بالنسبة لفكر (جان جاك روسو)فإنَّه رفض العقد الإجتماعي الليبرالي وقدم البديل الذي كان العقد الإجتماعي الديمقراطي. ورفض مزاعم الليبراليين عن الديمقراطية. وفي الحديث و المناقشات الفكرية، ان الواجب السياسي ليس دَينا للدولة من قبل المواطن. و في مقابل الإعتقاد أنَّ الواجب السياسي عبارة عن علاقة (شاقولية)، بين المواطن والدولة الذي ساد لقرون ثلاثة. ويرى الآن هؤلاء الكتاب على انه علاقة (افقية) بين المواطنين. وكان روسو اول من وضع نظرية الطاعة الأفقية فالمواطن، كل مواطن، مدين بالطاعة لإخوانه في المجتمع.( )
من جانب آخر تأثر (جون رولز) بأفكار فلاسفة العقد الإجتماعي. والمعروف أنَّ نظريات العقد الإجتماعي صيغت خلال قلاقل وثورات القرنين السابع عشر والثامن عش. وكانت فروضها الرئيسية هي الإنسان الفرد الحر طبيعيا ومن جانب اخر تخلى الإنسان عن حريته الطبيعية (واصبح مقيدا بواجبات) بمجرد إعطائه طوعيا وعلامة واضحة بأنه راغب في ذلك. وطريقة القبول بالعقد فيها حماية للمواطن من اي اذية من الدولة. ومن طور اخر، الدولة هي اداة لخدمة مصالح المواطنين، لأن العقد الإجتماعي حقيقة تأريخية.( )
إنَّ النقطة الجوهرية في فكر (كانط) ضمن سياق العقد، هي فكرة الحق من حيث علاقته بالقانون. فالحق عنده كما عند (رولز) مقدم على الخير بوصفه موضع إختلاف دائم. فالحق بحسب(كانط)، قبلي اصلي مرتبط بجوهر الذات الإنسانية وسابق على الغايات، وهذه الذات من حيث طبيعتها لا تخضع للضرورة المطلقة ولا الحرية المطلقة. وإنَّ ما يمكنه او يجب ان يفعله هو نفسه ،لأنه كائن حر.( )
وطرح (كانط) في فلسفته، تأثير العمل العقلاني داخل المجتمع أو الشعب المعين، وهو يؤدي الى خلق روابط متينة بين افراده. يقول: "ليس قصدي حين اقول عن الطبيعة إنها "تريد" حصول هذا او ذاك. انها توجب علينا فعله (لأن العقل العملي وحده وهو المتحرر من كل قهر، هو القادر على ان يرسم لنا الواجبات). وإنما قصدي أنها تؤديه هي نفسها، سواء كنا راضين أو كارهين" .( )
وتأثر رولز بفكرة (كانط) الأخلاقية والمساواتية. لأنَّ المبادىء الأخلاقية هي هدف الإختيار العقلاني، إنها تحدد القانون الأخلاقي الذي يجب أن يوافق عليه تحت شروط تصف الناس على انهم كائنات حرة متساوية. ويعد توصيف الوضع الأصلي محاولة لتفسير هذا التصور. فقد دعا(كانط) الى المساواة بين افراد المجتمع وإتاحة الفرص أمامهم لتطوير مواهبهم وامكاناتهم، رافضا جميع الإمتيازات. ذهب(رولز) في افكاره الى ابعد من ذلك في رفضه الظروف الطبيعية والإجتماعية التي تجعل من هم اكثر حظا متنعمين على حساب من هم اقل حظا.( )
وأفكار (كانط) قد استعملها (رولز) في طرح علاقات البنية العادلة بين شعوب العالم، يقول كانط "يجب على الإنسان أداؤه لكنه لم يؤده وفقا لقوانين حريته، بحيث يكون ملزما بالقيام به، على الرغم من هذه الحرية، الزاما من الطبيعة يتناول الجوانب الثلاثة من القانون العام:"القانون المدني"، و"قانون الشعوب" و"القانون العالمي."( ) ولإيجاد حل مشكلة كهذه يرى (كانط) ان بغيتنا ليست النظر في إصلاح الناس أخلاقيا، بل إلتماس السبيل الى إستخدام آلية الطبيعة لتوجيه إستعداداتهم المتعارضة توجيها يجعل جميع أفراد الشعب يلتزمون فيها بينهم الخضوع لقوانين قاهرة، ومن ثم ينشؤون حالة سلمية تقوم على إحترام القوانين. إنها في ظاهر سلوكها قريبة جدا مما تقضي في فكرة الحق، وان كنا نقطع بأنه ليس للمبادىء الأساسية للأخلاق أي دخل في ذلك: (ولهذا لا ينبغي أن نطلب من الأخلاق تنظيم الدولة تنظيما سياسيا صالحا، بل ينبغي أن نتوقع من النظام السياسي الصالح تثقيف الشعب تثقيفا اخلاقيا صالحا). وفي هذه الحالة يمكن ان يتخذها العقل وسيلة لبلوغ غايته: وهي مبادىء الحق، والوصول أيضا الى مناصرة السلام واستتبابه في الداخل والخارج بقدر مايعتمد ذلك على الدولة نفسها.( )
ان افكار (جون رولز) هي تركيبة من افكار فلاسفة العقد الاجتماعي في صياغة فكرة العدالة لديه .

المبحث الثاني: المصادر المعرفية ل(روبرت نوزيك).
إنَّ (روبرت نوزيك) هو أحد مفكري الليبرتارية الحديثة، وهو من الليبرتارينية الميناركية. ويختلف عن الليبرتارينية الأناركية، عن تدخل الدولة وحدودها، بالنظر الى تأريخ الفكر السياسي يعد مفهوم الليبرتارية مفهوما حديثا بشكل نسبي- وقد كان ينتمى الى نطاق الميتافيزيقا في اول امره قبل ان ينتقل الى نطاق الفكر السياسي بعد ذلك. وقد كان الظهور الأول للمصطلح في النصف الأول من القرن العشرين.( )
"والمثاليون يعدون الحرية والضرورة مفهومان يستبعد كل منهما الآخر بالتبادل، ويعدون الحرية هي تقرير الروح لمصيرها وحرية الإرادة وامكانية التصرف وفق إرادة لا تحددها الظروف الخارجية. وهم يؤكدون ان افكار الحتمية التي تضع ضرورة الأفعال الإنسانية بشكل كامل تمحو مسؤولية الإنسان وتجعل الحكم الأخلاقي على افعاله مستحيلا."( )
ومن ادلة حداثة هذا المفهوم (Libertarian) حسب القاموس الإنكليزي: "هو الشخص الذي يؤمن بأنه يجب ان يكون لكل فرد الحرية في العمل والتفكير. أما في توضيح مفهوم(Liberty) وهو الحرية في إختيار طريقة الحياة، دون المزيد من الضغوط من قبل الحكومة أو أي سلطة."( )
ولعل من الأسباب التي ساعدت على إزدهار الفكر المدافع عن الحرية عموما في اوروبا هي حالة الصراع والتنافس بين الكنيسة والدولة على من له الحق الحصري في السيطرة والهيمنة على الناس. ونظرا لطبيعة الليبرتارية التي ترفض أي سلطة عليا على الحياة الخاصة للأفراد. فقد كانت مسألة تشدد الكنيسة تجاه المذهب أو الطائفة الدينية التي يعتنقها الأفراد في ذلك الوقت من الأمور التي نمت الرغبة في التحرر و نشر قيم التسامح الديني.( )
وبعد مرور الزمن على الأطروحات الفكرية في عصر العقد الإجتماعي، وإعتقادات المفكرين الجدد حول مفهوم الحرية والعدالة، يختلف المفكرون الليبرتاريون مع بعضهم في بعض الجزئيات الصغيرة بدون شرح كبير بينهم. ولأسس الفكري لدى (روبرت نوزيك) احد مفكري الليبرتارية الميناركية في عصرنا. يستند الى أفكار بعض المفكرين والفلاسفة في عصر العقد الإجتماعي، مثل(جون لوك) و(ايمانويل كانط) وافكار(آدم سميث) الإقتصادية في القرن الثامن عشر، فهو أبو الإقتصاد و أحد أبرز رواد الليبرالية الإقتصادية.
ويعد كتاب(الفوضى، والدولة، واليوتوبيا) للفيلسوف الليبرتاري(روبرت نوزيك) أحد أهم ما كتب عن الليبرتارية، وهو السبب الأكبر لرواج الليبرتارية على المستويين الأكاديمي والشعبي. وتحولت النظرة تجاه الليبرتارية من مجرد ايدلوجيا طوباوية متطرفة الى ايدلوجيا قابلة للتطبيق. وحارب(نوزيك) في كتابه هذا على جبهتين، حيث عارض - من ناحية - الفكر الليبرالي اليساري الذي طرحه (جون رولز) في كتابه (نظرية العدالة), وتصدى - من ناحية أخرى – الليبرتارية الأناركية* ودافع عن دولة الحد الأدنى.( )
ويعد(نوزيك) مراحل نشأة الدولة التي يطرحها في كتابه، مراحل إفتراضية، إذ لا يوجد ما يثبت ان أي دولة قد نشأت بهذا الشكل ، لكن الغرض في طرح مثل هذا التصور الإفتراضي لنشأة الدولة ، هو إثبات إمكانية ذلك بصورة شرعية و مبررة أخلاقيا، و دون إنتهاك لأي من الحقوق الطبيعية للأفراد. أي إثبات شرعية الدولة بخلاف سائرالأناركيين الليبرتاريين. وتنقسم عملية نشأة الدولة عند(نوزيك) الى أربع مراحل:
أولا: مرحلة حالة الطبيعة الأولى .
ثانيا: مرحلة وكالات الحماية .
ثالثا: مرحلة ما دون الحد الأدنى.
رابعاً: مرحلة دولة الحد الأدنى .( )
ورؤية(نوزيك) عن نشأة الدولة بشكل من حالة الطبيعة الأولى كما تصورها(لوك). ويرى(لوك) أنَّ إدراكه حول طبيعة السلطة السياسية هو"ادراك صحيح ونستنبط السلطة السياسية من مصدرها الأصلي، وينبغي لنا ان نفحص عن الوضع الطبيعي الذي نجد البشر عليه:وهو وضع الحرية التامة في القيام باعمالهم والتصرف بأملاكهم وذواتهم كما يرون، ضمن إطار سنَة الطبيعة وحدها. ودون ان يحتاجوا الى إذن احد أو يتقيدوا بمشيئة أي إنسان."( )
ويرى (لوك) في (مرحلة وكالات الحماية) ، "لما كانت وكالة الحماية المهيمنة ترى أنَ إجراءاتها موثوق بها ونزيهة، وترى أن الجميع يعلم ذلك، فانها تمنع الآخرين من أن يخالفوا تلك الإجراءات، اي أنها سوف تعاقب من يفعل ذلك. إن وكالة الحماية المهيمنة سوف تتصرف بحرية وفقا لفهمها للموقف، في حين لن يستطيع غيرها أن يفعل مثلها دون أن يعاقب. وعلى الرغم من انها لم تدع لنفسها أي حق احتكاري، فإن وكالة الحماية المهيمنة تحتل مكانة فريدة بحكم قوتها."( )
وبحسب منطق(نوزيك) نفسه تصبح النتيجة النهائية، وهي قيام دولة الحد الأدنى، غير شرعية وتبعا لذلك. يقول (لوك) "لا يحق للسلطة العليا ان تنتزع شيئا من املاك أحد من دون موافقته. لأنه لما كانت حماية الملكية هي غرض الحكومة و الباعث على إندماج البشر في المجتمع، تحتم ضرورة أن يكون لأفراد الشعب حق الملكية: فلا يجوز لأحد ان ينتزعها منهم أو اي جزء منها دون ارادتهم. لأنه لا ملكية لي قط على شيء يجوز شرعا لأمرىء آخر ان ينتزعه مني متى شاء من دون إرادتي. لذلك فمن الخطأ ان يظن ان السلطة التشريعية أو العليا في دولة من دون الدول تستطيع صنع ما تشاء و التصرف بأملاك رعاياها جوراً و إنتزاع أي جزء إنَّ منها ارادت."( )
واستند(نوزيك) على فكرة(جون لوك)، في الدفاع عن دولة الحد الأدنى التي يرى أنها "محددة بالوظائف الضيقة المتمثلة بالحماية ضد القوة والسرقة والإحتيال، وتطبيق التعاقدات، وما الى ذلك."( ) رغم وجود الفوارق بين الليبرالية الكلاسيكية و الليبرتارية، أن نقاط الإتفاق بينهما أكثر لهذا فقد نهل الليبرتاريون من أفكار (جون لوك) السياسية بصورة واسعة. ولعل(ملكية الإنسان لذاته) و(حدود سلطة الدولة) و(مسألة الإكراه) هي اهم ثلاثة افكار لـ(جون لوك) وجدت صدى لدى الليبرتاريين.( )
ويستفيد(نوزيك) من الجوانب الفكرية لـ(جون لوك)، في صياغة افكار ليبرتاريته، واهم كتب لـ(جون لوك) التي استفاد منها(نوزيك) هي(في الحكم المدني). ومن جانب ليست آخر اسهامات(ادم سميث) قليلة على صياغة افكار(روبرت نوزيك) حول تحقيق مصلحة الفرد دون تدخل كبير أو ترتيب الدولة عنها. واهم كتاب(آدم سميث) وهي(ثروة الأمم) التي تأثر بها(نوزيك). اليد الخفية التي يقدمها في كتاب (ثروة الأمم) مصطلح وضعه للتعبير عن آلية النظام الإقتصادي العفوي الذي يسير نفسه بنفسه دون الحاجة الى تدخل الدولة كأن هناك يداً خفية تعمل على تنظيمه. أما من جانب فكرة محدودية عمل الدولة وأثر ذلك في حرية المواطنين هو اهم مباحث الفكر السياسي على الإطلاق، وليس اقل حظاً في التأثير على الأفكار الليبرتارية الميناركية وهو المفكر السياسي ورجل الدولة ألماني(فيلهيلم فون همبولت) وهو في اواخر العصر الثامن عشر واوائل العصر التاسع عشر. ايضا(ايمانويل كانط) مفكر عصر التنوير في اوروبا، وهو مفكر آخر الذي اثر على الليبرتارية واحداها (روبرت نوزيك).( )

المطلب الثاني: اساس الحقوق عند (رولز) و(نوزيك)
المبحث الأول: اساس الحقوق عند (جون رولز):
ومع ان الكثيرين قد كتبوا حول التعارض الصارخ بين المنفعية والحدث، يبدأ(رولز) كتابه بالتنبيه الى ان الفلسفة السياسية واقعة تحت نير نزعتين متطرفتين: نزعة منفعية و أخرى تتكون من خليط مشوش من الأفكار الحدسية. ويسمي(رولز ) هذا الإتجاه الثاني ب(الحدسية)، ويقدمه كمقاربة تقوم على سلسلة من الإنشاءات الذهنية الغريبة، تعتمد على حدسيات تتعلق بقضايا تخص حالات محددة للفعل. إن الحدسية ليست بديلا مرضيا للمنفعية ، اذ وإن صح ان لدينا حدسيات تدفعنا في إتجاه مضاد للمنفعية،...( )
يرى (رولز) في موضوعات الحدسياته، "أنَّ النظريات الحدسية تحمل خاصتين: أولاهما: إنها تتألف من تعددية في المبادىء الأولى التي قد تتنازع بحيث تؤدي الى ارشادات متناقضة في حالات معينة والآخرى: لا تتضمن طريقة صريحة، و لا قواعد أولوية من اجل موازنة المبادىء مقابل بعضها بعضا: وعلينا ببساطة تحديد الكفة الراجحة بوساطة الحدس، من خلال ما يبدوا لنا انه اقرب الى الحق. او اذا كانت هناك قواعد للأولوية، يعتقد انها هامشية الى حد ما ولا تمدنا بعون جوهري للوصول الى حكم."( )
ومن جانب آخر يطرح (رولز) مبدأ للعدالة، ويمكن الإتفاق عليهما في الوضع الأصلي، في استمرار مناقشات وعرض الصياغات المتعددة الى حين الوصول الى البيان النهائي. ويعرض (رولز) مبداين في البيان الأول، هما "اولا: يجب ان يحصل كل شخص على حق متساوٍ في المخطط الأكثر إتساعاً من الحريات الأساسية المتساوية المتوافق مع مخطط مماثل من الحريات للآخرين. وثانياً: يجب ترتيب حالات اللامساواة الإقتصادية والإجتماعية بحيث تكون (أ) متوقعة بشكل معقول على انها لمصلحة كل شخص، و(ب) الإلتحاق بالمواقع وبالمناصب مفتوحا للجميع."( )
في صياغة الأفكار لتقديم الحقوق للآخرين عند(جون رولز)الذي يرى تطبيق هذه المبادىء بشكل رئيسي، كما يذكر، على البنية الأساسية للمجتمع وتحكم التخصيص للحقوق والواجبات تفترض مسبقا، لأغراض نظرية في العدالة، يرى البنية الأساسية على انها تمتلك قسمين متمايزين، يطبق المبدأ الأول على الأول، ويطبق الثاني على الآخر. وهو يميز بين الجوانب المتعلقة بالنظام الإجتماعي التي تعرف و تحمي الحريات الأساسية المتساوية وبين الجوانب التي تعين وتؤسس اللامساواة الإجتماعية والإقتصادية. يلاحظ ان الحريات الأساسية، وبين هذه الحريات المهمة الحرية السياسية (حق التصويت واستلام منصب عام) وحرية التعبير والإجتماع، وحرية الضمير وحرية التفكير، والحرية الشخصية، التي تتضمن التحرر من القمع النفسي والإعتداء الجسدي وتقطيع الأوصال (سلامة الشخص)، والحق بالملكية الشخصية والتحرر من الإعتقال او الإحتجاز الإعتباطي كما تعرف من خلال مفهوم سيادة القانون. هذا جوهر المبدأ الأول.( )
في هذا التوضيح الذي يقدمه(رولز) في المبدأ الأول, يتعلق بالمسائل الدستورية كحرية التعبير والتفكير والتنظيم. فالإقرار بأولوية مبدأ العدالة يقتضي ضمنا وضع حدود تضبط شروط قبول صيغ الحياة المعروضة. فللمؤسسات العادلة قيمها السياسية الملائمة التي هى اساس ولاء المواطنين لها.( )
طرح(رولز)رأيه في المبدأ الثاني في توزيع الدخل و الثروة و على تصميم المنظمات الذي يستفيد من الفروق في السلطة و المسؤولية وكذلك يطبقها في الأول. ويرى(رولز) أنَّه ليست هناك حاجة لأنَّ توزيع الدخل والثروة متساو، ويجب ان يكون لمنفعة كل شخص، وفي الوقت نفسه، يجب ان تكون مواقع السلطة والمسؤولية متاحة للجميع. ويطبق المبدأ الثاني من خلال جعل المواقع مفتوحة، ومن ثم، بالخضوع لهذا القيد، ترتب اللامساواة الإجتماعية والإقتصادية بحيث ينتفع منها كل شخص.( )
و"يتعلق المبدأ الثاني بالإنصاف في الفرص و تسيير أشكال التفاوت التي تدخل في نطاق مسائل العدالة التوزيعية(distributive justice) التي تنظمها التشريعات والنظم القانونية في مقابل المسائل الدستورية الرئيسية التي تنتج عن اللحظة التعاقدية التأسيسية."( )
ووصل(رولز) الى صياغة المبدأين الرئيسيين للعدالة من خلال الأفكار الخمسة وهي: اولاً: فكرة (المجتمع جيد التنظيم)، ثانياً: فكرة(البنية القاعدية)، ثالثاً: فكرة(الوضعية الأصلية)، رابعاً: فكرة(حجاب الجهل)، خامساً: فكرة(الإجماع عن طريق التوفيق).
والتحولات افكار(رولز) حول الحقوق في عصرنا. يعكس انتقالا متدرجا من نظرية أخلاقية جوهرية اي الإكتفاء بضبط القيم الإجرائية التي تقوم عليها اللبيرالية السياسية في المجتمعات الديمقراطية انطلاقا من مبدأ (أولوية العدل على الخير)، معلنا بجلاء نظرية العدالة كإنصاف هي شكل من الليبرالية.( )
إن (رولز) هو الليبرالي القائل بدولة الرفاه العام، انه يعترض على المذهب النفعي بوصفه مذهبا ينكر التمييز بين الأشخاص، وأن يقترح أخلاقا قائمة على الحقوق بوصفها الأكثر ضمانا لحرية الأفراد. إذ اعتمد مبدأ كانط القاضي بالتعامل مع كل شخص من حيث هو غاية لا مجرد وسيلة, وبالبحث عن مبادىء العدالة التي تتضمن ذلك، كما ينكر وجود اي كيان اجتماعي يسمو على أفراده.( )

المبحث الثاني: اساس الحقوق عند (روبرت نوزيك)
لمعرفة كيفية ربط العدالة بالسوق عند الليبرتاريين، سنركز على نظرية (الملكية المشروعة) التي صاغها (نوزيك). فمثلها هو الشأن في سائر النظريات الليبرتارينية، التي تمثل الأطروحة الرئيسية في التالي، إن لكل شخص حقا مشروعا في الأشياء التي هي في حوزته (ممتلكاته). وسيكون التوزيع العادل عندها ذلك الذي ينتج عن التبادل الحر بين الأفراد. فكل توزيع يأتي عن وضع عادل، من خلال تبادل حر للمتلكات يكون عادلا.( )
ويطرح (نوزيك) في نظريته ثلاثة مبادئ اساسية حول (الحقوق المشروعة في الملكية) وهي، اولاً: مبدأ التحويل: الذي هو ما يكتسب على نحو مشروع يمكن ان تحول ملكيته على نحو حر. يوضح المبدأ الأول لنا، فإذا كنت امتلك قطعة أرض، فأنني حر في إجراء اية صفقة تبادل ارضى عنها لتلك الأرض.
وفي جانب آخر يطرح في المبدأ الثاني وهو مبدأ عادل في الإكتساب البدئي: الذي هو مبدأ يفسر لنا كيف يتوصل الأفراد من البداية الى حيازة أشياء يمكن ان تنقل ملكيتها فيما بعد وفقا للمبدأ السابق. وفي هذا المبدأ يرشد الإنسان الى الكيفية التي يتعين ان تكون عليها ملكية الأرض من البدء.
اما في المبدأ الثالث فيطرح(نوزيك)، ما يتعين علينا القيام به في حال ينتهك فيها في المبدأ الأول و المبدأ الثاني ... ويقول في هذا المبدأ، مبدأ تصحيح الجور: وهو مبدأ يدلنا على كيفية التعامل مع اوضاع تكون فيها الممتلكات مكتسبة جورا سواء عبر عملية تملك او عبر عملية تحويل. وإذا اخذت هذه المباديء الثلاثة معا، فهي تعني انه إذا توفر شرط الإكتساب العادل في الملكية فإن صيغة التبادل العادل يمكن ان تكون على نحو التالي: (من كل ، وفق تفصيلاته ، الى كل وفق ماله من مخصصات في البدء).( )
وبحسب اطروحة نظرية (نوزيك) لحقوق عملائها في هذا المبدأ يسمى(المبدأ التعويض). وبحسب رأي (نوزيك) تقوم دولة ما دون الحد الأدنى بمنح حمايتها لجميع الأفراد من غير عملائها تعويضا لهم عن حرمانهم من استخدام القوة بأنفسهم لحماية حقوقهم، اي انها تحمي لهم حقوقهم. وتنوب عنهم في استخدام القوة لتضمن ان الإجراءات المتبعة في ذلك نزيهة و يمكن الوثوق بها. وهذا المبدأ الذي طرحه (نوزيك) هو احدى ابتكاراته في مجال الحقوق ومخالف لمبادئ الليبرتارية.( )
إنَّ كل هذه الإجراءات ليست لمجال مساعدة الآخرين في المجتمعات البشرية. و في حالة عدم قدرة الفرد على الدفع مقابل تلك الخدمة التي منحت له كتعويض ، فانها تقوم بتمويل تلك الخدمة من الأموال التي ستحصلها من العملاء الأصليين مقابل ما قامت به من اجراءات تكفل لهم حماية قصوى. يقول(نوزيك) "اذن على عملاء وكالة الحماية ان يعوضوا المستقلين عن الآثار السلبية التي فرضت عليهم عبر منعهم من اخذ حقوقهم بأنفسهم من عملاء الوكالة. و بالتأكيد إنَّ اقل طرق تعويض المستقلين كلفة هو تقديم خدمات الحماية لهم لتغطية مواقف الصراع مع عملاء وكالة الحماية الأصليين."( )
في كتابه(الفوضى، والدولة، واليوتوبيا) قدم نوزيك دفاعاً فلسفيا عن المبادئ الليبرتارية، ومجادلا بأن للأفراد حقوقا وهي حقوق على درجة من القوة والأبعاد، ويرى فيه "أنَّ للأفراد حقوقا، وإنَّ هناك اشياء لايمكن لشخص او مجموعة فرضها عليهم، واننا ينبغي أن لا ننتهك تلك الحقوق لصالح المنفعة الأعم، ومن ضمن هذه الحقوق، حق إستغلال الفرد لجسده والسيطرة عليه وحق الملكية للموارد التي حصل عليها دون جور."( ) ويرى (نوزيك) أنَّ دولة الحد الأدنى بهذا الشكل قد نشأت من داخل الحالة الطبيعية الأولى دون ان يتم انتهاك حقوق اي فرد. وأنَّ الإعتراضات المتوقعة من جانب الأناركيين الليبرتاريين على نظريته ستنحصر في مسألة احتكار وكالة الحماية التي لاتستخدم القوة. وفي مسألة تحصيل الوكالة من عملائها اموالا نظير حمايتها للآخرين ممن ليسوا عملاء لها. فالأولى أنَّ تنتهك الحق في الحرية، و الثانية تنتهك الحق في الملكية. لكن (نوزيك) في رده لهذا النقد يكون مجدية و دقيقة في محله. يرى ان الإحتكار ليس ظلما ، فالإحتكار بموجب الواقع ينمو بطريقة اليد الخفية، وعبر وسائل جائزة اخلاقيا، دون اي انتهاك لحق اي فرد، و دون أيّ ادعاء بوجود حقوق خاصة لأحد دون غيره. ومطالبة العملاء – المتمتعين باحتكار الأمر الواقع.( ) وحق يطرحها في مبدأ التعويض. ومن جانب آخر حرص(نوزيك) على الحقوق الفردية. والتي هي الخطوط الحمراء بالنسبة له وبالنسبة لعمل اي دولة شرعية. إذ تقيدها او تكون عائقة امامها. ونجد أنّض افكار(نوزيك) يخالف النظريه النفعية. إذ يقول"بدلا من جعل الحقوق جزءا من الهدف النهائي المراد تحقيقه، ينبغي جعلها قيودا على الأفعال، لأنها الرؤية القائمة على فكرة القيود تمنعك من ان تنتهكها في اثناء سعيك لتحقيق اهداف، في حين تسمح لك الرؤية التي يكون هدفها التقليل من انتهاك تلك الحقوق بانتهاك الحقوق(القيود) بهدف تقليل المجموع الكلي لأنتهاكها في المجتمع."( )
ومن جانب آخر هناك مثال تشامبرلان في شرح مبدأ نقل الملكية التي هي احد الحقوق في امتلاكه. وقد رأينا اننا إذا اكتسبنا شيئا ما على نحو مشروع يكون لنا عندئذٍ حق مطلق في امتلاكه. فنستطيع ان نستمتع به، كما يحلو لنا حتى لو ترتب عن تلك العملية توزيع لا متكافئ بالغ الحيف من حيث الدخل والحظوظ. ومن جهة أنَّ البشر قد ولدوا مزودين بقدرات طبيعية متفاوتة، ستجازي قوانين السوق البعض كما ينبغي، في حين لن يحصل الذين يفتقرون لمهارات قابلة للتسويق على اي شيء يذكر. فالتفاوتات في المؤهلات الطبيعية، تفاوت لا احد يستحق الفوائد المترتبة عنه او الأضرار التي تنجز عنه، لأنَّ بعض الأشخاص سينعمون بالرخاء ، في حين سيهلك البعض الآخر جوعا. و ستؤثر هذه الفوارق في حظوظ الأبناء، مادام بعضهم سيكبر في وسط مترف، في حين ينشأ غيرهم في وسط الفقر. وهذا هو شرح التفاوت، وبحسب اعتقاد نوزيك أنه من النتائج الممكنة لراسمالية متوحشة، وهذا كل اساس اعتراضاتنا الحدسية على اطروحات الليبرتارينيين.( ) بحسب الأطروحات النظرية من قبل (رولز ) و( نوزيك) عن الحقوق، إذ كل منهما يقترح أخلاقا قائمة على الحقوق بوصفها الأكثر ضمانا لحرية الافراد. ثم إن نوزيك نفسه، حتى إن كان مدينا كثيرا لـ(جون لوك) في نظرية الحقوق إنهَّ يشترك مع (رولز) في اعتماد مبدا (كانط) القاضي بالتعامل مع كل شخص من حيث هو غاية لا مجرد وسيلة، وبالبحث عن مبادئ العدالة التي تتضمن ذلك، كما ينكر كلاهما وجود أي كيان إجتماعي يسمو على أفراده.( )

المطلب الثالث: حدود تدخل الدولة عند (جون رولز)
إنَّ دراسات(رولز) وتحليلاته حول المشاكل المرعبة والكارثية للمجتمعات الغربية ولاسيما الأمريكية، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. قد أوصلته الى قناعة مفادها أنَّ ابتعاد الدولة وعدم تدخلها في المجتمع. بحجة الحرية المتساوية بين الأفراد، لم يوصلها في ذلك الوقت الى حَلّ موضوعي للمعضلات الموجودة في المجتمع. وفي هذه الحالة يجب على الدولة ايجاد حل والتام بإجراءات لازمة و مناسبة للخروج من مأزق أسلوب التوزيع غير العادل، وحلول ممكنة أولية تشكل توزيعاً عادلاً لصالح المحرومين داخل المجتمعات الغربية والأمريكية.( )
ويدعو(رولز) الى تدخل الدولة في تطبيق العدالة بين أفراد المجتمع. وفي مقاربة (رولز) أيضا، ينبغي تطبيق نظرية ما في العدالة علماً أنَّ مجموعة كبيرة من المؤسسات تشكل الهيكل الأساسي للمجتمع العادل تماما. ولا بد لكل نظرية في العدالة أن تولي دور المؤسسات مكانة مهمة، بحيث إِن اختيار المؤسسات لا يمكن ألا ان يكون عنصرا مركزيا في كل وصف معقول للعدالة . وهناك تراث مديد في التحليل الإقتصادي والإجتماعي. لتعريف قيام العدل بما يعد أنه الهيكلية المؤسسية الصحيحة. وثمة أمثلة ممتازة كثيرة جدا لهذا التركيز على المؤسسات، مع تحيز قوي لهذه الرؤية المؤسسية أو ذلك للمجتمع العادل،....( )
يقول(رولز)"العدالة هي الفضيلة الأولى للمؤسسات الإجتماعية، كما هي الحقيقة للأنظمة الفكرية. ومهما كانت النظرية أنيقة و مقتصدة لابد من رفضها إذا كانت غير صادقة، كذلك الأمر بالنسبة الى القوانين والمؤسسات مهما كانت كفوءة وجيدة التشكيل فلابد من إصلاحها أو إبطالها إذا كانت غير عادلة."( ) ويرى (رولز)أنَّه يفهم أنَّ مؤسسة الدولة والقوانين التي تشترك في ترتيبات العدالة داخل المجتمع. نظام عام من القواعد التي تحدد المناصب والمواقع بحقوقها وواجباتها. والقوة و الحصانة وغير ذلك. وتعين هذه القواعد أشكالا معينة من الأفعال المسموحة والممنوعة، وتقدم عقوبات ودفاعات معينة، وغير ذلك، حين تحدث المخالفة. وتوجد المؤسسة في زمان معين و مكان معين حين تنفذ الأفعال المحددة بوساطتها بإنتظام طبقا لفهم عام هو أنَّ نظام القواعد المحددة للمؤسسة يجب إتباعه.( )
ويقول(رولز) حول المؤسسات:"إن المؤسسة، وبالتالي البنية الأساسية للمجتمع، هي نظام عام من القواعد. وأقصد إذن أنَّ كل شخص مشارك فيها يعرف ما سوف يعرف إذا كانت هذه القواعد ومشاركتها في النشاط الذي تحدده نتاج إتفاقية. إن شخصا ما يشارك في مؤسسة يعرف أن القواعد تطلب منه و من الآخرين ذلك. وهو يعرف أيضا أن الآخرين يعرفون هذا وهم يعرفون أنه يعرف هذا، وهكذا. بلا ريب، لايُلبى هذا الشرط دائما في حالة المؤسسات الفعلية، ولكنه إفتراض تبسيطي معقول. يجب ان تطبق مبادئ العدالة على ترتيبات إجتماعية يفهم أنها عمومية بهذا المعنى.( )
أنَّ الطريقة التي يستندها(رولز) في مجالات الحقوق والواجبات الأساسية. وتنظيمها لتقسيم الفوائد الإقتصادية والإجتماعية التي تنتج من التعاون الإجتماعي عبر الزمن. وهي"تشمل البنية الأساسية القانون الأساسي السياسي ذي القضاء المستقل، وصورا من الملكية معترف بها قانونيا، وبنية الإقتصاد(يعدها، مثلا نظام أسواق متنافسة وملكية خاصة لوسائل الإنتاج)، وأيضا الأسرة في صورة من الصور، فتكون البنية الاساسية الإطار الإجتماعي الخلفي الذي تجري في داخله نشاطات الجمعيات و الأفراد. و البنية الأساسية العادلة تؤمن مايمكن أن ندعوه العدالة الخلقية."( ) وإحدى السمات الرئيسية للعدالة في نظرية العدالة لدى (رولز)هي بوصفها البنية الأساسية الموضوعية للعدالة السياسية."لأن آثار البنية الأساسية على أهداف المواطنين، وطموحاتهم، وخلقهم وأيضا على فرصهم و قدرتهم على الإستفادة منها، هي آثار منتشرة وحاضرة منذ بداية الحياة. لذا إن تركيزنا كلي على البنية الأساسية لكونها موضوع العدالة السياسية والإجتماعية."( )
ونظرية العدالة عند(رولز) مبنية اساسا على المؤسسات الإجتماعية الرئيسية في الحقوق والواجبات الأساسية التي تحدد كيفية تقسيم الإمتيازات والتعاون الإجتماعي. إنَّ البنية الأساسية (المؤسسات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية في المجتمع) يطبق فيها نظرية العدالة. وأنها تؤمن مثالاً معيارياً يفترض ان نحكم وفق هذا المعيار على التكوين السياسي في المجتمع و على التدابير و التنظيمات الإقتصادية و السياسية الأساسية المتبعة فيه.
ومن أسس نظرية (رولز) للعدالة تحتسب "الخيرات الأولية". ويوجد ضربان من الخيرات الأولية:
1- الخيرات الإجتماعية الأولية: ويتعلق الأمر هنا بخيرات توزع مباشرة من قبل المؤسسات الإجتماعية مثل الدخل والثروة والحظوظ والسلطة والحقوق والحريات .
2- الخيرات الأولية الطبيعية: ويتعلق الأمر هنا بخيرات، مثل الصحة والذكاء والقوة وسعة الخيال والمواهب الطبيعية التي ان تأثرت بطبيعة المؤسسات الإجتماعية، فهي لا توزع مباشرة من قِبلها.( )
إِنَّ مشروع رولز مشروع أخلاقي في المرتبة الأولى، فهو يريد ان يتدخل ونفسه ويصمم نظرية اخلاقية وفلسفة شاملة للمجتمعات الليبرالية والديمقراطية الغربية. وفي الوقت يطرح كبديل للنظرية النفعية، ويطرح في مشروعه، ما شروط تأسيس عدالة توزيعية حقيقية في المجتمعات المعاصرة التي يميزها إقتصاد السوق.
والآن نبين كيف يبني(رولز) نظريته حول الفضيلة الأولى لمؤسسات الدولة، أي العدالة، وكيف يفتح المجال لتدخل الدولة.
يعتمد(رولز) لبناء نظريته على نظرية(هوبس) التحليلية، وذلك وضع فرضية يسميها الوضع الأصلي (Original position). وهذا الوضع مماثل للوضع الطبيعي عند(هوبس). وهو وحدة اساسية و نقطة إنطلاق. على كل حال عقب النقاشات المفصلة التي تجريها الأطراف في الوضع الأصلي، يتم في النهاية الإجماع على مبدأين للعدالة، أي تلك المبادئ التي هي مثل خطة لإقامة مؤسسات إجتماعية(البنية الأساسية للدولة) تقوم بالتوزيع العادل لمنافع (او الخيرات الأولية الإجتماعية) الناتجة عن التعاون الإجتماعي الحتمي بين أعضاء المجتمع.( ) فيجب قراءتهما كما يلي:"(أ) لكل شخص الحق ذاته الذي لا يمكن إلغاؤه، في ترسيم من الحريات الأساسية المتساوية الكافية، و هذه الترسيمة متسقة مع نظام الحريات للجميع. (ب)ويجب أن تحقق ظواهر اللامساواة الإجتماعية والإقتصادية شرطين: أولهما يفيد أن اللامساواة يجب ان تتعلق بالوظائف والمراكز التي تكون مفتوحة للجميع في شروط مساواة منصفة بالفرص، وثانيهما يقتضي ان تكون ظواهر اللامساواة محققة أكبر مصلحة لأعضاء المجتمع الذي هم الأقل مركزا(وهذا هو مبدأ الفرق)."( )
وهناك تعبيران غامضان في المبدأ الثاني وهما"لمصلحة كل شخص" و"مفتوح للجميع". وتحديد معناهما بدقة أكبر سوف يقود الى الصياغة الثانية للمبدأ. نطبق هذه المباديء بشكل رئيسي، كما ذكرت، على البنية الأساسية للمجتمع وتتحكم في التخصيص للحقوق والواجبات وتنظّم التوزيع للمنافع الإجتماعية والإقتصادية وصياغة هذه المبادئ تفترض مُقدّما، لأغراض نظرية في العدالة، انه يمكن النظر الى البنية الأساسية على انها تمتلك قسمين متمايزين، يطبّق المبدأ الأول على الأول، ويطبق الثاني على الآخر. وهكذا نحن نميز بين الجوانب المتعلقة بالنظام الإجتماعي وتعرّف وتحمي الحريات الأساسية المتساوية وبين الجوانب التي تعين وتؤسس اللامساواة الإجتماعية والإقتصادية.
والآن من الضروري أنَّ نلاحظ أن الحريات الأساسية تعطى من خلال قائمة بهذه الحريات. وبين هذه الحريات المهمة الحرية السياسية(حق التصويت و استلام منصب عام) وحرية التعبير والإجتماع، وحرية الضمير وحرية التفكير، والحرية الشخصية، التي تتضمن التحرر من القمع النفسي والإعتداء الجسدي ووتقطيع الاوصال(سلامة الشخص): والحق بالملكية الشخصية والتحرر من الاعتقال او الإحتجاز الإعتباطي كما تُعرّف من خلال مفهوم سيادة القانون: ويجب ان تكون هذه الحريات متساوية من خلال المبدأ الأول.
ويطبق المبدأ الثاني، في التقريب الاول، على توزيع الدخل والثروة وعلى تصميم المنظمات التي تستفيد من الفروق في السلطة والمسؤولية . وفي الوقت الذي لا توجد حاجة لجعل توزيع الدخل والثروة متساوياً، يجب أن يكون التوزيع لمنفعة كل شخص، وفي الوقت نفسه، يجب ان تكون مواقع السلطة والمسؤولية متاحة للجميع ويطبق المبدأ الثاني من خلال جعل المواقع مفتوحة، ومن ثم، فالخضوع لهذا القيد، يرتب اللامساواة الإجتماعية والإقتصادية بحيث ينتفع منها كل شخص.( )إن تدخل الدولة وتأثيرها من اجل تحقيق العدالة والمساواة يظهر أكثر وأكثر في الجزء الثاني من المبدأ الثاني في العلاقات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية. ان المبرر الجوهري لتدخل الدولة واعادة توزيع الثروة عند (رولز)، يعود الى مبدأ الإختلاف، الذي هو مثل تصحيح للتوزيع الإعتباطي للقدرات والمواهب الطبيعية بين الناس في المجتمع. إنَّ اتفاق الأطراف في الوضع الأصلي على مبدأ الإختلاف هو بمنزلة الإتفاق على النظر الى المواهب الطبيعية بصفتها ممتلكات عامة ولابد أن توزع ثمار استخدامها على نحو تستفيد منه الفئة الأقل حظاً في المجتمع. ويذهب(رولز) الى أنَّ التوزيع على اساس القدرات و المواهب الطبيعية التي منحتها الطبيعة للناس منذ الميلاد على نحو اعتباطي أو عن طريق الحظ دون ان يكون لهم دور في ذلك، هو توزيع ظالم يجب تصحيحه.( ) "ومن ثم ومع أنَّ مبدأ الفرق لييس مبدأ الإصلاح نفسه، فإنَّه يحقق بعض مقاصد المبدأ الأخير، إنَّه يحول أهداف البنية الأساسية بحيث لا يستمر المخطط الكلي للمؤسسات بالتشديد على الكفاءة الإجتماعية والقيم التكنوقراطية(التقنية). وفي الواقع يمثل مبدأ الفرق اتفاقاً على عّد توزيع المواهب الطبيعية في بعض الجوانب كأصل مشترك وعلى التشارك في المنافع الإجتماعية والإقتصادية الكبرى التي تصبح ممكنة بوساطة المتممات لهذا التوزيع."( ) وبحسب آراء(رولز) في تأسيس مؤسسات خلفية للعدالة التوزيعية، ويمكن التفكير بالدولة المتكونة من اربعة فروع حسب تعبير آخر الدولة لها اربع وظائف متكاملة وكل فرع يتكون من وكالات متنوعة، مهامه الحفاظ على شروط اجتماعية واقتصادية معينة. لا تتداخل هذه الأقسام مع التنظيم العادي للحكومة ولكن يجب فهمها كوظائف مختلفة.( ) إنَّ فرع التخصيص، عليه حفظ نظام السعر تنافسيا ومنع تشكيل قوة سوقية غير معقولة. ولن يوجد مثل هذه القوى لعدم إمكان جعل الأسواق أكثر تنافسية بالإتساق مع متطلبات الكفاءة وحقائق الجغرافيا وتفضيلات الأسر. ويكلف هذا الفرع أيضا بالتحديد والتصحيح لنقل بوساطة الضرائب والمعونات وبوساطة التغيرات في تعريف حقوق الملكية، ومن أجل هذه الغاية يمكن استخدام ضرائب ومعونات مناسبة، او تعديل مجال وتعريف حقوق الملكية.( )
اما في فرع الإستقرار، فيناضل هذا الفرع للتجهيز لتوظيف تام معقول بمعنى ان اولئك الذين يريدون عملاً يمكن ان يجدونه ويدعم الإختيار الحر للمهنة وانتشار التمويل بوساطة طلب فاعل قوي. ويعمل هذان الفرعان معا على الحفاظ على كفاءة اقتصاد السوق عموما.( )
أما الدولة في الحد الأدنى الإجتماعي فلها مسؤولية فرع التحويل. ولاحقا سوف اناقش عند اي مستوى يجب تحديد هذا الحد الأدنى لكن حاليا تكفي بعض الملاحظات العامة. والفكرة المهمة هي ان عمل هذا الفرع يأخذ الحاجة بالحسبان و يخصص لها وزنُ مناسب مع احترام المطالب الأخرى. إنَّ نظام السعر التنافسي لايقيم اعتبارا للحاجة و لذلك لا يمكن أن تكون الآلية الوحيدة للتوزيع. والأسواق التنافسية المنظمة جيدا تحمي الإختيار الحر للمهنة وتقود الى استخدام كفوء للموارد وتخصيص السلع للأسر. في حين أنَّ فرع التحويل يضمن حدا معينا من الرفاهية ويحترم مطالب الحاجة. ومن جانب آخر فلكون مبادئ العدالة تنظم البنية كلها، فهي تنظم ايضا توازن الأوامر. عموما اذن سوف يتباين هذا التوازن طبقا للتصور السياسي المؤسس له.( ) وأخر فرع هو فرع التوزيع: ومهمته الحفاظ على عدالة تقريبية في الحصص التوزيعية بوساطة وسائل مثل الضرائب والتعديلات الضرورية في حقوق الملكية. ويمكن التمييز بين جانبين لهذا الفرع . في المقام الأول، إنَّه يفرض عددا من الضرائب على الميراث والهبة، ويضع قيودا على حقوق الوصية. والغرض من هذه الجبايات والأنظمة ليس توليد الأيراد(تحرير موارد للحكومة) لكن التصحيح التدريجي والمستمر لتوزيع الثروة ومنع تركز القوة الضار بقيمة الحرية السياسية المنصفة و تكافؤ الفرصة المنصفة. انها هذه المؤسسات التي توضع موضع الخطر حين تتجاوز حالات اللامساواة في الثروة حدا معينا، وتميل الحرية السياسية كذلك الى فقدان قيمتها، وتصبح الحكومة التمثيلية مجرد مظهر فقط. ان هدفها هو صياغة المبادئ التي تنظم المؤسسات الخلفية. اما المقام الثاني من فرع التوزيع فهو برنامج الضرائب لتوليد الإيرادات التي تتطلبها العدالة. ويجب صرف الموارد الإجتماعية للحكومة بحيث تتمكن من تزويد السلع العامة وتسديد الدفعات التحويلية الضرورية لتلبية مبدأ الفرق. وتنتمي هذه المشكلة الى فرع التوزيع لأنه يجب التشارك بالعبء الضريبي بعدالة وهو يهدف الى ترسيخ ترتيبات عادلة.( ) وبصورة عامة يمكن القول إنَّ (رولز) لايقصر وظائف الدولة في الأساسية منها، بل يؤكد تدخل الدولة في مجالات حياة البشر داخل الأنظمة السياسية.

المطلب الرابع: دولة الحد الأدنى عند (روبرت نوزيك)
قام (نوزيك) بطرح افكاره عند تدخل دولة الحد الأدنى من خلال كتابه (الفوضى، الدولة، اليوتوبيا)، دولة الحد الأدنى عند (نوزيك) ليست مبنية على العقد الإجتماعي، لأنها دولة مؤسسة نتيجة لتعامل بعض جماعات مع بعضها، وظهرت بشكل طبيعي (او اليد الخفية للدولة)، مرحلة اخيرة لسلسلة تطورات شكلية وموضوعية مؤسسية، وذلك حسب ضرورة الواقع، وكما يأتي:
في المرحلة الأولى – في الوضع الطبيعي او الفوضى، يبدأ الأفراد فيما بينهم بالعمل الجماعي وتأسيس وكالات خاصة، من اجل تحقيق الأمن وحماية انفسهم من الهجمات المحتملة من الآخرين. وفي المرحلة التالية، فإحدى هذه الوكالات هي الحماية، التي تقوى أكثر وتتفوق على الآخرين، لكن الوكالات الأخرى تبقى و لا تفنى نهائيا، والى حّد ما تحتفظ هذه الوكالات باستقلاليتها تأخذ أجرا، وفي المقابل يضعون حراسة الآخرين على عاتقهم. وفي هذا الوسط تقوى احدى هذه الوكالات شيئا فشيئا على حساب الوكالات الأخرى وتصبح مانعة امامهم وتظهر على شكل الحارس الليلي، وتأخذ على عاتقها وظائف حفظ الأمن ومنع السرقة والتحايل ومخالفات العقود، وبهذا الشكل تصبح سلطة المجتمع حصرا لها.( ) "ويعد كتاب"الفوضى، والدولة، واليوتوبيا" للفيلسوف الليبرتاري (روبرت نوزيك)، احد اهم ما كتب عن الليبرتارية، وهو السبب الأكبر لرواج الليبرتارية على المستويين الأكاديمي والشعبي، إذ قدم ( نوزيك) تصورا متماسكا للمجتمع الليبرتاري الذي نشأ وفقا للمبادئ الليبرتارية، بحيث تحولت النظرة تجاه الليبرتارية من مجرد ايديولوجيا طوباوية متطرفة الى ايديولوجيا قابلة للتطبيق.( )
وفي كتابه هذا حارب (نوزيك) على جبهتين، فقد عارض – من ناحية – الفكر الليبرالي اليساري الذي طرحه (جون رولز) في كتابه (نظرية العدالة)، وفي جبهة اخرى تصدى للليبرالية الأناركية ودافع عن دولة الحد الأدنى. ولم يبدأ مؤلفه بالحديث عن وظيفة الدولة ومسؤولياتها مباشرة كما كان رفاقه الميناركيون يفعلون، بل قبل التحدي الأناركي وقرر ان يثبت جواز ظهور الدولة وتطورها دون اي انتهاك لحقوق الأفراد، اي جواز قيام الدولة واستمرارها بشكل شرعي تماما.( ) ويسأل(نوزيك) عن ضرورة وجود الدولة و يقول "لو أن الدولة غير موجودة ، فهل من الضروري ان نخترعها؟ هل سنكون في حاجة اليها؟ وهل من المحتم ان يتم اختراعها؟"( ) ويحاول(نوزيك) في كتابه هذا ان يؤكد ان وجود الدولة ضروري بشرط ان تكون دولة محدودة، ويقتصر عملها على تقديم الحماية لحقوق الأفراد. يحاول(نوزيك) أن يثبت للأناركيين والميناركيين على حد سواء إِنَّ تلك الدولة المحدودة يمكن ان تنشأ وتتطور دون انتهاك لحقوق الأفراد- وهو ما ينكره الأناركيون – وان الشرط اللازم لذلك ان تكون تلك الدولة محدودة، أي أنَّ توسّع الدولة فيما وراء حدود حماية الحقوق يجعلها دولة غير شرعية، وتفتقر لكل مبرر أخلاقي لوجودها.( )
ويرى(نوزيك) في كتابه أنَّ (دولة الحد الأدنى) "التي يقتصر عملها على مهمات الحماية من القوة الغاشمة، والسرقة، والغش، وعلى تنفيذ العقود، وخلافه، هي دولة مبررة من الناحية الأخلاقية."( ) وتبرير(نوزيك) لدى الأناركيين غير كافٍ لإقناعهم حول وجود الدولة أخلاقيا، وبحسب رأي الأناركيين, إنَّ الليبرتاريين، المجتمع الأناركي الخالي من الدولة أفضل حالا من ذلك الذي يقع تحت سيطرة الدولة.( )ويسعى (نوزيك) الى ما هو اكثر من مجرد تبرير الدولة اخلاقيا فقط، وفي تفوق الدولة على الأناركيين يقول(نوزيك) "لو أننا استطعنا ان نثبت ان الدولة ستكون متفوقة على أفضل الأوضاع ألأناركية، وانها ستكون أفضل ما يمكن ان نأمل فيه على ارض الواقع، وانها ستنشأ وفقا لعملية لا تنطوي على اي خطوات غير مقبولة من الناحية الأخلاقية وان وجودها سيكون نوعا من التغيير للأحسن، فإن هذا من شأنه ان يؤخر الأساس المنطقي لوجود الدولة، اي بلفظ آخر، سيبرر وجود الدولة."( ) ويعد(نوزيك) مراحل نشأة الدولة التي يطرحها في كتابه مراحل افتراضية، لكن الغرض من عرض مثل هذا التصور الإفتراضي لنشأة الدولة هو اثبات إمكان ذلك بصورة شرعية ومبررة اخلاقيا، دون انتهاك لأي من الحقوق الطبيعية للأفراد، واثبات شرعية الدولة، وتنقسم عملية نشأة الدولة عند (نوزيك) الى أربع مراحل، اولاً: مرحلة حالة الطبيعية الأولى. ثانياً: مرحلة وكالات الحماية. ثالثاً: مرحلة دولة ما دون الحد الادنى. رابعاً: مرحلة دولة الحد الدنى.( ) ويرى(نوزيك) في مرحلة حالة الطبيعة الأولى: وتصوره عن نشأة الدولة بشكل شرعي من حالة الطبيعة الأولى كما تصوره(لوك)، يقول(جون لوك): وضع الأفراد في حالة الطبيعة الاولى:"هو وضع من الحرية التامة عند القيام بأعمالهم، والتصرف بأملاكهم وبذواتهم كما يرون، ضمن اطار سنة الطبيعة وحدها، ودون ان يحتاجوا الى اذن احد، او يتقيدوا بمشيئة اي انسان. وهو وضع من المساواة أيضا، إذ تتكافأ السلطة والسيادة كل التكافؤ، فلايكون حظ أحد منهما اكثر من حظ الآخر."( )
ويعيش الأفراد متمتعين بحقوقهم الطبيعية، ومن بين حقوقهم تلك حق الدفاع عن النفس.( ). ويرى (نوزيك) في مرحلة وكالات الحماية، أنَّه يمكن القول إنَّه مع تعدد وكالات الحماية، وتنوع الخدمات المقدمة، وفي ظل حقيقة ان كل وكالة تدافع عن حقوق عملائها، وتعمل لما يحقق أكبر حماية لهم من اي اعتداء خارجي، تظهر الخلافات فيما بين الوكالات، وقد يرى(نوزيك) أنَّه لا حل لها إلا من خلال احدى طريقتين: إما بالقوة والعنف، او بالتقاضي. ونظرا لحرص جميع الوكالات على إستقطاب العديد من العملاء ورغبتهم في إظهار قدرتهم على حل جميع المشكلات بسهولة وسرعة فإنهم سيفضلون الحل الخاص بالتقاضي، ومن هنا تنشأ جهات قضائية مستقلة للفصل فيما بين الوكالات.( ) ويقول(نوزيك)"لما كانت وكالة الحماية المهيمنة ترى ان إجراءاتها موثوق بها ونزيهة، فإنَّ وكالة الحماية المهيمنة سوف تتصرف بحرية وفقا لفهمها هي للموقف، بينما لن يستطيع غيرها ان يفعل مثلها دون ان يعاقب. ومع انها لم تدع لنفسها أي حق احتكاري، فإنها وتحتل مكانة فريدة بحكم قوتها. ففعلها ليس احتكارا بحكم القانون, لعدم كونه نتيجة منحة خاصة لتلك الحماية للتمتع بحق حصري, في حين يتم حرمان الآخرين من التمتع بهذا الحق نفسه. ويمكن لوكالات الحماية الأخرى ان تدخل السوق وتحاول إزاحة العملاء بعيدا عن وكالة الحماية المهيمنة. ولها ان تحاول ان تأخذ مكانها كوكالة مهيمنة.( ) وبحسب رأي(نوزيك) في تحديد مرحلة دولة(ما دون الحد الأدنى). لهذه الدولة لاتعد دولة بالمعنى المعروف، لأنها لم تحقق الإ شرطا واحدا من شرطي الدولة اللذين وضعهما، يقول (نوزيك) "(ما دون الحد الأدنى) تحتكر وحدها كل استخدام للقوة، عدا ما يكون ضروريا – في حينها- للدفاع عن النفس، وتمنع الأفراد او الوكالات من الرد على الخطأ أو انتزاع اي تعويضات، الا انها لا تقدم خدمات الحماية والتنفيذ الا لهولاء الذين يدفعون مقابل سياسات الحماية والتنفيذ الخاص بها.( ) ويرى(نوزيك) ان ذلك النوع من التوزيع المالي لا يعد انتهاكا لحقوق الأفراد، لأنه مقابل خدمات سيحصلون عليها، ولا يوجد في ذلك اي نوع من التضحية، فمن يدفع مقابل ان تمنع الوكالة الآخرين من غير عملائها من تطبيق حقوقهم بأنفسهم عليه يحصل على حماية أكبر. ومن لايدفع يحصل على الحد الأدنى من الحماية دون ان تمنع الوكالة الأخرين من تطبيق حقوقهم بانفسهم عليه. اي ان المسألة ستتم صياغتها بشكل تجاري بحت.( ) اما في (مرحلة دولة الحد الأدنى) في حال قيام وكالة الحماية المهيمنة (دولة ما دون الحد الادنى) يمنح حمايتها لجميع من يعيشون في نطاقها فقد أصبحت دولة الحدِ الأدنى في رأي(نوزيك)"هي الوحيدة التي تفرض على الآخرين حظرا عاماً على أستخدام الإجراءات التنفيذية المشكوك فيها. وتقوم الوكالة في منطقتها بحماية من ليسوا عملاء لها بعد ان قامت بمنعهم من الإعتماد على انفسهم في تطبيق إجراءاتهم على عملائها في تعاملهم معهم حتى إن كان تمويل تلك الحماية (بأسلوب اعادة توزيع واضح) من خلال عملائها. ومن الضروري أخلاقيا ان يتم ذلك وفقا لمبدأ التعويض.( ) ويرى(نوزيك) انه بهذا الشكل تكون دولة الحد الأدنى قد نشأت من داخل الحالة الطبيعية الأولى دون ان يتم انتهاك حقوق اي فرد. وسيكون التوزيع العادل عندئذ ذلك الذي ينتج عن التبادل الحر بين الأفراد. فكل توزيع يتأتى من وضع عادل، من خلال تبادل حر للممتلكات يكون عادلا. وتخالف الدولة مقتضى العدالة عندما تفرض ضرائب على المبادلات برغم أنف المستفيدين من التبادل الحر للسلع و المنتجات، وسيظل ذلك مخالفا للعدالة حتى إن استخدمت أموال تلك الضرائب في تعويض للأشخاص المبتلين بعاهات طبيعية، لا حول لهم فيها ولا قوة، عما يعانونه. فالإقتطاع الضريبي الوحيد المشروع ، وفق هذه الوجهة، هو ذاك الذي يتمكن من توفير موارد لتمويل المؤسسات الضرورية لحماية نظام التبادل الحر، كأجهزة الأمن والقضاء التي تسهر على حماية حريه التبادل بين الأفراد.( ) في حال انتهاك حقوق الأفراد، فهو يرى(نوزيك) أنَّ" فرض الضرائب على أرباح العمل يعد هو والسخرة شيئاً واحداً. فالإستيلاء على الأرباح الناتجة عن(س) من ساعات عمل انسان مثل الإستيلاء على(س) من وقته، مثل إجبار الإنسان على العمل لمدة(س) من الساعات لصالح انسان آخر.( )" في مكان آخر وراء هذه الأفكار ومن جانب أخر تكملة لأفكار بالقول الإستيلاء على نتاج عمل شخص ما يساوي الإستيلاء على جزء من وقته، وجعله يواصل إنجاز عدد من ألأنشطة. فإذا قامت مجموعة من الناس بإجبارك على القيام بعمل معين، او عمل بلا اجر، لفترة زمنية محددة. فهم يقررون لك ما تفعله، ويحددون لك الغايات التي لابد ان تعمل لتحقيقها، بغض النظر عما تريده أنت. وخلال تلك العملية يسلبونك سلطة اتخاذ القرار، ويجعلون انفسهم ملاكا لك بصورة جزئية، اي انها تمنحهم حق الملكية لشخصك.( ) إنَّ دولة الحد الأدنى، هي الوحيدة التي تمنحنا القدرة على اللحاق باحلامنا وتحقيق أهدافنا، وصنع الحياة المثالية التي نصبو اليها. يقول (نوزيك) إنَّ دولة الحد الأدنى تعاملنا كأفراد لهم حرمة وحصانة، بحيث لا يجوز استخدامهم من قبل غيرهم كوسائل او أدوات أو آلات أو مواد، انها تعاملنا كأشخاص يملكون حقوقا فردية ولهم كرامة. تعاملنا باحترام عبر احترام حقوقنا ، فتسمح لنا – فرادى أو مع من نريد – ان نختار حياتنا، وان نحقق اهدافنا وما نصبو اليه لأنفسنا، بقدر ما نستطيع ومن خلال المساعدات المقدمة لنا عن طريق التعاون الطوعي مع سائر الأفراد الذين لهم كرامةبالمثل.( )

المطلب الخامس: الحجج و النقد المتبادل بين (رولز) و(نوزيك) حول تدخل الدولة في السوق
من الناحية العملية، يبدو لنا أنَّ مواقف(رولز) و(نوزيك)، في هذا الشأن متعارضة. ان(رولز) الليبرالي، القائل بدولة الرفاه العام، و(نوزيك) الليبرالي المحافظ، يحددان معا أوضح البدائل التي يمكن ان توفرها الأجندة السياسية الأمريكية حاليا. وهي في الأقل ما يخص المسائل المتصلة بالعدالة التوزيعية. ومع ذلك, ومن الناحية الفلسفية، فإن المفكرين يشتركان في الكثير من الأمور, إذ يعّرف كل منهما موقفه على أنه جاء ليعترض صراحة على المذهب النفعي بوصفه مذهبا ينكر التمييز بين الأشخاص، ويقترح كل منهما أخلاقا قائمة على الحقوق بوصفها الأكثر ضمانا لحرية الأفراد.( )
ويشدد(رولز) كما سبق– على ضرورة ان يأخذ التوزيع العادل في الإعتبار الإختيارات الفردية. غير ان ذلك لا يمثل بالنسبة لهما الا شطر الحكاية. ولابد للتوزيع العادل ان يكون مهتما بإختلاف التطلعات، مثلما هو الأمر لدى (نوزيك) فليس من المنصف ان يهلك جوعا من أضرت بهم القسمة الطبيعية فقط, لأنه لا يوجد بين أيديهم ما يقدمونه للآخرين في صفقة تبادل حر، أو أن يحرم اطفال من التعليم أو الرعاية الصحية لأنهم ولدوا في عائلة فقيرة. فلأمر كهذا ، دعا المساواتيون الليبراليون الى إخضاع المبادلات الحرة للضرائب حتى يحصل من لحق بهم ضرر سواء من الطبيعة أو من المجتمع، على تعويض.( ) ولهذا السبب ففي نظرية (رولز)لا يحق لأحد التمتع بمؤهلاته الا متى استفاد منها المتضررون. ووفق(نوزيك) لا تستطيع هذه التصورات الليبرالية ان تعامل الأفراد بما هم سواسية أو بما هم غايات في ذواتهم، ما دامت تحول جزءا من هويتهم (أي مؤهلاتهم الطبيعية) الى موارد عمومية فإذا كنت مالكا لذاتي لايستطيع الأشخاص الذين اجحفت الطبيعة في حقهم أن يتقدموا بأي طلب مشروع يتعلق بمؤهلاتي الخاصة.( )
وفي إطار نظريته يمكن ان نلخص حجة (نوزيك) في اطروحتين: إحداهما: اعادة التوزيع(الرولزي) (أو اي تدخل قسري للدولة في المبادلات التجارية)التي لا تنسجم مع الإقرار بمبدأ ملكية الذات لذاتها، والراسمالية غير المقيدة هي التي تحترم ذلك المبدأ. والأخرى يُعَّد: الإعتراف للأفراد بحقهم في ملكية ذواتهم أمر ضروري ان كنا نريد معاملتهم كسواسية. وينطلق التصور(النوزيكي) من الحقوق التي يمتلكها الأفراد على ذواتهم، الا ان لهذه الحقوق مفاعيل كما يشير(نوزيك)، على صعيد الحق في الموارد الخارجية، وهي مفاعيل تناقض مبدأ اعادة التوزيع الليبرالي. وبرؤية(نوزيك) لما هو الأغلى ثمنا في الحياة. واذا أعدنا صياغة مفهوم ملكية الذات للملكية ذاتها لنجعل من مفهومها تصورا أكثر انسجاما مع مفهوم المساواة، واعتمدنا نظاما اقتصاديا يقوم على هذه القاعدة، سنجد انفسنا عندئذ نقترب من العدالة الليبرالية أكثر مما نبتعد عنها.( ) وفي مسألة الحرية واختيار الأفراد، وفي هذا الصدد يرى(نوزيك) ان الفروقات تعود الى اختيارات الأفراد، الى الحد الذي يكون فيه الأفراد احرارا في خياراتهم، وتكون الفروقات في السوق الحر امرا حتميا. وفي رأي(نوزيك) ان هذا الإختلاف ليس طبيعيا فحسب، بل بالعكس، إنًّ أيّة محاولة من قبل الدولة لتصحيح هذا الميزان غير المتوازي لتوزيع الثروة في المجتمع، هي امر غير منصف.( )
وبخلاف من(رولز) يرفض(نوزيك) تدخل الدولة لإعادة توزيع الثروة بذريعة وجود التوزيع الإعتباطي للمواهب الطبيعية والمنشأ الإجتماعي للأفراد في المجتمع. ويرى ان الفرد لديه حق الملكية على ذاته وقدراته ولديه الحق ان يستفيد من الفرص و الحظوظ المناسبة التي تتاح له في حياته – مثل الولادة في اسرة ثرية أو بلد غني – وبحسب رأي(نوزيك) فإنَّه اعترف بأَهمية دور(رولز) في الفكر السياسي المعاصر و أعجب بعمله وقوته الا انه رفض ما تنطوي عليه نظرية (رولز) في العدالة من تاييد لدولة الرفاهية التي تنتهج سياسات لأعادة توزيع الثروة في المجتمع على احتساب ان الثروة نتاج اجتماعي وليست نتاجاً فردياً.( ) ويقدر(نوزيك) ان البند (اللوكي) سهل الإرضاء وان القسط الأكبر من العالم سيتحول سريعا الى ملك خاص. فعلى هذا النحو، تفضي ملكية الذات لذاتها الى حقوق ملكية مطلقة للعالم الخارجي, فلكون التملك الأول يتضمن الحق في النقل الحر للملكية، فاننا سنشهد, على نحو مبكر، نشوء سوق للموارد ونشهد تطور سوق للعمل.( )
ولما ان الأفراد مالكين شرعيين في الوقت نفسه لقدراتهم وللممتلكات التي يدرجونها في عمليات التبادل التجاري. فبحسب رأي(نوزيك) سيكون لهم الحق في التمتع بالفوائد التي يجنونها من هذه المبادلات. وختاما، ولما ان للأفراد الحق المشروع في التمتع بهذه الفوائد ، سيكون في كل عملية اعادة توزيع للثروات، تنظمها الدولة لفائدة من هم الأقل امتيازا، انتهاكا لحقوقهم. إذ سيعني ذلك استخدام بعض الأشخاص كموارد في مصلحة غيرهم.( ) وفي ارائه هناك مشكل آخر يطرحه بند (نوزيك) فيمنع المرور من ملكية الذات لذاتها الى الرأسمالية غير المقيدة. و لنعد تلخيص إحدى حججه التي تعيد أنَّه حينما يحصل الأفراد على ملكية يصبح خلق سوق لرؤوس الأموال وللعمل ضرورة اخلاقية.( ) ويعتقد(نوزيك) ايضا ان مبدا ملكية الذات للملكية ذاتها يقتضي ان يكون للأفراد الحق التام في كل الإمتيازات التي يحصلون عليها من خلال التبادل السلعي، ويتوقف على طبيعة النظام الإقتصادي المعتمد، وعلى مايسمح للأفراد ان يحتفظوا به لأنفسهم من امتيازات. تسمح للموهوبين باستخدام امتيازاتهم الطبيعية لحيازة اجزاء كبيرة من العالم الخارجي. في حين يعيد البعض الآخر توزيع الأرباح التجارية لضمان تمكين الأشخاص الأقل امتيازا من الموارد الطبيعية بالتساوي مع غيرهم (مثلما هو الحال مع رولز). وينسجم مبدأ ملكية الذات للملكية ذاتها مع جميع هذه الخيارات.( )
وحجج(نوزيك) أن اختيار نظام اقتصادي ما لابد ان يتم، بقدر ما امكن، بموافقة أفراد مالكين لأشخاصهم. وكذلك يمكنه ان يدعي أنَّ هؤلاء الأشخاص لو تيسر لهم الإختيار لأختاروا نظاما ليبرتارينيا. صاغه(نوزيك)، كما رأينا – على فرضية ان آمي ليست في حاجة لموافقة بان, فكل فرد سيجد نفسه احسن حالا داخل هذا النظام الإقتصادي او ذاك. ويمنح بعدئذ موافقته الى النمط الإقتصادي الذي يناسبه اكثر من غيره. و يمكن ان يسعى الى الحصول على موافقة بالإجماع، وذلك بالبحث عن صيغة لوفاق يتم وراء حجاب الجهل، مثل ما هو الشأن لدى(رولز)، غير ان ذلك لا يساعد(نوزيك)أبداً، إذ كما رأينا ستكون لوفاق كهذا نتائج ليبرالية وليست ليبرتارينية.( ) ومن جانب آخر يرى(رولز) ويرفض الرأي القائل أن تنظيم المؤسسات دائما مختل ومعيب لأن توزيع المواهب الطبيعية وظرفية الشروط الأجتماعية غير عادلين، وهذا الظلم يمتد حتما على الترتيبات البشرية.بين الحين والاخر وكأن رفض الخضوع للظلم معادلا لعدم قبول الموت لا يعد التوزيع الطبيعي عادلا ولا ظالما وهناك ببساطة وقائع طبيعية وما هو عادل أو غير عادل بالطريقة التي تتعامل بها المؤسسات مع هذه الوقائع.( ) ويرى(رولز) أنَّ الدولة امام مسؤولية"أن اللامساوات غير المستحقة تستدعي الأصلاح، وبما ان اللامساوات الناتجة عن الولادة وعن الموهبة الطبيعية غير مستحقة، فلا بد من التعويض عنها بطريقة ما. ومن ثمَّ ينص المبدأ انه من اجل معاملة الجميع بالتساوي لتقديم مساواة أصلية تتعلق بالفرصة، يجب ان يعير المجتمع اهتماما اكبر بأولئك الذين لديهم موجودات فطرية أقل وبأولئك المولودين في مواقع اجتماعية اقل تميزا."( )

الخاتمة و الإستنتاجات:
إنَّ أهم الإستنتاجات التي توصل اليها هذا البحث، هي أنَّ الدولة بوصفها مؤسسة سياسية وحيدة ذات سيادة وقوة شرعية تمتلك سلطة كاملة وواسعة على المجالات المختلفة في المجتمع. لذلك إن تدخل الدولة أو عدم تدخل الدولة او دولة الحد الأدنى في تدخله، سواء كان مباشراً أو غير مباشر، سوف يؤثر على كيفية توجيه تلك المجالات. وفي هذا المسار فإنَّ معظم المذاهب الفكرية المختلفة متفقة على ضرورة الوظائف الأساسية للدولة. لكَّن المسألة أصبحت سببا لإشكاليات كبيرة واختلافات في الآراء حتى في المذهب الواحد مثل الليبرتاريين من جانبي: الأناركيين والميناركيين, يختلفون في تدخل الدولة وقيامها بمجموعة من الأعمال تسمى الوظائف غير الأساسية. وعلى الرغم من وجود اختلافات في الظاهر بين اتجاه(رولز) و(نوزيك) حول موضوع تدخل الدولة، وتأكيد (رولز)عدم حصر وظائف الدولة في الوظائف الأساسية وتاييد تدخل الدولة، فإنَّ الجهة المقابلة، رفض تدخل الدولة من قبل(نوزيك) وأيد حصر وظائف الدولة في الوظائف الأساسية، ولكن مع ذلك في المحتوى يلتقي الإتجاهان في موضوع تدخل الدولة في اطاره العام وهو رفض التدخل الكامل للدولة وعدم التدخل المطلق لها. ودولة الرفاه يطرحه(رولز) مقابل دولة الحد الأدنى لدى(نوزيك). لكَّن ما يريده الأتجاهان في الواقع ليست هذه الأشكال من الدولة. بل ما يريدانه هو دولة اكثر من الدولة المحدودة بقليل. لكَّن مهمات الدولة ليست مهمات المفكرين في اكثر من حالات الحياة الطبيعية للدولة.

المصادر و المراجع:
أولاً: الكتب:
1- أمارتيا سن: فكرة العدالة، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2010.
2- إمانوئيل كانط: مشروع السلام الدائم، ت: عثمان أمين، دار المدى للثقافة والنشر، 2007.
3- جون رولز: العدالة كانصاف – اعادة صياغة، ترجمة: حيدر حاج اسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت ، 2009.
4- جون رولز: نظرية في العدالة، ت: ليلى الطويل، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2011 .
5- جون لوك: في الحكم المدني ، ت:ماجد فخري ، اللجنة الدولية لترجمة الروائع، بيروت ، 1959 .
6- حمدي مهران: الفرد والسلطة في الأيدولوجية الليبرتارية: دراسة تحليلية نقدية، دار قناديل للنشر والتوزيع، بغداد ، 2018 .
7- مايكل ج. ساندل: الليبرالية وحدود العدالة، ت: محمد هناد، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009 .
8- ويل كيملشكا: مدخل الى الفلسفة السياسية المعاصرة، ت: منير الكشو، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2010.
ثانياً: أطروحة أو رسالة:
9- شهاب احمد عبدالله:" مفهوم العدالة في النظرية اللبرالية المعاصرة"، دراسة في الإتجاهات (المساواتية واللبرالية الجماعاتية),(رسالة ماجستير غير منشورة)، جامعة السليمانية، 2017.
10- هونر احمد كريم:" اشكالية تدخل الدولة في الفكر الليبرالي المعاصر": دراسة تحليلية مقارنة، (رسالة ماجستير غير منشورة), كلية علوم السياسة ، جامعة السليمانية ، 2018 .
ثالثاً: موسوعة و المعاجم:
11- روزنتال ، يودين: "الموسوعة الفلسفية "، ت: سمير كرم، ط الخامسة، دار الطليعة للطباعة و النشرن , بيروت ، كانون الثاني 1985.
1- 12- "Oxford Advanced Learners Dictionary" , art: Libertarian , Liberty , 9th ted , on DVD and online, Oxford University Press, Oxford , No, .
رابعاً: الكتب الانكلزية:
1- 13- Robert Nozick : Anarchy , state and Utopia ,black well publishers, ltd, Oxford, 1999.
خامساً: الرابط الالكترونية:
14- عبدالله السيد ولد اباه: نظرية العدالة لدى جون رولز: الإطروحة و نقادها، طولان، تأريخ النشر: 23/12/ 2010، تاريخ الزيارة 20/ 11/ 2019، على الموقع https://www.gulan - media .com ) /Arabic/-print-. Php? id = 63 §ion=5 )