عوامل نجاح النظام في التحكم بوضع بالغ التوتر


المناضل-ة
الحوار المتمدن - العدد: 8020 - 2024 / 6 / 26 - 16:46
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي     


الافتتاحية

يتقدم الهجوم البرجوازي على المكاسب الاجتماعية، وعلى الحريات الديمقراطية، وفق خط إجمالي صاعد، لا تراجعات (طفيفة) سوى في وتيرته، التي تتباطأ لتعود إلى سابق عهدها وأشد. فمنذ الشروع في برامج التقويم الهيكلي، بأسمائها المختلفة، بتوجيه المؤسسات المالية الدولية، أداة رأس المال الامبريالي، والزحف مستمرٌ على مكاسب الأغلبية العمالية والشعبية. هذا على صعيد تشديد الاستغلال، وتسليع الخدمات العامة، وفرض النموذج النيوليبرالي المدمر اجتماعيا، بما فيه نسبة بطالة الشباب العالية وقهر النساء. هذه المفاقمة المستمرة للمسألة الاجتماعية تولد مقاومات عمالية وشعبية، توحي أحيانا بإمكان وقف الهجوم، ومرة (في 2011) حتى بإمكان هجوم مضاد، لا سيما بالنظر للطابع السياسي المباشر الذي اتخذته دينامية 20 فبراير.
أفلحت الملكية، ولا تزال، في تدبير هذا الوضع، بنحو يجعل النظام الاقتصادي-الاجتماعي في منأى عن أي تهديد. وإن كانت قوة النظام في ضعف نقيضه الطبقي، فثمة أيضا عوامل قوة ذاتية أولها سند الحلفاء، من قوى امبريالية وأنظمة الخليج العربي؛ حلفاء يتقاسمون مع الطبقة السائدة المحلية منافع نهب ثروات البلد واستغلال شعبه.
ثاني عناصر القوة ما كسبت الملكية من خبرة اتقاء انفجار الوضع، سواء في التعامل مع المقاومة العمالية، أو مع صبوات الكفاح الشعبي المنبثقة بنحو دوري، هنا وهناك، وأحيانا على صعيد وطني.
فقد حظيت المقاومة العمالية باهتمام الملكية منذ بداية الاستقلال الشكلي، في حقبة إرساء أسس دولة الاستعمار الجديد، إذ أحاطت الجهازَ النقابي برعايتها بنحو خلق بيروقراطية نقابية متعاونة، ورادعة لنزوع مناهض للاستبداد تمثل في اليسار الشعبوي الجذري. بذلك ضمنت البيروقراطية النقابية سلما اجتماعيا ملائمة لترسيخ أسس رأسمالية تابعة. ولما صنعت المعارضة البرجوازية لنفسها ذراعا نقابية للتدخل في الساحة العمالية لأغراض الاستعمال في المناوشة السياسية، كان ذلك بقبول الملكية التي تدرك فائدة تعددية نقابية تشق الصف العمالي من جهة، وحدود حركة نقابية تؤطرها معارضة لا تضع النظام السياسي، ولا أساسه الاقتصادي، موضع طعن جذري. وإلى يومنا هذا يعتمد النظام اعتمادا رئيسيا على البيروقراطية النقابية في تدبير المسألة الاجتماعية في بعدها العمالي بآلية “الحوار الاجتماعي” بنحو ناجح بالفعل في إبقاء كفاحية الشغيلة ضمن القابل للتدبير، ولو بتنازلات مادية غير معهودة، كالتي اضطر إليها لنزع فتيل حراك 20 فبراير وزيادة الأجور على خلفية حراك التعليم.
وعلى صعيد العالم القروي، استفاد النظام من خمول الفلاحين السياسي، المتواصل منذ أن قضى الاستعمار على المقاومة الشعبية المسلحة، بما سمي “التهدئة” حتى منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، وإجهاض تجربة جيش التحرير منتصف الخمسينات. وما خلا انفجارات نادرة، لم يعبر كادحو القرى عن أي معارضة منظمة إلى أن بدأت تنمو في منتصف سنوات 90 مقاومة شعبية، في شكل حراكات احتجاجية مطلبية، بحفز من تدهور الوضع الاجتماعي، واستمرار الإفقار والحرمان من الخدمات العامة والبنيات التحتية الأساسية، وتأثرا بدينامية النضال التي أطلقتها جمعية الشباب المعطل. وعلى هذا الصعيد يستفيد النظام من المستوى الابتدائي لهذه الموجة الشعبية وعدم تبلورها في حركة منظمة على صعيد وطني، هذا الذي يتيح له اتقاء الحريق موضعيا كلما برزت شرارته. وعلى هذا الصعيد يستفيد النظام من التأطير الكثيف للعالم القروي بشبكة جمعيات “المجتمع المدني” القائمة بدور صمام أمان، وآلية لتوجيه النزوع المطلبي نحو سلوك التماس العون، وحتى التسول، توجيه يتيحه التمويل الخارجي عبر المنظمات غير الحكومية المندرجة في السياسة النيوليبرالية العالمية صوب بلدان الجنوب.
وسياسيا أبانت الآلية السياسية التي صنعها الحسن الثاني، بدءا من منتصف سبعينات القرن الماضي، تحت اسم “المسلسل الديمقراطي”، عن جدواها إلى يومنا هذا، على الرغم مما تلقاه من نفور شعبي لم يصادف قوة سياسية قادرة على بنائه في فعل سياسي واع . فالمؤسسات المنتخبة على المقاس تغذي أوهام إمكان الإصلاح وتحسين الوضع من جهة، وهو ما دلت عليه مراهنة “شعبية” جرت على الاتحاد الاشتراكي، ثم بعدها على حزب بنكيران، أتاحت لها الملكية انعكاسا في حكومة الواجهة، لغايات فرضتها ضغوط ظرفية (انتقال العرش في الحالة الأولى واحتواء موجة 2011 في الثانية). وقد تعززت تلك المؤسسات “المنتخبة” بالعديد من الهيئات الاستشارية، في شتى المجالات، تعزز صورة الدولة كدولة مؤسسات، متيحة في الآن ذاته استقطاب النخب “العالمة” ومختلف “تمثيليات” المجتمع، وتحقيق انتصارات نوعية، مثالها طمس جرائم القمع بما سمي “هيئة الإنصاف والمصالحة”. ومن جهة أخرى تتيح “اللعبة الديمقراطية” للملكية درعا واقيا من السخط الشعبي اليومي، كما شهدنا مرارا ونشهد حاليا بتركيز النقد والطعن على شخص رئيس حكومة الواجهة الحالية الذي سيخلي المكان ذات يوم لوجه غير متسخ بعدُ يكون هدفا جديدا لاستقطاب النقمة الشعبية.
وتتعزز هذه الخدعة السياسية بكونها توهم نسبة كبيرة من الكادحين والكادحات، ممن فتكت بها الأمية والتخبيل السياسي، بأن الملك يضع مقاليد الأمور بين يدي الحكومة، وهذه منبثقة عن مؤسسات ينتخبها الشعب، ومن ثمة عزو سوء الأحوال إلى إساءة الناخبين الاختيار. كما يظل راسخا الاعتقاد بأن الملك لا علم له بالكوارث الاجتماعية، فترى الضحايا يستعملون اليوتيوب لإخباره بما يعانون، وتعمل الآلة الإعلامية على نسب فضل ما قد يبدو ايجابيا في سياسة الدولة إلى الملك، وإلقاء جرائر السلبيات على الحكومة.
ويوظف النظام العمق التاريخي للملكية والشرعية الوطنية المزعومة: محمد الخامس، والمسيرة الخضراء، وصون الوحدة الترابية بجهود التسلح وبمشروع الحكم الذاتي في الصحراء والنجاحات الاقتصادية المزعومة، لترسيخ أن لا غنى عنه، وأن اي صيغة سياسية بديلة ستزج البلد في الفتنة والفوضى. كما تشتغل الآلة الايديولوجية بالدين، بتأطير كثيف بالمؤسسة الدينية الرسمية وبشبكة “جمعيات الدعوة” المتغلغلة في الأعماق الشعبية، ويستفيد النظام أيضا من دعم موضوعي من الحركات الدينية، حتى “المعارضة”، بهيمنتها على أقسام عريضة من القاعدة الشعبية وتجميد مقدراتها بالمنظور الديني الرجعي. وأخيرا وليس آخرا، ثمة جهاز الإلهاء بالفرجة المستغل لكرة القدم وحفلات الموسيقى والطرب التي يدل الاقبال الكثيف عليها على فعاليتها.
وختاما تظل إشاعة الخوف بالترهيب السياسي رافعة أساسية للتحكم بالوضع، إذ تظل بالذاكرة الشعبية أهوال القمع الدموي للانتفاضات الشعبية، وجائحة الفتك بالمعارضة. وقد جدد قمع حراك الريف ترميم جدار الخوف بعد الشقوق التي نالت منه إبان تقدم موجة النضالات. ثم تصاعدت حملة إخراس الأصوات الناقدة، سواء في الصحافة أو وسائل التواصل الاجتماعي، لتشيع التهيب من أي تعبير حر. وتتواصل الحرب اليومية على بؤر التنظيم والنضال العماليين، اولا بطرد النقابيين/ات، ثم بالسجن بالفصل 288 من القانون الجنائي، مع تلويح متصاعد بإلغاء فعلي لحرية الإضراب بإحاطتها في القانون المرتقب بشتى صنوف القيود.
ومع هذا كله، تظل عوامل تحكم النظام وضبطه للوضع بالنحو المتيح استمرار امتصاص دماء الشغيلة وعامة المقهورين قابلة لزعزعة وحتى انهيار، مصدرهما القوة الجبارة التي يولدها القهر الطبقي. تلك القوة الكامنة تستدعي وعيا وتنظيما طبقيين. وهنا دور الأقلية الواعية، من طلائع النضال العمالي والشعبي الذي لا شك انه سيستكمل دورة فتوره لينطلق باندفاع أشد.