الأزمة المتكاملة في الولايات المتحدة وصنمية النقاء
دلير زنكنة
2024 / 7 / 1 - 10:13
بقلم: كارلوس إل غاريدو
ترجمة بتصرف من الإنكليزية : دلير زنگنة
12/04/2024
محاضرة في الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك
تقول الولايات المتحدة للعالم ومواطنيها إنها أعظم دولة على هذا الكوكب، حيث تسود الحرية والديمقراطية، وحيث يوجد الحلم الأمريكي الذي يمنح الجميع الفرصة لعيش حياة "الطبقة الوسطى" المزدهرة في منازل مسيجة باللون الأبيض وسيارتين. ولكن بالنسبة للجماهير العمالية الأميركية، كما أشار الممثل الكوميدي و الناقد العظيم جورج كارلين، "يسمى الحلم الأميركي لأنه حتى تصدقه ، يتعين عليك أن تكون نائماً". عندما يستيقظون، فإن ما تعيشه الجماهير الأمريكية هو الكابوس الأمريكي؛ حياة تعاني من ركود الأجور والتضخم وأشكال مختلفة من الديون المعوقة. في عصر الإمبراطورية المتدهورة، يجد سكان عرين الوحش على نحو متزايد أن ظروفهم لا تطاق. إن ما تعيشه الطبقة العاملة الأمريكية هو عصر أزمة شاملة اخترقت جميع مجالات الحياة الرأسمالية.
الظروف الموضوعية في الولايات المتحدة
هناك مجموعة من العوامل في الولايات المتحدة التي، عند تحليلها بشكل شامل، تشير إلى وجود ظروف ثورية موضوعية. لا توجد ولاية في البلاد يكفيها الحد الأدنى الفيدرالي للأجور (7.25 دولار) للبقاء على قيد الحياة؛ وحتى لو تم رفعه إلى 15 دولارًا، كما دعا الديمقراطيون الاشتراكيون وغيرهم من التقدميين، فإنه في أي مكان في البلاد ، لن يكون كافيًا لعائلة من الطبقة العاملة للبقاء على قيد الحياة. ومع ركود الأجور وارتفاع التضخم إلى أعلى مستوياته منذ 40 عاما، فإن ما يقرب من 60% من الأميركيين يعيشون حاليا من راتب إلى راتب. العديد من هؤلاء هم على بعد راتب واحد من الانضمام إلى 600 ألف شخص بلا مأوى يجوبون بلدًا به أكثر من 17 مليون منزل فارغ. وليس من المستغرب، في بلد حيث عدد المنازل الفارغة أكبر بثلاثة وثلاثين مرة من عدد المشردين، أن يعاني 34 مليون شخص، بما في ذلك واحد من كل ثمانية أطفال، من الجوع في حين يتم إهدار ما بين 30% إلى 40% من الإمدادات الغذائية في البلاد كل عام.
وبينما أصبح من الصعب على الأميركيين من الطبقة العاملة البقاء على قيد الحياة، اضطر المزيد والمزيد إلى اللجوء إلى الاقتراض. حاليًا، لدى المواطن الأمريكي العادي "ديون بقيمة 53000 دولار في شكل قروض منزلية، و قروض ائتمان على المنزل، وقروض السيارات، وديون بطاقات الائتمان، وديون قروض الطلاب، وديون أخرى". علاوة على ذلك، ولأن الولايات المتحدة هي الدولة المتقدمة الوحيدة في العالم التي لا تتمتع برعاية صحية شاملة، فقد أدى تحويل الطب إلى سلعة إلى ترك أكثر من نصف الأميركيين في ديون طبية معوقة للغاية تمنع العديدين منهم من "شراء مسكن أو الادخار من أجل التقاعد". وقد وصف ماركس ظاهرة مديونية الفقراء بالاستغلال الثانوي، الذي يحدث بعد لحظة الإنتاج. ومع تعرض الطبقة العاملة، بشكل عام، لكلا النوعين من الاستغلال (أي الاستغلال الذي يحدث في لحظة الإنتاج والاستغلال الذي يحدث لاحقًا، والذي يتخذ شكل الدين)، لأول مرة في التاريخ، الطبقة العاملة في الإمبراطورية في مجملها تتعرض للاستغلال المفرط ـ وهي الظاهرة التي لم تحدث في السابق إلا على أطراف الإمبراطورية و عند المجموعات المضطهدة (على سبيل المثال، الأميركيين من أصل أفريقي والمجتمعات الأصلية).
يمكن رؤية انحطاط الإمبراطورية الأمريكية في أفق مدنها وبلداتها، حيث ما يجده المرء هو البنية التحتية المتهالكة المصنفة "D" (حسب المقياس المكسيكى ستكون 6)، والمدن التي يسكنها في كثير من الأحيان زومبي المدمنين على المخدرات الذين خلقهم المجمع الصناعي الطبي الدوائي. وفي حين يذهب أكثر من نصف الإنفاق الفيدرالي إلى بناء أغلى جيش في العالم (حيث ينفق أكثر من الدول العشر التالية مجتمعة)، فإن العديد من المدن الأمريكية، التي يسكنها الملايين من الأمريكيين، تفتقر إلى القدرة على الوصول إلى مياه الشرب النظيفة. وبالإضافة إلى ذلك، تشهد الولايات المتحدة "انخفاضاً تاريخياً" في متوسط العمر المتوقع؛ لدرجة أن المواطن الكوبي العادي اليوم، على الرغم من ستة عقود من الحصار غير القانوني والحروب المختلطة ضد مشروعه الاشتراكي،يعيش ثلاث سنوات اكثر من الأميركي العادي.
تتفاقم الصعوبات التي يواجهها الشعب الأمريكي بسبب تجربة العيش في واحدة من أكثر المجتمعات عدم مساواةً اقتصاديًا في تاريخ البشرية، حيث حتى بالارقام المحافظة، فإن "أغنى 0.1٪ لديهم تقريبًا نفس حصة الثروة التي يتمتع بها أفقر 90% من الناس." وفي الولايات المتحدة، يمتلك أغنى 59 أميركياً ثروة تفوق ما يمتلكه النصف الأفقر من السكان (165 مليون شخص). وفي حين يكافح أغلب الأميركيين من الطبقة العاملة لتلبية احتياجاتهم اليومية، فإن أغنى المحتكرين في البلاد ــ أولئك الذين يسيطرون على ما نشاهده، ونشتريه، ونأكله ــ أصبحوا أكثر ثراء من أي وقت مضى. وفي خضم هذه الوفرة من الثروة لدى النخبة، يموت أكثر من 60 ألف أميركي سنوياً بسبب نقص التأمين الصحي.
لكن الأزمة التي يواجهها معظم الأميركيين لا تقتصر على أوضاعهم الاقتصادية. بل هي أزمة متكاملة امتدت إلى كافة مجالات الحياة، معبرة عن نفسها من خلال أمراض نفسية و اجتماعية عميقة. ويمكن ملاحظة ذلك في الملايين المتأثرين بوباء المواد المخدرة (الذي يقتل 70 ألف أميركي سنويا)؛ وارتفاع معدلات جرائم العنف وإطلاق النار في المدارس؛ وفي أزمة الصحة العقلية التي يعاني فيها ما يقرب من ثلث البالغين في الولايات المتحدة من الاكتئاب والقلق.
وعلى مدار أكثر من عقد من الزمان، أكدت دراسات المؤسسات البرجوازية ما عرفه الماركسيون منذ منتصف القرن التاسع عشر - أن "الدولة الحديثة" ليست سوى مؤسسة لإدارة الشؤون المشتركة للبرجوازية". لقد أثبتت الولايات المتحدة، التي تنشر أيديها الملطخة بالدماء في جميع أنحاء العالم للنهب باسم الديمقراطية، أنها المكان الذي لو ملك فيه ديموس (الناس العاديون) أي شيء فانه ليس السلطة ( كراتوس ). وكما تظهر الدراسة التجريبية التي أجراها مارتن جيلينز وبنجامين بيج:
"في الولايات المتحدة، تشير النتائج التي توصلنا إليها إلى أن الأغلبية لا تحكم، على الأقل ليس بالمعنى السببي المتمثل في تحديد نتائج السياسة فعليا. فعندما يختلف غالبية المواطنين مع النخب الاقتصادية أو المصالح المنظمة، فإنهم عادة ما يخسرون. علاوة على ذلك، وبسبب الانحياز القوي للوضع الموجود ،المتأصل في النظام السياسي الأميركي، فحتى عندما تؤيد أغلبية كبيرة من الأميركيين تغيير السياسات، فإن [النخب ]عادة لا تقبله ."
وبعيداً عن كونها "منارة للديمقراطية" كما تزعم، فإن ما في الولايات المتحدة هو "ديمقراطية لأقلية ضئيلة، ديمقراطية للأغنياء"، وهو جوهر الديمقراطية البرجوازية. أو على حد تعبير لوبيز أوبرادور، فإن ما يهيمن في الولايات المتحدة هو حكم الاوليغاركية بواجهة من الديمقراطية. ومع ذلك، فإن الشعب الأمريكي، المثقل بظروف الإمبريالية المحتضرة، ظل يمشي خلف الأكاذيب التي ينشرها النقاد والأيديولوجيون للحفاظ على هيمنة البرجوازية. تتمتع الولايات المتحدة بأحد أدنى معدلات إقبال الناخبين في العالم المتقدم؛ ولا يشارك حوالي 40 في المائة من السكان المؤهلين في الانتخابات الرئاسية، وفي الانتخابات المحلية يرتفع هذا العدد إلى حوالي 73 في المائة. إن أكثر من 60% من الأميركيين غير راضين عن نظام الحزبين ومستعدون لبدائل الطرف الثالث، ونحو 20% فقط يوافقون على ما يفعله الكونجرس. وبطبيعة الحال، من الصعب المشاركة في عملية سياسية لا يشعر فيها المرء بأنه ممثل. ومع ذلك، فقد رد كلا حزبينا الإمبرياليين على هذا السخط العام من خلال قمع حقوق التصويت وإمكانية مشاركة أطراف ثالثة في الاقتراع. فضلاً عن ذلك فإن 11% فقط من الأميركيين يثقون بوسائل الإعلام، والتي تم دمج 90% منها تحت سيطرة ست شركات. بالنظر إلى حالة الشعب الأمريكي، ليس من المستغرب أنه على الرغم من الموارد التي لا تعد ولا تحصى المخصصة للدعاية للسكان ضدها، فإن أكثر من 40٪ من البالغين لديهم وجهة نظر إيجابية عن الاشتراكية، وبين جيل الألفية، تظهر استطلاعات الرأي أن 70٪ سيصوتون لصالح مرشح اشتراكي.
في كُتيبه "انهيار الأممية الثانية" يتساءل لينين: "ما هي، بشكل عام، أعراض الوضع الثوري؟" وإجابته هي الأعراض الثلاثة التالية: "(1) عندما يكون من المستحيل على الطبقات الحاكمة أن تحافظ على حكمها دون أي تغيير؛ عندما تكون هناك أزمة، بشكل أو بآخر، بين "الطبقات العليا"، أزمة في سياسة الطبقة الحاكمة، مما يؤدي إلى صدع يندلع من خلاله استياء وسخط الطبقات المضطهدة، لكي تحدث ثورة، لا يكفي عادة أن "الطبقات الدنيا لا تريد" أن تعيش حسب الطريقة القديمة، من الضروري أيضًا أن "تكون الطبقات العليا غير قادرة" على العيش بالطريقة القديمة؛ (2) عندما تصبح معاناة وبؤس الطبقات المضطهدة أكثر حدة من المعتاد؛ (3) نتيجة لذلك؛ للأسباب المذكورة أعلاه، هناك زيادة كبيرة في نشاط الجماهير..." ويخلص لينين إلى أنه "بدون هذه التغييرات الموضوعية، المستقلة عن إرادة، ليس فقط الجماعات والأحزاب الواحدة ، بل حتى الطبقات الواحدة، الثورة، كقاعدة عامة، مستحيلة."
تشكل هذه الظروف العوامل الموضوعية التي يمكن العثور عليها بشكل عام في الثورة الاجتماعية. لقد رأينا في التقييم أعلاه كيف تعاني الجماهير الأمريكية أكثر من المعتاد، وعلاوة على ذلك، كيف أظهرت استطلاعات الرأي تلو الأخرى أنهم ليسوا على استعداد لمواصلة العيش كما كان من قبل (على سبيل المثال، الرفض الهائل للكونغرس ونظام الحزبين ). لقد تحولت هذه الظروف إلى ما أسماه غرامشي "أزمة السلطة"، أي لحظة الأزمة حيث "فقدت الطبقة الحاكمة إجماعها ولم تعد "الزعيمة" بل "المهيمنة" فقط. كما قال في عبارته الشهيرة. "تتكون الأزمة على وجه التحديد من حقيقة أن القديم يموت والجديد لا يمكن أن يولد؛ وفي هذه الفترة الفاصلة تظهر مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأعراض المرضية."
ومع ذلك، فإن استياء الجماهير وعدم قدرتها على العيش بالطريقة القديمة، كما أشار لينين، لا يستنفد جميع الشروط اللازمة لوضع ثوري موضوعي؛ أولاً، يجب ألا تكون الجماهير غير راضية عن فكرة الاستمرار في العيش كما كان من قبل فحسب، بل يجب عليها أيضًا أن تظهر استعدادًا للتحرك، وثانيًا، يجب أن تهتز الطبقة الحاكمة نفسها بسبب الأزمة وفي وضع لا يمكنها هي أيضًا الاستمرار في الحكم كما كان من قبل.
ويمكن رؤية استعداد الجماهير الساخطة للتحرك في أماكن مختلفة: بدءًا من انتفاضات صيف عام 2020، حيث احتج ما بين 25 إلى 35 مليون أمريكي على مقتل جورج فلويد؛ إلى موجة اضرابات اوكتوبر "Striketober" لعام 2021 حيث أضرب مئات الآلاف من العمال؛ إلى الجهود الضخمة لتشكيل النقابات من العمال في ستاربكس وأمازون وغيرها من الصناعات. وكما رأينا في الأشهر الأخيرة، استعداد النقابات الكبيرة مثل تيمستر و اتحاد عمال السيارات UAW للإضراب لتلبية مطالبهم. في حين أن أعضاء تيمستر لم يضطروا إلى الإضراب ضد UPS للفوز بعقد تاريخي، فإن UAW يهاجم حاليًا نقاط الضغط في رأس المال بما يسمونه بالإضراب التصاعدي ، وهو أحد أكثر التكتيكات براعة للنقابات المناضلة . من المهم أن نلاحظ أنه في كل هذه النضالات هناك وعي ذاتي لدى الطبقة العاملة لنفسها كطبقة، طبقة تجد نفسها في موقف عدائي تجاه رؤسائها و دُماها من السياسيين. وفي حين أن النادي القديم للأرستقراطية العمالية لا يزال قائما وملتزما بالحزب الديمقراطي، فإن المناضلين العماليين الشباب يقاتلون كما لم نشاهدهم يقاتلون منذ الثلاثينيات، عندما قاد الشيوعيون نقابات مثل CIO. تمثل هذه الحركة المادة الخام التي يمكن لمنظمة ثورية أن تشكل بها صراعًا جماهيريًا ناجحًا من أجل السلطة.
هل هزت أي من هذه الظروف الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة؟ هل يجدون أنفسهم غير قادرين على الحكم بالطريقة القديمة؟ يجب أن تكون إجابتنا نعم مدوية! لقد اعتادت الإمبراطورية الأمريكية، بقواعدها الـ 900 حول العالم، على الإطاحة بالحكومات خارج نطاق نفوذها الإمبراطوري بسهولة نسبية. في المجتمع الدولي، وخاصة بعد الإطاحة بالاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية لأوروبا الشرقية، حققت هيمنة عالمية لا مثيل لها، لم تواجهها إلا كوبا وجمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية في التسعينيات. ومع ذلك، فإن كل الأشياء في هذا العالم في حالة تغير مستمر، وعاجلاً أم آجلاً، كان من المتوقع أن تنتهي "نهاية التاريخ" وأن يتم تحدي الأحادية القطبية الإمبريالية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. إنه عصرنا الذي يتسم بازدهار عالم متعدد الأقطاب، وهو العصر الذي يشهد انهيار إمبراطورية الولايات المتحدة، ومعه قدرة حكامها على "الحكم بالطريقة القديمة".
إذا كانت الدولة الأمريكية، وهي أداة لرأس المال الاحتكاري الأمريكي و المالي الدولي، غير قادرة على الحكم دوليا كما اعتادت أن تفعل، أي إذا كانت غير قادرة على مواصلة مصادرة الملكية والاستغلال المفرط لشعوب العالم، فهذه ليست مجرد أزمة سياسة خارجية، بل أزمة اوضاع متكاملة.
ومن محاولات الانقلاب الفاشلة في نيكاراغوا وفنزويلا وكوبا وغيرها من الدول؛ والحروب الفاشلة بالوكالة ضد روسيا والصين؛ نمو مجموعة البريكس+؛ لقد أصبح من الحقائق التي لا يمكن إنكارها أن الطبقة الحاكمة لا يمكنها الاستمرار في الحكم بالطريقة القديمة، وأن عصر الأحادية القطبية الإمبريالية الأمريكية قد انتهى. ومع استمرار العالم في التوجه نحو الصين من أجل علاقات متبادلة المنفعة في التجارة الدولية؛ بينما تواصل امريكا اللاتينية تحولها نحو اليسار ووحدتها في نصف الكرة الغربي ضد الإمبريالية الأمريكية؛ مع حدوث تحركات نحو التخلص من الدولار في جميع أنحاء الكوكب، حيث من المتوقع أن ينخفض الدولار إلى 30٪ من التجارة العالمية بحلول عام 2030 (ضربة قاسية لهيمنة الدولار التي كانت حاسمة لعصرنا الإمبريالي الذي تهيمن عليه العقوبات ومؤسسات قمع رأس المال المالي العالمي)؛ ومع استمرار المواطنين الأوروبيين في الاحتجاج على تفاقم ظروفهم المادية بسبب الحرب بالوكالة بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ضد روسيا (والتي تدمر ألمانيا، قلب اقتصاد الاتحاد الأوروبي واليورو، وهي القوة التي تعيش في دوامة تراجع التصنيع لأن الكثير من صناعتها تعتمد على النفط الروسي الرخيص الذي لم يعد بإمكانهم الوصول إليه بعد أن فجرت الولايات المتحدة خط أنابيب نوردستريم، في أسوأ حالة من الإرهاب البيئي (والاقتصادي) في تاريخ البشرية). ومع استمرار كل هذه العوامل في التراكم، ستصبح هذه الأزمة في الطبقة الحاكمة أكثر وضوحا.
علاوة على ذلك، هل هناك وصف أفضل لأزمة الشرعية هذه من تعهد كلا الحزبين، في الدورتين الانتخابيتين الرئاسيتين الأخيرتين، بالطعن في نتائج الانتخابات؟ أولا، مع انتخاب دونالد ترامب في عام 2016 - وهو النصر الذي تم تحقيقه بالطبع على الرغم من خسارته في التصويت الشعبي - أمضى الديمقراطيون السنوات الأربع التالية في الترويج للسرد القائل بأن ترامب تواطأ مع روسيا، بل وحاولوا عزله بسبب هذا. . وقد أدى هذا، إلى جانب تاريخ طويل من الدعاية المناهضة للسوفييت ومعاداة روسيا، إلى إرساء الأساس الأيديولوجي - وخاصة بين الليبراليين "المناهضين للحرب" سابقًا - للهستيريا المناهضة لروسيا وشيطنة بوتين التي تغذي اليوم تعطش الليبراليين للحرب العالمية الثالثة. ثم، في عام 2020، فعل أيضًا جزء كبير من الحزب الجمهوري ومعظم قاعدة MAGA، الذين زعموا أن الانتخابات سرقها الديمقراطيون.
وكما يعلم الماركسيون، تقتصر الديمقراطية في الدول البرجوازية الليبرالية على الانتقال السلمي للسلطة من فصيل من الطبقة الحاكمة إلى فصيل آخر من خلال انتخابات مشروطة مسبقا بتأثير المال ورأس المال الكبير. اليوم نستطيع أن نقول أنه حتى هذا المظهر السطحي للديمقراطية بدأ ينهار. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا أن نرى هنا علامة أخرى على أن الطبقات الحاكمة لا تستطيع أن تحكم بالطريقة القديمة.
في الجوهر، وبكل المعايير التي يستخدمها التقليد الماركسي لتقييم الظروف الثورية موضوعيا، يمكننا القول إن الولايات المتحدة تمر حاليا بوضع ثوري موضوعي لا يمكن إلا أن يصبح أكثر وضوحا في الأشهر والسنوات المقبلة. لكن "الثورة الاجتماعية تتطلب وحدة الظروف الموضوعية والذاتية". وكما أشار لينين، فإن "الثورة لا تنشأ إلا من وضع تكون فيه التغييرات الموضوعية المذكورة أعلاه مصحوبة بتغيير ذاتي، أي قدرة الطبقة الثورية على القيام بعمل ثوري جماهيري قوي بما يكفي لكسر (أو خلع) الطبقة القديمة". الحكومة لن"تسقط" أبدًا، حتى في فترة الأزمات، إن لم يتم إسقاطها.
الشروط الذاتية*
ومع ذلك، فبينما نجد ظروفًا ثورية موضوعيًا في الولايات المتحدة، فإننا نواجه أزمة عميقة في العامل الذاتي، أي فقر المنظمات الثورية و رؤيتها العالمية. معظم منظمات اليسار الاشتراكي تتحكم بها الطبقة الإدارية المهنية، والتي كانت تسمى في زمن ماركس وإنجلز ببساطة المثقفين. وما كان من المفترض أن تكون منظمات للطبقة العاملة، وأدوات للاستيلاء على السلطة السياسية من قبل هذه الطبقة، أصبحت مراكز لراديكالية البرجوازي الصغير، كما اعتاد غوس هول{عامل المنجم ،السكرتير التاريخي للحزب الشيوعي الاميركي}، أن يقول. هذا التحليل ليس جديدا، فقد أشار العديد من المنظرين إلى كيف أنه منذ أواخر السبعينيات، إلى جانب هجوم اجهزة الدولة على الشيوعيين والاشتراكيين في النقابات العمالية، والترويج، من خلال برامج مثل مؤتمر الحرية الثقافية، ليسار متعاون مناهض للشيوعية، تم تدمير يسار الطبقة العاملة وحل محله "المتعافون الراديكاليون" من الطبقة الوسطى، كما يسميهم غابرييل روكهيل. لقد كانت الدولة الأمريكية، كما أوضحت في ابحاثي، فعالة في خلق "يسار مناهض للهيمنة ومسيطر عليه"، وهو يسار يتحدث ثوريًا ولكن في جوهره يتحالف دائمًا مع الإمبريالية.
وهذا أبعد ما يكون عن إدانة المثقفين بشكل عام، ولكن الحقيقة هي أن هيمنة الطبقة الإدارية المهنية داخل المنظمات الاشتراكية، كما هو الحال حاليًا في الولايات المتحدة، تثير تنفيرًا عميقًا لدى العمال، الذين لا يهتمون كثيرًا باخلاقية الطبقة المتوسطة بل البقاء على قيد الحياة في مجتمع متدهور.
على المستوى الأيديولوجي، بينت أن يسار الطبقة الوسطى هذا يعاني من عبادة النقاء (فيتيشية النقاء) ، وهي نظرة عالمية تجعلهم يرتبطون بالعالم على أساس النقاء كشرط للدعم. إذا كان هناك شيء لا يرقى إلى مستوى الأفكار النقية الموجودة في رؤوسهم، فهو مرفوض ومدان. انها في جوهرها غياب النظرة المادية الجدلية للعالم، والهروب من واقع تحكمه الحركة والتناقضات والترابط، إلى مثالية نقية سامية آمنة من دنس الواقع. إن عبادة النقاء هذه، كما أزعم في ابحاثي، تتخذ في الولايات المتحدة ثلاثة أشكال مركزية:
1) لأن كتلة من العمال المحافظين غير مثالية أو "متخلفة" للغاية بالنسبة لليسار الأمريكي، فإنهم يعتبرون سلالا من البائسين أو ادوات "التهديد الفاشي". فبدلاً من رفع وعي ما يسمى بالقسم المتخلف من العمال ، يدينهم يسار عبادة النقاء، الأمر الذي يزيل فعلياً نحو 30% إلى 40% من العمال الأميركيين من إمكانية التنظيم. وهذا موقف سخيف يفصل بين الاشتراكيين و عمال في اماكن ضغط لرأس المال. ولذلك، يتجنب يسار عبادة النقاء مهمة كسب العمال بغض النظر عن الأفكار التي يحملونها. ومن خلال القيام بذلك، فإنهم ببساطة يغنون للجوقة، أي للقطاعات الأكثر ليبرالية من الطبقات الوسطى التي تتفق معهم مسبقًا حول جميع القضايا الاجتماعية التي يعتبرون أنفسهم مستنيرين بشأنها.
2) الشكل الثاني الذي يتخذه عبادة النقاء هو استمرار للطريقة التي يوجد بها عمومًا في تقاليد الماركسية الغربية، التي رفضت دائمًا الاشتراكية المحققة لأنها لا ترقى إلى مستوى الاشتراكية المثالية في رؤوسهم. ومن خلال القيام بذلك، أصبحوا في كثير من الأحيان الببغاوات اليسارية للإمبراطورية، حيث فشلوا في إدراك كيفية بناء الاشتراكية ، أي كيف تحدث عملية التنمية الاشتراكية تحت الضغوط الشديدة للحرب الهجينة الإمبريالية في عالم لا يزال يهيمن عليه رأس المال العالمي. . وفي قبوله للأساطير الرأسمالية حول الاشتراكية، يذعن هذا اليسار لكذبة مفادها أن الاشتراكية فشلت دائما، ويطرح نفسه بغطرسة باعتباره أول من سينجح في إنجاحها. وبدلا من فضح الأكاذيب المكارثية التي غذت بها الطبقة الحاكمة الشعب، يقبلها هذا اليسار.
3) الشكل الثالث من عبادة النقاء هو انتشار ما أسماه جورجي ديميتروف العدمية القومية: الرفض التام لماضينا القومي بسبب شوائبه. يرى جزء كبير من اليسار الأمريكي أن الاشتراكية مرادفة لتدمير أمريكا. تهيمن الشعارات اليسارية المتطرفة المنمقة على خطاب العديد من المنظمين اليساريين، الذين يتعاملون مع تاريخ الولايات المتحدة بطريقة ميتافيزيقية، غافلين عن كيف أن البلاد كلية في حالة حركة، محملة بالتناقضات، وتاريخ العبودية، الإبادة الجماعية والإمبريالية، ولكن أيضًا تاريخ نضالات إلغاء العبودية ، ونضالات العمال، والنضالات المناهضة للإمبريالية و من اجل الاشتراكية. إنه تاريخ الذي ينتج الإمبرياليين واللصوص، ولكنه أنتج أيضاً دوبويس، وكينغ، وهنري ونستون، وغيرهم من أبطال نضال الشعب ضد رأس المال، والإمبراطورية، والعنصرية.
ينسى هذا اليسار المولع بالنقاء أن الاشتراكية لا وجود لها بشكل مجرد، وأنها يجب أن تتجسد في ظروف وتاريخ الشعوب التي انتصرت في النضال من أجل السلطة السياسية. وعلى حد تعبير ديميتروف، يجب أن تكون اشتراكية في مضمونها ووطنية في شكلها. يجب أن تتمتع الاشتراكية، خاصة في مراحلها الأولى، دائمًا بالخصائص المحددة لتاريخ الشعب(…)
وبعبارة فلسفية، لا يمكن أن تكون هناك - على عكس تقاليد الفلسفة الغربية - كونيات مجردة خالية من الأشكال المحددة التي تتخذها في سياقات مختلفة. على العكس من ذلك، كما تؤكد التقاليد الهيغلية والماركسية (كلاهما متجذرة في وجهات النظر العالمية الجدلية)، فإن العام لا يمكن أن يكون فعليًا إلا عندما يتم تجسيده من خلال الخاص. وبعبارة أخرى، إذا لم نأخذ النوى التقدمية العقلانية لماضينا الوطني ونستخدمها في النضال من أجل الاشتراكية، فلن يكون محكوما علينا بإساءة تفسير تاريخ الولايات المتحدة فحسب، بل سنفشل، كما فشلنا، في التواصل مع شعبنا لتطوير النضال الاشتراكي بنجاح في سياقنا.
وفي كل حالة، فإن عبادة النقاء التي يتبناها يسار الطبقة المتوسطة تمنعه ليس فقط من فهم العالم على النحو الصحيح، بل وأيضاً من تغييره. ليس من قبيل الصدفة أن ذلك الجزء من العالم الذي يجد فيه المنظرون الماركسيون أن كل شيء فيه غير نظيف للغاية بحيث لا يمكن دعمه، هو أيضًا الجزء الذي فشل، حتى في ظل الظروف الأكثر ملائمة من الناحية الموضوعية، في إنتاج حركة ثورية ناجحة وذات قيمة.
باختصار، الظروف في الولايات المتحدة ثورية بشكل موضوعي. لكن العامل الذاتي يعاني من أزمة عميقة. ولا يمكن لعمليات التغيير الاجتماعي أن تنجح إذا لم يتم توحيد هذين الشرطين. لكي ينجح اليسار الأمريكي، يجب عليه إعادة مركزة نفسه في الجماهير العاملة وتبديد نظرته الوثنية للنقاء، واستبدالها بنظرة مادية جدلية للعالم - أفضل أداة عمل وسلاح حاد، كما أشار انجلس ، التي تقدمها الماركسية للبروليتاريا. . إنها تحتاج إلى حزب من اناس يسترشدون بهذه النظرة، وهو ما كان يسمى تقليديا بالحزب الشيوعي. على الرغم من أن البعض قد يحمل هذا الاسم اليوم ويشوهه بعقود من النضال من أجل الجناح الليبرالي للحكم، إلا أن جوهر ما يمثله الحزب الشيوعي، وما يقدمه للصراع الطبقي، أمر لا غنى عنه لتقدمنا.
إنه القوة الوحيدة التي يمكنها توحيد الشعب ضد حروب الإمبراطورية التي لا نهاية لها والتي لا تؤدي فقط إلى وفاة الملايين حول العالم، ولكن أيضًا إلى إفقار شعبنا ومدننا، التي تعيش في ظل دولة لديها المال دائمًا من اجل الحرب، ولكن لا يوجد أي استثمار في الناس. فقط عندما يصل الناس فعليًا إلى موقع السلطة ويخلقون مجتمعًا من ،بواسطة، و لاجل الشعب العامل، يمكن أن يتغير هذا المصير. ولهذا نحن بحاجة إلى حزب شيوعي، حزب للجماهير.
كارلوس إل غاريدو هو مدرس فلسفة أمريكي كوبي في جامعة جنوب إلينوي، كاربونديل. وهو مدير معهد "ماركس الغرب الأوسط".