من السويداء إلى غزة: بحثاً عن توازن رادع


ياسين الحاج صالح
2024 / 6 / 27 - 23:42     

لم تمض أربعة أيام على اعتقال ريتا العقباني، الناشطة الاجتماعية من مدينة السويداء، حتى اضطرت أجهزة الحكم الأسدي، على غير مألوفها، إلى الإفراج عنها يوم 13 حزيران الجاري. هذا لأن فصائل مسلحة محلية من المحافظة المنتفضة على النظام منذ مطلع آب من العام الماضي اعتقلت 12 من عناصر أمن النظام، واشترطت تحرير العقباني لإخلاء سبيلهم، وهو ما جرى بالفعل. قبل ذلك، في نيسان من هذا العام، وقع اعتقال الطالب الجامعي الشاب داني عبيد، بتهمة تحقير رأس النظام والنيل من هيبة الدولة، ولم يُفرج عنه بعد شهرين من الاعتقال حتى اعتقل مقاومو السويداء ثلاثة من ضباط النظام، أطلق سراحهم بعد تحريره. عبر هذا النهج يجري فرض ضرب من توازن قوى رادع على نظام لا يعرف ضوابط قانونية أو أخلاقية، توازن يحمي بقدر ما حريات وحقوق مواطني السويداء.
وفي سنوات سابقة أمكن غير مرة تحرير معتقلين عند النظام بفعل تمكن تشكيلات مسلحة معارضة من اعتقال بعض ضباط النظام وعناصره. لكن لم يمكن فرض تحرير جميع المعتقلين لإن ما استطاع ثائرون مسلحون اعتقالهم من طرف قوات النظام كان محدوداً، ولعلهم لم يُعطوا تحرير الجميع ما يستحق من أهمية. إلى ذلك، من غير المؤكد أن الأمر سينجح في مواجهة نظام قصف المدن بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية وصواريخ سكود البعيدة المدى. ما يحمي السويداء جزئياً هو أن أكثرية أهلها من الدروز (نحو 3% من السوريين)، مع ما هو معلوم من مركزية فكرة "حماية الأقليات" في تكوين النظام وشرعيته الخارجية. المعطى الذي لا يكاد يكون معروفاً خارج سورية، ويميل غير قليل من السوريين إلى إنكاره، هو أن مجازر السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة وصواريخ سكود والقنابل الفوسفورية، استهدفت البيئات السنية حصراً ودون استثناء واحد. يبني أناس مختلفون أشياء مختلفة على هذا المعطى، بعضها ثأري وطائفي، لكن المعطى ذاته أكيد لا ريب فيه، ودلالته الأولى تحيل إلى طائفية النظام وثأريته.
يؤشر نهج اعتقال عناصر من النظام لتحرير معتقلين من طرفه إلى سبيل لنيل الحقوق لا يبدو أن له منافساً في سورية، أعني كسر احتكار النظام للعنف وفرض ميزان قوى يفطمه عن غرائزه الباطشة. السلطات عموماً، وفي كل مكان لا تنصلح بالوعظ الوطني والإنساني، بل بوضعها عند حدها، بإجبارها على الكف عن بهيميتها الغريزية مثل هو حال حكم الأسديين، وأن تتأنسن وتعقل بعض الشيء. وفي سورية، هذا المبدأ متأصل في خاصية بنيوية للنظام الذي وقعت سورية في قبضته منذ 54 عاماً: الاحتكار غير الشرعي للعنف. وليس هذا احتكاراً غير شرعي لأن النظام نفسه غير شرعي، لا يحمل صفة تمثيلية يمكن اختبارها (سورية لم تعرف انتخابات حرة منذ عام 1962)، ولكن لأنه لم يمارس العنف في إطار قانوني معلوم، ومن قبل قائمين بالوظيفة القمعية حصراً. فقد اعتمد على الدوام، وحتى قبل الثورة، منح مقاولات قمعية لمجموعات موالية له، بما فيها طلاب الجامعة على ما خبرت شخصياً عام 2004. في مطلع الثمانينات تشكلت كتائب مسلحة من بعثيين، ومن طلاب، وغيرهم، وهذا إلى جانب أجهزة مخابرات مطلقة الصلاحية وتشكيلات عسكرية إرهابية مثل سرايا الدفاع والوحدات الخاصة والفرقة الثالثة. وبعد الثورة، لم يقتصر الأمر على اعتماد واسع على الشبيحة، وهم أفراد وشبكات موالية للنظام (ومضادة لفكرة الدولة العامة ومبدأ القانون)، متميزة طائفياً في أغلب الحالات، ولا على زج تشكيلات متنوعة من الجيش في المواجهة، الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، وغيرها بحيث ظهر النظام كقوة حرب أساساً، بل أعقبه بعد قليل دعوة ميليشيات وقوات أجنبية لمشاركة في وليمة القتل العامة. وفضلا عن ذلك فإن الحكم الأسدي قائم جوهرياً على التعذيب، وهذا عنف غير شرعي في كل حال.
خلاصة ذلك هو أنه ليس لدينا في سورية دولة، ما لدينا هو منظمة ما دون دولة بجناح مسلح قوي مستولية على البلد (وهي لذلك تجد نفسها "في بيتها" في صحبة منظمات ما دون الدولة وميلشياتها المسلحة). احتكار العنف غير الشرعي من قبل هذه المنظمة يشرع كسر هذا الاحتكار، مثلما حدث في سنوات الصراع السوري الطويلة. ليس هناك وجه عادل للاعتراض على أي كسر لاحتكار العنف، إلا إذا انضبط هذا العنف بمعيار الشرعية: تحريم التعذيب، وممارسته من قبل جهات معلومة محددة وفي إطار قانوني معلوم بدوره. ولعل في فكرة الشرعية عنصراً آخر، معنوياً، يتمثل في احترام الحاكمين للمحكومين أو الحرص على حرياتهم وكراماتهم وخيرهم، أو ببساطة أن يكون منهم، مواطناً لهم، وطنياً ومحباً لوطنه. هذا العنصر ليس حاضراً في أدبيات الشرعية لأنه يعتبر بديهياً في الدولة الحديثة القائمة على فكرة الوطن. لم تكن هذه صفة الحكم الأسدي قط، وما اقترن به عنفه على الدوام من كراهية ونوازع انتقامية يجرده من الوطنية كذلك، ويقربه من العنف الاستعماري. وهذا على كل حال لم يعد مسألة استدلال نجتهد لدعمه، فقد دعا النظام قوى أجنبية بالفعل لحماية ملكيته للبلد بعد أن أوهنت مقاومات مشتتة قبضته عليها. تلك القوى تجمع بين نشر القواعد العسكرية، وبين اللعب بالنسيج الاجتماعي وفق المبدأ الاستعماري فرق تسد، وبين الاستيلاء على أراض وموارد عامة: مرفأ طرطوس لروسيا، مطار دمشق الدولي والفوسفات وعقارات في كل مكان لإيران. هناك مستمر استعماري يربط الحكم الأسدي بحماته الإيرانيين والروس، من ركائزه خلال الستين عاماً الأخيرة حالة استثناء مستمرة والحكم بالمراسيم والتوجيهات، على ما هو مميز للاستعمار في كل مكان، ثم مبدأ "حماية الأقليات" ذاته، وما يقتضيه من إنتاج مستمر للعدو الداخلي المتربص بالأقليات.
ما العمل في مواجهة تكوين عنيف، مديد، استعماري وعلى هذه الدرجة من الاستثنائية؟ ما يفعله أهالي السويداء من محاولة فرض موازين قوى رادعة.
ولعل حركة حماس تصورت أنها بأسر العديد من الإسرائيليين يوم 7 أكتوبر 2023، امتلكت ما يقصر يد إسرائيل الباطشة، وما يفرض على حكومة نتنياهو التفاوض على ما يتجاوز مبادلة الأسرى. فإذا ثبت أن هذا التقدير كان خاطئاً، فلأن نتنياهو وجد في حرب إبادية فرصة للخروج من أزمته السياسية، ولو بثمن التضحية بالأسرى الإسرائيليين أو بعدد كبير منهم؛ ثم لأن دعم القوى الغربية المتطرف لإسرائيل وفر غطاء سياسياً وعسكرياً لهذه الحرب الباطشة وأغناها عن التفاوض.
تفشل غزة لأن كل أغنياء وأقوياء العالم ضدها. وتنجح السويداء إلى اليوم، ما يجعلها المدينة الأكثر حرية في سورية، وإن تكن حريتها محفوفة بالمخاطر، على ما ظهر في لأيام الأخيرة عبر نصب النظام حاجزاً مسلحاً على مدخل المدنية. تسجل السويداء مبدأً لا يبدو أنه يصلح غيره أساساً لحماية المجتمع في مواجهة قوة عدوانية التكوين وذات منازع استعمارية: توازن رادع للقوى. ولا يمكن تصور حماية للشعب الفلسطيني دون توزان رادع مماثل، أما التعويل على وعود الأميركيين والأوربيين فهو بمثابة استدراج النفس إلى المسلخ.
ليس في هذا ما يدعو حتماً وفي كل حال إلى مواجهة العنف بالعنف. أفضل مائة مرة لو أمكن تجنب مواجهة مسلحة، يكسبها الأفضل تسلحاً، وترفع من شأن حملة السلاح وتضعف المنظمات السياسية، وتعزل النساء، لكن ما العمل في وجه قوى تخوض كل نزاع كصراع وجودي، أي عدمي، وبالتالي إبادي؟ دروس الصراع مع صنفي الاستعمار في فلسطين وسورية لا تزكي غير العمل على توازن قوى رادع. قد يتعذر ذلك الآن، ويستحسن تفادي المواجهة طالما كان متعذراً. لكن إن لم يتغير نهج المعتدين، ويضطروا لفتح أبواب للسياسة، فلن يكون ثمة وجه عادل للاعتراض على محاولة فرض توزان مسلح رادع.